في رثاء الأم....الحبيب دكتور حامد البشير

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-16-2024, 11:54 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الأول للعام 2007م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
12-27-2006, 11:47 PM

Abdelrahman Elegeil
<aAbdelrahman Elegeil
تاريخ التسجيل: 01-28-2005
مجموع المشاركات: 2031

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
في رثاء الأم....الحبيب دكتور حامد البشير

    في رثاء الأم
    وحول أنثربولوجيا الموت والحزن والمواساة

    د. حامد البشير omc.yahoo@hamidelba shir
    وبينما أنا مستغرق في تأملات يتصبب منها عرق الحزن
    كانت الذكريات في ذهني تتأرجح بين ميلادي في الخمسينيات وبين مواراة أمي ثرى كردفان في صباح الواحد والعشرين من رمضان الموافق 14 أكتوبر 2006. وأنا في الطائره نحو الخرطوم تذكرت أيام الطفولة الباكرة في القرية (ألحا جز) والمسيد والمدرسة الأولية في ام حيطان والدبيبات والدلنج الريفية الوسطى وكم راودت أمي خلالها الفكرة (وربما هي مازحة) بأن تقيم بجوار الداخلية حيث يقيم الإبن الأصغر منعاً لفراقٍ كان عليها كنيران الحيران التي لا تنطفئ في دواخلها وكنيران المجوس في دواخلي الملتهبة بحب لأم أوشك أن يضاهي العبادة. وفي الإجازة تلتقى الناران: والنار تطفؤها النار و"دهن النعام بمسكه جلده" و"الكلمة وغطايتها" لرابطة ميزت علاقة الأم بالإبن منذ ميلاده وحتى وفاتها.

    ومرت بخاطرى أزمة المصاريف المتكررة في تلك السنوات ودعواتي المتتالية لها للتوسط بيني والوالد (رحمه الله) في أمر تلك المصاريف التي كم صرفتها ولم احسن أدارتها. وكانت رحمها الله دائمة النجاح في إخراجي من ذلك المأزق الذي لازمني حتى بدايات المرحلة الجامعية (وربما إلى الآن). وأذكر ذات مرة وأنا في خورطقت الثانوية وأثناء العطلة المدرسية أن وصلت بي أزمة المصاريف التي صرفتها قبل مواعيد فتح المدرسة بأن أصلي صلاة الحاجة وأقرأ سورة يسن واحد وأربعين مرة عل الوالد يستجيب وقد أستجاب. ولما كنت شفافاً فقد ذكرت لـه وأمي بأن الأوراد والأدعية التي أعطيتني لها لقضاء الحوائج الملحة قد عملتها لك البارحة وقد نجحت تماما ولله الحمد…. فضحكا.
    وبكيت لوحدى…

    ويسير شريط الذكريات بطيئاً ورتيبا وفي حلقات متصلة من الحزن حيث أن الفاعل الأساسي في كل تلك السيرة الحياتية كانت هي أمي والتي بالأمس وورى جثمانها الثرى وتركت فراغاً عريضا ملأه اليتم وتربع فيه الحزن وتملكني بعده الشعور بأني في "السهلة" بعد أن إنهارت خطوط الدفاع الأمامية والخلفية بموت الوالدين. وحينها كنت أحس بأن الطائرة قد أعيتها أحزاني التي تسربت بين مسامات قوانين الطيران لتدخل معى وتتربع عليّ وعلى الطائرة طوال الرحلة الطويلة بين شتاء الغربة وصيف الأحزان في الوطن.

    وعادت بي الذكرى إلى العام 1986 حينما حضرت من الولايات المتحدة الأمريكية لأقيم مراسم زواجي في قريتي الصغيرة عرفاناً لأمي ولأبي وإكراماً للزوجة وللمكان. وكانت فرحتها لا توصف وأعلنت في الحال أن تذبح لي ثوراً من أبقارها الخاصة في زواجي أسوة بالوالد الذي ذبح ثوراً عند تخرجي من الجامعة. ودلالات الثور وذبحه في هذه الأجزاء من كردفان لا تضاهيها إلا رمزيته عند قبائل الدينكا… وكلاهما رعاة: تتعدد الإثنيات والثقافة واحدة. وبالفعل قد ذبح ثور زواجي من حر قطيعها وما كان الثور أبيض.

    لقد كانت الحاجة مريم أحمد الكناني أبو صفية من شاكلة النساء اللائي كثيراً ما قفزن فوق حواجز تقسيم الأدوار المبنية على النوع (الجندرية) والتي صاغها المجتمع بدمٍ بارد وفي غفلة من صدقية المشاعر الإنسانية الدفاقة: والنهر الدافق قد يتخطى مجراه أحياناً… و"السيف السنين حتماً يقطع جفيرو---- السيف الأكل بيته ".

    وحلقت بي الطائرة حول مطار الخرطوم ومالت نحو الأرض ولم يعتريني ذات الشعور كما كان في كل المرات السابقات. بل أحسست بالحزن حتى في طريقة ملامسة إطارات الطائرة لأرض الوطن، اذ كانت أشبه بالعناق الفاتر أو بـ (الضم بلا ريدة) كما يقول أهلنا في كردفان. وقد بدا لي المطار كئيبا من الداخل رغم الحراك البائن على جنباته: اذ أننا ننظر بدواخلنا لا بعيوننا. ولقد كان طريقي داخل المطار مختلفاً هذه المرة، حيث منذ أكثر من عشرين عاماً وأنا قادم عبر مطار الخرطوم أمر عبر صالة السوق الحر لأقتني لأمي بعض ما تحب من الحاجيات الصغيرة مثل الشاي ولبن البدرة والبناتى "وحلاوة البقرة" التي لا تحتاج إلى عناء المضغ وجهد "اللُواكه". هذه المرة وجدت نفسي أمر أمام السوق الحر وأنا أتحاشى النظر إليه خوفاً من أن تتكالب عليّ الأدلة الدامغة التي تصرخ في وجهي مؤكدة لي مجدداً بأن أمي قد ماتت وأن قدسية الصلة بهذا المكان قد انقطعت، وتبقى فقط حميمية الرمزية عالقة في الذا كرة ولتأخذ مكانها مع غيرها مما علق فيها من أحزان إرتبطت بشخوص وبأمكنة على مر الأزمان. وحينما كان المشهد يتفتق حزناً عميقاً يأخذ بشغاف القلب كانت أرجلى تمر على عجل لتبرح ذلك المكان الملغوم بذكرى الأم التي ماتت .
    نعم: الموت حق والحياة حق... وتتحاور من جديد في دواخلي جدليات وسيرورات البقاء والفناء وأنا أعانق الاخوان والأصدقاء والأحباب الذين استقبلوني في مطار الخرطوم معزين ومواسين.
    وما هي الا لحظات وأنطلقت بي السيارة صوب كردفان لحضور مراسم العزاء. وكان مسيرها أشبة بسير القوافل الظمأي وهي تجتاز درب الأربعين وصحراء بيوضة ناحية العتمور: وكان حزناً مكعباً بعرض الصحراء وبطول درب الأربعين وبإرتفاع ليل أدلهم في غيبة القمر.

    وحينها تذكرت طفولتي (مع أبناء إخواتي واخواني الدكتور غانم إدريس واللواء إبراهيم أحمد حسين والبشير المهدي والدكتور البشير إدريس ومحمد اللحيمر…) ونحن نجلس أمامها وتحكى لنا عن قصص البطولة والإيثار والتضحية والوفاء والكرم وحب الأهل وإغاثة الملهوف حتى كنت أخالها تعدنا كفريق قومي لمنافسة حاتم الطائي ومنازلة عنترة بن شداد العبسى. وكانت توصينا بسترة الحال "وبالمحنة" وعدم "قطع العشم" وكثيراً ما رددت مع الوالد (رحمه الله):
    "لو الانسان نفعه إقتصر فقط على أهله فإنه لم ينفع "… وكانت دائرة الأهل عندها تمتد مثل الشفق وتتمدد أمامك كلما أقتربت من حيث ظننت انه الحد المقصود. وكانت اللفظة (ألأهل) عندها تشمل كل القبائل وكل السحنات ومن كل الاتجاهات والطبقات. وكان عندها من الضروري بمكان: أنو الزول يشيل اسم أبوه واسم أجداده ويراعيهم في كل سلوكه أيضاً حتى وهم في غيابهم السرمدي (الموجود فينا) من قبل مئات السنين أو يزيد. لقد كانت كثيرة تلك الأوسمة (وأعباء الأسلاف السلوكية) التي توجت بها أكتافنا الصغيرة وحملناها في البر و في البحر وما فتئنا. وحتى الصلوات كم أديناها في الطفولة كإرث أسرى وعشائري تمليه علينا التقاليد الأسرية الصارمة وصلاح الأجداد وتدعمه العقيدة لاحقاً ( و لقد كان فهمنا حينها انو: البكا بحرروا أهله). وحتى عندما وصلت المرحلة الجامعية وعرفت أمي بأنني أدخن السجاير كثيراً ما قالت لي بإشفاق وحسرة بالغين: ضروري وأنت بتدخن السجاير تتذكر أنو جدك العالم حامد ود جبارة كان قاضياً في المهدية و"سايح قبة" في البركة في نواحي شيكان وأنو جدك أحمد الكناني أبو صفيه والقناوى (قدر فوّار) و العالم إبراهيم و كلهم من ذرية صالحة. وأخيراً تركت السجاير بعد ذلك بنحو عشرين عاماً حينما كنت حبيسا بسجن كوبر لشهور تعدت السبعة بقليل. وحينها أعلنت لها إقلاعي عن التدخين وكان فرحها مزدوجاً: بخروجي من سجن كوبر وبدخولي في "سجن" محبة الأسلاف والأجداد وتمثلهم و مراعا تهم في كل مفردات حياتي حتى وأنا استاذ أحاضر في علم إجتماع (خاص بالأحياء فقط ) بجامعة الخرطوم في التسعينيات من القرن المنصرم. وكأني أصبحت بعدها انساناً حبيساً للماضي و مستنسخاً في داخله التاريخ ومتقمصاً شخوصه الفاعلين من عشائر القربى والأجداد الصالحين ويتجول بهم في منطال جينز أو ربطه عنق حمراء في عواصم أوروبا وأمريكا وآسيا مرضاة لأمي ولهم ولتلك القرية القاهرة التي أ رضعتني طعم الحياة و طعم الموت و طعم ما بينهما ..." لكن ينفضح الموت والاتيم يربى".

    وأنا أتابع ذلك السيل من الذكريات التي ارتبطت بالأم فإذا برجلٍ مسن بلغ الثمانين عاماً لكنها بدت عليه كالتسعين وأكثر (لرهق الحياة في الريف) يقف أمامي معزيا وعيناه غارقتان في الدموع:

    "لقد كانت لنا كـ (التقا) التي لا يفارقها القمري زمن الحصاد وبعده (لأن القمري لا يعذر التقا). وكانت لنا كمورد السقيا الذي يرتاده الإنسان والحيوان (بعد الغبْ) مملوءاً بعشم الإرتواء في سافنا كردفان العطشى "من زمن حفروا البحر"، وما زالت. لقد كانت كريمة كالمطر بعد صيف طال فيه الإنتظار وبعد " سنه الكسرة" . وكانت لنا كشجرة اللالوب التي لايفارقها الطير ساعة الإثمار. وكانت وفية للقبها (الملكة) وكانت مسالمة و "ماهلة" و"ممهولة" حتى كُنيت (بأم مهلين). و فوق ذلك لقد كانت نقية كنقاء القرآن وأواخر البقرة والحديد و " أوراد حزب السيف و حزب البحر" التي كنت أتلوها عليها في غرفتها عند كل صباح في إجازاتي حتى تقول لي: "بقيت كويسه … تاني أقريها لي بعدين". وكانت عميقة كدعوات الراتب وصادقة "كصلاة الفاتح" والصلاة على النبي" التي كانت تكثر منها الترديد والإبتهال حتى قبيل وفاتها بقليل في رمضان.
    وعندها أصابتني العبرة…
    وفاضت عيني الشيخ بالدمع السخين
    وتعانقنا جلوساً…
    وبكيناها وقوفاً
    ولاذ في الصمت المكان…
    لقد كان أخوها في الحج (إبن حجتها) في عام 1967م.

    وجلس أمامي شيخ أخر القرفصاء (على الأرض) رغم إصراري عليه بالجلوس على الكرسي ودلالات الثقافة المحلية على وجهه تقول: إن لجلوس الأرض معانٍ ليس فقط على الحي بل على الميت أيضاً: التقدير.. الوفاء.. الحزَنْ.. لزوم الجابرة… وأخرها أنه تراب يعود إلى بعضه.

    سألني ذلك الشيخ بعد عبارات العزاء الدامعة، عن الصحة وعن العافية وعن العيال الذين طال بهم البقاء في (بلاد بره). وعرج ليسألني ان كنت قد التقيت في تسفاري الكثير إبن أخته الذي أكله الغرب وشربه الشرق وذاع صيته في القِبَل الأربعة ولكن بقيت منه فقط الذكريات عند أهله على خط 12 بين الصحراء وخط الاستواء.
    فقلت لـه: نعم إلتقيته قبل سنين عديدة في دهاليز المؤتمرات الكثيرة التي تعج بها قاعات الجامعات الأوروبية والأميركية عن الحالة السودانية وعن "سودانية الحالة" والتي أعيت الأجاويد وأرهقت الخبراء. وحالي به قد أصبح خبيراً في بلاد بره ونال أعلى الدرجات العلميةِ. وعلمت بأنه قد تزوج بأوروبية وقيل أنه قد استبدلها بأخرى أوروبية أيضاً: أحدهما من دول المحور والأخرى من دول الحلفاء.
    فقال لي الخال: "سبحان الله لقد طلع بالضبط مثل عمه… لا يخشى النساء أبداً بل وكثير الطلاق أيضاً… وزى ما قالوا: العرق دساس حتى في طلاق النسوان".. وضحكنا تبسما وصمتنا ردهاً غلب عليه الحزن ثم واصل الحديث بصوت لا يخلو من أسى عميق ومن خوف أعمق:
    ارجو ألا يكون إبن اختى قد ترك الإسلام بعد المزاوجة الكثيرة مع الخواجيات: شيء من دول المحور وشيء من دول الحلفاء وكأني به قد أصبح تشرشل يخوض حرباً عالمية ثالثة مع النسوان.
    فقلت لـه: ولماذا كثرة السؤال عنه والخوف عليه وهو الذي قطع الأخبار عنكم طويلاً وأظهر قدراً من عدم "الإعتنا"؟

    فرد قائلاً:
    والله يا ولدي كل خوفيِ، وأنا مملوء بعاطفة الخال، أن أرى إبن أختي والجماعة مدفرنه يوم القيامة نحو النار… ده صورة مهينة و حاجة ما كويسه في حقنا كأسرة وحق أهلنا وحق أختى (امه) ولا في حق أمة محمد كلها. وزاد قائلاً: أنا لا أعشم في رؤيته في هذه الدنيا و في هذا الزمن "المتقاصر" لكن عشمى (رغم الغياب وعدم الاعتنا) أن أراه في الجنة ... في الزمن الجاى... ونتصافى ونتصالح ونواصل ضحكنا القديم كما كنا في ربوع كردفان.
    فصمتنا طويلاً…!!
    وكلانا قد ذرف الدمعات
    وكأن عينينا كانتا على موعد مع الحزن
    وعقلينا قد إتفقا على دلالة الكلمات

    نعم… إنها أزلية التواصل وجدلية الاستمرار بين حياة نحن فيها وحياة (أخرى) هي فينا وان تباعدت بينهما المسافات والأزمنه… ولكن تقربهما حتمية الوجود الأبدية. أو هكذا جسدها الفهم في الإسلام الشعبي الممعن في الواقعية المحلية عند هذا الفلاح العميق في بساطته و الذي يعيش وسط كل هذا الغنى المعرفي والفكري والروحي والاعتقادي الذي تزخر به القرية السودانية.

    ان موت الكبار— وأمى قد بلغت التسعين وأكثر — لا يعنى فقط إنتهاء لحياة فرد، بل يعني في الاطار الإجتماعي الريفيِ، إنهيار لصروح من المعرفة وحريق لإرشيفات زاخرة بالمعاني والقيم والمعارف الشعبية التي تغوص عميقاً في تاريخ المجتمع المحلي وفي تاريخ الأسرة. وقديماً قال أحد المستشرقين: حينما يموت شخص كبير في أفريقيا هذا يعنى ان مكتبه كبيرة قد إحترقت.
    ان موت الكبير في الريف السوداني يعني أيضاً إندثار ملفات التاريخ الفردي للأفراد المكونين للمجتمع المحلي، ويعنى ضياع أرشيف العلاقات القبلية والأنساب والزيجات والوفيات. ويعني حتى ضياع الإرشيف الفنى للقرية وما حوى من تدافعات حياتيه ملازمة لأي مجتمع… وكانت الحاجة مريم تحب الشعر وتقرضه وقد أوفتني منه حقي وزيادة.

    ان موت الكبير في القرية السودانية يعني أن سجل المواليد في القرية قد أحترق ودفنه النسيان ويعني موت الحافظ لسجلات الأراضي والحيازات والعارف بحدود الأرض وتبادل الملكيات وعطاءات الأرض للغريب ومن كان قد منح الأرض على أساس "اُكل قوم" أو "التقندى" أو "بالزكاة" أو بالشراكة أو "بالثلث" أو "بالنص". ولقد كانت الحاجة مريم-رحمها الله- تعرف كل ذلك بحكم المنشأ والأسرة وكذلك بحكم إهتمامها ونشاطها الإقتصادي رغم أنها الأم الرؤوم لاحدى عشر من البنين والبنات: "شافت جديدهم" جميعاً و"جديد" أولادهم وبناتهم أيضاً… وقد أدخل أكبرهم المدرسة الأولية في عام 1935.

    وأذكر في أيام الزراعة في بداية الخريف حيث في كل عا م يتجدد ذات المنظر: العمال ينتظرون في اليوم الأول للزراعة لتأتي الحاجة مريم لترمى بالبذور في أول حفرة في المزرعة وتدفنها ووالدي بجوارها يقرأ سورة الواقعة ويردد: " أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون". وحينما كبرت وسألت والدي فقال لي إنها أمرأة بخيته . وحينها علمت أيضاً لماذا كانت تدعى - تيمناً وتبركا- لعمل الجرتق ووضع الحناء والعديل الزين لكل الأزواج في القرية والقرى والمجاورة أذ كان يرى فيها المجتمع فألاً حسناً.

    وتحاصرني الذكرى من جديد وتعود بي إلى منتصف التسعينيات حيث أخذت والدتي من القرية (الحاجز) إلى الأبيض وكانت مقعدة من الام العظام ومن الكبر. ثم قفلنا راجعين نحو القرية بعد غياب دام أسبوعاً كاملاً. وفي طريق العودة كنت أسير بها على مهل شديد خوفاً عليها من الاهتزاز والألم وهي راقدة على السيارة. وبعد أن انقضت بضع ساعات من المسير ذكرت لي بصورة أشبه بالتقريرية وبلا مقدمات: الحمد لله خلاص وصلنا الحاجز، وكان الوقت ليلاً. فقلت لها وكيف عرفت ذلك يا أمي وأنت راقدة على مقعد السيارة و الوقت ليلاً ؟
    فردت قائلة: شميت ريحة بلدنا وريحة أهلنا وبقرنا وغنمنا وكذلك ريحة اشجار العرد والهشاب حول القرية.
    فصمتُ طويلاً وقلت لها: نعم وصلنا… ولكن بقي في خاطري شيء من سؤال: وهل لأبقارنا ولأغنامنا رائحة تميزها؟ وهل لاشجار الهشاب رائحة تميزها؟ والأهم من ذلك: هل للعشيرة وللأهل وللبلد (وجمعيها موجودات معنوية) روائح تميزها أيضاً؟

    تذكرت ذلك بعد أكثر من عشرة سنوات وأنا أستقبل مئات وآلاف المعزين من الأهل والأصدقاء والأحباب في القرية في كردفان وفي أم درمان وأجزم بأنني حينها أشتممت رائحتهم جميعاً وفرداً فرداً:
    لقد أشتممت رائحة الأهل والأصدقاء والمعارف من كل قرى الحاجز والدبيبات والحمادى والفرشاية ومناقو وام سعدة وكركراية والكركرة وبلامات والزريبة العجوز وحلة بليلة وحلة عبد الصمد والتونجرو وعريدبو وام شلختى وام كشواية والجميز وطيبة والنقارة وحلة الرهيد وأولاد يونس والصالحين والضليمة (نور الهدى) والسنجكاية والجميز والبقلتي وام جمط (شمال كردفان) والدربان والعجور وكجيرة والنمرية والنبقاية وحلة الفكى هاشم والغلايات وام جقمبيس والحميضاية والدبكر والفينقر ودبيكر والأضية ونبق وغيرها. وكذلك الأهل والأصدقاء من الدلنج: التجار و الأساتذة الأجلاء و كوكبه التعليم من جامعة الدلنج وأدارة التعليم بكاد قلي وبقيه حملة المشاعل المضيئة و الموظفين و منظمة الإيفاد (IFAD) واليونسيف (UNICEF) و UNMIS وعموم الأهل والأصدقاء بالدلنج و بالخرطوم وام درمان والخرطوم بحرى وعموم جماهير الأنصار والمصلين بمسجد ودنوباوى والأصدقاء من كل السودان والأخوة أعضاء شبكه الأمة عبر البريد الالكتروني وأدارة جامعة الأحفاد.

    ورويداً رويداً كان يتسع عندي معنى الأهل كما كانت تعلمنا الوالدة حينما تقول لنا:
    "أهلك المعاك وتربك الحداك"..." والجار القريب ولا ود الأم البعيد". والدفء ورائحة الأهل كنت أشتمها في السيل الغزير من مشاعر الأخوان والأخوات فشكرى اللا محدود لأهلنا بالعاصمة القومية. وشكرى لسكان الحارة (18) بالمهدية حيث يقيم أشقائي التجاني والتوم ولطالباتي النابغات الفاضلات الشاكرات في منظمة بادية وأدارتها وصديقاتهن و وبنات الأحفاد واللائي أعتز بهن كقائدات للنهضة في ريف كردفان الذي كم عاني طويلاً من حرمان ليل أطول.
    والشكر للأصدقاء الأوفياء في باكستان وبنغلاديش ورومانيا والولايات المتحدة الأميركية والهند وجنوب أفريقيا وليبريا والسعودية وتيمور الشرقية وبريطانيا وكندا وكوكبة روشستر.

    وفجأة أتتنى من بين جمع المعزيات تلك الخالة العجوز الطاعنة في السن، ومسكت بي فأنحنيت نحوها لأمكنها من نفسي, فضمتني إليها طويلاً وكأنها تشتم رائحتي وبكت طويلاً وتنهدت ثم ختمت نحيبها قائلة:

    " لقد ولدتك أمك وعمرها قارب الخمسين… وكان الوقت درت زمن الحصاد والسنة سنة شبع وكان في الخريف باقي مطر. وسبحان الله لقد ماتت أمك في الدرت ولسع في الخريف باقي والسنة سنة شبع كمان. ماتت أمك وانت أصغر العيال قد أصبحت رجلاً وإنشاء الله في العمر مدد. ان "صُرَّتَك" قد دفنت هنا في هذه القرية والآن قد دفنت أمك في ذات المكان. إذن هذه القرية هي "صرة الدنيا" بالنسبة لك. أرجو ألا تنقطع من هذه القرية وضروري تتواصل مع روح أمك وروح أبيك وأجدادك ومع "صُرّتك".
    " ما تنقطع.. ما تنقطع.. والعيال خليهم يجو من بلاد بره مرَّة مرَّة يواصلوا الناس... ويشموا الناس ويشموهم... ويشموا التراب هنا محل الصُرَّة إندفنت ومحل أمك كانت بتتوضأ وتتنفل وبرضو محل وضوء أبوك.. ومحل ختمة القرآن.. ومحل قراية الراتب.. ومحل تلاوة أوراد التجانية.
    وزادت قائلة:
    " شم التراب.. وشم الأهل كويسات للروح وللجسم برضو...".

    وإنهارت منى ومنها أنهار من الدمع بللت الرمل حتى فاحت منه رائحة الأجداد والتي تبينتها لكثرة ما سمعت عنهم.

    إنها لحظة عناق سوسيولوجيا الحياة مع أنثربولوجيا الموت و الحزن والمواساة حيث الكشف عن معانٍ ورموز ودلالات من وحي ثقافة التواصل السرمدي بين الإنسان والمكان والزمان و بين أشخاص آخرين عاشوا بعيداً في الزمن الغابر… وفينا. وحيث أن حاسة الشم قد اكتسبت بعداً أحالها من عملية بيولوجية إحيائية قاصرة إلى عملية ثقافية تواصلية بعيدة المدى وعميقة الدلالة في الارث الشعبي السوداني حول الموت والفناء والتواصل في اطار المجتمع والجماعة والجماعيّة التي تميزه .
    ............ .
    وبموتها لقد ماتت اخر شجرة ابنوس في السافنا... وذبلت اشجار التبلدى...... وجف الضرع الذي كان يطعمنا ويسقينا من "بقرة المنيحة".. وغير النهر مجراه وانحسر... وهجر الوزين ماء "التردة".... واستقر الظاعنون الذين افنوا نصف حياتهم خلف ابقارهم والنصف الاخر علي ظهورها … وماتا كلاهما...." و الهبوب قلبت"... ومات الامل .. واكل الثور الابيض والاحمر والازرق... وذاب الشرق في الغرب و انفصل الشمال عن الجنوب والتحمت الارض بالسماء وحل الطوفان...والحزن الكبير … ولا عاصم من امر الله.
    ............ ......... .........
    وفي الأثناء كانت طفله صغيرة رثة الثياب ملطخة الوجه
    و اليدين قد وجدت طريقها إليّ من بين جموع المعزين في سرادق العزاء تجذب بجلبابي بالحاح وتسألني: "ما جبت معاك الحلاوة... ديك.... "؟
    ............ ......... ........
    وذرفنا الدمع غزيراً
    وتنهد الشيخ طويلاً...
    ثم قال:
    إن العين التي لا تعتني بالناس يجف دمعها
    ........
    وختمت الخالة العجوز وصيتها قائلة:
    أن النهر الذي يجهل منابعه لا بد أن يجف
    ------------ ---
    وبكت الطفلة متسائلة باحتجاج ممزوج بالأ مل:
    إنت ما عندك…..... ثانية؟؟؟
    ------------ ---
    "ليس للشخص أكثر من أم واحدة"....(حكمة إفريقية
    )
                  

12-29-2006, 01:50 AM

Ahmed Abushouk

تاريخ التسجيل: 12-08-2005
مجموع المشاركات: 344

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: في رثاء الأم....الحبيب دكتور حامد البشير (Re: Abdelrahman Elegeil)

    الأخ الكريم الدكتور حامد البشير

    أستوقفني كثيراً رثاء أمك الفاضلة التي كانت أمة بين الناس، ومن خلال قراءتي المتأنية للوحة الأدبية التي نسجتها بخيال أنثربولوجي خصب حول قامتها الشامخة أدركتُ إن رحيلها ورحيل أمثالها من الأمات الشوامخ إلى الدار الخلود يمثل رحيل جيل خيرٍ بكامل ملامحه من أرض السودان، تلك الأرض الطيبة المعطاءة ...

    أخي حامد

    جعل الله البركة فيكم وفي البقية من ذريتها، لأنكم عيال أصل شامخ، انبت سنابل خُضر من أمثالكم، والعشم فيكم لا ينقطع عند أهلكم وعشيرتكم الذين يتحلقون حول مسقط الرأس ومقطع الصُرة (السرة)، لأنهم يدركون تماماً أن "ماعون الدهن نزاز" كما يقول أهلنا في السافل ... وإن النهر الذي يربط مصبه بمنابعه حتماً أن عطاء معينه الدافق لا ينضب.

    أخوك أحمد إبراهيم أبوشوك،

    تقابلنا عرضاً في جامعة الخرطوم مركز أبحاث البحر الأحمر، ولكنني شعرت أن العزاء في والدتكم الفاضلة دين مستحق في أعرافنا السودانية، فأرجو قبول العزاء، ودعنا نتواصل
                  

12-29-2006, 09:31 PM

Abdelrahman Elegeil
<aAbdelrahman Elegeil
تاريخ التسجيل: 01-28-2005
مجموع المشاركات: 2031

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: في رثاء الأم....الحبيب دكتور حامد البشير (Re: Ahmed Abushouk)

    جعل الله البركة فيكم وفي البقية من ذريتها، لأنكم عيال أصل شامخ، انبت سنابل خُضر من أمثالكم، والعشم فيكم لا ينقطع عند أهلكم وعشيرتكم الذين يتحلقون حول مسقط الرأس ومقطع الصُرة (السرة)، لأنهم يدركون تماماً أن "ماعون الدهن نزاز" كما يقول أهلنا في السافل ... وإن النهر الذي يربط مصبه بمنابعه حتماً أن عطاء معينه الدافق لا ينضب.

    نسال الله الرحمة والمغفرة لامنا ام مهلين وان يجعل الجنة مثواها مع الصديقين والشهداء وحسن اولئك رفيقا نسالك اللهم لاتحرمنا اجرها والا تفتننا بعدها
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de