|
مسألـــة «مــوت»!!
|
مسألـــة «مــوت»!! على يس برغم حال الخوف الدائم من نفسه، التي وقع فيها صديقي «عكاشة»، إلاّ أنَّهُ لم يكُن يُخفي فخرهُ أحياناً بهذه «الكرامة» الرَّبَّانية التي يظُنُّ أنَّ الله قد أكرمهُ بها، ذلك الهاتف الغيبي الذي يهتف به ساعات الخطر، فينقذه من موت محقَّق!!
أوَّل مرَّة حدَّثني فيها عكاشة عن ذلك الهاتف الغريب، كان مبهور الأنفاس، وكان قادماً لتوِّه من إحدى مُدُن الجزيرة بعد زيارة لبعض أقاربه هناك، قال لي بصوت لاهث:
تصوَّر.. وأنا طالع من البيت الصباح، كنت سايق بين صاحي ونايم، كنت ماشي الجزيرة لي عزاء ناس قرايبنا.. أسمع ليك هاتف يقول : «حاسب يا عكاشة.. الترلّة الحمرا القدامك حتنفك من الشاحنة !!».. فتَّحت عيوني، ما لقيت قدامي لا ترلّة ولا جنس عربيّة، الشارع كان فاضي.. سألت المرة كانت معاي: «سمعتي الزول الناداني ده؟».. قالت لي يا راجل قول بسم الله زول شنو البيناديك في الخلا ده؟
وبعدين يا عكاشة!!
بعد قريب نص ساعة، وانا ماشي في شارع مدني، ألقى ليك نفسي ماشي ورا ترلَّة حمرا.. انتبهت فجأة، لقيت نفسي على بُعُد مترين منها.. اتذكرت الهاتف، دُست الفرامل، وخليت بيني وبينها زي خمسين متر..
أها!!
ما مرَّت دقيقتين، إلاّ أشوف ليك الترلّة انفكّت ووقفت ليك في نص الشارع، فرملت.. الله ستر!!
كان هذا قبل أكثر من عشر سنوات، ولم يلبث أخونا عكاشة أن اعتاد على ذلك الهاتف.. حذَّرهُ مرّة من ركوب طائرة من بورتسودان، فنزل قبل دقائق من إقلاع الطائرة وتنازل عن ثمن التذكرة، وجاء بالبص، ليكتشف وهو في الطريق أن الطائرة قد سقطت!! ثم حذَّرهُ ذلك الهاتف العطوف، إذ كان ينطلق بسيارته في طريق مرور سريع، بأن أحد عجلات سيارته الأمامية سوف ينفجر، فداس على الفرامل، لتتوقف السيارة في اللحظة التي انفجر فيها العجل!!.. وحذره من المبيت بمكتبه في قلب الخرطوم وكان قد نوى ذلك لينجز عملاً متراكماً ثم يقضي يوم الإثنين في بيته كان ذلك أمسية الإثنين الأسود، لولا أنّ الهاتف تدخّل في منتصف الليل وأمرهُ بالعودة إلى منزله فوراً، ثم أصبح يوم الإثنين بمآسيه المعلومة، وقد ذهب إلى مكتبه يوم الأربعاء ليجده وقد تم إحراقُه بالكامل.. هكذا ظل الهاتف يُنقذ عكاشة من الموت سنين عدداً..
ولكن الهاتف غيَّر عاداته فجأة.. حكى لي عكاشة، ذات يوم، بصوت خائف حزين:
أُمبارح الهاتف جاني!!
أها، وقال ليك شنو المرة دي؟؟
قال لي: إني حأموت في عاصمة عربيّة!!
يا ساتر!! أها، وحا تسوِّي شنو؟؟
قرَّرت إنِّي ما أسافر أي دولة عربيّة تاني..لا مؤتمرات تاني ولا زيارات!!
بس ده ما حل!!
كيف يعني؟؟
مش احتمال تمرض، يقوموا الأولاد وأهلك يودوك للعلاج في دولة عربيّة؟؟
لالالا، اطمئن، حذّرت المرة والأولاد وأهلي كلهم، قلت ليهُم لو شافوني مرضت وبقيت للموت، ما يودوني أي عاصمة عربيّة، لا عمّان ولا القاهرة ولا غيرها.. قلت ليهم ممكن يودوني لندن ولاّ باريس ولا بون، بس يبعدوني من العرب ديل!!
وحتضمن من وين إنو الطيارة ما يحصل ليها مشكلة في الطريق وتنزل هبوط اضطراري في واحدة من العواصم العربيّة!!
نظر إليّ برعب، قائلاً:
دي ما فكّرت فيها والله.. صحيح.. بس حأمشي هسّع أقول ليهم ما يودوني أي حتّة، لا عربية ولا غربية !!
برضو ده ما حل!!
تقصد شنو؟
أقصد إنو، لا قدّر الله، لو يوم وقعت في المكتب كاضم، وقاموا زملاك قبل ما يكلموا أهلك ودوك المستشفى بسرعة، وهناك الدكاترة قالوا لازم تسافر الأردن هسع، قاموا الزملاء سفّروك طوالي، وبعدين كلموا أهلك...
والله برضو ممكن تحصل!! أها.. والدبارة شنو؟
الهاتف ده أداك أي تاريخ؟ يعني ما قال ليك حتموت متين؟؟
ما دي المشكلة ذااااتا، ما حدّد..
يعني ممكن يكون الكلام ده بعد خمسين سنة، مش؟؟
أيوه، لكن برضو ممكن يكون بعد يومين تلاتة، علمها عند الله..
يبقى تنسى الهاتف ده، ما تشتغل بيهو!!
متردِّداً، أخذ عكاشة بنصيحتي، وقد مرّت الآن ثلاث سنوات، لم يذكُر فيها عكاشة هاتفهُ ذاك بخيرٍ أو بِشَرّ.. ولكن لا أدري إن كان نسي مسألة «الموت في عاصمة عربيّة» أم لا..
|
|
|
|
|
|