|
د.الباقر العفيف في رثاء الراحل الخاتم عدلان ..أي عقل انطفأت جذوته؟!!أي قلب توقف عن الخفقان؟!
|
أي عقل انطفأت جذوته؟!!أي قلب توقف عن الخفقان؟!!
إلى اللقاء أيها الصديق الوفي لم يخطر ببالي أبداً أنه سيجيء يوم أقف فيه مثل هذا الموقف. لم يخطر ببالي أبداً أن أعتلي منصة في لندن وليس إلى جانبي، أخي وصديقي وشقيق روحي وأحد أحب خلق الله إلى قلبي، الخاتم. خل عنك أن يكون هذا يوم تأبينه، وأن نتكلم عنه بصيغة الماضي، وبضمير الغائب، وهو الذي في القلب ساكن، وهو الذي يملأ كل مكامن الشعور بحضوره المكثّف القوي. لم يخطر ببالي أبداً أن أراه يضوى ويزوى، ويتألم، ويغذ الخطى بعيداً عني يوماً إثر يوم، وأنا أقف أمامه عاجزاً، لا أستطيع أن أدفع عنه الأذى، أو أقاسمه الألم .. لا أستطيع أن أفديه بنفسي، أو أشد قبضتي وأصفع القدر. لم يخطر ببالي أبداً. فالخاتم إنسان نادر المثال. يعرفه الناس كثروة قومية، كمفكر أصيل، وسياسي ضليع، و مثقف لا يشق له غبار، رحل عنا وهو في قمة نضجه وقمة عطائه، وفي وقت نحن في أشد الحاجة إليه. فأمثاله تنكّس لهم الأعلام، ويعلن عليهم الحداد العام. بيد أن الخاتم، هذا الإبن البار بشعبه، لم يجد من حكومات بلده الغابر منها والحاضر، سوى السجن، والتشريد، والمنفى، و بخلت عليه أجهزة النظام الحالي بمجرد خبر يعلن وفاته، و تدخلت أجهزته القمعية لتعرقل تعبير الشعب عن حبه لابنه، وإن استطاعت منع فجيعته فيه لكان قد فعلت. و إن كان من عزاء فهو أنه عندما يبرأ الوطن من سقمه، ويوم تُنصب معايير القيم، وتُعرف أقدار الرجال، سيجئ الخاتم في طليعة من تقام لهم النصب التذكارية، وتطلق إسماؤهم على شوارع المدن، وقاعات المحاضرات، ومراكز الثقافة، تلك المواقع التي أطلقت عليها أسماء القتلة والمجرمين، أسماء أناس ساموا الشعب العذاب، ولم ينشروا سوى الخراب. أناس ساقوا شعب السودان بالسوط والنوط وأشاعوا ثقافة الموت. كان الخاتم داعية حياة، كان محباً لها، مبشراً بها، ساعياً لتحسين العالم من أجل تمكين أكبر قدر من الناس أن يستمتعوا بها، وأن يتذوقوا الجمال فيها. كم مرة سمعته يقول "الله الحياة جميلة" Life is beautiful. قال لي مرة وأنا جالس قرب سريره في المستشفى وقد كنا وحدنا: "يا باقر أنا بحب الحياة، ومتمسك بها، وغير متهيء للرحيل الآن لأن لدي الكثير من المشاريع التي أريد إنجازها، ولكني في نفس الوقت لست جزعاً من الموت". قلت له: "أعرف ذلك". لقد تعرفت على الخاتم عن قرب مؤخراً جداً، في العشر سنوات الأخيرة من حياته. كنت أعرفه من خلال نشاطه العام، ومن خلال كتاباته. و أول مرة رأيته فيها عياناً كان في عام 1986، عندما ألقى كلمة إبان الذكرى الأولى لاغتيال الأستاذ محمود محمد طه. جاء إلى المنصة وفي مشيه تحفز وإقدام، وفي عينيه بريق وأحلام. وما زلت أذكر كيف تمكن و من أول وهلة أن ينسج تلك الخيوط السحرية التي تربطه بمستمعيه، وتشدهم إليه. دارت الأرض دورتها، وحملتنا الشواديف من هدأة النهر وألقت بنا في أرض غريبة، لنلتق ثانية في عام 1994، في مدينة ليدز، حيث جمعنا مؤتمر عن "جنوب السودان ما بين الوحدة والإنفصال"، كلانا قدم ورقة فيه. هناك عرفته بنفسي، وتبادلنا الحديث، وأذكر بأنه أعطاني الانطباع بأن ورقتي لم تعجبه، فقد اعتبرها تصب في خانة دعاة الانفصال. وبعد فترة من ذلك اللقاء، استمعت لمؤتمره الصحفي الذي أعلن فيه هو و ثلاثة من رفاقه، هم الدكتور الراحل خالد الكد، والدكتور عمر النجيب، والدكتور أحمد المجري، استقالتهم من الحزب الشيوعي. ولقد توقفت عند ذلك الحدث طويلاً. فأولاً تلك هي المرة الأولى حسب علمي التي يعلن فيها سياسي سوداني استقالته من حزبه في مؤتمر صحفي. وثانياً، استوقفني خطاب استقالته، فقد احتوى على مرافعة رفيعة المستوى، في جوانبها الفلسفية، والسياسية، واللغوية، شعرت معها بسعادة معرفية، و بمتعة فكرية، فعزمت أن أشكره عليهما. وثالثاً، استوقفني في ذلك السلوك ما يعكسه من صفات في الرجل: الأمانة مع النفس، والشجاعة الفكرية، وصراحة القصد، واستقامة اللسان. قلت في نفسي هذا إنسان متسق النفس، كبير العقل، سليم الوجدان، استطاع أن يقرب الشقة بين فكره وسلوكه، وبين سيرته وسريرته. إنسان لم يأسره تاريخه، ولم يتوقف نموه. إنسان منفتح على العالم مقبل عليه بعقله، وقلبه، فهو مستمر التكوين، دائم التعلم. إنسان مثل هذا سوف يأتينا منه خير كثير. إتصلت به تلفونياً، وقلت له شيئاً من هذا القبيل. طلب مني رقم تلفوني، وعنواني. وبعد فترة أرسل لي كتيب الحركة السودانية للديمقراطية والتقدم، وطلب مني تعليقاً و نقداً. استمرت الاتصالات بيننا متفرقة متباعدة، كنت أسأله عن كيف تسير الحركة، إلى أن أخبرني بأنهم يخوضون محادثات مع حركات أخرى مشابهة بغرض توحيدها جميعاً في حركة واحدة. وعندما تعثرت تلك الجهود، عرضت عليه التوسط بينهم، من موقع الحياد والصداقة المشتركة مع الأطراف المختلفة. ولقد أثمرت تلك الوساطة عدة اجتماعات تمخضت عن الإجتماع التأسيسي لحركة القوى الجديدة الديمقراطية (حق) و التي وضع فيها خلاصة تجربته السياسية، ووظف لبنائها كل جهده، وصحح فيها جميع أخطائه السابقة في مجال الفكر والممارسة السياسيين، حيث جعل أعمدتها الديمقراطية وحقوق الإنسان، والعدالة والمساواة وحرية الاختيار، وجعل رهانها على المعرفة ووسيلتها الاستنارة. فهي تمثّل قمة نضجه السياسي. تلك كانت المناسبة التي جمعتنا، و البوابة التي من خلالها عبرنا إلى تلاقي الروح، وإلى أفق الصداقة غير المشروطة. و من أبرز سمات الخاتم أنه وفي لأصدقائه، يتحدّث عنهم بحب وبود كبيرين. وكان أكثر ما يؤلمه تنكر بعض من كان يعدهم في الأصدقاء له نتيجة مواقفه السياسية، وكان يحاول فلسفة ذلك السلوك المؤلم، فقد كان ديدنه فلسفة الأشياء، ومحاولة فهم سلوك البشر. كانت تظلله سحابة من أسى وهو يقول لي: ولكن واضح أنها من جانبهم لم تكن صداقة، بل كانت تحالفاً سياسياً بين أفراد. فمثل هؤلاء إن ابتسموا في وجهك فإنهم في الحقيقة إنما يبتسمون لموقفك الذي يتسق مع مواقفهم، فكأنهم يبتسمون لأنفسهم المنعكسة لهم منك. أي أنهم لا يبتسمون لذاتك الإنسانية، بل لفائدتك الوظيفية. فإذا غيرت موقفك استنفدت صداقتك. وكان يفرح ويسعد كلما انتصر الناس على ضعفهم ونقصهم، وارتفعوا لإنسانيتهم. جئته مرة فبادرني قائلاً: "اتصل بي الحاج وراق وأنا أكبرت فيه الحاجة دي"، وفي مرة ثانية قال لي: "اتصل بي عبد الله علي أبراهيم، وأنا أكبرت فيه هذا الأمر، وقلت له يأخي الخلاف في الرأي يجب ألا يفسد للود قضية"، ومرة ثالثة قال لي، "نقد اتصل، يأخي ده راجل عظيم". كان مرض الخاتم محكاً برزت فيه جوانب من شخصيته العظيمة. التماسك غير المفتعل، و القدرة الخارقة على تحمل الألم. كان يحرص على الرد على المكالمات التلفونية المتعاقبة
|
|
|