|
مرافئ الغربة كاتب هذه النوستالجيا الراقية يرغب في الإنضمام لواحتكم المونقة
|
الخرطوم التي كانت؟
د. جعفر عبد المطلب
لماماً ما ازور الوطن في زيارات قصيرة جداً كلها لأمرٍ جلل..هذه الزيارات القصيرة دائماً لتقبل العزآء في عزيز رحل لا تمكن من الوقوف عن التحولات الرهيبة و الشالهة التي حدثت في الخرطوم..الخرطوم التي امضينا فيها سنوات العمر الأجمل خلال المراحل الدراسية حتى الجامعه ثم بداية الحياة العملية عندما كانت الخدمة العامة السودانية مكاناً محترماً نعتز بالالتحاق به قبل ان تمتد إليه يد الإحتكار و يهيمن على وظآئفها الكبيره و الصغيرة منها الولاء من ابنآء الجبهة الإسلامية.
تركت الخرطوم في نهاية السبعينات و ما كنت تاركها لولا البعثة الدراسية. عندما تركتها كانت كأجمل ما تكون العواصم العربية و الافريقية حتى اطلق عليها زوارها عروس افريقيا.
المرة الاخيرة التي زرتها قصدت ان تكون الإجازة على قدرٍ يسمح لي و لأولادي بالتعرف على الوطن و الاهل و العشيرة من باب التربية الوطنية و الارتباط بالجذور لا سيما و هم الذين عاشوا بعيداً عن الوطن لسنوات عديدة في كندا و في تورنتو تحديداً..من تورنتو إلى السجانة في جنوب الخرطوم نقلة كبيرة و لكن كان لا بد منها حتى يعيشوا الحياة السودانية بطولها و عرضها بدء بركوب الركشة و إنتهاء بأكل الفتة المعجونة بماء الفول...جاءوا و هم مزودون بكم هائل من المعلومات و القصص و الحكايا عن الخرطوم التي تركت..عن الخرطوم التي كانت تغسل عند الفجر و سيارات القمامة التي كانت تغشى كل بيت مهما كان موقعه مع شروق الشمس حتى كان الناس يصحون مبكراً على أصوات صفارات عمال النظافة! كان عمال و موظفي الصحة يجوبون الاسواق و المطاعم و المقاهي و صوالين الحلاقة و كل محلات و مراكز الخدمات التي تتعامل مع الجمهور يفحصون العمال فيها و ما يقدم فيها من طعام و شراب و يدققون في البطاقات الصحية.
حدثتهم عن الخرطوم التي كانت تمتلئ بالمقاهي الانيقة الراقية التي يرتادها المثقفون و الفنانون و الكتاب و الأدبآء و رجال السياسة و كبار موظفي الخدمة المدنية. مقهى السليماني و ليس السلماني كما يخطئ البعض: ذلك المقهى الذي كان يتوسط الخرطوم إثنين، كنت أمر من عنده عندما أشتري الصحف من الكشك المجاور له كنت أرى رواد هذا المقهى و هم أدبآء و مثقفون و موظفون كبار سيإسيطن اتعرف على شخصياتهم من خلال صورهم المنشورة في الصحف اليومية...مولانا المعروف الاستاذ عبد الماجد ابو حسبو السياسي و الصحفي و الوزير و مولانا خلف الله الرشيد أمد الله في عمره و آخرين يلتفون حول طاولة ترتفع منها اصواتهم بالنقاش تارة و القهقهة تارةً أخرى..و هناك على الطرف الآخر في قلب الخرطوم يقف مقهى أتنيه كنافذةٍ تتنفس من خلالها الطبقة الوسطى الثقافة و السياسة و الادب...زوارها مميزون من الفنانين التشكيليين و نجوم الإذإعة و التلفزيون و المسرح و الكتاب و الصحفيين، كل مجموعة لها ركن خاص بها
إنتحيت ركناً قصياً التقي فيه ضيوف برنامج مرافئ الغربة حيث نعد السيناريو الأولى. حافظنا على خصوصية ذلك الركن الجميل فترة من الزمن إلى أن إكتشف الرواد ان هذا المكان خاص ببرنامج المرافئ ثم افسد المتطفلون خصوصية المكان ربما بحسن النية النابعة من إعجابهم بإلبرنامج ليس إلا...و لا أنسى موقفاً محرجا ًحدث لي في هذا المقهى عندما طلبت من أحد ضيوف الحلقات القادمة أن يقابلني يوم الثلاثاء القادم في هذا المقهى و أذيع هذا الطلب في نهاية الحلقة ضمن استعراض البريد..فإذا بي أفاجأ في اليوم التالي ان الأستاذ الصديق الراحل صالحين مدير الإذاعة آنزاك يطلب مقابلتي لأمر عاجل...ذهبت إليه فوراً فبادرني قائلا: ماذا قلت في حلقة الامس؟ قلت له كانت حلقة عادية مثلها مثل باقي الحلقات. قال لي: إن السيد الوزير كان يسمعها و إستنكر إن تطلب من خلال مايكرفون الإذاعه مقابلة ضيوفك في مقهى أتنبه ، الشيء الذي كان ان ينبغي ان يتم من خلال الهاتف. و كلفني السيد الوزير ان الفت نظرك لذلك على أن لا يتكرر و أبدى إعجابه الشديد بالمرافئ و بصاحبها..إعتذرت له على الفور و طلبت منه ان ينقل إعتذاري للسيد الوزير شخصياً لأنني تصرفت بحسن نية لا اكثر. فوجئت بالوزير يتصل بي تلفونياً في محادثة إتسمت بالرقة و خفة الروح مشيداً بالبرنامج و مؤكداً انه أحد أصدقآء المرآفئ بل اكد لي أن احد اقربائه هاجمه بحجة ان الإذاعة تصرف مبالغ طآئلة على رحلات صاحب مرافئ الغربه بينما تعاني البلاد من ضائقةٍ مالية خانقة!! حدثتهم عن دور السينما التي كانت كانت موزعةً توزيعاً عادلاً على مختلف أحياء الخرطوم بحيث لا يحرم سكانها من إرتياد السينما. كانت دور السينما تتنافس في عرض الافلام الراقية و الجميلة
كان الصيق الراحل علي المك مديراً لمؤسسة السينما في عصرها الذهبي و كان فيها فنانون و كتاب كبار على رأسهم الصديق الراحل الشاعر علي عبد القيوم. تخصصت سينما النيل الأزرق في الافلام الانجليزيه بحكم موقعها المجاور للجامعة، بينما كانت سينما الخرطوم غرب تحاول منافستها في عرض الافلام الراقية...عندما عرضت النيل الأزرق صوت الموسيقى عرضت الخرطوم غرب سيدتي الجميلة..أما كلزيوم فتخصصت في افلام رعاة البقر في الغرب الامريكي أما الافلام المصرية الراقية فانفردت بها سينما الخرطوم جنوب أما سينما النيلين بالديوم الشرقية فكان الغناء و الرقص الهندي لا يتوقفان فيها على إمتداد الإسبوع حتى يخيل إليك ان الديوم الشرقية كلها في حالة عرس!! الخرطوم التي رأيناها هذا العام تبدلت تبدلاً شائعاً حتى اضحت ريفاً كبيراً. إمتلأت ساحاتها بالقمامة و انعدمت في شوارعها صحة البيئة و اختنقت كل الشوارع فيها طولاً و عرضاً بحركة السير العشوائية حتى يخيل إليك أن المشوار إلى مدينة ود مدني اسهل و اقصر من المشوار إلى قلب الخرطوم! يبدو أن الخرطوم هي المدينه الوحيده في العالم التي لا يحترم السائقون فيها قواعد المرور...الناس لا تقف عند الإشارة الحمراء! و هذا شروع في القتل لا محالة و لكنهم لا يموتون! كنت ملتزماً بالوقوف عند الضوء الأحمر و هذا شيء طبيعي و لكن الشيء غير الطبيعي، المضايقات التي اتعرض لها من الذين من خلفي يلحون علي ان امضي في سبيلي! و عسكري المرور لا يستوقفك لمجرد أنك ارتكبت مخالفة تذكر، كنت اعطيه المساعدة المطلوبة تقديراً لأطفاله الذين يتضورون جوعاً..و لماذا لا اعطي هذا الشرطي المسكين و الذين نهبوا ملايين الدولارات من طريق الإنقاذ الغربي، طليقوا السراح، بل يسكنون هنا في برج العرب بدبي!!
الظاهرة اللا فتة للنظر ان الشوارع و الطرقات الرئيسية تحولت الى اسواق و مطاعم و ورش ، فوضى ضوضاء. سألت عن ذلك: قيل لي هذه من اجل الضرائب و الزكاة و الاتاوات. كل ذلك بسبب حرب السوداني ضد شقيقه السوداني في جنوب البلاد.
هل هذه هي الخرطوم التي زارها الشاعر الراحل الكبير نزار قباني و احيا فيها أمسيات شعرية حتى احاط به السودانيون من الجنسين عشاق شعره ، حتى الفجر و عندما ضاق بهم المكان تسلقوا الاشجار و تدلوا معلقين بفروعها حتى قال فيهم نزار قولته المشهورة: لقد استمع إلي اهل السودان و هم يتدلون من فروع الاشجار كعناقيد الكروم.
اين الخرطوم التي استضافت سيدة الغناء العربي آم كلثوم؟ عندما إمتلأ المسرح القومي بقدر اتساعه و اعتلى الناس سطوح المنازل في الحي المجاور للإذاعة و المسرح ليشاهدوا ام كلثوم..و كان الاستاذ ابو حسبو في مقدمة الحضور.
أين مدينة الثقافة و الموسيقى و المسرح؟ كان المسرح الوطني يعرض نبتة حبيبتي لهاشم صدّيق و جعفر النصيري و فرقته، يعرضون على مسرح الجامعة ،المغنية الصلعاء، باللغة الفرنسية. و في شارع القصر حيث المركز الثقافي الأمريكي يقدم الراحل علي المك، ملك الجاز الامريكي آرمسترونج الذي نزل ضيفاً على الخرطوم و هو ابن نيو اورلينز العظيم، و احتفت بى الخرطوم احتفاء يليق به، حيث اقامت الليل رقصاً في حضرته...و قدمه علي المك بصوته الذي لا يشبه صوت آخر..
كانت الفعاليات متصلة و المدينة في حالة عرس و فرح...الاستاذ ابراهيم الصلحي يحتفي هو الآخر بمريم ماكيبا التي غنت فآسمعت بصوتها الجميل إحياء المدينة و ساحاتها. أين، الخرطوم باليل، الذي كان اسماً لثوب السهره لسيدات المجتمع المخملي آنذاك
الخرطوم التي رأيت هذا العام شوارع خالية من المارة و الساعة لم تبلغ الثامنة مساءً بعد...و طرقات موحشة و كئيبة تخلو إلا من حركة المصطفين امام المستشفيات و الصيدليات بعضهم يئن من وطأة المرض و بعضهم يحتضر و البعض الآخر يمد يده يسأل ثمن الدوآء لطفل يحمل على راحتيه بين الحياة و الموت. غداً يأتي الفجر بعد الليل مهما طال و يستأنف النيل سيرورته من الجنوب الى الشمال، في رحلته الأبدية و تستعيد شوارع الخرطوم عافيتها و قدرتها على التلألأ و تفتح المقاهي ابوابها و شرفاتها القديمة و تستيقظ الطبقة الوسطى من بياتها الشتوي، و هو بيات امتد لاكثر من ربع قرن و هو وليد شرعي لغياب الإرادة و مصادرة الشرعية.
تعود مؤسسات المجتمع المدني تمارس دورها الذي حرمت منه و تنبت الاشجار من جديد و ينهض الجندي المجهول ثانية متجهاً صوب القصر بينما يلملم تهراقا أوصاله المقطعة في المتحف القومي، بفعل السلفية و حرمة التماثيل! و يعود وردي الذي عاد بالفعل و لكن في زمن لا يستطيع إن يغني فيه: أصبح الصبح و لا السجن و لا السجان باق
|
|
|
|
|
|
|
|
|