|
الحكم على معلم سعودي بتهمة الردة: لم ينجح أحد!
|
دهشت بشدة حين قرأت خبراً أوردته صحيفة الشرق الأوسط في عددها الصادر في 9 مارس 2004. كان مفاد الخبر بأن المحكمة الكبرى بالرياض حكمت بالسجن لمدة ثلاث سنوات والجلد 300 جلدة للمعلم السعودي المتهم في قضية الردة, مع الإبعاد عن التعليم كوظيفة، ووسائل الإعلام ككاتب في الصحافة المحلية. ومن حسن حظ المعلم أنه قد نطق بالشهادتين في قاعة المحكمة, مما دفعها إلى دفع حد الردة عنه بامتعاض واضح, وقد استعاضت عن إقامة الحد بفرضها لهذا الحكم القاسي في سبيل "تعزيره وردع غيره" كما ورد في الخبر الذي ساقته الصحيفة. والحديث عن حد الردة يدفعنا إلى تذكر مبدأ حرية الاعتقاد في الإسلام, والذي قررته الكثير من الآيات القرآنية الكريمة, مثل قوله تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ) وقوله عز وجل: (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين). وقد بين تبارك وتعالى أن الاختلاف في الديانات سنة من سنن الكون, فقال تعالى: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة) وقال سبحانه: (ولو شآء الله مآ أشركوا) وقال تبارك اسمه: (ولو شئنا لاتينا كل نفس هداها), وقال عز من قائل: (ولو شآء الله لجمعهم على الهدى). وقد وردت الردة في القرآن الكريم في عدة آيات منها قوله تعالى: (يا أيها الذين أمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين), وقوله عز وجل: (و من يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون). ويذكر الشيخ محمود شلتوت في سفره القيم "الإسلام عقيدة وشريعة" أن القرآن لا يورد عقوبة دنيوية للمرتد, فعقوبة المرتد في القرآن هي " الحكم بحبوط العمل, والجزاء الأخروي بالخلود في النار ", ثم يذكر رحمه الله بأن العقاب الدنيوي للمرتد أثبته الفقهاء بحديث يروى عن أبن عباس رضي الله عنه قال رسول الله: (من بدل دينه فاقتلوه). وبعد أن أورد الشيخ شلتوت اختلافات الفقهاء في هذا الباب قال: (وقد يتغير وجه النظر في المسألة إذا لوحظ أن كثيراً من العلماء يرى أن الحدود لا تثبت بحديث الأحاد, وأن الكفر بنفسه ليس مبيحاً للدم, وإنما المبيح هو محاربة المسلمين, والعدوان عليهم, ومحاولة فتنتهم عن دينهم. وأن ظواهر القرآن الكريم في كثير من الأيات تأبى الإكراه على الدين فقال تعالى: }لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي وقال سبحانه: }أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين {). وقد علق الشيخ حسن بن فرحان المالكي على الأحاديث التي تناولت حد الردة بالقول: (الأحاديث في ذلك إما صحيح غير صريح وإما ضعيف) , وقد بين أن حديث عكرمة عن أبن عباس (من بدل دينه فاقتلوه) هو حديث ضعيف, وذلك لأن (أكثر المحدثين على تضعيف عكرمة). والشيخ عبدالمتعال الصعيدي من ناحيته لا يقبل الأحاديث التي تفيد بقتل المرتد, وموقفه منها كما قال في كتاب " حرية الفكر في الإسلام ": (فإما أن لا نقبلها لأن أحاديث الأحاد لايعمل بها في العقائد , وقتل المرتد على تغييره لإعتقاده يدخل في باب العقائد لا الفروع. وإما نحملها على المرتد المقاتل). وهذا الرأي يتوافق مع ماذكره الشيخ حسن المالكي في تفسير حديث (لا يحل دم امريء مسلم إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة) حيث قال: (فهذا بين التلازم بين التارك لدينه الذي يجمع بين ترك الإسلام ومفارقة الجماعة), وهو بالتالي: (ليس صريحاً في الردة الفردية). ويذكر جمال البنا في بحثه القيم (حرية الأعتقاد في الإسلام) أن الأعتقاد يجب أن يقوم على حرية الفرد وإطمئنان قلبه ودلل على ذلك بستة نقاط ملخصها بأن القرآن الكريم ذكر الردة ذكراً صريحاً في أكثر من موضع ولم يرتب عليها عقوبة دنيوية ولو أراد لذكر, وأن القرآن وضح بمئات الآيات أن المعول والأساس في قضية الإيمان هو القلب وبأن ليس للأنبياء من دخل في هذا بضغط أو قسر وأنه لا إكراه في الدين ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر, ان القرآن عندما قرر حرية الإعتقاد فإنه كان يقرر مبدأ أصولياً تحتمه طبائع الأشياء وأنه إحدى السنن التي وضعها للمجتمع الإنساني, وإنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قتل مرتداً لمجرد إرتداده على كثرة المنافقين الذين كفروا بعد أيمانهم, أن أحاديث الآحاد يجب قبل أن نطبقها أن نتقصى غاية التقصي وأن نلم بملابسات الحديث كله وان نتأكد بأنه روي بالحرف وليس بالمعنى, وأن فكرة الردة اقترنت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بعداوة الإسلام وحربه. وإذا رجعنا لكتب التاريخ فاننا سنجد أنها تورد لنا حادثة بالغة الأهمية عن قضية ارتداد حدثت في العهد النبوي, وملخصها بأن عبدالله بن سعد بن أبي سرح كان أحد كتاب الوحي النبوي, ثم أرتد بعد أن ادعى بأنه كان يكتب الوحي للنبي حسبما شاء, وقد أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه ولو كان متعلقاً في ستار الكعبة, غير أنه في يوم الفتح استجار بأخيه من الرضاع عثمان بن عفان رضي الله عنه, والذي شفع له عند رسول الله, وقد قبل الرسول شفاعته بعد سكوت طويل, وقبل منه بيعته, ولم يعاقبه بشيء قط. من الواضح أن دلالة قبول الرسول لشفاعة عثمان بن عفان في ردة عبدالله بن سعد, تثبت بأن الردة ليست من الحدود الشرعية, ولو كانت كذلك لما قبل رسول الله شفاعة عثمان رضي الله عنه, بدلالة رده الواضح والصريح على أسامة بن زيد حين شفع في المرأة المخزومية التي سرقت حيث قال: (أتشفع في حد من حدود الله) حتى قال مقولته الشهيرة: (وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها). لاشك أن جريمة المعلم لم تصل بأي حال لعظم الجرم الذي أرتكبه عبدالله بن أبي سرح, والذي لم يحده أو يعزره خير الأنام صلى الله عليه وسلم, بل إنه وفي خلافة الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان تولى أمارة مصر, وغزا أفريقية وأرض النوبة وذات الصواري من أرض الروم في البحر. من المؤكد أن حكم المحكمة كان قاسياً للغاية, وكان معارضاً لمبدأ حرية الأعتقاد والذي أقره الإسلام قبل أكثر من الف وأربعمائة سنة, وهو بهذا كان سابقاً على الشرائع والقوانين الوضعية كما يقول الكثير من مفكرين الفكر الإسلامي, وبمناسبة الحديث عن الشرائع الوضعية فلابد من القول أن الكثير من معاهدات وإعلانات حقوق الإنسان نصت على مبدأ حرية الاعتقاد وحرية التعبير, ومن ذلك ما ورد في المادة 18 و المادة 19 من الفصل الثالث للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية, وما ورد في المادتين 18 و 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان, وبمناسبة الحديث عن حقوق الإنسان فلابد من التوضيح أن عقوبة الجلد والتي تم الحكم بها (تعزيراً) على المعلم السعودي تندرج تحت العقوبات القاسية والحاطة بالكرامة والتي نهت عنها المادة الخامسة من الإعلان العالمي والمادة السابعة من العهد الدولي. ومن المعلوم أنه لا توجد دولة تتستر على حالها بستار حديدي في عصر العولمة, ولذا فلا مناص من أيراد عبارة حكيمة ساقها الدكتور احمد البغدادي في كتاب " تجديد الفكر الديني " حيث قال: (هل تعتقدون أن السفارات الغربية ستسكت وهي تجد مسلما تحول إلى دين آخر معرضاً للقتل ؟ ستتدخل وستحرج الأنظمة الحاكمة أمام العالم). ولا يسعنا إلا أن نقول ولن تسكت هذه الدول ومعها منظمات حقوق الإنسان عن الجلد أيضاً يا دكتور أحمد. قد يقول أحدهم أن عقوبة الجلد هي عقوبة إسلامية أصيلة ولا مجال للتخلي عنها, ولا يكون الرد إلا بأننا قد نوافقكم على ذلك في حال ما إذا كانت العقوبة تندرج تحت باب الحدود التي أقرها القرآن الكريم والسنة الصحيحة المتواترة, وأما مادامت العقوبة مندرجة تحت باب التعزير المرهون بمزاجية القاضي فلا مجال للموافقة على الإطلاق. إن قضية المعلم تفتح من جديد باب النقاش حول تقنين أحكام الشريعة الإسلامية في المملكة العربية السعودية, فبقاء الأحكام معلقة على هوى القاضي ونظرته الشخصية للأمور يتعارض مع مبدأ شرعي وقانوني أصيل مفاده المساواة في العقوبة لنفس الجرم, كما أن بقاء الأحكام الشرعية مبعثرة ومتناقضة في كتب الفقه والتراث الإسلامي يتعارض مع مبدأ آخر مفاده أن لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص شرعي أو نظامي. كما أن قضية المعلم تفتح المجال واسعاً لمناقشة دور مشرف التوعية الإسلامية في المدارس, فقد أتضح لنا من القضية أن دوره قد تعدا الدور التوعوي بمراحل, وتجاوز ذلك إلى دور شبيه في حقيقته بالدور الذي كان يمارسه رهبان الكنائس المسيحية في القرون الوسطى, فقد ورد في عدد الشرق الأوسط الصادر في 10 فبراير 2004, أن مشرف التوعية الإسلامية هو كبير الشهود ضد المعلم, وقد أتهمه احد المعلمين بأنه قام بتحريضه للشهادة ضد المعلم المتهم في قضية الردة, غير أنه رفض أن ينساق وراء هذا التحريض, وقام بالشهادة بما يمليه عليه ضميره, حيث شهد بحسن خلق المتهم, واستبعد أن يكون قد صدر منه مايخالف الدين والأخلاق, كما أن مشرف التوعية الإسلامية قام بعقد اجتماع مع الطلاب والمعلمين في مختبر المدرسة لمناقشة قضية المعلم كما يتضح من سياق الخبر. للأسف الشديد أننا لم نسمع صوتاً للمثقفين السعوديين في هذه القضية التي كان شهودها أطفالاً لم يبلغوا سن الحلم, وكان المتهم فيها منكراً لما نسب إليه, وهم الذين ملؤوا الدنيا بالبيانات في قضايا أخرى غير محلية, مثل بيانهم الشهير في نصرة صنع الله إبراهيم. أن القضية الحالية والتي هي حديث الساعة في المجتمع السعودي لهي في حقيقة الأمر محك لمصداقية المثقفين السعوديين, وكم أتمنى أن لا يخرج المعلم المسكين مخذولاً في هذه القضية كما خرج الدكتور تركي الحمد وآخرون من قبله ومن بعده مخذولون ومصدومون من موقف نظرائهم من المثقفين السعوديين. سعود عبدالله الجارح
كاتب سعودي
|
|
|
|
|
|