دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
كورال الساقية و التربال .. و الغربة سترة حال
|
عبد الحليم زيادة على طين الأرض الخصبة ،، إبتداءا من ذراتها على السطح ،، نزولا حتى طبقة منسوب الماء ،، ورِث فيما ورَث ، منجل و طورية و عدة بقرات و ثورين. و قطيعا من الماعز. و قطعة أرض سيبني عليها بيتا يأويه مع أسرته ،، حدَد مساحتها العمدة بأن وقف و أخذ حجرا و رماه بكل ما يملك من قوة و بكل ما يحمل من إعزاز لوالد عبدالحليم ، و كان مكان سقوط الحجر هو حد مساحة حوشه المزمع بناؤه . ( لو إستعمل المساحون هذه الطريقة في الخرطوم ،، لكان بيتي الآن في تخوم دارفور الكبرى ). النخلات ( العمات ) الحنينات ،، غرس والده ،، و غرس جده ،، و غرس يديه ، ( تأتي أُكُلها بإذن ربها ) في كل موسم دون تأخير أو تقديم ،، كالأمهات يأتيهن الطلق في تلك الأيام الخوالي في موعد محسوب بحساب ظهور القمر و إختفاءه ،، ينجبن أطفالا أصحاء ( دون (ألتراساوند) أو فيتامينات حديد) ، أطفالا يظل الحبل السري و كأنه لا يزال موصولا لم ينقطع ، يربطهم بأمهاتهم حتى بعد أن يكبروا و يتزوجوا و ينجبوا ، فينهلوا منهن تلكم العواطف الجياشة العفوية ، و يشربوا عليها كؤؤسا مترعة من نصائح الآباء و حكمتهم. تقف النخلات شاهدة على أن ( القساسيب ) الفارعة الطول كأجساد الأجداد العمالقة ، تقف شاهدة أنها كانت دوما مترعة بالقمح و الذرة ، و شاهدة على أن ( مهور ) كل العرسان في العائلة تم دفعها منها ، و من خيرات الأرض ( صنوان و غير صنوان ،، دانية القطوف ) ، و من محصول التمر ( رغم وعورة طبقات العنباج و غزارة العشميق و وخزات الأشواك المسننة على الجريد). نخلاتنا ،، الباسقات ،، تسبح بحمد الرحمن في الغدو و الآصال ،، تنادي فتياتنا المتشحات ( بالعفاف و الطرحة ) ،، أن يهززن إليهن بالجذوع ،، ليتساقط عليهن رطبا جنيا ،، يدر عليهن طيبة في القلب و سماحة في المعاملة و طعاما سائغا لأطفالهن الذين ما أن ينطلقوا على قدمين ، حتى تتعلق قلوبهم بالمساجد و الخلاوي و طين الأرض و موية الدميرة. يلبسون عراريقا مصنوعة من الدمورية و ( الوزن عشرة ) ، و يحلقون ( نمرة واحد ) و يمشون حفاة الأقدام في عز الهجير ،، يحميهم الرحمن من كل ذات شوكة و عقرب و ثعبان . كل الرجال أعمامهم و كل النساء خالاتهم. ،، يقبلون الأيادي و يلثمون الجباه. كما ورث عبد الحليم ، على الجروف أمتارا تمتد حتى داخل النيل ،، يطلقون إسم (جَدِه) على الطريق الضيقة الملتوية التي تخترق (اللوبيا) و من خلال المزروع على الجروف حتى مربط المركب ( المشْرَع ) ،، و سيستمر الإسم ملتصقا بهذا الدرب إلى أن يرث الله الأرض و ما عليها و من عليها. جدران البيوت الطينية ،، تحكي طبقاتها ،، جهد الحبوبات و الأمهات و الأخوات و الجارات ،، يتجمعن على ( الزلابية و اللقيمات ،، و كفتيرة شاى ضخمة تكفيهن شر الإنقطاع عن العمل ) ،، يتجمعن للياسة الجدران و أرضية الحوش ( يتنادين خفافا و ثقالا مثلهن مثل الرجال ،، مشمرات عن أكمامهن يختلط عرقهن السائل مع الزنجبيل في أكواب الشاى ). كل طبقة تحكي عن زمن مضى ،، و لو نبش فيها ( عالم جيلوجيا ) و تحدثت الجدران عن مكنوناتها ، لوجد بين طبقاتها قصصا لم تدخل أضابير كتب التاريخ عندنا ،، طبقات تحكي عن بناتا مثل السمحة بت العمدة ( سعدية ) أم شلخا ( زى جدول المالية ) ،، التي كان التغزل البريء بها مباحا ،، حتى صال أكثر من ( جميل بثينة ) في جمالها بتأدب ،، و جال أكثر من ( كثير عزة ) في صفاتها بفخر و إعزاز ،، و لكن شعلة الحب التي تتوهج في قلبها ،، يظل في القلب سرا يحرق خيالها البكر ، يفرهد داخلها بأمل يخبو ثم يتقد كفتيل لمبة الجاز في عتمة الحجرة ،، حتى يأتيها أمر العمدة في فرمان شفوي بأن زواجها بعد الدميرة و حش التمر ، من ( حامد التربال ) ،، فترضى و ترضخ ،، و لسان حالها يقول : المكتوب في الجبين لازم تشوفو العين. و كم من جبين يظل ناصع البياض من لحظة الميلاد و حتى الممات ، و كم من عين رأت مكتوبا لم ترغب فيه و لم ترض عنه. و لوجد ( الجيلوجي ) فيما يجد ،، قصة الداية التي تأتي من طرف الحلة في ليلة ظلماء غاب عنها القمر ، على ظهر حمار ( أعرج ) دونما سرج تعتليه ،، تدلدل رجليها المدسوستين في حذاء ( العروسة المصنوع من البلاستيك اللين ) ، و محتويات شنطة التوليد المعدنية التي تحتضنها ، في ( رجة و ضجة ) تموسقان خطوات الحمار ، و نباح كلاب الحى تزفها لبيت الحبلى ، معلنة أن الداية في مهمة ستضيف رقما جديدا في إحصائية القرية. و لوجد أيضا ،، أن شيخ المسيد ،، بزوجاته الأربعة ،، يستل سكينه من ضراعه و يذبح الذبيحة تحت ظل شجرة ، مستقبلا و إياها القبلة ، مبسملا و محوقلا و مكبرا ،، و يرسل في طلب زوجاته مبتدئا بالكبرى ( حفاظا على التسلسل و الترتيب الهرمي للإحترام ) و يقول لكل واحدة من زوجاته منفردة في همس و هو يتلفت يمنة و يسرة كمن لا يريد أن يسمعه أحد لشيء في نفسه ، و هو يناولها نصيبها من اللحم : هاكي ،، كومك أكبر و أسمح ،، بس ما يشوفنو ضراتك. يقول هذه الجملة لكل واحدة منفردة ،، حتى تشعر كل واحدة منهن بأنها ( ذات حظوة و دلال عند النصيح حديدو ) ، فتهرول بكنزها الحنيذ إلى ( التكل ) لتتفنن في طبخه و هي حريصة على أن لا تدخل عليها واحدة من ضراتها حتى لا ينكشف ( تحيز ) بعلها. و لوجد فيما يجد ،، أن المغترب إلى مصر في ذلك الزمان ( الطاعم ) ،، كان يأتي سنويا وقت يشاء ( بلا تصاريح للسفر ) ، يعود محملا بصندوق إسكندراني خشبي ( السحارة ) ، و هو غاية الإغتراب و منتهى الأمل ،، فيوزع الكولونيا ،، و الصابون ،، و ( الطرحة البناتي ) ،، و أقمشة ( غزل المحلة ) ،، و ملاياتها ،، و يوزع عشرات الرسائل التي أتى بها من هناك ،، و يأخذ هذه على إنفراد و يقول لها وصية شفوية من زوجها ،، و يأخذ ذاك في ركن قصي لينقل له رغبة إبنه في الزواج من تلك،، فيحتفي به الرجال بدعوته على ( زير مترع بمشروب الدكاى ،، أو النبيت أو بزجاجات العرقي البكْر ) فيتحكر في الجلسة و هو يحكي مغامراته و صولاته و جولاته ،، و يندفع يضيف من خياله الكثير كلما سمع إستحسانا من الحضور ،، و تتوالى الدعوات من هنا و من هناك ،، و يمتلىء بيته بالحملان و العتان و الدجاج و البيض ( في تكافل لا نظير له ). و لوجد أيضا فيما يجد ،، قصة الحزن الذي خيم على أهل القرية عندما إنقلبتْ المركب في عرض النيل ،، و غرق عدد كبير من الفتيات الصغيرات ،، و كأن النيل لا زال يرغب في ( قرابينه القديمة ) فأبتلع هذه الزهرات ، فكان في كل بيت مناحة ، و في كل قلب جرح بليغ ،، يجتر أهل القرية هذه الذكرى الأليمة ، كلما فردوا شراع مركب يمخر عباب النهر الخالد ، و كلما غضبتْ الأمواج فأرتفعت مزمجرة تلطم جوانب المركب الخشبي فيتطاير الرذاذ على الوجوه ، و كأنها تنذرهم بأنها لا تزال عطشى للمزيد. ذلكم هو عبد الحليم .. يوم أن مات والده ،، و ترك له هذا الميراث الذي لا يقدر بثمن ،، و هذه اللوحة الأزلية التي لم تتغير ألوانها على مر الزمان. و تمر الأيام على ضفاف النيل ببطء لا يجارى سرعة دولاب الحياة في بقاع أخرى من المعمورة ،، تمر بتراخ ، كبطء قواديس الساقية تجرها بقرة حردانة يلهب ظهرها سوط الصبي التربال المدندن بالغناء ، و الساقية تئن في إيقاع سيمفوني مع صوته الشجي. و ذنب البقرة الحرون يروح و يجيء ليهش الذباب و كأنه عصا ( مايسترو ) يقود كورال الساقية و التربال. سافر سعد ، و جبر الله ، و حامد ، و سر الختم ،، كلهم سافروا للحاق بركب الكسب السريع و العودة بحقائب تبهر الفتيات ، و ليضوع منهم عطر ( البروفيسي و عطر الكاشيت) ، و تتوهج على معاصمهم خواتم الذهب و الفضة و ساعات ( السيكو و الأورينت ) ،، و ليعتمروا عمائم من ( التوتال الإنجليزي وارد عبد الصمد ) و ليوزعوا علب الماكنتوش و علب البنسون و ولاعات الرونسون و تياب ( أب قجيجة ) و بخور ( الند ) وارد باب شريف. و عبد الحليم صامد لا تغريه المغريات ، متشبث بأرضه ،، حفرتْ أصابعه علامات صبره على مقبض المنجل و الطورية ، و تزين راحتيه طعنات أشواك النخيل و آثار فتْل الحبال . الشقوق في كعبيه و قدميه ( تدخلها صغار العقارب و هي تحسبها شقوقا في الجروف ، و تموت هناك مختنقة ) و هو غافل عنها و عن صغائر أخرى. صلب كصخور ذلكم الجبل الذي يقف شاهدا على أن أحد أحفاد أولئك العمالقة ، ما زال يحمل في جسده جينات الصمود ،، يقاوم قساوة السموم ،، و يكرع من ماء النيل العكران بالطمي ، و لا يشتكي من ( إلتهاب في المعدة ) أو ( جفاف في البشرة ). و رغم هذه الصلابة في العود و هذه القوة في الشكيمة ،، إلا أنه يحمل بين خافقيه قلبا عامرا بالحب و الوفاء لأرضه و لأهله. يأتي المسافرون ،، تنبهر الفتيات ،، تفرح الأمهات ،، تحبل الزوجات ،، تنطلق الزغاريد في زخات معلنة عن زواج ،، ثم تعود كل هذه الطيور المهاجرة لمنافيها. و عبدالحليم ،، يستقبل ،، و يكرم الوفادة ،، و يودع ،، ليعود و يستقبل ،، حركة مستمرة في دولاب أيامه ،، كحركة مواسم الزراعة ،، المحصول تلو المحصول و كحركة النهر الخالد ،، فيضان و إنحسار. كل من وقف و حمل معه الطورية سافر و هاجر ،، تركوه لهذه الأرض ،، يفلح قدر إستطاعته و قدر طاقته ، يحمد الله إن تغدى ببضع تمرات ،، و يشكر الله إن تعشى ( بقراصة يطفو عليها السمن و الحليب ). حاولوا أن يأخذوه معهم ،، و لكنه رفض ، و إستنكر محاولاتهم المتكررة ،، و دائما ما يقول لهم و هو يحدر طاقيته الحمراء للأمام : أنا و النخلات دي واحد ،، عروقنا ضاربة جوة الأرض و واصلة لغاية النيل . وا عطشي لو ما غرفت من موية النيل بإيدي ديل و شربت ،، وا جوعي لو ما أكلت الدفيق المنقرو الطير ،، وا موتي لو ما دخل جوفي الهوا الجايي يهفهف بين سعفات النخيل و قناديل العيش. --------------------------------------------------------------------------------------
و نواصل .........
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: كورال الساقية و التربال .. و الغربة سترة حال (Re: ابو جهينة)
|
Quote: و تمر الأيام على ضفاف النيل ببطء لا يجارى سرعة دولاب الحياة في بقاع أخرى من المعمورة ،، تمر بتراخ ، كبطء قواديس الساقية تجرها بقرة حردانة يلهب ظهرها سوط الصبي التربال المدندن بالغناء ، و الساقية تئن في إيقاع سيمفوني مع صوته الشجي. و ذنب البقرة الحرون يروح و يجيء ليهش الذباب و كأنه عصا ( مايسترو ) يقود كورال الساقية و التربال.
و عبد الحليم صامد لا تغريه المغريات ، متشبث بأرضه ،، حفرتْ أصابعه علامات صبره على مقبض المنجل و الطورية ، و تزين راحتيه طعنات أشواك النخيل و آثار فتْل الحبال . الشقوق في كعبيه و قدميه ( تدخلها صغار العقارب و هي تحسبها شقوقا في الجروف ، و تموت هناك مختنقة ) و هو غافل عنها و عن صغائر أخرى. |
شكراً يا رائع
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كورال الساقية و التربال .. و الغربة سترة حال (Re: muntasir)
|
الأخ العزيز منتصر تحياتي و مودتي و تقديري لك الله يديك ألف عافية ،، سعدت جدا بهذه الأغنية التي جعلتْ كياني كله يهتز طربا ،، و غناء الطمبور كله يهز الوجدان ،، فهو مربوط بحبل سري إلى طين الأرض ،، يتغذى من عرق الترابلة و دعوات الحبوبات و تلك الأرض المباركة
لكن لسان الحال غلب يا منتصر تسلم و أرقد عافية
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كورال الساقية و التربال .. و الغربة سترة حال (Re: ابو جهينة)
|
Quote: حاولوا أن يأخذوه معهم ،، و لكنه رفض ، و إستنكر محاولاتهم المتكررة ،، و دائما ما يقول لهم و هو يحدر طاقيته الحمراء للأمام : أنا و النخلات دي واحد ،، عروقنا ضاربة جوة الأرض و واصلة لغاية النيل . وا عطشي لو ما غرفت من موية النيل بإيدي ديل و شربت ،، وا جوعي لو ما أكلت الدفيق المنقرو الطير ،، وا موتي لو ما دخل جوفي الهوا الجايي يهفهف بين سعفات النخيل و قناديل العيش. |
يمة كتري من رضاك .. سلميلي على المعاكِ .. وقولي لي حبوبة زيك نحن شيبنا ما براكِ .. سلميلى على بناتنا قولي ليهن ماني ناسي .. طاري شلاخن مواسا زي شقيق دربا سداسي .. سلميلي على البكادن البشتت فى التقاوي وفي الكرد محراتو قالع وسوطو فوق تيرانو عاوي السلام لي كل صامد ايدو قابضة على الطواري هدهد الآرض الحنينة نصو لابس ونصو عاري ما حزم بقة تيابو قام فجر سابق اللواري اخيرلو يحفر فى جداولو مالو مال حفر المجاري
أبوجهينة الحبيب قفزت الي ذهني ابيات د. محمد بادي وأنا أشم رائحة التراب ونكهة النيل والجذور ولا أملك الا أن أقول لهذا الجسور الصامد فى عرينه :
واقف براك والهم عصف .. ريحا كسح زهرة صباك .. ليلا فتح شرفة وجع ..
التحية للصامدين ..القابضين على التراب والتحية لك يا ابا جهينة علي هذه الألوان
مع خالص الود
صـلاح / شتات
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كورال الساقية و التربال .. و الغربة سترة حال (Re: شتات)
|
صلاح شتات يا إبن النيل الجاري بالحب
ما أروع هذه الكلمات التي أطلقها الشاعر محمد بادي رسم صورة بقلمه لا تضاهى
و كل من يحن لتلك الأرض ، فهو موصول العروق بذاك النهر الذي هام يستلهم حسنا
لك التحية صلاح و لك الشكر و القومة ليك يا وطن
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كورال الساقية و التربال .. و الغربة سترة حال (Re: ابو جهينة)
|
ابو جهينة سلمت يداك هذا كل ما أستطيع قوله الآن لقد أجريت مدامعي وأنت تصف وتصور الماضي البديع لقد تغيرت الدنيا يا أبو جهينة وما عادت تلك الصورة الا في مخيلتنا وعقلنا الباطن كل امنياتي ان تعود تلك الايام ويعود الناس لتلك القيم الجميلة متعك الله بالصحة والعافية
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كورال الساقية و التربال .. و الغربة سترة حال (Re: Habib_bldo)
|
الحبيب حبيب بلدو تحياتي لك و أنت تعود تعطر البورد بعطر البلد و كرمة البلد الحبيبة ، تلكم القرية التي ترقد على تاريخ حضارة كرمة الشامخة و على مرمى حجر من كنوز الدفوفة. لا بد أنك قد إغترفت جزءا من عبق الماضي و أنت تتجول في سوق كرمة النزل ، و تعدي بالبنطون لبدين. فهنيئا لك. تسلم
| |
|
|
|
|
|
|
|