" نقطة التلاشي" رواية لجمال محمد إبراهيم ـ نشرتها دار الساقي .
من بعد السلام على سِفر الرواية وشوق القُراء والراوي والكاتب ، نُزجي التحايا لكل عاشق يجد نفسه بطلاً أو بطلة أو ساعداً يضرب الماء كي تحس القوارب الصغيرة بأنها برفقة طيّبة و أنسٍ ممدود . شيد الكاتب مسرحاً لروايته : حين زار الرئيس " السادات " القدس ، وانتقلت الجامعة العربية من القاهرة إلى تونس . لن نبدأ بالعشق في أول القصيد ، ولن ننتهي بالغرض . نلتفُ حول النص وحبائله ونتجول أرجاء الأمكنة التي عاشتها الشخوص ، نصعد جبال التاريخ الذي حفر فيه الكاتب روايته . مدَّ جذورها حتى لامست بحيرة الماء أدنى الأرض بأسفلها فارتوت ، اهتزت وربت وأنبتت البهيج من أزاهير الحكاوي وامتلأت عناقيدها ثمراً عسلي المذاق . إني مع السفن القديمة حين ترسو عند تاريخ الحكاية .تئن أخشابها الصمدية تشرب مياه البحر المالح ولا ترتوي . إني مع التاريخ بخيره وشره ، فمن بين أزقة الماضي وحواري المدن القديمة اشتريت ثوبي وخِطتُ مآزري . فركت الورد كي أُعطر إبطيَّ وأمحو العرق المالح من جسدي و تعب العُمر على الضفة الأخرى من الألم القديم وأوجاع دهرٍ تمرَّغ في التُراب . تهاوت كل أمجاد الذين مزجوا كؤوس خمر عالمهم بنبيذ العالم الثاني : اشتراكية قومية ، عروبية ،... وأطياف اليسار ، قبل أن ينهار الحُلم بكثرة الجماجم و بمعاول بيزنطة الجديدة تحفر من تحت أساس المباني . تنسفها وتبتني خيلاً من الأسمنت تضرب حافراً في الأرض وحافراً بين السحاب . هكذا نظرتُ من تحت جراح الرواية وأبصرت عوالم تفجرت وصحوت من نسياني ومررتُ بأحداثٍ يجُر التاريخ عربتها بماكينة ركِبتْ " حصان طروادة " . مرت الخديعة الكُبرى ونامت مع الأحداث الجسام . برشاقة تنقل الكاتب " جمال محمد إبراهيم " في الرواية بأمشاطه المُذهبة بالحنين . لكل حرف جَرس ، وفوق كل كلمة ماردٌ يسهر على طيش المعاني ، يُعيدها لإبريق الديانات العتيقة ، يُغسلها بماء وضوءٍ أو يُعمِّدها . يرُش في أرجائها رياحين القص ، فأنفس شخوصها تسبح في دُنياوات يأتيها الحَزنُ من الجراح التي لم تُشف ، وضوء القمر يرقب من البعيد الأفراح والأحزان ، يُسفر عن دهر جديد وقيم جديدة . لكل رواية زمانٌ تصلُب فيه أحداثها ، ومكانٌ تحتمي فيه من الغرابة .على تاريخ جبل قديم ، سَمه إن شئتَ : " توقٌ لوحدة المتفرقين ". أفضَت كل المعارك لمرض "التَوحُد" في النهاية المطاف . رجعت الدول رقيقة الحال لرحمها القديم ورضيت بأنبوب حبل الوريد . منه تخرج أنتَ من " التَوحُد " أو لا تخرُج ، تعود أو لا تعود . أنتَ الخطيئة المكتوبة على زورق ورقي أطلقه طفل سعيد في أول البحر وأخذه الموج فبكى !. أواخر السبعينات من القرن الماضي زمانٌ للقص . نحت الكاتب في تاريخٍ لم تزل مفاصله تحمل ما تحمل من فِضةِ العظام البديلة لمعالجة كسور لا تبرأ . نحت شخوصها وأجلسها تنظر من خلف الكواليس بما لديه من خبرة نافذة تُكسر فولاذ الحماية ، لتقرأ من بين العَلن خبايا الأسرار. تنسكب من مُخيّلة تبتني القص كأنه الواقع . من بين تلك الأمواج وصخب قِرش البحار،كانت الشخوص تسبح ، تبحث عن ملاذ . ينظر الراوي إلى الذين شاءت الدُنيا أن يصنعوا خناجرها القاتلة من أدوات الطبخ .مَنْ يتقلب على فراش الترف الرئاسي يأتيه النوم أو لا يأتي . من أبخرة غليون " الرئيس " دوماً تتعتق الأسطورة ويخرج أبطالها من كف عفريت الدُخان . أقامها هو بساعده و بسواعد من أخلصوا لدِين المغامرة و ركوب طائرة بلا رُبان تسبح في الفضاء !. ابتنوا حيواتها مثل غرابة بناء سفينة نوح في قص العقائد . صبر سيدها النبي على مزاح الذين استخفّوا منه ، لكن شتان ما بين غرابة فعل النبي و فعل الرئيس! .شيد الرئيس من الخُرافة تاريخاً عصية صخوره أن تتزحزح عن الصدور . حبكها قائمون على خياطة الغرائب في عوالم السياسة . مَنْ يرمون النرد والأوراق على ما يملكون و ما لا يملكون !. تلك هي بيئة القص ، بثعابين طرقاتها شديدة الوعورة و الخطورة . تنوء بأحمال عالم لم تزل حوائط بيوت سَكنِه القديمة و أوكار حياته الباطنة حية لم تمُت .إن لخيال الكاتب الجامح فعل السحر ، يذوب في كؤوس الواقع بيُسر حتى تحسبه حقيقة . يقطر الدم من ضحاياه المذبوحة على سكين الأسى . كل " مازورة " موسيقى فيه تُخبئ لحناً ترقُص على أهداب سامعه "باليه " : نار الشوق و جذوة العِشق وتشتُتْ المصائر . نترُك خيالنا الذي خرج عن أطواق فضاء القص ونقطف نصوصاً : كيف غزت ثعالب كلمات " جمال " الجائعة قطيع خِراف اللغة بلسان الراوي : (أ) " جئنا إليك يا تونس أم أنت التي جئت إلينا ؟ وهذا الدغل بأشجاره المشرئبة إلى السماوات أهي التي تتطلع أم أن الغمامات الحانية هي التي تحدرت إليها من علٍ ؟ في زمان ما ، يستدعي ظلام الأنفاق والدهاليز صباحات بعيدة ، وتنادي أمسيات القحط واليباب أياماً مغسولة بالندى ...." (ب) " و دارت كؤوس القهوة والشاي ، ثم تعلقت عيناي بنجاة ، تقاطيعها ، جيدها المرمري ، جمالها الطاغي ، كأني أراها للمرّة الأولى : وجه مستدير وضئ ، عينان سوداوان مشوبتان بحياء فطري ، وخدان متوردان . ثم طلاقة في الحديث وصوت هامس ينساب كما النسيم ملآن بروائح الياسمين وباقات الورد . تأخذ من قهوتها رشفة ، يمرّ طرف لسانها على شفة صغيرة شهية ، تعضها ، فأستحضر قول يزيد بن معاوية عن عُناب وبرد حبيبته . تغمض عينيها بين رشفة وأخرى ، وكأني بها تهرب من لسع نظراتي ، وأنا في غيبوبتي ، غارق في التمعُن والتملّي . أتحسس حُسن الغزالة التونسية التي قدِمت إلى محرابي ، فيهرب الضيق وتحلّ السكينة ..." (ج) " في آخر الليل كانت أقحوانتي مضيئة كما الأقمار ، توضأت من بريق عينيها ، وكانت صلاتي وانهياري ، عبادتي وتجديفي ، بُكائي وضحكي . لكن ، كيف انتهى الليل وقد ارتطمتُ عليها كما يرتطم الموج الغاضب بأحجار شاطئ " الرواد " الملساء ورماله الحانية؟..."
صدرت الرواية عن دار الساقي ، بيروت ، لبنان ، الطبعة الأولى 2008م
عبد الله الشقليني 15/03/2008 م
***
04-01-2008, 06:32 PM
khatab
khatab
تاريخ التسجيل: 09-28-2007
مجموع المشاركات: 3433
Quote: (أ) " جئنا إليك يا تونس أم أنت التي جئت إلينا ؟ وهذا الدغل بأشجاره المشرئبة إلى السماوات أهي التي تتطلع أم أن الغمامات الحانية هي التي تحدرت إليها من علٍ ؟ في زمان ما ، يستدعي ظلام الأنفاق والدهاليز صباحات بعيدة ، وتنادي أمسيات القحط واليباب أياماً مغسولة بالندى ...."
04-08-2008, 07:25 PM
بله محمد الفاضل
بله محمد الفاضل
تاريخ التسجيل: 11-27-2007
مجموع المشاركات: 8617
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة