|
|
 حديس التلاتاء (47)
|
الشعوب..لن..تتوب ..
يوم السبت الثالث من نوفمبر عام 1883م..كانت قوات التحالف..بقيادة الجنرال هكس باشا..قد تورطت في سهول كردفان الشاسعة..الخرطوم بعييييدة..والأبيض قرييييبة..ولكن كيف الوصول إليها..قوات المطاردة بقيادة الجنرال أبو قرجة..والجنرال عبد الحليم مساعد..صدرت لها الأوامر..بالكف عن المطاردة والاستعداد لخوض المعركة القصوى..
عندما تحركت قوات التحالف من نقطة جنوب الدويم في أواخر شهر سبتمبر..قدم عباس بك تنويرًا للجنرال هكس قائلا.. (كردفان هي السودان نفسه..وليس الخرطوم شيئا يذكر بالمقارنة معها..فيها المحاصيل والمواشي والصمغ والتجارة..ولا يصح مطلقا تركها للمهدي)..أول محنة قابلت الحملة هي "المياه" تاني يا الموية..يبدو أن كردفان ترتبط بالمياه والحسكنيت منذ الأزل..كان الوقت "درتا" كاربًا..وكان الحنكسيت زمان أطول من حنكسيت اليوم بعشرين سم..فكر قادة الحملة أن يتخذوا طريقا إلى بارا..فخافوا أيضا من العطش..ووافقوا على الرأي القائل بالانحدار جنوبا حيث البرك..الرهود..والفولة..أظن جمعها "فولات أو فول"..لا ادري..حتى الرهد..ومن ثم التوجه إلى الأبيض..وقهر الناس هناك وجيشهم.. الحملة كان "بعاتيها" المياه..وجيوش الدراويش..المتربصة أبدا..
صادف أن مر عيد الأضحى على الحملة..فأقاموا الولائم..وذبحوا ضحاياهم وسالت دماؤها..وضربت المزيكا..وتم توزيع الحلويات..والمشروبات "البارد والحار"..والحار طبعا ماركة أبو جمل..أبو بت..بلاك هورس..وشنو..شنو..والبارد زي الليمون والكتي كولا.. للناس الهوانات..الحملة أيضا كانت تضم مراسلين لصحف أوربية منهم جوستاف الذي هرب للانضمام لقوات المهدي لينجو بنفسه..
وكان بعض المدنيين من كبار التجار معهم الخدم والحشم..ويصطحبون نسائهم..والغيد الحسان..كعادة الحملات العسكرية زمان..وقناوي باشا معه فرسه العاجباهو..وفرسه التانية..جميلة "قاطعة" من بنات الإسكندرية..أبوها صعيدي ثري ..وأمها يونانية من حفدة فينوس.. عاشت في مصر..قناوي تاجر كبير وأحد قادة التحالف..بلقيسية القوام كأنها بت عمك إبراهيم في الثانوي..تجعل شعرها ضفيرتان تمران من الأمام..لتسترخيا..عند أعلى نقطتين في صدرها..حسب خطوط الكنتور..ثم تنحدران وتكونان على رأي الطنباري (تمبل) "درب الترتر"..أحلى وصف سمعته في شعر أنثى..حيث يقول "غيّر بالاخدر..المسيري درب الترتر"..المساير هي الضفائر..الترتر هو التراكتور..لاحظ كيف أن الضفيرتان كبيرتان..كعجلات الترتر المضفورة خلاف خلاف..كنسعة..
حكى لي شلوبة بمزاج.. ما دار بين قناوي وحفيدة فينوس..في ليلة حمدان أبو عنجة الطويلة..كانت ترتدي فستانا ابيض كأنها خرجت من محار الجزر اليونانية..كانت خائفة..لأن المصابيح تم إصدار الأمر بإطفائها..نتيجة لهجمات الدراويش المتواصلة (Volleys)..وقناوي باشا ما فتأ يلاحقها تلك الليلة بالذات كتيس أرعن..أو كملاحقات الاجتماعات الطارئة له من قبل الجنرال هكس..والذي كان يمتلأ وجهه الأشيب بثقة مهزوزة هذه المرة..ليس كما كان في أثيوبيا..وآسيا..حيث جعلت انتصاراته هناك أفئدة بنات لندن ونسائها تهفو إليه..لكنه كان بارعا في إخفاء القلق كقائد شرس وعنيد.. اقترحت حفيدة فينوس على قناوي العودة للخرطوم..فوافقها برغبة..وجمع حشده وسلاحه وأعوانه ونادى..ثم تراجع تحت ضغط هكس..والذي خوفه بحمدان المتربص..ثم أرتكب قناوي بدم الغيرة مجزرة نراها فيما بعد من أحداث.. حكى لي شلوبة ما دار بين قناوي وفرسه الإنسان..في خيمته..وبعد "سودنة" الكلام دعونا نرى..
- أنا خايفة يا باشا..العطش والدراويش..وأموت بسيف ياه..أنا بريدك يا باشا أنت..متين أرجع مصر..وإسكندرية!!..من طلعة القمرا..الخير يا عشايا تودينا لهلنا بسألوك مننا..
- (فوجدها فرصة فمسكها من خصرها النحيل مهدئا) نحن نملك سلاحا لن يستطيع الدراويش معه صبرا..وسنهزمهم ضحى الغدِ..وأنا لو ما بريدك كنت جبتك معاي..وتلتلتك التلتلة دي كلها..
- امبارحك الموسيقى كانت حلوة وجميلة..لكن الدراويش..!!..الله يقطع طاريهم..
- عندما ندخل الأبيض فاتحين سوف نقيم في قصر..واجمع لك الخدم والحشم..والقروش وأرسلك سكندرية..ودروايش الجن ديل يخدموك..كعبيد..
- ( نظرت إليه برموش في محاولة لتصديقه..ثم عضت على شفتها السفلى بأسنانها الأمامية بأناقة مغرية..تستدعيه..ومدت إليه كلتا يديها..حيث كانت الأكمام تتدلي في شكل مثلث..من فستانها الأبيض الجميل الذي تمت صناعته في فينا..)..قبّل يديها..ثم انزلقت عيناه تتطلع في كتفها الأيسر العاري كبطيخة صغيرة "سبلي" لامعة..فبلع ريقه مرتين..واستكانت قليلا..فتشجع..ثم قفزت مع صياح الحرس الشخصي بوجوب الاجتماع .. فانصرف مسرعا لخيمة القيادة..وطارت منه البلومة..للمرة التالتة..
كانت مهمة جيش المهدي حرمان قوات التحالف من مصادر المياه..لذلك عسكروا في فولة المصارين..من الأشياء اللطيفة التي حصلت للحملة..ولم يتم استغلالها كما وقع لحظات "الهوس"..أن الحملة كانت في حالة عطش وضيق قبل وصولهم الرهد..فنزلت أمطار..وتكونت برك صغيرة..واستحم الجنود..وعبئوا بعض "مواعينهم"..ولكنهم لم يدعوا أن ذلك نوع من الكرامة..أو المعجزات..كما حدث لتلفزيون السودان ينقل لنا قول أحدهم.. أن الأمطار نزلت عليهم عندما اشتد بهم العطش في حرب الجنوب..كنوع من الكرامة..كان كلاما "كضب"..
بعد مغادرة قوات التحالف الرهد..وفي الطريق المؤدي لكازقيل..كانت خطط المشير حمدان والقيادة العليا لجيوش المهدي واضحة..الزج بقوات التحالف في وادي شيكان..يوم الأحد من بعد صلاة العصر بدا الجنرال حمدان ليلته الشهيرة..والطويلة..شديدة الضلام..اليوم لن ينام جنود الحملة..ولكن قادة الحملة أنفسهم أمروا قائد الموسيقى بعزف الألحان على الجنود والضباط..فوقع حادثان..الأول صغير..استأنفت بعده الموسيقى..كان الشايب "سام" من قبيلة التعايشة..يبحث عن مواقع جيوش المهدي..فنظر وشاهد هو ومجموعته أنوار مصابيح..فأرسلوا احدهم ليأتي بقبس منها أو هدى..فجاء من أقصى الزريبة يسعى..وقال أنها جيوش الكفرة..فزحف الشايب إلى أن حاذى الزريبة ونط ودخل على الجنود بسيفه وحربته..فقاتلهم حتى قتلوه شهيدا..واستأنفت الموسيقى العزف..كأنها تودع أرواح الجنود الواقفين.. والضباط الجالسين في مقاعدهم بالمقدمة..
أما المشير حمدان..فقد فطن لتوقيت ليلته.. وأمر قادة الوحدات النارية باستمرار إطلاق النيران على الزريبة طوال الليل.. تماما لحظة بدأت الموسيقى العزف..على قاعدة "عدوك سهرو.."وفي صباح الاثنين كانت القوات تحاصر القوات تماما..الجنرال عبد الرحمن النجومي لوقف زحف قوات الجنرال هكس..من التقدم شمالا..الجنرال ابو قرجة والجنرال عبد الحليم مساعد من الخلف.."ينخسان" قوات التحالف ويرفضان السماح لها بالتراجع..الجنرال يعقوب في الجانب الأيمن يكاد الوادي يميد بجنوده..الجنرال موسى الحلو في الجانب الأيسر مع القيادة العليا..تم حصار المربع كالخاتم..المشير أبو عنجة يتنقل بين القيادات جميعها..ولكنه كان هناك عندما قرر النجومي مصادمة قوات هكس رأس برأس..لفترة اختبار قصيرة..ثم انتقل لمراقبة سير المعركة والإمساك بالتوجيهات..
المربع هو أشهر تشكيل عسكري انجليزي..في حالتي الدفاع والهجوم..ولكن جيوش حمدان سلخت "مصارينه"..ضحى الاثنين..وكان قناوي يقاتل كمدني تعلم الرماية قديما..فأسقطته فرسه التي يحبها..وسقط هو بجرح الموت..ثم استل مسدسه..وطخ..طخ على فرسه..وعندما هرعت حفيدة فينوس لنجدته ومعاينته..أطلق عليها أيضا رصاصتين إصابتاها في قاعدة عنقها التي كان يقبلها الليالي الفائتة.."حسادة كدة"..فسقطت صريعة والدماء تسربل فستانها الأبيض..وعيونها الجميلة شاخصة..ومات ثلاثتهم..هو مات بشوقه إليها..وهي ماتت بشوقها إلى أهلها وديارها..والحصان فطيس..
انتهت المعركة في أقل من ساعة صباح يوم الاثنين 5 نوفمبر..الخبر وصل الخرطوم يوم التلاتاء..فيا للصدفة!! كان "حديس التلاتاء" سقوط الحملة..فخافت الخرطوم ورجفت.."وبلت رأسها"..وأطلقت بلبصتها الشهيرة.."كان مهدي جيد لينا وكان ما مهدي شن علينا"..ثم انتقل الخبر إلى القاهرة..ومنها إلى لندن..عندما سمع لورد فتز مورس من مجلس اللوردات الخبر..قام إلى الحمام جريا..ونسي حتى أن يرفع/ينزل ملابسه.."وعملها".. وقال (لعل التاريخ لم يشهد منذ أن لاقى جيش فرعون نحبه في البحر الأحمر كارثة مثل تلك التي حلت بجيش الجنرال هكس في صحاري كردفان حيث أفنى عن آخره وقضي عليه قضاءا مبرما)..
وهكذا لن تتوب الشعوب..والشعوب لن تتوب.. عن البطولات..كم تغنى الناس بشيكان..وكم تنسمت نسائم البطولة في "أبو رسوة"..ود حبوبة..والجنرال عثمان دقنة..وفي جسارة عبد اللطيف الماظ..وجسارة ثورة أكتوبر ..وابريل..والاستقلال..كل هؤلاء عبروا عن روحنا السودانية "حقتنا كلنا"..والتي ما فتئنا نسئ إليها..ونحتقرها..إلى أن وصل بنا الحال كما ترى..يسرقها منا النخبة..نخبة المال..والقانون..والسياسة..والثقافة..والدين..ويطففون علينا..ويستوفون عندما يكتالون..بضاعتنا..من الصبر..ويبيعون لنا الأنانية..والتي تناقض مطلقا مبدأ التضحية والبطولات..ويخسرون..شيخ طريقة يركب همر في بوادي كردفان..هذا عنف أخلاقي..يتناقض تماما مع ما يدعو إليه..والبنايات التي تتطاول في وسط الأحياء الشعبية أيضا عنف أخلاقي..الفساد عنف أخلاقي..إظهار الفساد في الشوارع ..وفي الساحات.. وفي الهتافات.. أيضا عنف أخلاقي خاسر..
- إت يا شلوبة بس فالح في التاريخ..نحنا كنا..ومشروع الجزيرة أكبر مشروع في أفريقيا..ونحن من أسس الإتحاد الأفريقي..ونحنا من طرد الإنجليز بدون أن نطلق طلقة..ونحنا عندنا أكبر مطار..ونحنا عندنا أكبر فساد..ما إنتو أكبر طيش الآن..في كل حاجة..
- والطيشة "مالم" يا عبضرحيم..طيش حنتوب مش كان رئيسكم..أقول ليك حاجة..ليه بتحتفلوا بالمية الأوائل في الشهادة السودانية..لماذا لا يتم الاحتفال بالمية الطيش..!!أنا من أنصار الاحتفال بالمية الطيش..وبعد عشرة سنوات أتحداك نشوف المية الأوائل عملو شنو..والطيشة عملو شنو!!..احتفالاتكم دي غلط..وفيها إشارات سالبة للآخرين..وأنا لا أعرف دولة تعمل زي عمايلكم دي..مية شنو الأوائل وطنبور شنو..!!
- كيف نحتفل بالمتخلفين..يا شلوبة..
- إت عندكم قصر نظر..والله نظركم اقصر من نظر النملة..لأن ارتفاع معدل الذكاء يا أخي لا يعني النجاح في الحياة..وقلنا ليكم الكلام دا ما بتسمعوا أبدا..لمن الأمريكان المسلطين سموه "الذكاء العاطفي"..وعندهم واحد دكتور كبير في الموضوع دا اسمو (Daniel Goleman)..وقال ارتفاع معدل الذكاء لا يعني النجاح..صحي كلامو.. "على الحاج" ما كان أول السودان..لافي الوقت كلو بشنطته المشهورة سوى شنو..!!..والطريق داك وين!!
- والله ات يا شلوبة..آها الذكاء العاطفي يعني شنو..!!
- يعني الوعي..والانضباط الذاتي..والتعاطف..فهمت حاجة!!
- يعني..
- امشي أتعلم.. وتعرف كيف يكون الريد وليه الناس بتتالم..وتتعلم..مصيرك..
- شايفك توزع في الرتب ساكت غرب.. وشرق يا شلوبة..!!
- أجابني باستخفاف نادر كنعجة تلد جرواً..(دون أن يجهد حتى بصره بالنظر إلى وجهي) وانتو النجوم والرتب البتوزعوا فيها دي انتصروا فيها في معركة منو!!
- (.؟؟؟)..
ولكن كما ترى أخي الكريم أن عنصر الماء قد حالفنا في كتابة التاريخ..بموقعة شيكان..كان هاجس الماء يؤرق قادة قوات التحالف منذ أن فارقوا الدويم وإلى أن غاصوا في غابة وادي شيكان..وقد كان شوك الحنكسيت يمسك بتلابيب الكاكي.. ويزعج الجنود المشاة ويحذرهم..أنه رمز وعورة رجال كردفان أيضا..في المغرب العربي يسمون الشخص الشديد القوى الشجاع "الواعر"..تذكرون شكري الواعر حارس المرمي التونسي..
وكردفان لا يؤرقها غير هاجس الماء أنها ترغب في أن تشرب من النقطة التي انطلقت منها حملة قوات التحالف..جنوب الدويم..لذلك نقترح أن يكون خط سير أنابيب مياه الأبيض من النقطة التي انطلقت منها قوات التحالف بالضبط..وذلك لتذكير الاستعمار إلى الأبد أن كردفان هي السودان..وأن القادة الذين عصروا جنرالات الحملة في وادي شيكان كانوا من جميع أنحاء السودان..وروحه..
أي حملات انتخابية..تغفل عنصر الماء..والعطش الذي يحيق بنا..لن يتم لها النجاح..في كردفان..كما فشلت حملة قوات التحالف بقيادة هكس..ستفشل أي محاولات..لبيعنا ببلاش ونحن عطاشى..يا أخي بيعونا ونحن "رويانين"..نترع موية موية..والكلام ليك يا المطير عينيك..!! وكضاب من قال الشعوب تتوب..من البطولات..ولك في العبارة التالية متسع من الحكمة والبصيرة.."الجفلن خليهن اقرع الواقفات"..دائما تعجبني عبارة الراعي البليغة هذه..دائما..!!
ديباجة الحديس: استقيت بعض معلوماتي من كتاب شيكان.. الكاتب عصمت حسن زلفو..له الفضل..وآسف لتأخري في وضع الحديس في زمنه المحدد..!!
|
|
 
|
|
|
|
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست