نصر حامد أبو زيد يكتب إشكالية العقل والوحي (النقل)*

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-25-2024, 09:19 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الرابع للعام 2009م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
11-03-2009, 10:55 PM

ماجد معالى
<aماجد معالى
تاريخ التسجيل: 04-20-2009
مجموع المشاركات: 285

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
نصر حامد أبو زيد يكتب إشكالية العقل والوحي (النقل)*

    العقلانية البرجماتية:

    يختلط الأمر في ثقافتنا الشائعة الراهنة بين "التفكيك"، بمعنى التحليل النقدي، وبين "التفكيك"، بمعنى الهدم، حيث يتصوّر الناس أنّ الفهم النقديّ يعني "النقض" بالضاد. وترتبط كل هذه الالتباسات والتشوّشات في الوعي السائد بمفهوم "العقلانية"، الذي يتصوّره عامّة الناس نقيضا للوحي والإيمان. ومع ذلك فلا بدّ من تأسيس "العقلانية" وترسيخها في الوعي العامّ إذا كان لهذه الشعوب، التي ننتمي إليها، أن تكون جزءا من العالم المعاصر، جزءا منتجا مساهما في صنع الحضارة، لا مجرّد مستهلك لأدواتها. تأسيس العقلانية مهمّة صعبة، وليست مستحيلة؛ ذلك أنّ الفكر الخرافيّ يمرح في مناطق بعينها في ثقافتنا، بينما يمرح في مناطق أخرى فكر يبدو عقلانيا، ولكنّها العقلانية البرجماتية التي لا تستغني عنها الحياة.

    بعبارة أخرى، من المستحيل في العالم المعاصر أن تخلو الحياة اليومية من سلوكيات ذات طبيعة منتظمة: يحتاج الإنسان للخروج إلى العمل، وللوصول إلى مكان العمل، ولتدبير شئون حياته اليومية، وكلّ ذلك لا يتمّ بغير درجة من درجات التعقّل. تسيطر هذه العقلانية البراجماتية في مجال البيزينس مثلا – فكر رجال الأعمال – حيث الحاجة ملحّة إلى نمط من الفكر الليبراليّ، الذى ينتمي لمجال العقلانية. لكن علينا أن نؤكد أن هذه اليبرالية الاقتصادية تمّ تقبّلها في عالمنا بحكم الضغوط الكوكبية، أي أنّها ليبرالية مقيدة بحدود "آليات السوق". إنّها ليبرالية براجماتية، منزوعة الصلة بالليبرالية الفكرية، التي تأسّست عليها الليبرالية الاقتصادية في أوروبا.

    في الفكر السياسي تمّ قبول "الديمقراطية" أداة للحراك السياسي، لكنها ديموقراطية إجراءات وانتخابات، يسهل تزييفها بسبب انتفاء أهم شروطها، الحريات الفردية والفكرية. كل هذه العقلانية البرجماتية، التي لا غنى عنها لسير الحياة، تتبدّد أشلاء حين يقترب أيّ مفكّر من مجال الظواهر الدينية؛ ذلك أنّ "العقلانية" – في الوعي السائد – ضدّ الدين، تأسيسا على وهم أنّ التفكير يفضي إلى اهتزاز الإيمان، وربّما ينتهي إلى الكفر والإلحاد. هكذا يتعلّم أطفالنا في المدارس، وهكذا تضخّ الفضائيات سمومها ضدّ العقل والتفكير. ومع ذلك فلا خلاص لنا إلا بفضّ هذا التنازع والعداء بين العقل والدين (الوحي). يقول المشايخ هذا ما قاد أوروبا إلى الإلحاد، وهؤلاء العقلانيون لا ينتمون لثقافتنا التي هي ثقافة "الوحي".

    الوحي والشعر:

    صحيح أن الثقافة العربية – تاريخيا – هي ثقافة الوحي، بمعنى أنّ "الوحي" يمثّل فيها معطى أوليا – أشبه بالبداهة – خاصة بعد أن استقرّت سلطته بإزاحة الشعر عن مكانته في القرن السابع. كان الشعر "ديوان العرب"، وكان "علم قوم لم يكن عندهم علم غيرهم"، كما يقول النقاد الكلاسيكيون. حلّ "الوحي" الإلهي محلّ الشعر بإزاحته إلى فضاء "الوحي الشيطانيّ": يهدف الوحي الإلهيّ إلى "الهداية"، بينما يفضي الشعر إلى "الغواية" (والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كلّ واد يهيمون، وأنهّم يقولون ما لا يفعلون؟).

    جدلية الوحي والعقل عند المسلمين:

    يجب الحذر كذلك من وضع العلاقة بين العقل والوحي في صيغ دوغمائية ثنائية حادّة، مثل ثنائية "الظلاميّ" و"التنويريّ". الأمور أكثر تعقيدا من هذه التبسيطات. ففي تاريخ الثقافة الإسلامية لم تكن إشكالية العقل والنقل تنبني على أساس إمّا هذا وإمّا ذاك، بل كان السؤال هو سؤال تحديد طبيعة العلاقة بين الطرفين - العقل والوحي – دون إلغاء أحدهما.

    لم ينكر أحد من أنصار "النقل" أهمية العقل، إذ بدون حكم العقل لا يثبت صدق الوحي، من هنا تحدّد دور العقل عندهم – بعد إثبات صدق الوحي - في استنباط الأحكام والتشريعات من الوحي. أنصار "النقل" يؤكّدون أنّ الوحي لم يترك صغيرة ولا كبيرة في شئون الحياة – في الحاضر والمستقبل - إلا أحصاها وبيَّنَها إمّا بشكل مباشر وصريح، أو دلّ على طريق بيانها بنصب الدلائل المفضية إلى استنباطها.

    دور العقل عند هؤلاء هو إثبات الوحي، ثمّ تنحصر مهمّته بعد ذلك في البحث عن الحلول فيه. يمكن القول إنّ هذا موقف الفقهاء، وعلماء أصول الفقه بصفة عامّة، مع وجود بعض الفروق التفصيلية في هذا المذهب أو ذاك، وبين هذا الفقيه أو ذاك. إنها باختصار الرؤية التشريعية للإسلام، حيث "الواجب والمُحَّرم والمندوب والمكروه" هي الجهات الأربع التي تحيط بالمباح في عالم الإنسان "المُكَلَّف"، الذي يتحدّد مصيره الأخرويّ في مدى الطاعة – أو العصيان – داخل هذه الحدود.

    أنصار العقل، من جهة أخرى، لا ينكرون مرجعية الوحي، بل ينكرون شمولية الوحي في تقديم حلول لكل النوازل في الحاضر والمستقبل. هناك الكثير من الأمور المتروكة لمرجعية العقل، ومنها أو على رأسها تأويل "الوحي" طبقا لمرجعية العقل، وذلك في حالة وجود تعارض "ظاهري" – هكذا يؤكّدون جميعا أنّ أيّ تعارض هو تعارض ظاهريّ فقط – بين العقل ومعنى الوحي. العقل قادر وحده – يؤكد أنصار العقل – على الوصول للمعارف الكلية الأساسية فيما يتصل ببنية الكون (الفيزيقا)، وما وراء الكون (الميتافيزيقا). العقل قادر وحده كذلك على معرفة الخير والشرّ، والحسن والقبح في الأفعال والسلوك الإنسانيّ؛ فالعقل في النهاية هو شارة الإنسانية، تمييزا للإنسان عن الحيوان. لكنّ هذا العقل يحتاج للوحي ليساعده في معرفة التفاصيل الكمية والكيفية التي من خلالها يمكن للإنسان آداء ما وصل إليه العقل من "تكليف" بوجوب شكر المنعم الواهب للعقل وللوحي معا.

    بين الموقفين موقف ثالث هو موقف الصوفية – أهل الله – حيث العقل على أهميته وحيويته ليس كافيا، وحيث الشريعة وسيلة وليست غاية. للعقل حدّ يقف عنده، فالعقل لا يُمَكِّن الإنسانَ من معانقة الحقيقة، وإن كان يعرِّفه بها تعريفا تجريديا. بالعقل يعرف الإنسان ما يجب وما لا يجب أن يُنْسَب إلى الله من صفات وأسماء، ولكنّه لا يقرِّب الإنسان من الله، الذي هو بنصّ القرآن "أقرب إليه من حبل الوريد". الشريعة من جهة أخرى مجرّد طريق – وهذا هو المعنى اللغويّ الأصليّ لكلمة شريعة – يجب أن يكون له غاية يفضي إليها. الشريعة إذا لم تؤدّ إلى غايتها – وهي الحقيقة المُعايَنة المُشاهَدَة – تصبح ممارسات شكلية لا جدوى منها، مثلها مثل المعرفة التجريدية، التي يؤدّي إليها العقل. هكذا أسّس الفكر الصوفي مفهوم "التجرية الروحية"، لا كبديل للعقل والشريعة، بل كطريق لتعميقهما، وتجاوز التعصب لأحدهما على حساب الآخر.
                  

11-03-2009, 10:59 PM

ماجد معالى
<aماجد معالى
تاريخ التسجيل: 04-20-2009
مجموع المشاركات: 285

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نصر حامد أبو زيد يكتب إشكالية العقل والوحي (النقل)* (Re: ماجد معالى)

    جدلية الداخل والخارج:

    لا يمكن الفصل بين "الداخل" و"الخارج" في مناقشة إشكالية العقل والوحي، لا في تجلّياتها وتعبيرتها التاريخية، ولا في السياق الذي تثار فيه الآن. يكفي أن نذكر محاضرة بابا الفاتيكان، التي أثار فيها لاعقلانية الفكر الإسلامي، استنادا إلى قول أمبراطور بيزنطة في القرن الثاني عشر. المواقف الثلاثة، التي ذكرناها في الفقرة السابقة، لم تتحدّد في سياق التاريخ الثقافي الإسلامي بمعزل عن التواصل مع العالم الخارجي. العرب المسلمون، الذين حملوا الإسلام خارج الجزيرة العربية ليقيموا إمبراطوريتهم، حملوه كشتلة – فسيلة – قابلة للنموّ والنماء؛ فنمت في سياقات ثقافية وحضارية متباينة، وارتوت من عصير تلك الثقافات والحضارات؛ فنشأ علم الكلام تاليا للفقه أو موازيا له، وتطوّر علم الكلام إلى الفلسفة بدءا من الكندي. وانقسمت الفلسفة إلى مدارس واتجاهات إشراقية ومشائية. ونشأ التصوّف من الزهد وتطوّر إلى نظرية "الحبّ" عند رابعة العدوية، ثمّ العرفان عند "ذي النون المصري"، حتي وصل إلى البناء الفلسفي الشامخ عند "ابن عربي". هذا فضلا عن نشأة علم التاريخ والجغرافيا والرياضات والطب، وتطور الشعر وانبثاق أشكال جديدة للقصيدة، وتطور فنّ العمارة، وازدهار الغناء والموسيقى.

    كل ذلك لم يكن يمكن أن يتحقق لو بقي العرب والإسلام داخل حدود الجزيرة العربية، ولو لم تساهم كل تلك الشعوب بتراثها وثقافتها وحضارتها في تخصيب شتلة الإسلام التي حملها العرب. المشكلة في العصر الحديث أن العالم الإسلامي بعد أن استيقظ - من فترة سبات، طالت قرونا عديدة، تجمد فيها النقاش - على وقع أقدام الغرب المتطور، المتقدم، تطأ أرضه غازية مستعمرة، وقع في تناقض لم يخرج منه حتى الآن: لا تقدم إلا بالتعلم من نفس هذا العدو، الذي يجب في نفس الوقت أن أحاربه. هذا التناقض لم يحل، حتى الآن، بالتمييز مثلا بين الأطماع الاقتصادية السياسية للغرب، وبين التقدم العقلي والعلمي والتقني، الذي أحرزه. لكن علينا أيضا ألا ننسى أو نقلل من شأن الخطاب الاستعماري المتعالي – بل والعنصري أحيانا – لهذا الغرب في نظرته للشعوب التي استعمرها. ارتبطت النظرة المتعالية بادعاء تنويري لإنقاذ الشعوب المتخلفة من تخلفها.

    الموقف الداخلي في العالم الإسلامي عموما، والعالم العربي على وجه الخصوص، اتسم بالتوتر نتيجة هذه العلاقة الملتبسة بالغرب. هذه قصة طويلة يمكن اختصارها في الحلول التي اقترحت، وما تزال مطروحة، مع تفاوت قوة الأصوات المعبرة عن كل منها آنذاك والآن:

    الصوت الأول الذي كان له الحضور في القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين – وهو الصوت المستمر إلى الآن وإن بنغمة سلفية تقليدية - هو صوت "الإصلاح": التعلم من الغرب بالقدر الكافي الذي يؤهل العقول لتجديد الفكر الإسلامي، وبعث الحيوية التي كانت فيه في عصور الازدهار والقوة. الصوت الثاني الأضعف آنذاك صوت أصحاب وجوب اتباع خطى الغرب حذوك النعل بالنعل: هذه هو سبيل التقدم ولا سبيل سواه. لكن هذا الصوت الأضعف لم يكن – كما يشاع الآن – معاديا للدين، بل كان يرى الدين أمرا شخصيا بين الفرد وربه.

    تأزم الموقف وتباين الأصوات:

    وفي حين ركز الصوت الأول – صوت الإصلاح – وما يزال على الهوية الإسلامية، باعتبارها الهوية الحضارية لكل شعوب المنطقة مسلمهم وغير مسلمهم، ركز الصوت الثاني على هوية "المواطنة" بعيدا عن الدين. كان السجال بين الصوتين سلميا، في مناخ شبه ليبرالي، حتى كان إلغاء الخلافة، وإعلان تركيا جمهورية علمانية. كان ذلك بداية التأزم والاحتقان في سؤال الهوية: فشلت محاولات إقامة خلافة جديدة، بسبب ادعاء كل حاكم أنه الأولى بالمنصب الشاغر. وحوكم "علي عبد الرازق" محاكمة دينية على كتابه في مصر التي كانت ما تزال شبه ليبرالية. كشفت هذه المحاكمة، وما قبلها وما بعدها، عن بنية هشة لدولة ونظام سياسي يسير بساق ليبرالية وبأخرى ثيوقراطية.

    تصاعدت في الهند نغمة تأكيد الهوية الإسلامية، ضدّا للهوية للوطنية، في خطاب أهمّ فلاسفة الهند في القرن العشرين، "محمد إقبال" الأب الأكبر الداعي لإنشاء دولة للمسلمين، فلم يمض 17 عاما على خطابه ختى تم إنشاء دولة "باكستان"، التي لم يشهد هو مولدها.

    بعد الحرب العالمية الثانية، تم إنشاء وطن لليهود في فلسطين بمساعدة أوروبا العلمانية، في نفس عام إنشاء باكستان. مع فارق مذهل بين الحالتين؛ حيث قام الوطن القومي لليهود على طرد شعب آخر من أرضه وتحويل أغلبه إلى لاجئين.

    أزداد الاحتقان في سؤال الهوية، وما زال يتزايد، حتى تم اختصارالهوية تدريجيا في إسلام "الشريعة"، أو الرؤية التشريعية للإسلام. صارت "الشريعة" هي الممثل الوحيد للإسلام، بديلا عن الرؤي المتعددة التي كانت بدورها تمنح الرؤية التشريعية في الماضي خصوبة تفتقدها الآن. في غياب الرؤى الأخرى فقدت الرؤية التشريعية ديناميتها، وصارت نداءات فجة وعقيمة لتغطية المرأة وإخراجها من حيز الفضاء الاجتماعي. وأخيرا تحولت "الشريعة" إلى سلاح لمطاردة المفكرين والمثقفين والمبدعين، ومحاكمة أي خروج على ثوابت وضعية، وضعها بشر ليسوا هم الأذكى ولا الأعلم ولا الأكثر حكمة، بل هم حلفاء كلّ السلطات العسكرية العشائرية المشيخية الديكتاتورية التي تستريح لوهم أنها تمثل الإسلام وتدافع عنه. المشكلة في الأساس هنا في الداخل، وليست هناك في الخارج، مع تأكيد أن الفصل بين الهنا والهناك، بين الداخل والخارج، في هذا العصر نوع من الهذيان.
                  

11-03-2009, 11:03 PM

ماجد معالى
<aماجد معالى
تاريخ التسجيل: 04-20-2009
مجموع المشاركات: 285

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نصر حامد أبو زيد يكتب إشكالية العقل والوحي (النقل)* (Re: ماجد معالى)

    أعداء العقلانية وسلطة النصوص:

    لأن العقلانية ضد الاستبداد، وضد الشمولية، ناهيك عن عدائها للعنصرية، والعصبية للدين أو المذهب أو الجنس أو العرق، فإن عليها أن تواجه العداء من كل هذه الأقطار. كل هذا القيم المضادة للعقلانية قيم ترسخت في الثقافة السياسية والدينية والاجتماعية، وإن تجملت باتخاذ أسماء أخرى: مثل تقاليدنا الراسخة، قيمنا الدينية والأخلاقية العريقة، احترام الكبير وتوقير أولي الأمر. إنه "الثبات"، ضنمنا المقدس، و"الثوابت" أبقارنا المقدسة. يتنفس أطفالنا هذه القيم من لحظة الميلاد، يتلقنونها في المدرسة، تُضخُّ في أسماعهم من أجهزة الإعلام المسموعة والمرئية ليل نهار. وحين ينضجون ويبدأون رحلة التعليم الجامعي يجدون المحرمات والممنوعات أكثر من المباحات والمسموحات. إنها الدائرة الجهنمية التي تعيشها مجتمعات "التكفير"، باسم حماية الدين، وحماية العقائد والمقدسات، والحرص على الثوابت. باختصار إنها المجتمعات التي تجرِّم التفكير لتفسح للفساد أن يمرح فيها. هذا كله يعني الحاجة الملحة لحرث التربة حرثا كاملا.

    لا يمكن تأسيس العقلانية دون الدعوة للتحرر من سلطة النصوص، سلطة الماضي الطاغية التي تحتمي بها الديكتاتورية والطغيان والاستبداد، ويزدهر تحت مظلتها الفساد. التحرر من سلطة النصوص ليس إلغاء للنصوص أو دعوة للتخلص منها، بل دعوة لتسليط ضوء العقل عليها، وقراءتها قراءة سياقية في ضوء تاريخها وتاريخ الفاعلين الاجتماعيين الذين أنتجوها. النصوص الدينية – القرآن والأحاديث النبوية – لها سياق لا يصح تجاهله أيضا، وهذه النصوص الدينية تكتسب سلطتها لا بذاتها. هي في ذاتها لا سلطة لها، إنما منحها البشر، الذين يؤمنون بها هذه السلطة. بعبارة أخرى، إنها السلطة الإنسانية، النابعة من الإيمان، هي التي تُضْفَى على النوص.

    لكن "الإيمان"، وحده، لا يحول النصوص إلى سلطة. تتحول النصوص إلى "سلطة" حين يتأسس الإيمان في شكل مؤسسات، ويتم تقنينه لاهوتيا. وهذا يحدث في سياقات تاريخية، ترتبط غالبا بالخلافات السياسية والاجتماعية داخل مجتمع "الإيمان"، أو بين مجتمع "الإيمان" وبين مجتمعات "إيمان" أخرى. داخل مجتمع الإيمان، يراد التمييز بين التصورات والشروحات والممارسات المتعددة؛ فتقوم السلطة السياسية بفرض "عقائدها"، واعتبار العقائد والممارسات الأخرى بِدَع أو هرطقات. وقد رأينا، في تاريخ الدولة العباسية مثلا كيف كانت عقيدة المعتزلة، في "خلق القرآن"، عقيدة الدولة، ثم استحالت "هرطقة" ترقى إلى درجة الكفر، بعد أقل من ثلاثة عقود ليس إلا.

    هذا التميز السلطوي بين التصورات والشروحات المتعددة، باحتكار واحد منها بوصفه "الحقيقة"، التي لا حقيقة سواها، يتم في سياق أكبر وأوسع، هو الصراع مع المجتمعات غير المسلمة، سواء داخل المجتمع أو مع مجتمعات خارجه، الإمبراطورية البيزنطية على سبيل المثال. هذا يفضي إلى النتيجة التي فحواها أن التحرر من سلطة النصوص هو التحرر من السلطات التي احتمت وتحتمي بتأويلاتها، زاعمة أن هذه التأويلات هي "النصوص" بلا زيادة ولا نقصان. الدكتور حسن حنفي له عبارة طريفة ولكنها دالة – وهو مشهور بصياغة أمثال هذه العبارات الطريفة الدالة – "احتمينا بالنصوص فدخل اللصوص".

    من هنا، يجب أن تفهم هذه الدعوة للتحرر من سلطة النصوص، بالتركيز على كلمة "سلطة"، لا بالتركيز على كلمة "نصوص". السلطة قيمة مضافة بفعل الفكر الإنساني، أبوية النصوص هي أبوية السلطات التي تدعيها، وحضن النصوص هو حضن السلطات التي تستتر وراءها. كل ذلك يحتاج لتفكيك. يبقى "الإيمان" الحر هو الحماية الحقيقة، أعني الإيمان الذي هو "العقد" – من هنا كلمة عقيدة – بين الفرد أو الجماعة وبين نصوصها المقدسة، دون وساطة أي سلطة، بما فيها سلطة المثقف أو المؤول.
    * نشر المقال فى موقع الاوان www.alawan.org
                  

11-04-2009, 03:55 AM

عزام حسن فرح
<aعزام حسن فرح
تاريخ التسجيل: 03-19-2008
مجموع المشاركات: 8891

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نصر حامد أبو زيد يكتب إشكالية العقل والوحي (النقل)* (Re: ماجد معالى)

    يا سلام عليك يا ماجِد ... كتر خيرك
                  

11-04-2009, 04:55 AM

doma
<adoma
تاريخ التسجيل: 02-04-2002
مجموع المشاركات: 15970

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نصر حامد أبو زيد يكتب إشكالية العقل والوحي (النقل)* (Re: عزام حسن فرح)

    Quote: لا يمكن تأسيس العقلانية دون الدعوة للتحرر من سلطة النصوص، سلطة الماضي الطاغية التي تحتمي بها الديكتاتورية والطغيان والاستبداد، ويزدهر تحت مظلتها الفساد. التحرر من سلطة النصوص ليس إلغاء للنصوص أو دعوة للتخلص منها، بل دعوة لتسليط ضوء العقل عليها، وقراءتها قراءة سياقية في ضوء تاريخها وتاريخ الفاعلين الاجتماعيين الذين أنتجوها. النصوص الدينية – القرآن والأحاديث النبوية – لها سياق لا يصح تجاهله أيضا، وهذه النصوص الدينية تكتسب سلطتها لا بذاتها. هي في ذاتها لا سلطة لها، إنما منحها البشر، الذين يؤمنون بها هذه السلطة. بعبارة أخرى، إنها السلطة الإنسانية، النابعة من الإيمان، هي التي تُضْفَى على النوص.

    لكن "الإيمان"، وحده، لا يحول النصوص إلى سلطة. تتحول النصوص إلى "سلطة" حين يتأسس الإيمان في شكل مؤسسات، ويتم تقنينه لاهوتيا. وهذا يحدث في سياقات تاريخية، ترتبط غالبا بالخلافات السياسية والاجتماعية داخل مجتمع "الإيمان"، أو بين مجتمع "الإيمان" وبين مجتمعات "إيمان" أخرى. داخل مجتمع الإيمان، يراد التمييز بين التصورات والشروحات والممارسات المتعددة؛ فتقوم السلطة السياسية بفرض "عقائدها"، واعتبار العقائد والممارسات الأخرى بِدَع أو هرطقات. وقد رأينا، في تاريخ الدولة العباسية مثلا كيف كانت عقيدة المعتزلة، في "خلق القرآن"، عقيدة الدولة، ثم استحالت "هرطقة" ترقى إلى درجة الكفر، بعد أقل من ثلاثة عقود ليس إلا.

    هذا التميز السلطوي بين التصورات والشروحات المتعددة، باحتكار واحد منها بوصفه "الحقيقة"، التي لا حقيقة سواها، يتم في سياق أكبر وأوسع، هو الصراع مع المجتمعات غير المسلمة، سواء داخل المجتمع أو مع مجتمعات خارجه، الإمبراطورية البيزنطية على سبيل المثال. هذا يفضي إلى النتيجة التي فحواها أن التحرر من سلطة النصوص هو التحرر من السلطات التي احتمت وتحتمي بتأويلاتها، زاعمة أن هذه التأويلات هي "النصوص" بلا زيادة ولا نقصان. الدكتور حسن حنفي له عبارة طريفة ولكنها دالة – وهو مشهور بصياغة أمثال هذه العبارات الطريفة الدالة – "احتمينا بالنصوص فدخل اللصوص".


    شكرا يا ماجد معالي
    ليت كل من يجد كتابات نصر حامد ابوزيد ان ياتنا بها .
    هذا رجل ذكي يفكر
    ومن مصائب العالم الاسلامي الا يسود فكره بل فكر الاغبياء .

    (عدل بواسطة doma on 11-04-2009, 06:51 AM)
    (عدل بواسطة doma on 11-04-2009, 10:39 AM)
    (عدل بواسطة doma on 11-04-2009, 10:41 AM)

                  

11-04-2009, 05:03 AM

Bashasha
<aBashasha
تاريخ التسجيل: 10-08-2003
مجموع المشاركات: 25803

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نصر حامد أبو زيد يكتب إشكالية العقل والوحي (النقل)* (Re: doma)

    هيع!
    درش او طرش ساكت قال ليك!
                  

11-04-2009, 05:47 AM

doma
<adoma
تاريخ التسجيل: 02-04-2002
مجموع المشاركات: 15970

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نصر حامد أبو زيد يكتب إشكالية العقل والوحي (النقل)* (Re: Bashasha)

    فوووووق مقال جدير بالقراءه
                  

11-04-2009, 10:37 AM

ماجد معالى
<aماجد معالى
تاريخ التسجيل: 04-20-2009
مجموع المشاركات: 285

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: نصر حامد أبو زيد يكتب إشكالية العقل والوحي (النقل)* (Re: doma)

    الاخوة عزام وDoma
    شكرا على المرور مقالات الاستاذ نصرتستحق الدراسة والوقوف عندها لانها ببساطة تخاطب قضايا جوهرية تواجه الفكر الاسلامى
    طالب أبوزيد بالتحرر من سلطـة النصوص وأولهـا القرآن الكريم الذي قال عنه القران يؤسس ذاته دينا وتراثا فى الوقت نفسه لذلك طالب التحرر من هيمنة القران والنصوص وكل ما يعوق مسيرة الانسان
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de