مــا بين مـريم الأخـــري... والجــودليــة!!!

تشبثت زاكرة المطر بطيف الحلم الهطول ..ونديمي مشدودٌ بوترٍ من زمن البدايات المهروسةُ عمداً في حليب الشموس... المكان بالرغم من خرطوميتهِ الفاترة... لا يزال يجترٌّ سبيطةً من هلال النخيل الخصيب.... ورشحات يناير توشّح المدي الهشيم برعشةٍ كئيبة
زجّتها الأيام جوراً في دفاتر الزمن.

الشمس تحاول أن تتفلسف علي الدنيا بتبرير نضوب دفئها بصراعات الفصول .... والمواسم تهرب الي فلسفةٍ أخري وتصك قانوناً يستبيح حرمة الأوصال المتعبة ..... أن تلجأ الي الفلسفة فأنت تتفلسف !!
وأن تحاول أنكارها فأنت تتفلسف مرةً أخري..!! هكذا قال (أرسطو)

وقتئذٍ كنت في التاسعة عشرة من طازج العمر... الشئ الذي لم يخيفني من دسم عينيها .. واللجؤ الي هميم سطوعها هرباً من ظلامات الدفاتر التعليمية و طلاسم المعادلات...
صديقتي ( مريم) لم تفلح الأسرار المغموسة في خصلات شعرها في توقيع هدنةٍ ما بين أحتياجي و أهتياجي ... لا أجدها أنثي ثورية لا تأبه بالتسكّع في البلاط الملكي ... ولكنها أصرّت أن تكون أميرة الأميرات في حكاوي ألف ليلة وليلة .... أما أنا ومنذ كنت غراماً في عين أمي .. تجدني شغوفٌ بالسندباد البحري .. وشيئاً فشيئا أتجهتُ بفسقي الي نادي الخطايا.. و صادقتُ و راقصتُ ( لوليتا) ونمت في فراش ( مادلينا) و لم تنجو الا امرأة العزيز ... الا أن قميصي قُدّ من قُبُل....

تقتلني التلقائية... فهي تحيلُ حياتك الي روزنامة باهتة .. الي جدول حصص يومية... مريم كانت أنثي بدقات قلب منتظمة...ساعة سويسرية لا تقدم ولا تؤخر ..مثلها مثل ساعة بق بن في بلاد الضباب
ومع ذلك تجوب معي أطراف الزمكانية ولا تهتم الا بكونها أنثي خرجت من بطن الصمتِ مجدلية....

فاجأتني تلك التي دسّت بأنفها في حواديت نجيب محفوظ وتاهت بين القصرين.. وشربت من السكرية وهي تلفُّ نفسها بعبائة أسكندراوية تجوب بها طرقات المدينة .. وغمرتني بأنفاس ريفية شهية.. مغموسة في مد المني وجزر الأماني ... فيما تختال هي في طاؤوسية وتصدر أوامر صريحة لكل قطعة في جسدها كي تتراقص علي أيقاعات القلوب العطاشي.. الشئ الذي جعل نهدها يتمترس شاهراً دلالهُ في وجوه القوم السكاري وما هم!!
أيتها الريفية... الشقية .. الشهيةُ ... البهيةُ ... الجودلية..!

أطلت بوجهٍ خاطت منه الشمس أنفاس الأصيل .. وجسدٍ يستدعي نزقات الفحولة الصابئة ... فتوخذني حلمئذٍ تماثلات عابرة في الأزمنة والأمكنة ... والجسد والروح ...تتّسِم بدرجة من التجريد في وصف تجلياتها ... عندها يتفاقم الأستلاب نحو ماهو مادي. مع علو الصوت الداعي لأسقاط الآخر .. وهنا تكمن أشكالية الآخر في عدم القدرة علي التعاطي مع نداءآت اللاوعي ..ودمجها تحت مسمي نزوات
لتنبري نقطة اللاموازنة وضعف الأستجابة التي تهيأ مناخاً مثالياً أستثنائياً لمجموعة من العقد النفسية....

(مريم) هنا تمثل قطعة ديكور بسيطة لا يجب المساس بها.. ولكن يرتفع ثمنها مع تصاغر عمرها وفقاً لمعطيات تزامنية عدة
و(الجودلية) تعبئ هذا الحيّز وتحفّذ جميع قطع ديكورهِ لمسرحة المكان ! وترشح اللاحياة كوجود وتوحد الذات ككينونة مثالية
فيما تحافظ مريم علي مجدليتها التلقائية المزمنة.

هذه الظروف هيأت ورسمت مآلات العلاقة بيني وبين ( الجودلية) فقد كانت تري فيني منجم كبريت يثور فحولةً يزيل أوجاعها ويصبرها علي ترهلات زوجها المتعب... بينما انا كنت أراها تفاحةً سقطت لتسخر من عزرية مريم وتكتشف الجازبية الجودلية!
كانت الخرطوم تنامُ مبكرة.. والشئ الغريب أنها كانت لا تتناول الحليب ولا تتغطي.. ولكنها كانت تهجد علي أحاجي الأمس وتبكي علي ماضٍ تولّي ...
غرائبية الصور تزأبقت في مخيلتي مكرّسة لوضعيةٍ شغوفةٍ بالتغيير... أعي أن نفسي قد تململت من ثوابتها .. فهي توشك أن تنقلب أن لم تكن فعلت ..
الخرطوم أرملة مات زوجها في الحرب ..! فتشققت أرجلها التي لم تعرف شكل الحناء وباضت الحمامة في صدرها ...

المناخ بلا شك يهئ معطياته لكل ماهو مسكوب في قابل التجديد ولكنها في الآخر أحتشادات بلا معني و تساحُب لا يلد المطر!
فعندما رمت الجودلية حجراً في بركة أيامي وجرت الدماء في عروقها وباضت تغييراً لا أظنهُ كان خافياً علي أحد.
تباعدت خطي الأيام و أستشري داء التلقائية في عروق الجنس الخرطومي حافظت المدينة علي فتورها وزحفت مجموعة من الخيوط البيضاء علي رأس الجودلية... أولاد المدارس أرضعتهم نورها فتكاثروا عليها و ظللوها بالخفوت .. ورفع صدرها الراية البيضاء و أعلن الخضوع لتنظيرات ( نيوتن)...

أم محمد امرأة من زمان الأمس وليالي الوصل بالأندلس... فتاةٌ كانت تدعي مريم ... حافظت علي نفس النمط القديم.. البيت الجامعة... الجامعة البيت... مع قليل من التغيير... البيت العمل... العمل البيت...
و أنا واظبت علي تسكعي فيني ... لا الزمان هو الزمان... ولا انا
ولا انا ولا انا...

أنتظرُ قيامةً تحييني .. وتعيد صياغة الأنسان داخلي ... الأرض تغطّت بالتعب... والنساءُ أتخذت شكل الفراغ... والرحيل الممعِن في القسوة الذي ترمّلت له كمنجات الشهيق الأشتر...
هذه هي الحياة تتجدد في ثبات... و بين رفيقة كنت أحسبها شمسٌ خالدة... تحولت الي عود ثقاب لا يضئ الا مرة واحدة...
وبين حبيبة لم تبارح عقليتي كنخلة نيلية ... لها نفس الطعم
ونفس الشكل....... ونفس الطول.... لا تتغير منذ بدء الخليقة
تأرجحن موازيني ......... والكل يمضي
انا أمضي وهي تمضي وهم يمضون...............
وتبقي الحياة............