من كتابات الراحل المقيم الأستاذ طه اسماعيل ابوقرجة

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-19-2024, 06:35 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف العام (2003م)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
05-05-2003, 05:28 PM

baballa
<ababalla
تاريخ التسجيل: 05-13-2002
مجموع المشاركات: 151

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
من كتابات الراحل المقيم الأستاذ طه اسماعيل ابوقرجة


    في هذا الباب سأثبت تباعا بعضا من كتابات الراحل المقيم الأستاذ طه ابوقرجة وهي تتناول شئون شتي من هموم وشجون الإ سلام والسودان فالي المقال الأول
    ====================================
    التحدي الذي يواجه العالم !!
    إما المجتمع الكوكبي الإنساني الواحد ، وإما الاستعمار والحرب والدمار

    (1) من (3)
    سمُوها غزو العراق، وليس حرب الخليج الثالثة
    الشعب العراقي لم يطلب من الإدارة الأمريكية تحريره من صدام، فهل من الديموقراطية أن تفعل باسمه ما لم يأذن به؟
    فلتكف الإدارة الأمريكية عن دعوى توزيع الديموقراطية حول العالم

    [email protected] بقلم: طه إسماعيل أبو قرجة

    الشعب العراقي لم يطلب من الإدارة الأمريكية، ولا تابعتيها البريطانية والأسترالية، أن تحرره من حكم صدام. وهي لم تستطع أن تدَّعي ذلك، رغم أنها لم تتورع عن غمر العالم بسيل منهمر من الكذب الرخيص، المسيء إلى عقول الناس، يجترحه تنفيذيوها وعسكريوها على نحو مؤسف، دون أن يطرف لهم جفن، وكأنهم رجال عصابات أشرار، لا رجال دولة شرفاء.. يحاولون به كسب العالم في حين يخسرون أنفسهم.. ويصورون به أنفسهم صور الأخيار المتمدينين، فيسيئون إلى أنفسهم وشعوبهم أيما إساءة. ذلك السيل لم يكن أوله، ولا أسوؤه، تزوير مستندات للإيقاع بالعراق بأنها اشترت يورانيوم من النيجر. وهو تزوير فضحته المؤسسة الدولية للطاقة الذرية، مما دفع بأحد أعضاء الكونغرس الأمريكي إلى المطالبة بإجراء تحقيق في تورط مسئولين أمريكيين في ذلك التزوير.

    بيد أن الإدارة الأمريكية حين حاولت، هي وتابعتيها، تبرير عدوانها على العراق بأنه عمل إنساني لتحرير الشعب العراقي من صدام، لم تستطع أن تصبر بعض الوقت حتى تجوز خدعتها على الناس، بل مضت في عجلة لتفضح نفسها وتؤكد ما يعلمه كل الناس بأنها إنما تهدف من الحرب إلى وضع النفط العراقي في قبضة أباطرة البترول الأمريكيين. فما بدأت الحرب حتى أعلن الرئيس الأمريكي أن عائدات النفط العراقي ستستغل، أول ما تستغل، لاسترداد نفقات هذه الحرب. عجباً!! الإدارة الأمريكية تحاول إيهام شعبها وكل شعوب الأرض بأنها تتبرع من منطلق إنساني محض لتخليص شعب العراق من صدام، ثم تعلن في ذات الوقت أنها ستكون المتصرف في عائدات النفط العراقي، بل وأنها ستحمِّل الشعب العراقي ثمن الحرب التي شنتها دون طلبه، ودون إذنه، وبها قتَّلته، ودمرت بنياته، وبيئته، باليورانيوم المستنفد وغيره من الأسلحة المحرَّمة دولياً وغير المحرمة- هذا إن كان في شِرْعَة الإنسانية أسلحة غير محرمة.

    من أعطى الإدارة الأمريكية الحق في التصرف في عائدات النفط العراقي؟ أليس هذا هو الاستعمار المكشوف؟ أوتظن الإدارة الأمريكية أن الشعوب الأخرى، لمجرد أنها لم تستطع أن تصنع ما تسميه بالصواريخ الذكية، هي من الغباء بحيث تجوز عليها هذه الأحابيل؟ إن الإدارة الأمريكية قد أفصحت بإعلانها هذا عن أنها ليست أفضل من الجنرال منقستو، حاكم إثيوبيا السابق، وأحد أسوأ دكتاتوريي القرن العشرين. فقد قيل عنه أنه كان يقتل خصومه بالرصاص ثم يطالب ذويهم بثمن الطلقات المستخدمة في قتلهم.

    إن مما يجب أن يعلمه أهل الأرض قاطبة أن الحرب التي تشنها الإدارة الأمريكية الآن على العراق ليست سوى ردة إلى عهود الاستعمار التقليدي الذي خرج منه العالم قبل عقود، وأن العراق ليس سوى الضحية الأولى، وأن العالم إن صمت اليوم عن ما يجري في العراق، فإنه سيفيق كل حين على غزو جديد، تنفذه إمبراطوريات المال الأمريكية، باسم الشعب الأمريكي، مستغلة الإدارة الأمريكية.

    إن هذه الإمبراطوريات قد عوَّقت تقدم الديموقراطية الأمريكية والديموقراطيات الغربية لمئات السنين، وأفرغتها من مضمونها. ولكنها اليوم تريد أن تعود بالبشرية كلها إلى الوراء، إلى عهود الاستعمار التقليدي السافر، ونشر الألوية الأجنبية على أراضي الشعوب الضعيفة، ونهب ثرواتها، وإدخال العالم في دوامة جديدة من الحروب الطواحن، والكره، والدمار. ونحن لا نعلم مستعمراً أفصح عن رغبته الحقيقية للمستعمرين، ولكننا نعلم أن كل المستعمرين يتصورون أن الشعوب الضعيفة هي من الغباء بحيث يمكن أن تنخدع بأن الجيوش الأجنبية تأتيها لتحسن إليها وتنهض بعبء الشعوب المتقدمة، سواء أكانت بيضاء أو غير بيضاء، نحوها. والحق أن أجيالاً سمعت خلال القرن الماضي في آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية دعاوى جنرالات الإمبراطورية البريطانية التي كانت لا تغرب عنها الشمس بأنهم إنما قطعوا آلاف الأميال من بريطانيا لخدمة تلك الشعوب، تسمع الآن ذات الادعاء الفج الكاذب من آلة الإعلام الأمريكية الضخمة المستغَلة أصلاً لتضليل الناس، داخل أمريكا، وخارجها.

    إننا في حقيقة الأمر أمام موجة جديدة من الاستعمار التقليدي. ولكن من حسن التوفيق أن هذه الموجة تجد الآن من الرفض والمقاومة داخل المجتمع الأمريكي والبريطاني بأكثر مما تجد من أي دولة أخرى، ومن أي شعب آخر. وبالرغم من أن خوف الدول من بطش الإدارة الأمريكية أمر مؤسف، إلا أن قوة الرفض الشعبي الأمريكي والبريطاني يخفف من الأسى، ويزيد من الأمل في أن تفتتح البشرية، في الأيام القريبة القادمة، دورة جديدة من دورات التاريخ على هذا الكوكب، تخلِّف بها الحرب، وتقلع بها عن العصبيات الوطنية، والقومية، والعرقية، والعقائدية، وتستبدلها بوشائج الإنسانية التي تربط بين كل أهل الكوكب، فتسقط بذلك اعتبارات اللون، واللغة، والعنصر، والعقيدة، والموقع الجغرافي، فيستبدل أهل الأرض قانون الغاب بقانون الإنسانية، ويحرصون على العدل فيما بينهم، ويأبون الظلم على غيرهم مثلما يأبوه على أنفسهم. ذلك هو عالم الغد المأمول، وذلك هو المجتمع الكوكبي، الإنساني، الذي سيكون مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائره بالسهر والحمى. وهذا هو مخاضه، وسآتي للحديث عنه لاحقاً.

    ضرورة التمييز :
    أمران ينبغي أن لا يلتبس وجه الرأي فيهما، وألا يتخذ أولهما ذريعة إلى الآخر: سوء نظام صدام، وسوء الغزو الأجنبي. هذا ينبغي أن يكون واضحاً لكل الدول ولكل الأفراد حول العالم. فمهما كان الرأي سيئاً في صدام، يجب أن لا نشك لحظة بأن العمل العسكري الذي اجترحته الإدارة الأمريكية ضد العراق (وتبعتها فيه الحكومتان البريطانية والاسترالية)، ليس سوى غزو أجنبي، لا يقل في سوئه عن غزو الاتحاد السوفيتي السابق لأفغانستان في سنة 1979، بل هو أسوأ منه لأن الدولة التي تقوم به هي اليوم، بلا منازع، الدولة الأقوى في العالم التي يقع عليها أكبر واجب أدبي وقانوني في ترسيخ دور المنظمة الدولية التي ارتضتها دول العالم قاطبة كمنظمة يناط بها حفظ الأمن والسلام الدوليين. كما يجب أن لا نشك لحظة أن هذا العدوان إن أسقط صدام، فلن يحرز ديموقراطية في العراق، وإنما هو في أحسن أحواله سيأتي بحكام جدد قاماتهم أضأل من الكراسي التي سيضعهم عليها، ليعطوا أباطرة النفط الأمريكيين ما يريدون، ويمتصوا هم البقية. وذلك ما فعلته أمريكا وبريطانيا نفسهما حين أسقطتا حكومة مصدق الديموقراطية في إيران سنة 1953 بتدخل عسكري مباشر، لتعيدا السلطة إلى الشاه، ليعطيهما ما كانتا تبتغيانه من عائدات النفط الإيراني، ظلماً، فأوصلتا بذلك إيران إلى الحالة التي هي فيها الآن.

    إن عدم وضوح هذا الأمر قد ساق بعض الدول لتأييد الإدارة الأمريكية في غزوها العراق، أو للإحجام عن إدانتها، بسبب رأيها في نظام صدام، وانخداعها بالمهمة النبيلة التي تزعمها الإدارة الأمريكية بتحرير العراق. وبنفس القدر، فإن عدم وضوح هذا الأمر قد شلَّ تفكير كثير من الأفراد، فباتوا يتفرجون على الأحداث، ويتكهنون بنتائج الحرب، وما قد تستغرقه من وقت. وقد لعبت الإدارة الأمريكية لعبتها بإلهاء الناس بهذه المسائل عن عدوانها ومطامعها الاستعمارية.

    وليس أدل عندي على التباس وجه الرأي عند الناس من انطلاء الاسم الذي أعطته الإدارة الأمريكية لغزو العراق على أكثرهم، بمن فيهم المعارضين لهذا الغزو: حرب الخليج الثالثة!! فذلك اسم مضلل، قصدت الإدارة الأمريكية أن تسبغ به على غزوها ذات الشرعية التي حظيت بها الحرب المعروفة بحرب الخليج الثانية، التي أخرج بها المجتمع الدولي العراق من الكويت مطلع عام 1991 بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، الذي يوجب على كل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة القيام بالعمل اللازم للحفاظ على سيادة وسلامة كل بلد من بلدان العالم إن تعرض للعدوان.

    النفط هو الدافع الحقيقي، والأهداف المعلنة ذرائع :
    لقد حاولَت الإدارة الأمريكية أن تخدع المواطن الأمريكي والرأي العام العالمي بأنها تحارب في العراق لسببين نزيهين خيِّرين، أحدهما هو تحرير الشعب العراقي من صدام، وثانيهما هو تجريد العراق من أسلحة الدمار الشامل التي تزعم أنها تشكِّل خطراً على الأمن القومي الأمريكي. بيد أن المواطن الأمريكي والرأي العالمي لم يفت عليهما أن هذه الحرب المؤسفة إنما تحركها رغبة استعمارية في الاستحواذ على النفط العراقي لصالح أباطرة النفط الأمريكيين، ولكنها تسوق ذرائع ومبررات أخرى بقصد التضليل.

    وقد أوردت بعض وسائل الإعلام العالمية معلومات مفصلة تفيد أن بعض أركان الإدارة الأمريكية الحالية كانوا موظفين كبار في شركات النفط الأمريكية، مشيرة إلى أنهم قد انتدبوا من تلك الشركات إلى البيت الأبيض لتحقيق مصالح تلك الشركات من مواقعهم الجديدة. ورغم أن المسألة لا تحتاج إلى سجل وظيفي لدى أولئك الأباطرة، إلا أن مما يؤيد تلك المعلومات أن مجموعة شركات هالبيرتون التي كان يديرها ديك تشيني، نائب الرئيس الأمريكي، حتى عام 2000، قد أعطتها الإدارة الأمريكية عقوداً لإطفاء حرائق في آبار النفط العراقي. وهذا يكشف أن هؤلاء لا ينطبق عليهم وصف "الصقور" بإزاء "الحمائم" على نحو ما حاولوا تضليل الناس، وإنما ينطبق عليهم أنهم مزيفو ديموقراطية ومستغلو مناصب عامة لتحقيق مصالح خاصة، وذلك عار الأبد. ومن أجل ذلك، سَرَت في داخل الولايات المتحدة موجة قوية من الاعتراض على هذه الحرب ترفع شعارات مثل: (لا لحرب البترول) و (ليس باسمنا) و (لا لمقايضة البترول بالدم) ونحو ذلك من الشعارات التي تكشف أهداف الحرب الحقيقية، وتعبِّر عن رفضها.

    ولأن هذين الهدفين هما مجرد ذرائع، فإنهما لم يُعْلَنا على هذا النحو إلا قبيل اندلاع الحرب. ولابد أن الناس يذكرون جيداً أن الرئيس الأمريكي بوش كان قد أعطى الرئيس العراقي صدام حسين وإبنيه مهلة 48 ساعة لمغادرة العراق كوسيلة لتجنب الحرب، ولكنه حين شعر أن صدام قد يفقدهم ذريعة احتلال العراق بالاستقالة ومغادرة العراق، عاد ليقول أن الجيش الأمريكي سيدخل العراق في كل الأحوال حتى لو استجاب صدام إلى الإنذار وغادر العراق، وذلك للتفتيش عن أسلحة الدمار الشامل. هذا بالرغم من أن التفتيش عن تلك الأسلحة ليس صلاحية الجيش الأمريكي، وإنما هو صلاحية اللجنة الدولية (UNMOVIC) والوكالة الدولية للطاقة الذرية، اللتين تعملان تحت رعاية مجلس الأمن الدولي، وهما المنوط بهما مباشرة التفتيش في كل الأحول، سواء أبحرب أو بدون حرب. ولا يفوت علينا أن مجلس الأمن إن كان قُدِّر له أن يجيز أي عمل عسكري ضد العراق من أجل التفتيش الفعال عن تلك الأسلحة، فإن ذلك العمل العسكري لن يكون من شأنه أن يخرِج مهمة التفتيش من يد اللجنة الدولية والوكالة الدولية ليضعها في يد الجيش الأمريكي أو أي جيش آخر.

    ومن هنا يتضح أن الإدارة الأمريكية قد ارتكبت سلسلة من الأخطاء الفادحة، لا خطأ واحداً، حين أعلنت أنها من أجل تفتيش فعال عن الأسلحة في العراق ستضرب العراق بدون قرار من مجلس الأمن، بدعوى أن مجلس الأمن تخلى عن مهمته. فالخطأ الأول هنا هو أن الإدارة الأمريكية قد اغتصبت بذلك صلاحيات مجلس الأمن، وأصدرت حكماً منفرداً على العراق ونفَّذته. والخطأ الثاني، أنها أضعفت منظمة الأمم المتحدة برمتها حين اتهمتها بالتفريط في واجبها، رغم أن واجب أمريكا كدولة مؤسسة لمنظمة الأمم المتحدة، وكدولة أولى في العالم، بل وكدولة مقر، كان هو دعم منظمة الأمم المتحدة وتقويتها، لا إضعافها وإسقاط ما اكتسبته من هيبة وفعالية بعد انتهاء الحرب الباردة. أما الخطأ الثالث، فإن الإدارة الأمريكية واصلت مسلسل اغتصاب الصلاحيات، فاغتصبت لجيشها صلاحيات لجنة انموفيك (UNMOVIC) الدولية والوكالة الدولية للطاقة الذرية وصلاحية مجلس الأمن في الإشراف على تينك اللجنتين.

    ومن المؤسف حقاً أن ذلك الخروج السافر عن الشرعية الدولية لم يجد التنبيه الكافي من القانونيين الدوليين، ولا من غيرهم، كما لم يجد الموقف الحاسم من دول العالم، ولا من الرأي العام العالمي. ويلاحظ الآن أن الإدارة الأمريكية تسعى إلى تبرير عدوانها على العراق بالإعلان عن العثور على أسلحة كيماوية أو مصانع لها. وهذا إعلان عديم القيمة، ليس لأن تقاريرها العسكرية عن العمليات الحربية كانت كاذبة وتطعن في صدقها وتسيء إلى صورة المواطن الأمريكي والبريطاني بإظهاره بمظهر الكذاب الأشر، ولكن لأن الجيش الأمريكي ليس هو الجهة التي يناط بها حق التفتيش أو الإعلان عن ملكية العراق لسلاح دمار شامل أو مصنع له.

    إن المتابع للأحداث الجارية على الساحة الدولية يدرك بسرعة أن الإدارة الأمريكية قد قررت منذ انهيار الاتحاد السوفيتي أن تجعل من منظمة الأمم المتحدة مكتباً تابعاً لوزارة خارجيتها، تستصدر منه القرارات التي تسبغ الشرعية على سياساتها الرامية لحكم العالم بقبضتها الحديدية. وهي من أجل تحقيق هذا الغرض تمارس أفعالاً يندى لها الجبين. فهي تضغط على الأمين العام للأمم المتحدة ومساعديه وجهازه الوظيفي، وتوقف سداد التزاماتها المالية للمنظمة لتستصدر منها القرارات التي تبتغيها، بل وترشو الدول الأخرى الأعضاء في مجلس الأمن لتصوت معها، أو لتمتنع عن التصويت على أيسر تقدير، حتى أنها قد جعلت من عضوية مجلس الأمن باباً من أبواب المأكلة والرشا لبعض الدول، وبعض الحكام، بل وربما بعض المندوبين أيضاً. كل ما هنالك، أن لكلٍ ثمنه.

    أعود لأقول أن الذرائع التي أطلقتها الإدارة الأمريكية لتبرير عدوانها على العراق يجب أن تناقش، لا لأنها شكَّلت الأساس السياسي والقانوني والأخلاقي (Ethical) الذي اعتمدت عليه في ذلك الغزو فحسب، ولكن لأنها، في جوهرها، ستشكل الأساس الذي يمكن أن تطلق به الإدارة الأمريكية يدها وآلتها العسكرية الضخمة لتغزو دولاً كثيرة وتفتك بشعوب عديدة حول العالم. وذلك أمر إن لم يتفطن له المواطن الأمريكي والمواطن العالمي منذ اليوم ويوقفه، فإنه سيفيق كل حين على غزوة جديدة للإدارة الأمريكية في ناحية من الأرض. فمن المفروغ منه أن "كل تجربة لا تورث حكمة، تكرر نفسها"، كما قال الأستاذ محمود محمد طه. فإن المجتمع الكوكبي، بما فيه المجتمع الأمريكي، إن لم يتعظ من تجربة غزو العراق ويواجه الإدارة الأمريكية بما يجب من حكمة وحزم، سيكون بذلك التقاعس قد أدخل نفسه حقبة من البلبلة المنكرة والشر المستطير.

    أمريكا لا توزِّع الديموقراطية ، وهي ليست معنية بها :
    وأبدأ بمواجهة الحجة الأولى المتمثلة في تحرير شعب العراق من حكم صدام، وأسوق بشأنها النقاط التالية:-
    (1) إن الغاية لا تبرر الوسيلة. ولذلك فإن سوء نظام صدام حسين لا يبرر الغزو الأجنبي. فالغايات الصحيحة لا يتوسل إليها بالوسائل الخاطئة. كما أن الوسائل الخاطئة لا توصل إلى نتائج طيبة. والحق أن خطأ الوسائل يدل على خطأ المقاصد وينبيء بسوء النتائج.

    (2) إن الحكومتين الأمريكية والبريطانية لم تكونا ديموقراطيتين حين تخلتا عن طرح مشروع قراراهما بشأن العراق على مجلس الأمن حين شعرتا بأن أغلبية مجلس الأمن ترفضه. ولذلك لا يمكن أن تنطلي علينا أكاذيبها بأنهما سيجتاحان العراق لتحرير الشعب العراقي ومنحه الديموقراطية. لأن فاقد الشيء لا يعطيه.

    (3) إن الحكومتين الأمريكية والبريطانية لم تكونا ديموقراطيتين حين اغتصبتا إرادة الشعب العراقي وقررتا تخليصه من صدام دون أن يطلب منهما الشعب العراقي ذلك. ولما كانتا بهذا الصنيع أيضاً غير ديموقراطيتين، فإنهما لم يقصدا منح الشعب العراقي ديموقراطية، ولن يستطيعا، لأن فاقد الشيء لا يعطيه.

    (4) إن الحكومتين الأمريكية والبريطانية لا تباليان بالشعب العراقي، وإنما بمصالحهما. فحين غررتا بصدام عام 1979 ليحارب إيران ليوقف مساعي تصدير الثورة "الإسلامية"، أعانتا صدام على تقتيل الشيعة العراقيين المؤيدين لإيران. هذا على أيسر تقدير ما قاله المرجع الشيعي، الحكيم، في تبرير حياد الشيعة العراقيين حالياً.

    (5) إن الأمر الذي كان مطروحاً على مجلس الأمن بشأن العراق لم يكن يتعلق بتحرير شعب العراق من حكم صدام، وإنما بتجريد العراق من أسلحة الدمار الشامل. وذلك هو الأمر الوحيد الذي ظلت الحكومتان الأمريكية والبريطانية تسعيان إلى استصدار قرار من مجلس الأمن بشأنه. ولا جدال أن مجلس الأمن إن كان قُدِّر له أن يصدر قراراً يعلن به عدم تعاون العراق ويأذن فيه بعمل عسكري، فإن مثل ذلك القرار لا يمكن أن يعني إقصاء صدام حسين، لأن ذلك أمر داخلي لا يحق لمجلس الأمن التدخل فيه، وإنما هو قد يعني تفتيش أسلحة الدمار الشامل في العراق بالقوة، وإبادتها، ووضع مراقبين دائمين لضمان عدم إنتاجها مستقبلاً، ووضع أي شروط مناسبة تحول دون استيراد أي تكنولوجيا أو مواد تعين على إنتاجها. ومن هنا يتضح أن ادعاء الحكومتين الأمريكية والبريطانية بأنهما تهدفان إلى تحرير العراقيين من صدام ليس سوى غطاء دبلوماسي، ودعاية عسكرية أريد بها عزل النظام العراقي عن شعبه لتسهيل المهمة العسكرية أمام الجيشين الأمريكي والبريطاني. ومن حسن التوفيق أن تلك الدعاية السطحية لم تجز على أكثر العراقيين. وحتى الذين لم يقاوموا الجيش الغازي، إنما ينتظرونه ليخلصهم من صدام، ليتخلصوا هم من بقيته.

    (6) إن العالم مليء بالحكام الدكتاتوريين الذين سطوا على السلطة في بلدانهم بحد السلاح، وأذلوا شعوبهم. وصدام حسين وحزب البعث هم نموذج لأولئك الحكام الجائرين، ونحن في السودان قد رزئنا بأسوأ أصنافهم. بيد أن تحرير الشعوب من شاكلة أولئك الحكام الفاسدين هو واجب الشعوب نفسها، لا واجب الدول الأخرى. وذلك لأسباب عديدة، أهمها أن هذه الشعوب بعد أن جلا عنها الاستعمار التقليدي نحو منتصف القرن العشرين، أخذت تتعلم كيف تحكم نفسها. وهذه الدكتاتوريات هي جزء من عملية التعلم نفسها. وهذه الشعوب ما زالت تتلمس طريقها، وتختزن الحكمة من تجاربها. والمرارات التي تكابدها في هذا الشأن هي ثمن تعلمها، وهو ثمن ضروري، بل هو لا غنى عنه، من أجل أن تدرك قيمة الديموقراطية، فتحرص عليها، وتحققها، وتحافظ عليها.

    (7) إن الشعوب لا تُعْطَى الديموقراطية، وإنما هي تنتزعها انتزاعاً. ويوم تعرف جموعها قيمة الديموقراطية بمكابدة الدكتاتوريات، ستناضل من أجلها، وتنتزعها، ثم تحسن التصرف فيها، بحكم نفسها حكماً ديموقراطياً رشيداً. أما إن لم تعرف قيمة الديموقراطية، فإنها لا تستميت من أجلها.. وإن هي أعطيت لها دون أن تكون قد عرفت قيمتها، أضاعتها مرة إثر أخرى. ولعل نموذج السودان هو خير نموذج في هذا الشأن. فبريطانيا كدولة مستعمرة للسودان منذ عام 1898 قد مهدت، على نحو ما، لأن يحكم السودانيون أنفسهم حكماً ديموقراطياً بعد استقلالهم عام 1956، ولكن كانت النتيجة أن ملأوا أوعية الديموقراطية ببضاعتهم المزجاة.. ملأوا هياكل الديموقراطية -من أحزاب وانتخابات وبرلمانات وأجهزة حكم- بالطائفية والعشائرية، فأساءوا بذلك إلى الديموقراطية أيما إساءة، وباتت على أيديهم عاجزة عقيمة لا يصح تسميتها إلا بالدكتاتورية المدنية، وبسبب ذلك تواترت الانقلابات العسكرية. ومن أجل ذلك، فمن الخير للشعوب أن تتركها أمريكا ليستوفى كتابها من التعليم أجله، فتدرك قيمة الديموقراطية من خلال تجارب الدكتاتورية القاسية، فتبني ديموقراطيات حقيقية، وتسهر على حمايتها، وترقيتها. ذلك أمر لا معدى عنه، مهما طال أمده، ومهما فدح ثمنه.

    إن الشعوب-كل الشعوب- هي مثل الأفراد، لديها حق الخطأ، لتتعلم من أخطائها. والديموقراطية في أدق وأرفع تعريفاتها، هي حق الخطأ.. هي حق أن نعمل ونخطيء لنتعلم من خطئنا كيف نصيب. ومع هذا، فإن الدول المتقدمة نسبياً في مضمار الديموقراطية، كأمريكا وبريطانيا، يمكنها أن تساعد الشعوب المتأخرة بوسائل شتى لتعينها على اختصار الطريق وتقصير أمد المعاناة بتحقيق الديموقراطية بسرعة أكبر. وهي يمكن أن تساعد الشعوب الضعيفة بوسيلتين أساسيتين.. أحدهما الإسهام في رفع الوعي عند الشعوب، لأن وعي الشعوب شرط لازم للديموقراطية.. وثانيهما الكف عن استغلال ضعف هذه الشعوب بنهب ثرواتها بشروط الاستثمار والتجارة المجحفة التي تبرمها مع حكوماتها الدكتاتورية الجاهلة، وبدفن النفايات النووية والكيماوية في أرضها بعد رشوة حكامها الفاسدين، وبإرهاقها بالديون التي تعطيها لتلك الحكومات الدكتاتورية وهي تعرف مسبقاً أنها ديون لا تذهب للشعوب وإنما لجيوب أولئك الحكام الفاسدين لينتهي بها المطاف في بنوك الدول الغنية ذاتها التي تستمر في تحصيل ما يسمى بخدمات الديون أبد الدهر، فتبقي بذلك الشعوب في براثن الجوع والمرض والجهل وقبضة الحكام الدكتاتوريين. ولا شك عندي أن دولة تجترح مثل تلك الفظائع في حق الشعوب الضعيفة لا يمكنها الادعاء بأنها تقاتل من أجل تحرير الشعوب.

    ( إن سجل أمريكا في الساحة الدولية لا يسمح لها بأن تدَّعي بأنها رجل محسن يطوف حول العالم، كبابا نويل، ليمنح الشعوب الديموقراطية. والحق أن سجل أمريكا يقول عكس ذلك. سجل أمريكا يقول أنها تسعى فقط إلى تحقيق مصالحها.. وحين تكون تلك المصالح ممكنة التحقيق تحت أنظمة دكتاتورية -وهي غالباً كذلك- فإنها تقيم تلك الأنظمة الدكتاتورية، وتحميها، وتسحق تطلعات شعوبها إلى الديموقراطية. أليست أمريكا هي التي تدخلت على نحو مباشر هي وبريطانيا بعملية أجاكس (Operation Ajax) لإسقاط حكومة مصدق الديموقراطية في إيران عام 1953 لتعيد الشاه إلى السلطة من أجل الاستحواذ من خلاله على النفط الإيراني؟ بل أليست هي التي تآمرت على سلفادور الليندي في تشيلي عام 1973 بعد انتخابه انتخاباً حراً لتطيح به بانقلاب عسكري على يدي سيء السمعة الجنرال بينوشيه؟ بل أليست هي التي ظلت تدعم أنظمة النفط في الشرق الأوسط على مدى أكثر من نصف قرن من أجل البترول؟

    (9) ثم دعونا نناقش الأمور في أصولها!! ما هو الأساس الذي تقوم عليه سياسية أمريكا الخارجية؟ إنها إن كانت تقوم على فلسفة، فهي إنما تقوم على مساهمة أمريكا الوحيدة في الفلسفة البشرية-البراجماتية (Pragmatism).. أما إن كانت لا تستند على أي فلسفة، فهي إنما ترمي إلى أمر واحد، هو تحقيق المصالح الأمريكية في إطار التنافس الذي هو سمة ما تسميه بسياسة السوق، التي اعتبرها فوكاياما، أحد ألمع مفكريها المعاصرين، نهاية التاريخ. هل هنالك غير أحد هذين الأساسين لسياسة امريكا الخارجية (إن صحَّ أنهما ليس شيئاً واحداً)؟ اللهم لا!! وبالطبع ليست في البراجماتية ولا سياسة المصالح والسوق أي "يوتوبيا"، ولا إحسان، اللهم إلا الهبات (Benevolence) التي تُقدَّم للمسحوقين من أجل تخفيف الضرر الواقع عليهم من تلك السياسات نفسها، لا من غيرها، على غرار الـقـول السوداني المأثور (يفلق ويداوي)، وأحياناً من أجل ذر الرماد على العيون. هذا بطبيعة الحال لا ينفي أن هناك عدد كبير من المواطنين الغربيين الذين يمنحون أموالهم ووقتهم للضعفاء حول العالم تعبيراً عن تعاطف إنساني صادق عميق، كما هو لا ينفي وجود بذرة الخير حتى في نفوس أصحاب الشركات الكبرى الوالغة في دماء الشعوب. غير أن هؤلاء المتعاطفين الإنسانيين، على كثرتهم، لا يشكلون سياسة أمريكا الخارجية، ولا الداخلية، لأن تلك السياسة تشكلها حتى الآن مراكز صناعة القرار، وهي الشركات الضخمة المشهورة التي لا يهمها عموماً إلا المال والنفوذ، ولا ترحم أحداً، لا داخل أمريكا، ولا خارجها، والمواطن الأمريكي نفسه مكتوٍ منها، يجهد ليله ونهاره ليقابل فواتيره الشهرية. وأمثال هؤلاء المانحين الإنسانيين هم الذين يسيِّرون الآن المسيرات الضخمة في كل أرجاء الولايات المتحدة يعارضون غزو العراق، ليس لأنهم يحبون صدام، ولا العرب، ولا المسلمين، ولا الشرق أوسطيين، ولكن لأنهم ضد الحرب، والتقتيل، والاستحواذ على ثروات الشعوب الأخرى بالاحتيال والقهر وقانون الغابة.

    وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن هناك حركة أمريكية نشطة آخذة في الاتساع ترمي إلى تصحيح الديموقراطية الأمريكية. وهذه الحركة ترى أن الديموقراطية الأمريكية الحالية صورية، ولا ينطبق عليها تعريف الرئيس الأمريكي الأسبق أبراهام لنكولن للديموقراطية بأنها (حكم الشعب، بواسطة الشعب، لمصلحة الشعب). فهي تراها الآن حكم الشعب، بواسطة الشركات الكبرى، لمصلحة أصحاب الشركات الكبرى. هي ترى أن الانتخابات الدورية رغم نزاهتها الإجرائية العالية ليست سوى وسيلة للإتيان بممثلي أصحاب النفوذ الاقتصادي ليديروا البلاد نيابة عنهم لا عن الشعب، وعلى النحو الذي يحقق مصالحهم هم لا مصالح الشعب. وقد قامت هذه الحركة في العيد الوطني للولايات المتحدة الأمريكية في 4 يوليو 2001 بتصميم ورفع علم أمريكي مغاير، استبدلت فيه النجوم الخمسين التي ترمز إلى الولايات بشعارات الشركات الخمسين النافذة التي تدير الولايات المتحدة لمصلحتها، باعتبار أن السياسيين والتنفيذيين في الإدارة الأمريكية ليسوا سوى ممثلين لتلك الشركات. وبالإضافة إلى هذه الحركة، هناك بالطبع الديموقراطيون الاشتراكيون الذين يرون أن الديموقراطية الأمريكية ستظل شكلية في ظل النظام الرأسمالي.

    لعل هذا يكفي في مواجهة دعوى الديموقراطية الزائفة التي تذيعها الإدارة الأمريكية كمبرر لغزو العراق. والحق أن تصرفات الإدارة الأمريكية منذ بدء الغزو تغنينا عن الإفاضة في تأكيد أن ما تقوم به في العراق، بمساعدة الحكومتين البريطانية والاسترالية، هو استعمار مكشوف لا صلة له بالشرعية الدولية. وقد كان الضباط الأمريكيون منطقيين مع أنفسهم حين أنزلوا العلم العراقي من سارية مدينة الفاو العراقية ورفعوا مكانه العلم الأمريكي، قبل أن يتذمر العالم (وربما بريطانيا أيضاً التي لم يُرْفَع علمها بجانب العلم الأمريكي). كما أن منح عدد من الشركات الأمريكية عقوداً تتعلق بتأهيل قطاع النفط العراقي، وبإدارة ميناء أم قصر، وبإطفاء الحرائق يدلل على أن المسألة ليست سوى استعمار مكشوف. وعندي أن زيارة بلير، رئيس وزراء بريطانيا المزمعة هذا الأسبوع لأمريكا إنما للاحتجاج على الإجحاف الذي حاق ببريطانيا في قسمة غنيمة الحرب، رغم أنها فقدت بسببها بشرياً ودبلوماسياً وعسكرياً وأدبياً. فبلير وبوش ليسا عسكريين، ليلتقيا لمناقشة سير العمليات الحربية، كما هو معلن، وإنما هما يلتقيان لقسمة الموارد العراقية بينهما.

    بهذا أفرغ لمواجهة الدعوى الأخرى المتصلة بتجريد العراق من أسلحة الدمار الشامل.

    ذريعة أسلحة الدمار الشامل :
    غير خاف بالطبع أن التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل في العراق قد تعثر طويلاً. وهناك شعور عام لدى المجتمع الدولي بأن النظام العراقي كان يراوغ لوقت طويل، ولكنه في الشهور الأخيرة (بعد أن آلت مهمة التفتيش إلى لجنة انموفيك والوكالة الدولية للطاقة الذرية) أبدى مرونة وتعاوناً. وذلك ما أكدته تقارير رئيس لجنة انموفيك ورئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية المقدمة إلى مجلس الأمن. وقد جاء في هذه التقارير أن التفتيش لم يسفر عن دلائل تناقض إعلان العراق بأنه قد استجاب للقرارات الدولية ذات الصلة. وقد قال المفتشون أنهم بحاجة إلى بضع شهور للتأكيد بأن العراق خال من الأسلحة المحظورة.

    وهذا الموقف الأخير من جانب العراق هو المهم. كما أن دوافع المراوغة والإحجام في الماضي يجب أن تجد التفهم. فالتفتيش عن الأسلحة على هذا النحو هو أمر جديد لم يصبح ممكناً إلا بعد انتهاء الحرب الباردة، وقد كان العراق أول تجربة في هذا الشأن. كما أن العراق ظل يشكو مما يسميه "سياسة الكيل بمكيالين"، مشيراً إلى أن هذا الإجراء لم يشمل إسرائيل التي تمتلك أسلحة أخطر وتقف معه في حالة عداء، وهو يقول أن الدوافع الأساسية للقرار كانت حماية إسرائيل. ومن المعلوم أن العراق كان مرتاباً من تصرفات ريتشارد بتلر رئيس اللجنة الدولية السابقة (UNSCOM)، واتهمه بالعمل لصالح وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية وإسرائيل. وقد قادت تلك التعقيدات إلى استبدال لجنة أونسكوم بلجنة انموفيك في ديسمبر 1999. ولعل السيد روبن كوك، وزير الشئون البرلمانية البريطاني، قد ألمح عند استقالته من منصبه بسبب سياسة حكومة بلير المتعلقة بالعراق إلى أن أمريكا وبريطانيا لا يحق لهما وصف العراق بالتلكؤ في تنفيذ قرار مجلس الأمن القاضي بنزع أسلحته طالما أنهما تدعمان إسرائيل التي لا تزال ممتنعة عن تنفيذ قرار مجلس الأمن رغم 242 الصادر منذ نحو أربعين سنة.

    ثم أننا لابد أن ننتبه إلى أن التكنولوجيا العراقية لتصنيع الأسلحة الكيماوية والبيولوجية هي تكنولوجيا أمريكية وبريطانية، منحت للعراق لضرب الإيرانيين خلال حرب الخليج الأولى. كما لابد أن ننتبه إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية ليست في حالة حرب مع العراق، وليست بينهما عداوة تبرر القول بأن مثل تلك الأسلحة تشكل تهديداً على أمنها القومي.. اللهم إلا إذا كانت أمريكا تعمل لحساب إسرائيل. وهذا ما تنكره في العلن. وقد كان أحرى بالإدارة الأمريكية أن تبذل جهداً حقيقياً بين العرب وإسرائيل لتوصلهم إلى سلام دائم ونهائي وشامل، بدل أن تسعى لتقوية إسرائيل وإضعاف العرب، ومحاولة خداعهم في مثل هذه الظروف بإعلانات فارغة، كإعلانها الأخير عن ما تسميه خريطة الطريق، وكأنها تتعامل مع أطفال صغار. صحيح أن العرب قد دللوا على مدى أكثر من نصف قرن على أنهم خفاف العقول، بإدامتهم الصراع مع إسرائيل في محاولة لرميها في البحر، رغم أن المجتمع الدولي قد التزم بالمحافظة على وجودها وأمنها وسلامتها منذ قبولها مشروع التقسيم عام 1947، ولكن العرب يجلسون على آذانهم، ويحاول زعماؤهم منذ عبد الناصر بناء زعاماتهم بإطلاق صيحات الوعيد الفارغة ضد إسرائيل. كل ذلك صحيح، ولكن واجب الإدارة الأمريكية ليس استغلال ضعفهم، ومحاربتهم نيابة عن إسرائيل، وإنما واجبها هو مساعدتهم ومساعدة إسرائيل على الوصول إلى سلام. فكلهم أبناء عمومة في روح الحرب، مثلما هم أبناء عمومة بالدم، وأبناء عمومة في مفارقة أديانهم تتابعوا في سَنَنِها حذو النعل إلى جحر الضب الخرب. ذلك كان واجب أمريكا إن كانت مؤهلة له، وإن كانت مؤهلة لقيادة القافلة البشرية في هذا الظرف الدقيق.

    مهما يكن، فإن العمل العسكري الذي أقدمت عليه الإدارة الأمريكية وتبعتها فيه الحكومتان البريطانية والأسترالية، هو عدوان، وتعدي على سيادة دولة، وغزو استعماري مكشوف، وخروج سافر عن الشرعية الدولية، وتقويض لدور منظمة الأمم المتحدة. وهو قد أوقف جهود لجنة انموفيك التي كان أعضاؤها يمارسون أعمالهم بالعراق على نحو مقبول لدى مجلس الأمن، وكان رئيسها مزمعاً العودة إلى العراق بعد أن قدَّم تقريراً إيجابيا إلى مجلس الأمن.

    إن أمريكا التي كان من الواجب أن تبقى بمثابة الدولة الكبرى المتمدينة العاقلة التي تدعو الدول الأخرى إلى ضبط النفس، وتمارس من التأثير الإيجابي ما توقف به النزاعات الإقليمية والدولية، قد باتت بهذا الغزو خرقاء، طائشة، تشكل أكبر خطر على سلامة الشعوب وأمنها واستقلالها. وذلك أمر مؤسف، ودعوة بلسان الحال إلى عهد جديد من البلطجة الدولية، شعارها من غلب سلب.

    بهذا أفرغ من الحديث عن بطلان ادعاءات الإدارة الأمريكية والبريطانية بشأن غزوهما العراق، وستكون الحلقة الثانية من هذا المقال عن الموقف الدولي المطلوب، من الحكومات، ومن الأفراد والمنظمات حول العالم.

    يتبع (2)

                  

05-06-2003, 05:11 AM

ولياب
<aولياب
تاريخ التسجيل: 02-14-2002
مجموع المشاركات: 3785

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من كتابات الراحل المقيم الأستاذ طه اسماعيل ابوقرجة (Re: baballa)

    كلام في الصميم

    وجزاك النعيم

    وللأشرار الجحيم
                  

05-06-2003, 08:55 AM

Mandingoo
<aMandingoo
تاريخ التسجيل: 09-28-2002
مجموع المشاركات: 2316

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من كتابات الراحل المقيم الأستاذ طه اسماعيل ابوقرجة (Re: baballa)

    جعلها الله في ميزان حسناته، يرحمه الله
                  

05-06-2003, 03:36 PM

baballa
<ababalla
تاريخ التسجيل: 05-13-2002
مجموع المشاركات: 151

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من كتابات الراحل المقيم الأستاذ طه اسماعيل ابوقرجة (Re: baballa)


    التحدي الذي يواجه العالم !!
    إما المجتمع الكوكبي الإنساني الواحد ، وإما الاستعمار والحرب والدمار

    لابد من إعادة النظر في آلية اتخاذ القرار في مجلس الأمن الدولي
    العالم لم ينتبه بما يكفي لخطر الموجة الاستعمارية الجديدة
    على دول العالم أن تقاطع دول العدوان الثلاث دبلوماسياً وتجارياً حتى تجلو وتعوض العراق

    لقد كان السيد كوفي أنان، السكرتير العام للأمم المتحدة، حصيفاً حينما ردّ بهدوء على اتهام نائب الرئيس العراقي إياه بأنه متواطيء مع أمريكا وبريطانيا في عدوانهما على العراق بقوله: (إن مما يدعو إلى السخرية أن يوصف مواطن مستعمرة سابقة، كشأني، بأنه متواطيء مع الاستعمار).

    لعل وضع السكرتير العام لا يسمح له بأكثر من هذا القول الحصيف للتعبير عن القناعة المشتركة عند كل الناس، بمن فيهم المعتدين أنفسهم الذين يشيعون غيرها، بأن هذه الحرب ليست سوى استعمار. وقد سعيت إلى تبيين ذلك في الجزء الأول من هذا المقال، وحاولت تفنيد كل الذرائع التي ساقتها الإدارة الأمريكية لتبريره.

    ومن هنا فقد وجبت مواجهة هذا العدوان الاستعماري، دون أدنى اعتبار لسوء نظام صدام ودكتاتوريته. فنظام صدام سيئ ما في ذلك أدنى ريب، لكن ينبغي أن يكون واضحاً أن إزاحته هي شأن الشعب العراقي وحده. كما ينبغي أن يكون واضحاً أن دول العدوان هي أخطر من صدام، على الشعب العراقي، وعلى الشعوب المجاورة (بما فيها الشعب الكويتي)، وعلى العالم بأسره. ذلك لأنها لم تقم بالعدوان لاستنقاذ الشعب العراقي كما تحاول تضليل الناس، وإنما لتحقيق مصالحها الخاصة على حساب شعب العراق، وسيادته على أرضه وموارده، وحقه في تقرير مصيره بنفسه. ومن أجل ذلك قلت في الجزء الأول من هذا المقال أن العراق ليس سوى الضحية الأولى. وهناك قائمة طويلة من الدول التي ستروح ضحايا لهذه الموجة الاستعمارية الجديدة، ليس في الشرق الأوسط وحده، وإنما في آسيا، وإفريقيا، وأمريكا الجنوبية. فإذا كان تبرير الغزو هو تحرير الشعب العراقي من نظام دكتاتوري، فإن الدول العربية الخمس عشرة التي تقول أمريكا أنها تؤيد عدوانها على العراق ليست دولاً ديموقراطية، وستكون في ذات القائمة التي تصدَّرها العراق.

    إذا صح أن هذا العدوان هو بداية موجة استعمارية تهدد دول العالم الثالث، فإن دول وشعوب العالم تقف الآن أمام أحد خيارين: إما أن تنهض فوراً لمواجهة هذه الموجة الاستعمارية وكأن هذا العدوان قد ارتكب ضدها.. وإما أن تجلس وتنتظر دورها لتعطي عندئذ دول الاستعمار ما تريد وتظل سيادتها على أرضها ومواردها شكلية، وإما أن تدافع عن نفسها منفردة مثلما يدافع شعب العراق الآن عن نفسه منفرداً أمام هذه القوى الجبارة الباطشة الطائشة.

    إذا اتضح ذلك، فقد اتضح أن مواجهة هذه الموجة الاستعمارية الجديدة هي واجب الناس في كل مكان. وأحب أن أقرر منذ الوهلة الأولى أن المواجهة التي أدعو دول وشعوب العالم إليها ليست هي الحرب والعنف، وإنما هي المواجهة السلمية القوية الفاعلة، التي سأشير إلى ملامحها العامة فيما بعد. وفي تقديري أن هذه المواجهة يجب أن تتم في مستويات خمسة:-
    1- مستوى منظمة الأمم المتحدة.
    2- مستوى المنظمات الإنسانية العالمية والمحلية.
    3- مستوى الدول.
    4- مستوى الشعوب حول العالم.
    5- مستوى الشعوب في دول العدوان (أمريكا، بريطانيا، وأستراليا).

    أولاً : مواجهة العدوان على مستوى الأمم المتحدة :
    من الواضح أن الأمم المتحدة لم تتحرك بالسرعة المطلوبة. كما أنها حين تحركت بانعقاد مجلس الأمن لمناقشة الحرب بعد نحو أسبوع من بدئها، لم تكن في مستوى الفعالية المطلوبة. بل أن مجلس الأمن قد اتجه لمناقشة مسائل ثانوية، رغم أهميتها، كبرنامج النفط مقابل الغذاء. وغير خاف بالطبع أن مجلس الأمن لن يستطيع في هذه الأزمة أن يتخذ قراراً لا ترضاه الإدارة الأمريكية أو البريطانية، لأنهما ستستخدمان حق الفيتو. وقصارى ما يمكن أن يفعله مجلس الأمن هو إصدار قرارات يسيرة تتعلق بمعالجة الأوضاع الإنسانية خلال الحرب.

    لقد أعادت مسألة العراق إلى السطح من جديد مسألة قديمة طالما شلَّت مجلس الأمن أوان الحرب الباردة، وهي مسألة الفيتو. فالفيتو رغم مبرراته الآنية، إلا أنه يشكِّل عيباً كبيراً في آلية اتخاذ القرار في مجلس الأمن، مما يوجب إعادة النظر في كيفية عمله، وتعديل ميثاق الأمم المتحدة على ضوء ذلك. وأقترح أن يتم تعديله آلية اتخاذ القرار في مجلس الأمن لتكون أكثر ديموقراطية، وأكثر عملية، وذلك على النحو التالي:-
    1- إلغاء حق الفيتو الذي تملكه كل دولة من الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن (وهي أمريكا وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين) واستبداله بما يمكن تسميته بديموقراطية الكبار، (أو دعونا نكون أكثر واقعية فنسميها ديموقراطية الأعضاء الدائمين، لأن وصفهم بالكبار لا يليق بهم، خصوصاً في ضوء تصرفات الإدارة الأمريكية والبريطانية الأخيرة). فإذا طُرِح مشروع قرار للتصويت، تؤخذ فيه أولاً أصوات الأعضاء الدائمين، فإذا رفضته أغلبيتهم، سقط. وإذا أجازته أغلبيتهم، أخذت بشأنه أصوات الأعضاء غير الدائمين.. فإذا كانت أغلبية جملة الأصوات مع مشروع القرار، اعتبر مُجازاً من المجلس، ولا عبرة بالصوتين المعترضين من مجموعة الخمسة الدائمين.. أما إن كانت أغلبية جملة الأصوات ضده فيعتبر المشروع قد سقط. وهذا يعني أن يكون الفيتو هو اعتراض أغلبية الأعضاء الدائمين، وليس اعتراض أي واحد منهم.

    2- يحسن أيضاً أن تضاف بعض الدول إلى قائمة الأعضاء الدائمين بمجلس الأمن. وأقترح إضافة ألمانيا واليابان، اللذين أفقدتهما ملابسات الحرب العالمية الثانية هذه العضوية الدائمة. كما أقترح إضافة كندا وجنوب إفريقيا.

    ليس من المتصور بالطبع أن تجرى هذه التعديلات الآن لتأهيل مجلس الأمن للتعامل مع الأزمة الحالية بصورة أكفأ، ولكن لابد منها لتأهيله للتعامل مستقبلاً مع القضايا الدولية بصورة أكثر كفاءة. والحق أن العدوان الحالي على العراق رغم أن مبعثه روح الظلم لدى إمبراطوريات المال الأمريكية إلا أن هشاشة آلية اتخاذ القرار لدى مجلس الأمن قد أعانت عليه.

    ضرورة تصويت مجلس الأمن على مشروع قرار بشأن العدوان :
    إن عجز مجلس الأمن بوضعه الحالي عن معالجة هذه الأزمة يجب أن لا يجره إلى مناقشة مسائل توحي بأن أغلبيته لا ترى بأساً من العدوان الأمريكي البريطاني على العراق. فأول ما يجب على مجلس الأمن فعله، هو العمل على إصدار قرار بعدم مشروعية العدوان، حتى وإن كان من المعلوم أن أمريكا وبريطانيا ستستخدمان الفيتو. فهذا يجب أن يسجل عليهما، للتاريخ. كما أن التصويت على مثل هذا القرار سيؤكد أن أغلبية مجلس الأمن تعتبر تصرفهما عدواناً غير مشروع. ويلاحظ أن الإدارة الأمريكية والبريطانية كانتا تسعيان إلى إجراء مثل هذا التصويت رغم أنهما كانتا تعلمان أن فرنسا وروسياً ستستخدمان حق الفيتو، وذلك حين كانتا تأملان الحصول على أغلبية داخل مجلس الأمن تبرران بها عدوانهما بأن تقولا أن أغلبية المجلس تؤيد عملاً عسكرياً ضد العراق. وقد جهدتا في الرشوة والترغيب والترهيب. ولكنهما حين أدركتا أن الأغلبية ضد مشروع قراراهما، تراجعتا عن فكرة طرحه للتصويت، واتجهتا إلى السلاح. والآن يجب أن يكون العالم أذكى من الإدارتين الأمريكية والبريطانية، فيطرح مشروع القرار، ليحظى بالأغلبية، ولتسقطه الإدارة الأمريكية والبريطانية بالفيتو.

    على مجلس الأمن أن لا يتورط فيما يسمى بإعادة إعمار العراق :
    على مجلس الأمن أن لا يقبل بالإشراف على ما يسمى بإعادة إعمار العراق، في حالة انتهاء العدوان الحالي بإزاحة نظام صدام. وذلك لعدة أسباب، منها:-
    1- إن ثروات العراق وشئون العراق وإعادة إعماره هي اختصاص الشعب العراقي وحده.

    2- إن وضع الدول تحت الوصاية الدولية والانتداب، على نحو ما كان الحال بعد الحرب العالمية الأولى، لم يعد لائقاً، ولا عادلاً. فليس هناك شعب من شعوب الأرض هو في حالة تبرر وضعه تحت الوصاية. فحتى رواندا التي يؤوفها التناحر العرقي الحاد، استطاع أهلها، بقليل من الاهتمام الدولي المتأخر، أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم.

    3- إن إخراج الأمور المتصلة بالعراق من يد الشعب العراقي إلى أي جهة أخرى، حتى ولو كانت مجلس الأمن، هو ثمرة شجرة سامة (Fruit of a poisonous tree)، كما يقولون. فهو ثمرة العدوان الذي عبَّر المجتمع الدولي عن إدانته ورفضه.

    4- إن الإدارة الأمريكية تحاول تبرير عدوانها على العراق بأنه من أجل تحرير العراقيين من صدام وتمكينهم من إدارة بلادهم. وبالتالي، فهي إن استطاعت أن تزيح صدام، فعليها أن تخرج فوراً من العراق، ليباشر العراقيون حكم بلادهم بأنفسهم. وحتى لو أصرت على بقاء جنودها بضعة أشهر لحين إجراء انتخابات، فإن هذه الفترة ليست فترة إعادة إعمار، وإنما قصاراها تأمين الحاجات الضرورية من غذاء ودواء ونحوهما للشعب العراقي. ووفقاً للقانون الدولي، فإن تلك هي مسئولية أمريكا وبريطانيا لأنهما يحتلان الأرض ويجب أن ينهضا باحتياجات السكان الإنسانية، وهما يجب أن يقوما بذلك من مواردهما الخاصة وليس من أموال العراق. كما يجب عليهما أن ينفقا على ذلك من مواردهما إن كانتا صادقتين بأنهما جاءا في مهمة نبيلة لتحرير شعب العراق. أما إن أبتا، فإن ذلك يمكن أن يتم من خلال برنامج النفط مقابل الغذاء، وبالمعونات الدولية إن كانت لها ضرورة، وأي برنامج آخر.. شريطة أن تتابع سلطة عراقية انتقالية هذه الأمور نيابة عن الشعب العراقي ريثما يتم انتخاب سلطة. أما إعادة الإعمار، فأمر يباشره الشعب العراقي فيما بعد، من خلال سلطة منتخبة، وليس من خلال سلطة مؤقتة أو دائمة تنصبها الإدارة الأمريكية أو غيرها. فالسلطة العراقية المنتخبة انتخاباً حراً هي وحدها صاحبة الحق في تحديد مشاريع إعادة الإعمار التي يريدها العراقيون ببلادهم، وكلفتها، وجداولها الزمنية، وكيفية تنفيذها، وما إذا كان العراق بحاجة إلى شركات أجنبية لتنفيذ أي جزء من تلك المشاريع، واختيار تلك الشركات وفق القوانين العراقية، بالصورة التي تحقق مصلحة العراق. ولابد من القول هنا بأن مباشرة الإدارة الأمريكية التعاقد باسم العراق على المشروعات التي تدخل فيما تسميه إعادة إعمار العراق هي في حد ذاتها تهزم الدعاوى الأمريكية بأنها تريد تحرير شعب العراق. ذلك لأن شعب العراق إن كان غير قادر على إدارة أموره بغير صدام، فهذا يعني أن صدام- على سوئه- هو أفضل خياراته.

    5- إن اتجاه بعض الدول الأوروبية، ومنها بكل أسف فرنسا، إلى توريط مجلس الأمن بأن يتولى الإشراف على ما يسمى ببرنامج إعادة إعمار العراق إنما تحركه الرغبة في استغلال مجلس الأمن ليتولى تقسيم ثروات الشعب العراقي على شركات الدول الكبرى بدل أن تتولى الإدارة الأمريكية وحدها قسمة ذلك السلب فتمنحه جله للشركات الأمريكية. هذا الاتجاه المؤسف يكشف عن جانب من تلاعب الدول الكبرى بالمنظمة الدولية واستغلالها لتحقيق أغراضها الخاصة المنافية لنص وروح القانون الدولي وأهداف المنظمة الدولية.. وهو اتجاه تحركه دوافع الطمع ذاتها التي ساقت الإدارة الأمريكية إلى استعمار العراق. ويلاحظ أن التخوف من أمريكا في هذا الشأن قد حمل بريطانيا ذاتها إلى المطالبة بإحالة برنامج إعادة إعمار العراق إلى مجلس الأمن. ولعل الحكومة البريطانية تريد هذه الأيام أن تقنع أمريكا بأن عدم إحالة هذا الأمر إلى مجلس الأمن يعني أنهما سيكونان بمثابة قوى مستعمِرة. ولا ندري ماذا ستفعل الحكومة البريطانية إن أصرت الإدارة الأمريكية على الاستحواذ على موارد العراق عبر ما يسمى بإعادة الإعمار: هل ستنسحب بريطانيا عندئذ من العمليات العسكرية باعتبار أن هذه العمليات تجرى لاستعمار العراق؟ أم ستواصل الحرب وترضي بالفتات الذي قد تلقي به الإدارة الأمريكية تحت أقدامها؟

    6- إن وضع برنامج إعادة إعمار العراق تحت يد مجلس الأمن لن يعني غير إضفاء الشرعية الدولية على عمل سيء، وهو تكالب أمريكا وبعض الدول المتقدمة الأخرى، التي اشتركت في الحرب والتي لم تشترك، على موارد العراق، وتحديد احتياجات العراق على النحو الذي يروق لهم، بالكلفة التي تروق لهم، وبالشروط التي تحقق مصالحهم. هو يعني أن تستأثر الدول الغنية بموارد العراق دون أن تتحمل هي المسئولية، التي ستكون نصيب مجلس الأمن. إن على مجلس الأمن أن يحذر من أن يستغل لتحقيق هذا الغرض الدنيء. فإن من أسوأ فعائل البشر، استغلال الوسائل المشروعة لتحقيق الأهداف غير المشروعة.

    إن البديل عن وضع برنامج إعادة الإعمار في يد مجلس الأمن هو أن يكون في يد الشعب العراقي بالطبع، متى ما تأهل الشعب العراقي لذلك باختيار حكومة وطنية بإرادته الحرة. أما إن أرادت الإدارة الأمريكية أن تغتصب حق الشعب العراقي وتضع هذا البرنامج في يدها، فعلى مجلس الأمن أن يبين لها خطأ ذلك وأن يحاول ردها عن ذلك، لا أن يحاول ارتكاب الخطأ بدلاً عنها، أو منازعتها السلطة على أمر لا يملكه أيهما، فيعطيها بذلك الحجج والمبررات.

    باختصار، إذا أرادت أمريكا أن تحوز على موارد العراق وتتصرف فيها وتدير العراق بدلاً عن شعبه تحت ما تسميه بإعادة الإعمار، فلتفعل. فإن حقوق العراقيين إن ضاعت لبعض الوقت، فلن تضيع أبدا. ذلك لأن الوقت ليس ببعيد الذي يمكن أن يقاضي فيه العراق أمريكا وغيرها من الدول المعتدية ويسترد حقوقه كاملة.. بيد أن مجلس الأمن قد يضعف موقف العراق يومئذ إن اتخذ الآن موقفاً خاطئاً من هذه القضية. ويحسن القول أيضاً أن منظمة الأمم المتحدة إن كانت لا تُقاضَى الآن على أخطائها، فسيجيء قريباً إن شاء الله اليوم الذي تُقاضَى فيه على أخطائها من جانب الأشخاص الدوليين مثلما تقاضى الحكومات الوطنية اليوم من جانب الأفراد. هذا أمر قد يبدو لبعض الناس كضرب من الحلم، ولكن عليهم أن ينظروا قليلاً أبعد من أنوفهم.

    ما يجب أن يكون واضحاً في هذا الصدد أنه ليس هناك أي مبرر لأمريكا لأن تغتصب حق الشعب العراقي وتتعاقد بدلاً عنه على ما تسميه إعادة إعمار العراق. الأمور الوحيدة التي يتحتم على أمريكا فعلها هي معالجة المشاكل العاجلة الناجمة عن حالة الحرب والاحتلال، كإطفاء الحرائق في آبار النفط، لما تسببه من أضرار اقتصادية وبيئية وصحية، ومواجهة الاحتياجات الإنسانية. وحتى هذه، عليها أن تقوم بها من مصادرها المالية الخاصة كما قلت، لا من موارد الشعب العراقي التي ليس لها حق التصرف فيها. كما لا أرى لمنظمة الأمم المتحدة فرصة للمشاركة في شيء من شئون العراق إلا المشاركة في أي إشراف دولي يرتضيه العراقيون على أي انتخابات أو استفتاء في العراق إذا انتهى نظام صدام.

    ثانياً : المواجهة على مستوى المنظمات الإنسانية العالمية والمحلية :
    إن للمنظمات الإنسانية العالمية والمحلية دوراً عظيماً حول العالم في رعاية الحقوق الأساسية للأفراد والشعوب. وهي لديها وزنها الأدبي وأساليبها في العمل. وهي تعرف دورها وقد بدأت تنهض به، واشعر بأنها ستعمل عملاً جيداً في الدفاع عن حقوق الإنسان العراقي، كحق الاستقلال وحق تقرير المصير وغيرها من الحقوق الجماعية والفردية التي انتهكت بهذا العدوان. وأعتقد أن هذه المنظمات يمكنها أن تحرك الضمير العالمي لاستنكار ورفع ما وقع من انتهاك لحقوق العراقيين بالعدوان الأجنبي المدمر. هذا بالطبع بالإضافة إلى أي مسائل أخرى تدخل في نطاق اهتمامها، كضرب العراق بالذخائر المحتوية على اليورانيوم المنضب التي ربما تسببت حتى الآن في نشر آلاف الأطنان من اليورانيوم المنضب في أراضي وأنهار العراق، تتسبب في السرطان وتلويث البيئة وتشويه الأجنة على مدى مليارات السنين. ويلاحظ أن منظمات حقوق الإنسان في العالم الثالث لم تتحرك حتى الآن بالفعالية التي تحركت بها المنظمات الدولية والمحلية الغربية.

    ثالثاً : مواجهة العدوان على مستوى الدول :
    يلاحظ أن أكثر دول العالم قد أوفت بالتزامها بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة وتعاونت على إخراج العراق من الكويت عام 1991. وهي قد تنادت يومئذ لأن العراق بلد ضعيف، ولكنها الآن تحجم لأن أمريكا قوية. وذلك أمر مؤسف بطبيعة الحال. ورغم ذلك، فإني لا أدعو الدول الرافضة للعدوان إلى مجاراة الإدارة الأمريكية في تهورها وإعلان الحرب عليها بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة على نحو ما جرى على العراق عند احتلاله الكويت. فعندي أن طريق العنف طريق مقفول، وهو لا يحل مشكلة، وإنما هو يفاقمها. وقد رأينا أن أطراف الحروب، الدولية والأهلية، يلجأون عادة بعد فشل الحرب إلى مائدة المفاوضات. وهذا يعني أن الذكاء البشري لو تقدم قليلاً، للجأ الناس إلى التفاوض والوسائل السلمية منذ الوهلة الأولى، بدون حرب. ومن أجل ذلك فإن مواجهة أمريكا وتابعتيها يجب أن تتخذ الوسائل السلمية منذ البداية، وحتى جلائهم عن العراق وتعويضهم العراقيين عن أي أضرار أحدثها عدوانهم.

    إن الدول تدرك أن المواجهة المطلوبة ليست هي الشجب والإدانة والاستنكار، وإنما هي المواقف العملية المؤثرة التي تضغط على الإدارة الأمريكية والبريطانية لتردهما عن عدوانهما ومشاريعهما الاستعمارية. والدول تدرك أن المواجهة المثلى هي المواجهة الدبلوماسية والاقتصادية والإعلامية، إلا أن بعضها يخشى قوة أمريكا الاقتصادية وعقوباتها، لا سيما أن بعض الدول تعتمد على القمح الأمريكي والمعونة الأمريكية الاقتصادية. هذا في حين أن البداهة تقرر بأن الشعوب لن تموت جوعاً بسبب إيقاف القمح الأمريكي أو غير ذلك من أشكال "المعونة" الأمريكية عنها. فقد ظلت الشعوب تأكل وتعيش من قبل أن تدخل أمريكا في خريطة العالم المعروف، ومن قبل أن يزرع القمح في أمريكا.. وهي ستظل تعيش بدون القمح الأمريكي، وبدون أي شكل من أشكال المعونة الأمريكية.

    ومهما يكن، فإن الموقف المبدئي هو الذي يجب وقوفه، بصف النظر عن النتائج. والموقف المبدئي هو رفض انتهاك سيادة الدول، ورفض العدوان والاستعمار، والحرص على الشرعية الدولية، ومواجهة من يخرج عنها بالحكمة والحزم اللازمين. ويحسن أن أقول هنا أن أمريكا قد تستطيع أن تنهك دولة واحدة أو دولاً قليلة بحصار اقتصادي ودبلوماسي، ولكنها لا تقوى على مواجهة دول كثيرة. ودوننا تجربة الدول الإفريقية الضعيفة في كسر الحصار الجائر الذي فرضته أمريكا على ليبيا خارج إطار الشرعية الدولية. ماذا استطاعت أمريكا أن تفعل بالدول الإفريقية؟ إن أمريكا تستطيع أن تعادي دولاً قليلة، ولكنها لا تستطيع أن تعادي العالم. ومن هنا تنبع ضرورة اتخاذ مواقف جماعية من الدول، لا مواقف انفرادية من الدول. وهذا يعني أن تتخذ الدول مواقف متفق عليها في إطار المنظمات الإقليمية وروابط الدول.

    إن خوف دول العالم، وهي متفرقة، من الإدارة الأمريكية قد أغرى تلك الإدارة بها، فراحت تطلب منها طرد الدبلوماسيين العراقيين من أراضيها. مع أن التصرف المنطقي هو طرد الدبلوماسيين الأمريكيين والبريطانيين والاستراليين من أراضي تلك الدول، لأن تلك الدول الثلاث ارتكبت عدواناً على العراق، وانتهكت سيادته، وخالفت ميثاق الأمم المتحدة.

    أين نصرة المستضعفين ؟
    لما رجع جعفر بن أبي طالب من الحبشة التي قضى فيها نحو خمس عشرة سنة مهاجراً، سأله النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أعجب شيء رأيته)؟ فأفصح عن عمق نادر، وأسفر عن قامة شماء، بأن حكى مشهداً يسيراً قصيراً، ولكنه عظيم الدلالة.. قال: (رأيت امرأة على رأسها مكتل–سلة- طعام، فمرَّ فارس فأذراه-أي دفعه عن رأسها- فقعدت تجمع طعامها ثم التفتت إليه فقالت له: "ويل لك يوم يضع الملك كرسيه فيأخذ للمظلوم من الظالم؟")، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كيف تقدس أمة لا يأخذ ضعيفها حقه من شديدها)!!

    فالأمم إنما تقدَّس بنصرة المظلومين، وكذلك الأفراد. ومن أجل ذلك، فإن البلطجة الرسمية التي تمارسها الإدارة الأمريكية والبريطانية ضد شعب مستضعف، يجب أن تجد المواجهة من دول العالم كله، ومن المنظمات، والأفراد، بالوسائل السلمية. وهي مواجهة يجب أن تبدأ منذ الآن، وتستمر حتى لو أسقط العدوان نظام صدام وأخذ المعتدون ينهبون الثروات، مباشرة أو تحت غطاء الشرعية الدولية. ولابد أن تتدارس الدول، وخصوصاً دول العالم الثالث (أو ما يسمى حالياً بدول الجنوب)، الخطوات المناسبة التي يجب أن تتخذها للضغط على الحكومات الثلاث المعتدية لتحترم المجتمع الدولي والقانون الدولي.

    وأعتقد أن هذه الخطوات يمكن أن تبدأ بتخفيض التمثيل الدبلوماسي لدول العدوان الثلاث، بطرد بعض دبلوماسييها، وذلك كمقدمة لطرد جميع دبلوماسييها وإغلاق سفاراتها. ويمكن التلميح منذ الوهلة الأولى بأن هذه الخطوات يمكن أن تمتد إلى المقاطعة الدبلوماسية الشاملة. هذه الخطوات يجب أن تتم بصورة جماعية في إطار المنظمات الإقليمية والروابط الدولية، كمنظمات الوحدة الإفريقية، والرابطة الآسيوية، ودول عدم الانحياز، وغيرها. ويمكن في وقت لاحق طرح فكرة نقل مقر الأمم المتحدة من أمريكا بسبب خروجها السافر على الشرعية الدولية. وأعتقد أن أمريكا لا تستطيع أن ترد على ذلك بطرد ممثلي تلك الدول لدى منظمة الأمم المتحدة بنيويورك، وإلا تكون بذلك قد خرقت التزامها كدولة مقر ودخلت في أزمة مع المنظمة الدولية. غير أن هذا أمر يجب أن يدرس بعناية.

    أما المقاطعة التجارية، فتشمل تعليق أي مفاوضات تجارية أو اقتصادية مع دول العدوان على نحو تفهم منه تلك الدول دواعي التعليق في غير لبس، مثلما فعلت المغرب قبل أيام قلائل مع أمريكا. بالإضافة إلى ذلك، يجب حظر استيراد السلع والخدمات من دول العدوان وكذلك سلع وخدمات الدول القليلة الأخرى المؤيدة للعدوان.. وإذا استحال الحظر لأي سبب، يجب وضع أي قيود على تلك السلع والخدمات، حيث أمكن ذلك. وحيث تقف عوائق قانونية أمام الحظر أو القيد التجاري، تنهض المقاومة الشعبية لمقاطعة تلك السلع والخدمات رغم توفرها في الأسواق. وسيرد الحديث عن ذلك لاحقاً. ولابد أن يتدارس الاقتصاديون شكل الإجراءات الاقتصادية الفعالة لإرجاع دول العدوان إلى الشرعية الدولية. ويمكن أن يتدارسوا في هذا الصدد كيفية التعامل في تجارة النفط وغيره من السلع الاستراتيجية، واستخدام عملات في التجارة الخارجية غير الدولار الأمريكي، كاليورو مثلاً، وسحب الأرصدة من المصارف الأمريكية، وتسييل الاستثمارات وتحويلها إلى أسواق أخرى مؤقتاً، رغم ما يؤدي إليه ذلك من انخفاض في أرباح المستثمرين بسبب ضعف الاقتصاديات الأخرى التي تتجه إليها تلك الأموال قياساً بالاقتصاد الأمريكي.



    فرنسا وألمانيا وغيرهما مطالبون بالانحياز للشرعية والمبدئية وليس لمصالحهم :
    لقد برزت فرنسا أثناء المجابهة الدبلوماسية التي سبقت العدوان كنصير للشرعية والشعوب. ورغم أن هذا موقف يليق بفرنسا، صاحبة الثورة الشعبية المجيدة التي ترسخ بها النظام الجمهوري في الأرض، إلا أن موقف فرنسا ربما أملته أساساً الرغبة في حماية مصالحها في العراق وبعض الدول العربية الأخرى، ومعرفتها بأنها لن تجني شيئاً إن هي أيدت أمريكا، لأن أمريكا تأكل وحدها. ذلك لأن فرنسا لا تولي اهتماماً لإنصاف الشعوب الفقيرة الضعيفة، وهي أرسخ قدماً في الاستعمار من أمريكا، ولا تتورع عن استغلال الشعوب.. وهي حتى الآن تنهب ثروات الشعوب في دول عديدة، وبخاصة في إفريقيا، كتشاد، والكونغو وكثير من دول غرب إفريقيا.. بل إن الحكومة السودانية الجاهلة الحالية قد مكنتها من نهب ذهب البحر الأحمر. وقد أفادتنا الصحف قبل حين أنها أعطتها امتيازاً على الذهب في شمال السودان من شندي حتى حلفا، وهي مساحة ربما فاقت مساحة فرنسا. ومثل هذه المواقف الفرنسية التي تتظاهر فيها بالدفاع عن حقوق الشعوب الضعيفة هي مواقف قديمة، منذ عهد ديجول. وهي تهدف أساساً إلى كسب تعاطف شعوب الجنوب كوسيلة لحفظ المصالح الفرنسية.

    والحق أن فرنسا بموقفها الدبلوماسي الرافض للحرب على العراق قد كشفت عن ذكاء أكبر من الحكومة البريطانية التي تدفع الآن ثمن المشاركة في الحرب مثلما تدفع أمريكا، ولكنها وفق التخطيط الأمريكي لن تنال منها مغانم مثلما قد تنال أمريكا. ففرنسا قد كسبت تعاطف دول كثيرة، عربية وغير عربية، بموقفها الدبلوماسي السابق. وهي قد حققت مصالح مادية بسبب ذلك. فهي على سبيل المثال حصلت على النفط من الجزائر بسعر تفضيلي. ولكن يبدو أنها تريد الآن أن تحصل على شيء من أمريكا أيضاً بموقف دبلوماسي مغاير، ولكنه مغلف. فهي الآن تساوم أمريكا. وقد تناقلت وكالات الأنباء مؤخراً أن أمريكا منحت إحدى الشركات الفرنسية عقداً في العراق. ويلاحظ أننا لم نسمع حتى الآن عن عقد لشركة بريطانية. بيد أن زيارة بلير قد تكون لها نتائج في هذا الشأن.

    وليس بمستبعد عندي أن تساوم فرنسا أمريكا على أن لا تمس أمريكا بمصالحها ولا عقودها النفطية في العراق، شريطة أن تتولى فرنسا تضليل أي مساع دبلوماسية دولية تهدف إلى ضغط أمريكا للرجوع عن عدوانها على العراق.. هذا إن لم يكن مثل هذا الاتفاق قد تم بالفعل. ويلاحظ أن فرنسا صرحت بأنها لا تؤيد احتلالاً عسكريا أمريكياً للعراق يدوم سنوات!! وهذا يعني أنها تؤيده لبعض الوقت. (أنظر صحيفة الشرق الوسط بتاريخ31/3/2003). إن فرنسا يجب أن تكون مبدئية ولا تتلاعب بعقول الشعوب كما تفعل الحكومتان الأمريكية والبريطانية. وفي تقديري، أن روسيا نفسها تكثر هذين اليومين من التصريحات المعارضة للحرب من أجل أن تضغط على أمريكا فتصل معها لصيغة تحمي بها مصالحها في العراق مثل فرنسا. فروسيا لا تختلف عن أمريكا، بل الحق أن الاتحاد السوفيتي نفسه كان دولة استعمارية.. كل ما هنالك أن جدوله الزمني الاستعماري كان، بصورة عامة، مؤجلاً وليس معجلاً كجدول الغرب، كما أن دبلوماسيته كانت تختلف.

    من أجل ذلك، فإن دول العالم الثالث يجب أن تحذر من المناورات الدبلوماسية الأمريكية التي قد تنفذها عن طريق دولة كفرنسا، هي صديقة لأمريكا، وذات طمع مثلها، ولكنها تتلون من أجل تحقيق مصالحها، فتضلل شعوب وحكومات العالم الثالث. هذا يعني أن دول العالم الثالث يجب أن لا تسلم زمامها إلى دول كهذه، بل يجب أن تجدد الثقة بنفسها، فتحدد خطوات المواجهة الدبلوماسية والاقتصادية التي تراها مناسبة، وتنفذها. وهي يجب أن تحاول التنسيق مع فرنسا وألمانيا وغيرهما من الدول الأوربية وغير الأوروبية التي لا تساند العدوان، بيد أنها يجب أن تكون على جانب الحذر، وأن تمضي في سبيلها دون تأخير.

    إن على دول الجنوب أن تعي بمخاطر الحرب الاستعمارية الحالية، وأن لا تنطلي عليها أحابيل الدول الغنية التي تجهد في إدامة تفوقها ولا تعرف إلى ذلك سبيلاً غير نهب ثروات الشعوب بالعدوان، والخداع، والدبلوماسية، والمعاهدات الدولية الجائرة التي تقبلها حكومات دول الجنوب دون تفكير، ولمجرد أنها آتية من دول الشمال المتحضر. والحق أن أكثر الدبلوماسيين والقانونيين والسياسيين من دول الجنوب لا يفعلون أكثر مما تطلبه منهم دول الشمال. بل هم يقيسون قاماتهم بمستوى إرضائهم لدول الشمال وترديد ما تقول وفعل ما تطلب.

    هل أدعو بهذا إلى كراهية بين الشمال والجنوب؟ لا، ولكني أدعو إلى مواجهة سلمية قوية ومتحدة وفعالة لتوقف سياسة الأطماع الاستعمارية التي ستدخل شعوب الأرض قاطبة في حقبة جديدة من الكره والحروب والدمار. كما أدعو إلى يقظة دول الجنوب من حبائل دوائر صناعة القرار في دول الشمال. كما أدعو شعوب الشمال نفسها إلى تطوير ديموقراطياتها ليكون الحكم فيها لمصلحة شعوب الشمال لا لمصلحة دوائر النفوذ، وإلى أن تجبر حكوماتها على ترك شعوب الجنوب ودول الجنوب في حالها إن لم تكن تريد أن تتعاون معها بما لا ينتهك كرامتها ولا سيادتها على أراضيها. كما أنبه إلى أن الكراهية في حقيقة الأمر قد دعت إليها الإدارة الأمريكية والبريطانية بأبلغ لسان حين اعتدتا على العراق على هذا النحو البربري المدمر، فألقتا بذلك على عواتقنا عبء أن نعلو على الكراهية، وأن نعرف أن العدوان ليس سوى مظهر عملي لبؤس الفكر السياسي الغربي الذي آن له أن يخلي الساحة لمذهبية قادرة على إحلال السلام في الأرض. وسيجيء الحديث عن ذلك.

    رابعاً : المواجهة على مستوى شعوب العالم :
    أما شعوب العالم الرافضة للعدوان، وخصوصاً شعوب العالم الثالث، فيجب أن تدرك جيداً أن العراق ليس سوى الضحية الأولى، كما يجب أن تعين حكوماتها على اتخاذ خطوات المواجهة الدبلوماسية والتجارية والإعلامية، وأن تضغطها لاتخاذ تلك الخطوات بوسائل المقاومة السلمية إن هي تقاعست. وهناك حركة احتجاج على العدوان في دول كثيرة، ولكن تلاحظ فيها عيوب كثيرة، منها:-
    1- الاحتجاج يكاد ينحصر في المسيرات. وحتى إن كانت هناك وسائل تعبير أخرى فهي ضعيفة. وحتى المسيرات تكاد تنحصر في عواصم الدول، أو أن تغطيتها إعلامياً تنحصر في العواصم.
    2- الاحتجاج يميل إلى الإسفاف والإهانة. فعلى سبيل المثال خرجت مظاهرة في بنقلاديش تصور الرئيس بوش في صورة كلب. وهذا خطأ مبدئي، وخطأ تكتيكي. أما مبدئياً فلأن خلافنا مع الرئيس بوش يجب أن لا يسوقنا للحط من بشريته. وأما تكتيكياً فلأن المواطنين الأمريكيين الذين يعبرون عن رفضهم العدوان الذي ارتكبته حكومتهم بأقوى مما عبر أي شعب آخر حتى الآن، يجب أن لا نهين رئيسهم الذي انتخبوه يوماً، لأن في هذا إهانة لهم. وحتى إن فعل بعضهم فعلاً مماثلاً، فيجب أن نترك ذلك لهم.
    3- الاحتجاج يميل إلى العنف، بتخريب الممتلكات، ومحاولة حصب سفارات دول العدوان بالحجارة أو غيرها، وكذلك حصب رجال الأمن الذين ينهضون لحماية هذه السفارات. وقد سبق أن قلت أن العنف كله خطأ، وهو لا يفعل غير أن يفاقم من المشكلات ويباعد بيننا وبين حلها. ونحن لن نصلح خطأ الإدارة الأمريكية والبريطانية، المتمثل في اعتمادهما على العنف، بتكراره. إن علينا أن نظهر رفضنا للعدوان، وأن نبرز الأسس القوية التي يقوم عليها هذا الرفض، وأن نظهر إجماعنا على الرفض، لكن بوسائل سلمية. هذا فضلاً عن أن التخريب يعود بالضرر على الشعب، وهو مجموع المتظاهرين أنفسهم. وهناك أمر هام، هو أن الدول ملزمة بموجب القانون الدولي بأن تحمي السفارات على أراضيها.. وبالتالي فإن محاولة اقتحام السفارات أو ضربها بالحجارة أو غيرها هو عمل يهدد التزام الدولة، ويضع المحتجين في مجابهة مع السلطة الوطنية، في حين أن الخطة يجب أن تكون خلق تقارب بين الشعوب وحكوماتها لخدمة قضية المرحلة.
    4- ليس هناك مساحة للمثقفين، وبالأخص في وسائل الإعلام العربية، لكشف دعاوى دول العدوان. فقصارى وسائل الإعلام الآن متابعة أخبار الحرب. ومن أجل ذلك جاء الاحتجاج الشعبي خال من المضامين. فعلى سبيل المثال رأيت على شاشة التليفزيون مظاهرة في فلسطين تهتف بعبارات: (بالروح بالدم نفديك يا صدام)!! وهذا هتاف قد يقعد الناس عن مواجهة الاستعمار، بل هو قد يقعد الشعب العراقي نفسه. فصدام يجب أن لا يكون هو سبب المواجهة، ولا سبب ترك المواجهة.
    5- إن المسيرات تبدو بلا هدف. وكما قلت آنفاً، فهي يجب أن تتجه، بصورة سلمية، لأن تضغط على الحكومات لتتخذ خطوات الضغط الدبلوماسي والتجاري والإعلامي المقترح أن تتخذه مجاميع الدول. والمظاهرات التي تخرج الآن في العواصم العربية للهتاف لا تخدم هذا الغرض. ومن المحزن أن القوى السياسية في العالم العربي قد أدخلت على الشعوب أسوأ نمط من أنماط التظاهر، وهو نمط الهتاف والتخريب الذي يمتص الشحنة العاطفية، فيشعر المتظاهر بعد يوم أو كثر من ممارسته بأنه قد أنجز مهمته. وعن عقم أسلوب التظاهر العربي، أورد قولاً ينسب إلى السيدة قولد مائير، رئيسة وزراء دولة إسرائيل السابقة. فيحكى أن الوزراء الإسرائيليين عبروا عن تخوفهم من انفجار الغضب العربي ضد إسرائيل عند حريق المسجد الأقصى عام 1968، فقالت لهم أنها تعرف العرب جيداً، سيخرجون إلى الشوارع بضعة أيام يهتفون ثم تنتهي المسألة. ولذا وجب أن يخرج الناس في مسيرات سلمية هادئة ذات هدف واضح، ويمارسوا صور المقاومة السلمية حتى يتحقق هذا الهدف. ويمكن أن يتفاكر الناس فيما بينهم حول هذه الوسائل مثلما يتفاكر الآن مناهضو الحرب في أمريكا وغيرها. ومن بين هذه الوسائل إقامة السلاسل البشرية لسد الطرقات، مثلما يفعل الغربيون الآن، على أن تكون الرسالة الموجهة للحكومات هي إغلاق سفارات دول العدوان الثلاث، وكأننا نقول لحكوماتنا: "إن الحياة تتوقف ما لم يغادر هؤلاء". ولابد أيضاً من مقاطعة منتجات وخدمات دول العدوان الثلاث، حتى تؤوب حكوماتها الشرعية الدولية. وتشمل المقاطعة عدم التعامل مع مصارف دول العدوان، حيث كان ذلك ممكناً.

    إنَّ رفضنا للعدوان يجب أن لا يسوقنا إلى التحرش بمواطني دول العدوان الثلاث أو مواطني أي دولة مؤيدة للعدوان. وذلك لأسباب شتى، منها أننا يجب أن نكون ضد العنف من حيث المبدأ. ومنها أنه ليس من المروءة في شيء أن نتحرش بمواطنين قليلين أمنونا وعاشوا بيننا. ومنها أنهم ربما كانوا مثلنا ضد العدوان، بل ربما من أجل ذلك بقوا بيننا تعبيراً عن تضامنهم. وقد سررت أن كثيراً من الأمريكيين والبريطانيين والأوروبيين بقوا ببعض الدول العربية خلال هذه الأيام الصعبة إيماناً منهم بأن شعوب تلك الدول على درجة من الوعي تتفهم بها ما يدور.

    إن مناصرتنا الشعب العراقي يجب أن لا تقوم بسبب روابط العنصر أو العقيدة، وإنما لأنه شعب بريء مستضعف وقع عليه ظلم وعدوان غير مشروع، وهي مناصرة يجب أن يجدها منا كل شعب يقع عليه عدوان. فقد أنى للبشر أن يخرجوا من خنادق العنصر والعقيدة واللسان وغيرها مما يفرِّق بينهم، فيصلوا بعضهم بوشائج الإنسانية التي تجمعهم كلهم، على اختلاف ألوانهم، وألسنتهم، وأقاليمهم، وعقائدهم، وحظوظهم من التعليم والتمدين.

    إن المجتمعات الغربية التي خرجت لمعارضة حكوماتها قد دللت على أنها قطعت شوطاً طيباً في تجاوز هذه الأسس القاصرة للعلاقات بين البشر. والحق أنها قد دللت على ذلك منذ وقت مضى. وسأعرض لذلك لاحقاً، لكن أحب أن تتجه شعوب العالم الثالث ذات الاتجاه الذي يضع كل شعوب الأرض في خط واحد هو خط السلام فيما بينها ومواجهة حكوماتها التي تهدد السلام العالمي أو تنتهك حقوق الأفراد والجماعات والشعوب، سواء أكان داخل أوطانها أو خارجها.

    خامساً : المواجهة على مستوى المواطنين في دول العدوان :
    أما المواجهة من مواطني الدول المعتدية فقد بدأت مبكرة، وهي لا تزال مستمرة، وتجدد في أساليبها. وأريد أن أقول ما يلي في هذا الشأن:-
    1- إن المعترضين على الحرب في دول العدوان الثلاث يجب أن يوضحوا لمواطنيهم أن الشعوب الثلاثة مسئولة عن الحرب ما لم ترفضها أغلبية كل شعب منها وتقوم بالخطوات الدستورية والقانونية اللازمة لإقالة الحكومة التي شنتها. وعلى المعترضين أن يسعوا لتحقيق هذه الأغلبية، ويكون ذلك هدفاً معلناً لهم. وعليهم تشجيع النواب البرلمانيين ليتحملوا مسئولياتهم.
    2- إن مواطني دول العدوان يجب أن يعرفوا أن العدوان قد أقنع شعوب العالم الثالث بأن بعض الدول الغربية الكبرى قد افتتحت حقبة جديدة من حقب الاستعمار البغيض. وسيكون لذلك أسوأ الأثر على علاقات الشعوب وعلى السلام الدولي.
    3- إن هذا العدوان هو عمل إرهابي لا يختلف عن العمل الذي قامت به منظمة القاعدة حين هدمت برج التجارة الدولي بنيويورك في سبتمبر 2001، بل هو أسوأ منه لأن ذلك قامت به منظمة إرهابية في حين أن هذا تقوم به دولة تزعم التمدين والبعد عن الهمجية. ولذلك فإن هذا العدوان أفقد الغرب التعاطف الذي كان يجده في حربه على الإرهاب. بل هو قد أفقد الغرب حق الحديث عن الإرهاب.
    4- إن هذا العدوان قد غرس بذرة كراهية جديدة بين العراقيين بشكل خاص وبين أمريكا وبريطانيا عمرها أربعة مليارات سنة هي عمر آثار اليورانيوم المنضب والبلوتونيوم الذي تشتمل عليه الصواريخ والذخائر المستخدمة والذي سيظل يقتل العراقيين بالسرطان وغيره ويشوه أجنتهم إلى أن يأذن الله برفع ذلك عنهم. وعلى شعوب دول العدوان أن تضغط حكوماتها لوقف هذا العدوان فوراً وإرجاع هذه النفايات النووية فوراً إلى أمريكا للتخلص منها هنالك على النحو المناسب.
    5- إن هذا العدوان سيعوق جهود تحقيق الديموقراطية في العالم الثالث. فمنذ الآن ارتفعت بعض الأصوات قائلة إن الديموقراطية التي تستعمر بها الشعوب لا نريدها. وهذا يعني أن دعاة الديموقراطية في العالم الثالث سيحتاجون وقتاً وجهداً لمعالجة الضربة القوية لمساعيهم التي تسبب فيها هذا العدوان الذي تقوده دول تصنف كدول ديموقراطية، مستغلة فيه اسم الديموقراطية.
    6- إن التنفيذيين الأمريكيين والبريطانيين وعلى رأسهم الرئيسين بوش وبلير ومساعديهم قد مارسوا كذباً مفضوحاً وقبيحاً، فنالوا بذلك من صورة المواطن الغربي في أذهان شعوب الجنوب والشرق.
    7- إن كثيراً من مواطني العالم الثالث يقدِّرون الساسة الغربيين، أمثال روبن كوك، والمواطنين الغربيين البسطاء الذين قدموا إلى العراق ليشكلوا دروعاً بشرية، لأنهم مبدئيون، انحازوا إلى ضمائرهم، وضحُوا في سبيل ذلك بمناصبهم، ووضعوا حياتهم في أكفهم. إن أمثال هؤلاء هم المنتظرون لخلق عالم جديد تسكنه بشرية واحدة تخلت عن أطماعها واستعلائها وأحقادها. وأعتقد أن المواطن الغربي يجب أن يحرص على أن يتولى شئون الحكم عنده مثل هؤلاء المخلصين، ويبعد الأفاكين الأشرار عن مواقع القرار.
    8- إن مراقبة الحكام والاحتجاج على سياساتهم ومحاسبتهم يعد من أهم مقومات الحكم الديموقراطي، ووسيلة ضرورية لتصحيح أخطاء الساسة. بيد أنه يجب أن لا يكون عملاً موسمياً، بل عملاً دائماً ودؤوباً. وهو لن يكون كذلك إلا إذا انصرف إلى محاولة علاج العلة الأساسية، ولم يغفل عنها لينشغل بالأعراض. فمثل هذا الغزو هو مجرد عرض لمرض الفكر السياسي الغربي. وهناك أخطاء كثيرة، بعضها يجد الاحتجاج، وبعضها لا يجد. وسأتحدث في الجزء الثالث من هذا المقال عن علة الفكر السياسي الغربي، التي لابد من علاجها لإحلال السلام في الأرض. لكن يكفي هنا القول بأن المواطنين في الغرب عليهم أن ينشطوا في علاج الديموقراطية الغربية. وعلة الديموقراطية الغربية هي أن نسبة قليلة من المواطنين تستأثر بالثروة، وهي بسبب ذلك تستأثر بالسلطة، وتستغلها لتحقيق مصالحها هي، لا لتحقيق مصالح الشعب. ففي أمريكا، مثلاً، تفيد الإحصائيات أن 1% من الشعب الأمريكي يستأثرون بحوالي 70% من الثروة. هؤلاء هم الذين يحكمون أمريكا، ويصنعون القرار، ويأتون بالساسة من الحزبين الديموقراطي والجمهوري ليفوز من يفوز منهم في الانتخابات، ليباشر السلطة نيابة عن هؤلاء الأثرياء، لا نيابة عن الشعب الذي أدلى بأصواته في الانتخابات. وكل حزب من هذين الحزبين يخاف على مصيره أن لم يستجب لرغبات هؤلاء الأثرياء، كما أن كل سياسي يترشح للرئاسة أو البرلمان يخاف على مستقبله السياسي إن لم يحقق رغباتهم. وقد جعل هذا الأمر من الديموقراطية الأمريكية هيكلاً كبيراً بلا روح. ومن أخطر الوسائل التي تحتكرها هذه القلة وسائل الإعلام، وهي تستغلها لإلهاء الشعب، وتضليله، وصرفه عن الثقافة الحقيقية. ومن أجل ذلك، فإن أي حركة لتغيير المجتمع الأمريكي، أو أي مجتمع آخر، لابد أن تولي اهتماماً خاصاً بوسائل الإعلام.


                  

05-07-2003, 06:02 PM

baballa
<ababalla
تاريخ التسجيل: 05-13-2002
مجموع المشاركات: 151

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من كتابات الراحل المقيم الأستاذ طه اسماعيل ابوقرجة (Re: baballa)



    التحدي الذي يواجه العالم
    بقلم طه أبوقرجة
    إما المجتمع الكوكبي الإنساني الواحد، وإما الاستعمار والحرب والدمار
    يجب إقامة العلاقات الدولية على القانون والعدل بدل القوة والمصلحة
    ولمصلحة مجتمع كوكبي واحد بدل مصالح دول قومية متضاربة

    حاولت في الحلقتين الفائتتين أن أبين بطلان ادعاءات الحكومة الأمريكية وأن أفنِّد ذرائعها للحرب، كما دعوت إلى مواجهتها وشريكاتها بالأساليب السلمية. ولم يكن ذلك نتيجة غفلة عن سوء نظام صدام، ولا مشايعة له لأنه حاكم عربي أو مسلم، وإنما عن قناعة بأن خطأ الدول المعتدية أكبر من أخطائه، وأن النهج الذي سنَّته هو أشد وبالاً على شعب العراق وعلى شعوب المنطقة وعلى السلام العالمي. وقد قلت هنالك أن نظام صدام سيئ ولكن سوئه لا يبرر العدوان، ولم أشعر بحاجة إلى التفصيل في سوئه، لأنه معروف. وقد لمست من الرسائل التي وردتني، ومن التعليقات التي طالعتها في بعض المنتديات، أن كثيراً من القراء فهم رأيي حول هذه الحرب. لكن بعضهم ربما فهم أن دعوتي لمواجهة العدوان مبعثها حسن ظني بنظام صدام أو نقص إدراكي بسوئه وخطره على جيرانه وعلى السلام العالمي. كما أن بعضهم يرى أن شعب العراق وغيره من شعوب المنطقة، بما فيها الشعب السوداني، قد رزئوا بأنظمة رديئة، قتلت معارضيها، وأضعفت شعوبها، وأذلتها، وبددت ثرواتها، وسدت كل سبل تغييرها من الداخل، فلم يعد من سبيل إلى تغييرها غير التدخل الأجنبي، رغم مثالبه. وبعض هؤلاء يرون أننا يجب أن نساند الجيوش الغازية معنوياً ليكتمل تحرير شعب العراق من صدام، كخطوة أولى نحو تحرير بقية الشعوب الرازحة تحت نير أنظمة مماثلة. وهؤلاء يسلِّمون للإدارة الأمريكية بمزاعمها حول مهمتها النبيلة نحو شعب العراق.

    هذه الآراء حملتني على تعديل هذا الجزء من المقال الذي كنت أريد الحديث فيه عن المجتمع الكوكبي وعن مدنية السلام، لمزيد من الحديث حول الموقف من هذه الحرب. ذلك لأننا لن نسهم في خلق المجتمع الكوكبي إذا كنا لا نرى عيباً في سياسات الحكومات الوطنية الحالية، القاصرة، التي تجر المجتمع البشري جراً إلى حافة حرب لا تبقي ولا تذر.

    كلا الطرفين مبطل، ولكن :
    وأبدأ بتأكيد أمر لا يزال يحتاج التأكيد، هو أن هذه الحرب ليست بين طرف محق وطرف مبطل، وإنما هي بين طرفين مبطلين، أحدهما الحكومات المعتدية، وثانيهما نظام صدام. وكلاهما لا يهتم بشعب العراق، وإن ادَّعى غير ذلك. وللشيعة في مصادرهم حديث قدسي أراه ينطبق على هذه الحرب، يقول:- (الظالمُ جندٌ، أنتقم به، وأنتقم منه). وهم يرون أن أمريكا ظالمة الآن في موقفها، وهي مجنَّدة للانتقام من ظالم آخر هو صدام، وأن الله سينتقم من أمريكا بعد ذلك. وللسنيين في معجم الطبراني حديث مماثل:- (الظالمُ عدلُ اللهِ في الأرضِ، ينتقم به، وينتقم منه). وقد أشار بعض المفسرين إلى هذا الحديث في معرض تفسيرهم لقوله تعالى: (وكذلك نولِّي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون) سورة الأنعام/ 129.

    هذا يعني أن علينا أن نرى باطل الطرفين، وأن نأخذ موقفاً من كليهما. وإنما دعوت إلى مواجهة أمريكا وشريكاتها لأسباب ثلاثة: أولها أن باطل أمريكا وشريكاتها في هذا الأمر أكبر من باطل صدام، وخطرهم أعظم من خطره. وثانيها أن باطلهم مغطى بمظهرهم الحضاري الكبير وبحديثهم عن الإرهاب وادعائهم الاضطلاع بالدور الأكبر في السلام العالمي، هذا في حين أن سوء صدام ظاهر. وثالثها أن خطر صدام قد ظل المجتمع الدولي يواجهه منذ عام 1990، بإخراجه من الكويت، وبإصدار ومتابعة تنفيذ القرارات الدولية التي تجرِّده من أسلحة الدمار الشامل وغير ذلك.

    وإنما كان خطر أمريكا أعظم من خطر صدام لأنها مسئولة عن أفدح أخطائه وبصورة خاصة تهديده لجيرانه كما سنرى، ولأنها لا تحارب الآن من أجل مهمة نبيلة كما تدَّعي وإنما من أجل تحقيق مكاسب لها ولحليفتها الأساسية في المنطقة-إسرائيل. وأهم من ذلك، أنها بهذه المهمة النبيلة المدَّعاة قد سنَّت سنة سيئة هي عدوان الدول على بعضها بدعوى تغيير حكوماتها الجائرة، كما أنها أضعفت المنظمة الدولية، وجعلت العنف هو الوسيلة الأساسية لحل النزاعات الدولية رغم أنه وسيلة بادية القصور وعظيمة الخطر. وينبغي على كل من يريد تحديد موقف من هذه الحرب أن لا يغفل هذه الأمور. ولتبيين أن خطأ الإدارة الأمريكية وخطر حربها الحالية أكبر من أخطاء صدام وخطره، أسوق مزيداً من الحديث عن محورين من المحاور الثلاثة التي بررت بها الإدارة الأمريكية عدوانها الحالي، وهي: (1) المهمة النبيلة لتحرير شعب العراق، (2) خطر صدام على جيرانه. وقد تحدثت عن ذريعة أسلحة الدمار الشامل بما يكفي.

    أولاً : مهمة الديموقراطية النبيلة ومحك الشيعة العراقيين :
    إن تعاطف كثير من السودانيين مع حجة الإدارة الأمريكية بأنها قادمة إلى العراق في مهمة نبيلة هي تحرير العراقيين من صدام هو تعاطف مبعثه الرغبة في أن تقوم الإدارة الأمريكية بعمل مماثل في السودان، لتحريره السودانيين من نظام الإنقاذ، الذي لا يقل سوءاً عن نظام صدام. وذلك أمر سأتحدث عنه في حيز آخر، ولكني أحب هنا أن أرد كل من تنطلي عليه هذه الخدعة الماكرة إلى ما قلته في هذا الشأن في الجزء الأول من المقال، وخصوصاً إلى قولي بأن الأساس الفكري والأخلاقي (Ethical) الذي تقوم عليه السياسة الأمريكية لا يعترف بمثل هذه المهام النبيلة، ولا يعرف إلا المصلحة الخاصة التي تحقق على حساب الغير. هذا الأساس القاصر هو الذي أملى العدوان، وهو الذي أملى الاستعمار، وهو المسئول عن الضرر الذي تلحقه السياسة الخارجية الأمريكية وسياسة الدول الغربية الأخرى بالشعوب، وهو المحك الذي يتضح فيه عجز الحضارة الغربية الراهنة عن تحقيق السلام، وتبرز فيه الحاجة إلى مدنية جديدة يحب فيها الإنسان أخاه الإنسان ويؤثره على نفسه. وقد كنت احب أن يتطرق المناقشون إلى هذا الأمر.

    بيد أن الناس إن لم يروا فساد البذرة التي أنبتت السياسة الخارجية الأمريكية، فقد يكون عليهم انتظار ثمرة هذا العدوان بعد الإطاحة بصدام. فحينئذ ستنفضح أمام أعينهم مزاعم تحرير الشعب العراقي. فالإدارة الأمريكية تعرف أن الشيعة يشكِّلون في العراق نسبة تتراوح بين 60% و65%، وهي لم تخض هذه الحرب لتمكينهم من السلطة عن طريق الانتخابات، بل هي لا تحتمل ذلك، ومن أجل ذلك أحجمت عن إسقاط صدام عام 1991 حين أخرجته جيوش الحلفاء من الكويت بهزيمة منكرة. وقد يتضافر عدم احتمالها تسلم الشيعة مقاليد الحكم مع دوافعها الحقيقية للغزو لتعتمد إحدى خطتين: إما محاولة حكم العراق مباشرة بواسطة أمريكيين، أو محاولة حكمه بطريق غير مباشر من خلال عراقيين ضعاف لا يهمهم إلا مظهر السلطة ينتشون به ويعطونها ما تريد وتحرسهم بجيوشها بعد أن تختارهم بالتعيين أو بانتخابات تشرف هي على تزويرها. وأي واحد من هذين الخيارين الصعبين سيفضح دعواها، كما سيجرها إلى حرب طويلة ومريرة مع شعب العراق، ستكون فيها وحدها، لأن بريطانيا بدت غير راغبة في التورط في العراق ثانية بعد إزاحة صدام.

    ويبدو أن هذا الوضع المعقد قد اضطر الإدارة الأمريكية إلى إعادة النظر في خطتها الأساسية الرامية إلى حكم العراق بواسطة أمريكيين يتبعون مباشرة للبيت الأبيض إلى حكمه بواسطة وزراء أمريكيين لكل منهم أربعة مستشارين عراقيين، ثم إلى حكمه بواسطة حكومة عراقية مؤقتة تعمل تحت حاكم أمريكي بدعوى إشرافه على الجوانب العسكرية والأمنية. وهدف الإدارة الأمريكية، في تقديري، هو حكم العراق بواسطة أمريكيين أو عراقيين ضعاف بغرض إبرام اتفاقيات تعطي أمريكا أكبر حقوق ممكنة لأطول فترة ممكنة في العراق وخصوصاً فيما يتعلق بثرواته الطبيعية. وهي قد تحاول الحصول على بعض الحقوق بواسطة اتفاقية استسلام مع نظام صدام، خصوصاً أن التجارب قد دلت أن صدام ظل بغبائه المعهود يخدم المصالح الأمريكية على طول المدى من حيث لا يدري.

    وطمع الإدارة الأمريكية هذا يوجب على العراقيين وأصدقائهم أن يضيقوا صلاحيات أي حكومة انتقالية، مهما كانت طبيعتها، فيحصروها في معالجة المشاكل الإنسانية الملحة الناجمة عن الحرب وعن الحصار الطويل الذي سبقها، وفي إرجاع النفايات النووية التي جلبتها الحرب إلى أمريكا، وأن يتركوا مشاريع إعادة الإعمار التي ينفق عليها من أموال العراق وكذلك مشاريع إعادة تأهيل قطاع النفط إلى الحكومة المنتخبة التي يؤمل لها أن تباشر أعمالها بعيداً بعض الشيء عن الضغط الأمريكي.

    دكتاتورية صدام أم إبادة شعب العراق ؟!
    بيد أننا لا نحتاج كل هذا الانتظار لنحكم على مزاعم الإدارة الأمريكية بأنها قادمة إلى العراق في مهمة نبيلة هي تحرير العراقيين من صدام. فأمريكا قد دللت بالحرب نفسها أنها لا تبالي بحرية الشعب العراقي، بل ولا بحياته. فالكبت والتقتيل الشنيع الذي مارسه صدام ضد شعب العراق لا يساوي شيئاً مما يتعرض له شعب العراق اليوم من إبادة طويلة المدى على يد الإدارة الأمريكية. ولا أعني ضرب المدنيين، ولا استخدام القنابل العنقودية، وإنما اعني ضربهم باليورانيوم المنضَّب الذي تحتوي عليه الصواريخ والقنابل وبعض الذخائر الأمريكية الأخرى. وهذه جريمة صمت عنها نظام صدام لأنه يخشى إثارة الشعب العراقي عليه في هذا الظرف، كما صمت عنها المجتمع الدولي، رغم أنها جريمة أعلنت الإدارة الأمريكية عن نية ارتكابها قبل اندلاع الحرب.

    ولمزيد من التعريف بخطر هذا السلاح أحيل القراء إلى مقابلة أجرتها قناة الجزيرة بتاريخ 7/2/2001 وأعادتها بتاريخ 19/3/ 2003 مع البروفيسور الأمريكي دوج روكه، المختص في الفيزياء النووية، والمدير السابق لمشروع اليورانيوم المنضَّب بوزارة الدفاع الأمريكية، وإلى مقابلتين أخريين بتاريخ 2/11/2000 و 9/11/2000 مع بعض المختصين (وكلها بموقع الجزيرة على شبكة الإنترنت). فقد وردت حقائق مفزعة في هذه المقابلات عن نتائج قذائف اليورانيوم، منها أن 160,000 (مائة وستين ألف) من الجنود الأمريكيين الذين شاركوا في حرب الخليج الثانية في مطلع 1991 أصيبوا بالسرطان وغيره من الأمراض الناتجة عن التعرض لليورانيوم المستنفد (والتي يشار إليها إجمالاً بأعراض حرب الخليج)، وأن حوالي 8000 منهم قد ماتوا. وقد ذكر البروفيسور الأمريكي أن العسكريين الأمريكيين أخفيت عنهم الحقيقة لوقت طويل، ولم يدركوا إلا مؤخراً أن ما تعرضوا له كان بسبب اليورانيوم المستنفد. وقال أنه شخصياً مصاب بالمرض، وأن جسمه يحتوي على شحنة إشعاع تعادل خمسة آلاف الشحنة العادية في الجسم. كما قال أن منطقة البصرة قد باتت منذ 1991 مكاناً غير صالح للحياة، بسبب معدلات الإشعاع العالية الناجمة عن ضربها بصواريخ وقذائف تشتمل على اليورانيوم المستنفد. وأوضح البروفيسور الأمريكي أن الإشعاع الناجم عن اليورانيوم المستنفد يبقى لمدة 5/4 (أربعة نصف) بليون سنة، وألمح إلى أن استعماله يهدف إلى زيادة فعالية الذخائر في اختراق الدروع والتحصينات، كما يهدف إلى تخليص الولايات المتحدة من النفايات النووية الناجمة عن استخدم اليورانيوم داخلها للأغراض السلمية والعسكرية، وقال في هذا الصدد أن استخدام اليورانيوم في الذخائر هو جزء من خطة وزارة الصناعة الأمريكية في التخلص من النفايات النووية. وهناك كتب صادرة عن هذا الأمر، ومواقع بشبكة الانترنت يمكن الرجوع إليها. وحين ندرك أن أمريكا أسقطت حوالي 350 طن من اليورانيوم المستنفد في حرب تحرير الكويت ونرى ارتفاع معدلات السرطان في العراق بعد ذلك، وأنها الآن ربما أسقطت أكثر من 4000 (أربعة آلاف ) طن من اليورانيوم المستنفد، ندرك حجم مأساة الشعب العراقي، وعدم مبالاة الإدارة الأمريكية بحياته، بله حريته.

    ثانياً : أمريكا شريك صدام في حروبه على جيرانه :
    معلوم أن صدام شكَّل تهديداً على جيرانه. وهو يدفع الآن ثمن تهديده إياهم وتعديه عليهم. ففيما عدا سوريا (التي أعلنت مساندتها للشعب العراقي وليس لصدام)، فإن كل جيران العراق إما أعطوا دول العدوان تسهيلات عسكرية، أو وقفوا موقف المتفرج على صدام، المؤمل الخلاص منه. لكن يجب أن لا نغفل أن أمريكا هي التي ساقت صدام معصوب العينين إلى تهديد جيرانه والاعتداء عليهم، لتتمكن منه في نهاية المطاف. فهي التي حرَّكته عام 1980 لمحاربة إيران، بهدف وقف مساعي تصدير الثورة الإيرانية إلى بقية الدول الإسلامية حين بدأت بعض الجماعات تهتف (إيران إيران في كل مكان)، ووجهت الدول العربية بدعمه، حتى أن تلك الدول حبَتْه يومئذ بلقب "حارس البوابة الشرقية". وقد عملت أمريكا على تزويده خلال تلك الحرب (بطريقة مباشرة أو غير مباشرة) ببعض تكنولوجيا أسلحة الدمار الشامل ليستخدمها ضد الإيرانيين وضد شعبه. كما أغرته بغزو الكويت عام 1990 لتتخلص منه (وبُعَيد غزو الكويت قامت بمحاسبة سفيرتها في العراق أمام الكونغرس على فعلتها، لتتبرأ الدولة الأمريكية من الجريمة وتصورها كخطأ فردي وقعت فيه إحدى موظفاتها). خلاصة القول أن أمريكا شريكة صدام في جرائمه ضد جيرانه، ومسئولة معه عنها.. هي مسئولة عن التخطيط، وهو مسئول عن التنفيذ. إن خطر صدام على جيرانه يوجب ذهابه، ولكن أمريكا أخطر على جيرانه منه.. وذلك بنفس القدر الذي به أن خطر صدام على شعبه يوجب ذهابه ولكن أمريكا أخطر على شعبه منه. وكنت آمل ممن يؤيدون الغزو الأمريكي على العراق بحجة خطر صدام على جيرانه ألا يغفلوا أن أمريكا شريكة في ذلك الخطر، وأنها استغلت صدام وتلاعبت به مثل دمية.

    العنف لا يحل مشكلة :
    إن الخطأ الأكبر الذي وقعت فيه أمريكا هو خروجها على الشرعية الدولية من أجل مصالح اقتصادية ومن أجل تأمين نفسها وحلفائها من خصومهم بتجريدهم من السلاح بالقوة. ومن الواضح أن أمريكا شرعت منذ نهاية الحرب الباردة في تجريد خصومها السابقين من قوتهم العسكرية. ورغم أن تقليل مصادر الخطر العسكري هو نتيجة مبتغاة لمصلحة الإنسانية قاطبة، إلا أنها يجب أن تتم بوسيلة مشروعة، ولغرض مشروع. والوسيلة المشروعة هي القانون الدولي كما تطبقه الأجهزة الدولية، وليس وفق الاجتهادات الفردية. والغرض المشروع هو إحالة البشرية كلها إلى القانون كوسيلة لحسم النزاعات بعد أن ظلت طيلة تاريخها تعتمد على القوة. لكن أمريكا شرعت في تجريد خصومها من السلاح بوسيلة خطأ ولغرض خطأ. فهي، من حيث الوسيلة، خرجت عن الشرعية الدولية في حالة العراق، كما تسعى للخروج عنها في حالات أخرى. وهي، من حيث الغاية، إنما تريد تجريد غيرها من السلاح لتحتفظ به هي وحليفاتها ليفعلوا ما يشاءون. ويمكن أن نلاحظ أنها رفضت التوقيع على معاهدة حظر الألغام، وعلى قانون محكمة الجزاء الدولية، وأنها ما تزال تطور في شبكة دفاعها الصاروخي، وفي أسلحتها.

    هذا اتجاه خاطيء وعقيم. فالدول لن تتخلى عن السلاح إلا إذا قامت العلاقات على القانون الدولي الذي يحفظ حقوق الدول مثلما تحفظ القوانين الوطنية حقوق الأفراد داخلها. لكن إذا ظلت العلاقات تقوم على الأطماع والمناورات الدبلوماسية وإساءة استخدام النفوذ في الساحة الدولية وحسم النزاعات بالقوة المسلحة والاعتداء على سيادة الدول، فإن الدول ستلجأ إلى التسلح. وقد كان على أمريكا أن تستفيد من حادثة 11 سبتمبر 2001 فتعلم أن العنف أصبح لا يحتاج إلى دول، وإنما يمكن لأفراد قليلين إحداث أضرار هائلة تفوق طاقة الدول. ومعلوم أن تكنولوجيا الأسلحة الخطرة باتت شائعة، وفي متناول أيدي الكثيرين. وحين لم تفهم أمريكا من حادثة 11 سبتمبر، ساق لها الله رجلاً قالت أنه كان يخطط لضرب مدينة أمريكية بقنبلة "قذرة". رجل واحد يمكنه أن يدمِّر مدينة!! ماذا يعني هذا؟ إنه ببساطة يعني أن محاولة احتكار القوة والسلاح هي محاولة غير ذكية، وخطرة، ومحكوم عليها بالفشل. وقد كان على أمريكا أن تفهم ذلك وتسلك طريقاً آخر، لكنها لم تفهم حتى الآن. إن أمريكا تتحدث عن النظام الدولي الجديد، ولكنها لا تعرفه. فالنظام الدولي الجديد هو النظام الذي يقيم العلاقات الدولية على القانون والعدل والسلام، وليس على منطق الغابة، الذي هو سمة النظام الدولي القديم. إن أمريكا لم تفهم منطق العصر حتى الآن، وهي إن لم تفهمه ستخلي مكانها إلى دولة أخرى تفهم منطق العصر وتصاقبه وتحدو ركب البشرية إلى مدارج العدل والسلام، فالبيئة الكوكبية الحاضرة لا تحتمل سوى العدل والسلام.


    الحضارة الغربية تفقد المشعل :
    إن هذا الغزو غير المشروع، رغم أنه يحقق نتائج يبتغيها شعب العراق وجيرانه وكثير من الشعوب والدول، إلا أنه من الناحية الأدبية قد أفقد أمريكا زعامة العالم. ولما كانت أمريكا هي زعيمة الحضارة الغربية، فإن هذا الغزو قد أفل به نجم الحضارة الغربية، مؤذناً ببزوغ فجر مدنية جديدة قادرة على نشر السلام في الأرض. وهناك رمزية في هذا الغزو. فهو قد قامت به أمريكا، التي تمسك بمشعل الحضارة، ومعها بريطانيا التي سلمتها المشعل بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. كما يلاحظ أن معهما أسبانيا، وأن قمة الحرب عقدت في الجزيرة البرتغالية. ومعلوم أن أسبانيا والبرتغال كانتا من أعظم الدول الأوربية في عصر الكشوفات الجغرافية التي تسلم الغرب خلالها ريادة القافلة البشرية واستلم مشعل الحضارة الإنسانية. إن أهل الحضارة الغربية قد أسقطوا من يدهم هذا المشعل اليوم، وسيلتقطه من بعدهم شعب يحمل فكرة قادرة على تأسيس مجتمع كوكبي تسكنه إنسانية واحدة تربط بينها فكرة العدل مثلما ربطت بينها وسائل المواصلات والاتصال التي بدا أن الحضارة الغربية لا تستطيع أن تعطي أكثر منها.

    بيد أن بعض مواطني الغرب قد دللوا على وعي بالبيئة الكوكبية الجديدة ومقتضياتها بأكثر مما دلل مواطنو الشرق. ومساعي العولمة التي تحاول دول الغرب الآن أن تنجزها على حساب الشعوب الفقيرة لم تعارضها الشعوب الفقيرة ولا حكوماتها، وإنما عارضها المواطنون الغربيون وسيروا ضدها المسيرات في سياتل وفي إيطاليا وحيثما اجتمعت منظمة التجارة الدولية في الغرب. إن هؤلاء المواطنين الغربيين، الإنسانيين، الذين يرفضون ظلم الآخرين، هم الذين ينعقد عليهم الأمل في إصلاح الديموقراطيات الغربية وفي إجهاض مخطط غربي يرمي إلى الهيمنة على العالم، وإفقار شعوبه، وإبادتها-بوعي أو بغير وعي. وإذا تيسر إسقاط الحكام المخبولين الصغار أمثال صدام بواسطة شعوبهم أو بواسطة عمل خارجي، فإن أخطاء ساسة الدول الكبرى ذات الترسانات العسكرية الضخمة لا يمكن تصحيحها إلا من خلال شعوبها. ورغم أننا يجب أن نتعاون مع هؤلاء لتأمن البشرية غوائل الحكومات الغربية القوية التي تملك آلة دمار هائلة، إلا أن عدم الوعي بهذا الأمر ساق تنظيماً من تنظيمات الهوس الديني الإسلامية لاستعداء الغربيين برمتهم ضد منطقة الشرق الأوسط والعرب والإسلام، وذلك بتفجيرات 11 سبتمبر التي كانت ضد الأبرياء.

    هؤلاء المواطنين الغربيين يجب أن نمد معهم الجسور، وأن نكوِّن معهم منظمات مدنية دولية تكون لها فروع في كل الدول، كخطوة إضافية نحو المجتمع الكوكبي. ومثل هذه المنظمات موجودة في كثير من بلدان الغرب، ومنها منظمة السلام الأخضر، التي تعنى بالسلم وبالبيئة وتقف ضد تدمير الإنسان بالحروب وغيرها وضد تدمير البيئة بالنفايات وغيرها. وهي تدافع عن أهل العالم الثالث بأكثر مما يدافع أهل العالم الثالث عن أنفسهم. وأعتقد أنه من المناسب أن تنتشر مثل هذه الجمعيات في العالم الثالث وأن ينتشر الوعي بأهدافها. إن هذه الجمعيات تؤكد أمراً له أهمية كبرى من أجل السلام العالمي، هو أن الغرب ليس ضد الشرق، وأن الشمال ليس ضد الجنوب، وإنما أكثر الحكومات هي ضد الشعوب، في الغرب والشرق والشمال والجنوب.

    حكام العالم ليسو في القامة الخلقية المطلوبة :
    إن الغزو قد دلل أيضاً على أن حكومات العالم ليست في المستوى الخلقي المطلوب. فحتى الآن لم تعقد الجمعية العامة للأمم المتحدة اجتماعاً طارئاً لمناقشة هذه الحرب رغم أن ثلاثة أسابيع قد مضت عليها. وهذا يعني أن حروباً أخرى ستقع وأن دماراً سيحدث كي يتحرك الضمير العالمي وكي نعي بأن نظامنا السياسي والدولي متخلف يستوجب التغيير.


    العرب والمسلمون :
    ثمة أمر آخر شديد الأهمية، هو أن ما يحدث الآن في العراق هو نتيجة خطأ قديم ارتكبه العرب تحت قيادة جمال عبد الناصر يوم أخرج قضية فلسطين من إطارها المحدود إلى حلبة الحرب الباردة، وذلك حين أمم قناة السويس في 1956 بطريقة خاطئة استفزَّ بها الغرب وجلب عداوته على مصر وعلى العرب، فلم يجد غير الاحتماء بالاتحاد السوفيتي. ورغم أن الرئيس السادات أدرك استغلال السوفيت للعرب كما أدرك خطأ الموقف العربي المتمثل في عدم الاعتراف الرسمي بإسرائيل فابرم اتفاقية سلام مع إسرائيل في 1979، إلا أن أكثر العرب رفضوها، وقاطعوه. وقد كان صدام من أبرز قادة ما سمي عندئذ بدول الرفض. وقد بقي العرب على رفضهم الاعتراف بإسرائيل، وحين فقدوا الاتحاد السوفيتي لم يجدوا من يلتجئون إليه، فباتوا يتلقون الضربات وما لهم من مجير. إن كثيراً من العرب يتحدثون عن هذا العدوان باعتباره حرب تقوم بها أمريكا لصالح إسرائيل. وذلك صحيح إلى حد، ويمكن أن تلام أمريكا على ذلك. لكن الأمر المهم هو أن العرب لا يحق لهم لوم أمريكا على ذلك قبل أن يصححوا موقفهم من إسرائيل، بالاعتراف بها وقبول وجودها والاستعداد الجاد لحل مشكلة الحدود بينها وبين الفلسطينيين بالوسائل السلمية، والاستعداد للعيش معها في سلام. فموقف العرب الحالي من إسرائيل هو موقف غير عادل، وغير حكيم، ومخالف للقانون الدولي لأن العالم كله ملتزم بحماية إسرائيل التي أصبحت عضواً بالأمم المتحدة بعد أن قبلت مشروع التقسيم الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1947 في حين رفضه الفلسطينيون وطفقوا يرددون من وراء جمال وعيده الفارغ برمي دويلة العصابات الصهيونية في البحر، وهو وعيد لم يرد به إلا بناء زعامته على المصريين وعلى العرب. ورغم أن بعض العرب قدم بعد أكثر من نصف قرن على نشوء المشكلة مبادرات تنطوي على الاعتراف بإسرائيل، إلا أن كثيراً منهم لا يزال يمجِّد اللاءات الثلاثة الخاطئة الفارغة: (لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف بإسرائيل). ولعل صدام كان من أبرز هؤلاء، وهو لا قبل له بمحاربة إسرائيل، ولكنه التهويش الذي ساقه الآن لدخول حرب بدا فيها حتى الآن أضعف من المليشيات الصومالية التي واجهت الأمريكيين في مطلع التسعينات، وهو لم يزد على أن لوث أرض العراق باليورانيوم وعرَّض الشعب العراقي لمحنة كبيرة طويلة الأمد.

    وما يقال عن العرب في أمر إسرائيل، يقال أكثر منه عن المسلمين، وذلك لأسباب شتى، منها أن المسلمين يقرؤون قوله تعالى على لسان موسى عليه السلام:- (يا قومِ ادخلوا الأرضَ المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين) سورة المائدة/21. إن على العرب والمسلمين أن لا يقنعوا باتهام أمريكا بالتآمر عليهم لصالح إسرائيل، بل عليهم قبل ذلك أن يصححوا موقفهم ويصلحوا أنفسهم. عندئذ فقط يمكنهم تصحيح موقف أمريكا وسوقها لإجبار إسرائيل على قبول حل سلمي وعادل ودائم بينها وبين الفلسطينيين وجيرانها الآخرين. أما الموقف الشعبي العربي والإسلامي الذي يتهم الحكومات بالضعف والتخاذل، فهو ينطلق من عاطفة وجهل بالمعلومات الأساسية. ولو قدِّر لبعض الجماعات المتحمسة المهووسة أن تمسك بالسلطة في البلدان العربية والإسلامية فإنها ستجر المنطقة إلى كوارث مثل الكارثة التي نزلت على العراقيين بسبب صدام. إن الوضع برمته يوجب التوعية الشعبية، وليس من سبيل لحل المشكلات بغيرها.



                  

05-09-2003, 02:33 AM

baballa
<ababalla
تاريخ التسجيل: 05-13-2002
مجموع المشاركات: 151

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من كتابات الراحل المقيم الأستاذ طه اسماعيل ابوقرجة (Re: baballa)


    اتفاقية ماتشاكوس .. هدية لشعبنا !!
    عسى أن يتنبه !! وأن يحمل قضيته في يده !!
    بقلم : طه إسماعيل أبو قرجة
    1 من 3
    اتفاقيـة ماتشاكوس صفَّت الإخوان المسلمين فكرياً وقبرت شعـار الحاكمية وأنهت عقوداً من الدجل

    ((تَـولِّي جميع المناصب، بما فيها رئاسة الدولة والخدمة العامة والتمتع بجميع الحقوق والواجبات، يتم على أساس المواطنة، وليس على أساس الدين أو المعتقدات أو الأعراف)).

    هكذا سقط شعار الحاكمية، وسقطت الثوابت كلها، وأصبحت المواطَنة بديلاً لشرع الله. فهذا أحد البنود التي حسمت مسألة "الدين والدولة" في اتفاقية ماتشاكوس، بكينيا، التي وقعتها حكومة الإخوان المسلمين مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، في العشرين من يوليو المنصرم (2002).

    ولولا أن هذه الاتفاقية من شأنها أن تقود إلى إيقاف المقتلة الهائلة التي ذهبت بأرواح أكثر من مليوني مواطن، لقلت أن هذا هو أهم بنودها. ذلك لأنه، ومعه بنود أخرى مماثلة، قد صفَّـى حركة الإخوان المسلمين تصفية فكرية تامة، ولم يذر لها بقية من مسوح تضلل به أولئك السذج الأغرار الذين كانوا حتى الأمس القريب تنتفخ أوداجهم وتطفح أفواههم زبداً بفعل شعارات الحاكمية والجهاد، التي ساقتهم بها حركة الإخوان المسلمين على مدى سنوات طوال مغمضي الأعين إلى ساحات حرب فاجرة، ليقتلوا الأبرياء، الذين حاقت بهم "مظالم تاريخية" على حد تعبير اتفاقية ماتشاكوس. والحق أن هذه التصفية الفكرية لتنظيم الإخوان المسلمين هي عينها التي تجعل السلام ممكناً. [ويلاحظ أني سميتهم بالاسم الذي ظهروا به أول أمرهم، ولم أحفل بتبديلهم لأسمائهم في الحقب المختلفة، كجبهة الميثاق الإسلامي، والاتجاه الإسلامي، والجبهة القومية الإسلامية، والحركة الإسلامية، ثم المؤتمر الوطني].

    لقد نسفت هذه الاتفاقية ذات الشعار الذي اتخذه الإخوان المسلمون مبرراً لوجودهم الفكري والتنظيمي، وذريعة لولوجهم معترك السياسة السودانية منذ نحو أربعين سنة، وهو شعار "الحاكمية"، أي تحكيم "شرع الله"، الذي أصموا به آذاننا على مدى عقود. لقد تأذن الله بأن يقبر هذا الشعار أخيراً بنيروبي، دون أن ينوح عليه أحد من أهله. فالكاميرات قد أظهرت السيد غازي صلاح الدين، رئيس وفد الحكومة، لحظة مصافحته السيد سيلفا كير رئيس وفد الحركة الشعبية، وقد رسم على وجهه ابتسامة جَهِدَ عبثاً أن يخفي بها سيماء العنف التي طبع بها تنظيم الإخوان المسلمين أعضاءه بفعل التربية السياسية الشائهة.

    إن دخول الإخوان المسلمين معترك السياسة تحت شعار "الحاكمية" إنما هو أمر معلوم. كما هو معلوم أيضاً أنهم منذ دخولهم لم يزيدوا على أن استخدموا شعار "لا بديل لشرع الله"، ليباشروا تحته كل صنوف التهريج، والتضليل، والعنف، والهوس، ومصادرة حقوق الآخرين، والفساد. فبذلك الشعار الأخرق، الذي لا صلة له بالدين، ولا بالعقل، ولا بالخلق، عوقوا تطور هذا البلد، وانحدروا به في هاوية سحيقة من الردة الفكرية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وأوسعوا أهله تقتيلاً، وجرُّوا عليهم من المآسي ما يفوق الوصف.

    ومن أجل ذلك، فإن القيمة الكبرى لهذه الاتفاقية تكمن في أنها قد أنهت عقوداً من الدجل الذي ظل يروج له الإخوان المسلمون منذ أن ولجوا معترك الحياة السياسية. وتوقيعهم على هذه الاتفاقية إنما هو، في الحق، توقيع على صك تصفيتهم الفكرية، كمقدمة لتصفيتهم السياسية، وليس الجسدية. وسيجيء يوم، قريباً إن شاء الله، يعرف الناس فيه لاتفاقية ماتشاكوس هذه القيمة العظيمة، ويحفظون فيه للحركة الشعبية لتحرير السودان هذا الفضل الكبير، المتمثل في جر الإخوان المسلمين إلى هذه التصفية، وإشهارها على الملأ.
    دجل الإخوان المسلمين ..
    بالأمس الدين هو الأساس !!
    واليوم الدين ليس هو الأساس !!
    وموقف الإخوان المسلمين الجديد، الذي أعلنوا به أن تكون المواطنة، وليس الدين ولا العقيدة، هي الأساس في تولي المناصب العامة، بما في ذلك رئاسة الدولة، يوجب تذكيرهم بأن الشعب السوداني لم ينس موقفهم المعلن حول هذه القضية منذ دخولهم مسرح الحياة السياسية في السودان بعد ثورة أكتوبر.

    إذ يحدثنا المجلد الثاني من محضر مداولات "اللجنة القومية للدستور الدائم للسودان" أن الدكتور حسن الترابي، زعيم جبهة الميثاق الإسلامي يومئذ، بعد أن قدَّم مشروع الدستور الإسلامي كدستور دائم للسودان، قد ووجه في إحدى جلسات اللجنة بسؤال عن أهلية غير المسلم لتولِّي منصب رئيس الدولة تحت الدستور الإسلامي، فحاول المراوغة، فحوصر، حتى اضطر أن يعترف بأنه لا يجوز لغير المسلم أن يكون رئيساً للدولة. وإليكم نص المواجهة نقلاً عن كتاب الأستاذ محمود محمد طه: (الدستور الإسلامي؟ نعم.. ولا!!)، الصادر في يناير 1968، حيث جاء:-
    (السيد موسى المبارك: جاء في مذكرة اللجنة الفنية نبذة حول الدستور الإسلامي في صفحة "7" أن يكون رأس الدولة مسلماً، أود أن أسأل هل لغير المسلم الحق في الاشتراك لانتخاب هذا الرئيس؟
    السيد حسن الترابي: ليس هناك ما يمنع غير المسلمين من انتخاب الرئيس المسلم. الدولة تعتبر المسلمين وغير المسلمين مواطنين، أما فيا يتعلق بالمسائل الاجتهادية فإذا لم يكن هناك نص يترك الأمر للمواطنين عموماً، لأن الأمر يكون عندئذ متوقفاً على المصلحة، ويترك للمواطنين عموماً أن يقدروا هذه المصلحة، وليس هناك ما يمنع غير المسلمين أن يشتركوا في انتخاب المسلم، أو أن يشتركوا في البرلمان لوضع القوانين الاجتهادية التي لا تقيدها نصوص من الشريعة.
    السيد فيليب عباس غبوش: أود أن أسال يا سيدي الرئيس، فهل من الممكن للرجل غير المسلم أن يكون في نفس المستوى فيختار ليكون رئيساً للدولة؟
    الدكتور حسن الترابي: الجواب واضح يا سيدي الرئيس، فهناك شروط أهلية أخرى كالعمر والعدالة مثلاً، وأن يكون غير مرتكب جريمة، والجنسية، وما إلى مثل هذه الشروط القانونية.
    السيد الرئيس: السيد فيليب عباس غبوش يكرر السؤال مرة أخرى.
    السيد فيليب عباس غبوش: سؤالي يا سيدي الرئيس هو نفس السؤال الذي سأله زميلي قبل حين- فقط هذا الكلام بالعكس- فهل من الممكن أن يختار في الدولة-في إطار الدولة بالذات-رجل غير مسلم ليكون رئيساً للدولة؟
    الدكتور حسن الترابي: لا يا سيدي الرئيس).

    وبعد أن أورد نص هذا الحوار من مضابط اللجنة القومية للدستور، مضى الأستاذ محمود محمد طه يحدثنا قائلاً:-
    (هذه صورة مما جرى في بداية معارضة اقتراح الدستور الإسلامي الكامل.. ويلاحظ محاولة الدكتور الترابي التهرب من الإجابة، مما اضطر معه السيد رئيس الجلسة أن يطلب من السيد فيليب عباس ليعيد السؤال، بغية أن يتلقى عليه إجابة محددة، لأنه سؤال، في حد ذاته، محدد.. فلما أعاده، لم يجد الدكتور الترابي بداً من الإجابة، فأجاب بـ "لا"!! ومن تلك اللحظة بدأت المعارضة التي انتهت بهزيمة اقتراح الدستور الإسلامي الكامل، وهي معارضة قد رصدت كلها في محاضر مداولات اللجنة القومية للدستور، فلتراجع..). انتهى
    لماذا فرضوا معيار الدين بالأمس؟
    ولماذا استـبـعدوه اليــوم؟؟
    إن تبديل الإخوان المسلمين لإرثهم السياسي المتصل بشعار "الحاكمية" واعتبار العقيدة الدينية هي الأساس لتحديد الحقوق والواجبات، قد يسوق البعض للتساؤل: لماذا فرض الإخوان المسلمون معيار العقيدة بالأمس؟ ولماذا استبعدوها اليوم؟

    والجواب جد قريب. وهو أن الدين لا يهمهم، كما حاولوا دائماً إيهام الشعب، وإنما تهمهم كراسي الحكم. وحين بدا لهم في الماضي أن رفع شعار الدين من شأنه أن يوصلهم إلى كراسي الحكم، رفعوه. وحين بدا لهم اليوم أن إسقاط الدين هو الذي يبقيهم في كراسي الحكم، أسقطوه. هذا هو الأمر في بساطة. وهو أمر، على بشاعته، لا يعدو الحق قيد أنملة.

    فهم حين نادوا باتخاذ العقيدة الدينية معياراً للحقوق والواجبات، إنما كانوا يهدفون لإقصاء الآخرين باسم الدين. كانوا يريدون خلق تبرير ديني لممارساتهم المنافية لكل قانون، وكل خلق، وكل عرف، وكل قيمة. كانوا يريدون خلق غطاء ديني للتآمر، وقتل الناس، ومصادرة حقوق التفكير، والتنظيم، والتعبير، حتى يسهل لهم تحقيق هدفهم، وهو الوصول إلى كراسي الحكم. وحين بدا لهم في نهاية الثمانينات أنهم قد قطعوا شوطاً في مؤامرتهم وبوسعهم إكمال فصولها، استولوا على السلطة، بالغدر، وبحد السلاح، واستأثروا بها ثلاثة عشر سنة، انتزعوا خلالها لقمة العيش من أفواه البؤساء.. ثم اصطرعوا فيما بينهم على ما نهبوه من سلطة وثروة، بعد أن أقصوا كل من عداهم.

    ثم حين بدا لهم مؤخراً أنهم سيخسرون السلطة بكاملها إذا لم يضعوا حداً للمأساة الإنسانية الدائرة في الجنوب والتي أعطت دولاً مهابة الجانب ذريعةً قويةً للتدخل، رضخوا، فكانت هذه الاتفاقية. ولما كان من شأن الاتفاقية أن يتم اقتسام السلطة مع أهل الجنوب، كان لابد أن يتنازلوا عن الشعار الذي برروا به وجودهم السياسي كله.. وهو شعار الحاكمية.. فارتضوا أن تكون المواطنة هي الأساس، وليس الدين ولا العقيدة. ألا ترونهم اليوم يقولون : "المواطنة بديل لشرع الله"، قلباً لشعارهم القديم "لا بديل لشرع الله"؟؟ أي بؤس هذا؟!

    فالتقرير الصحيح إذن، هو أن لإخوان المسلمين قد رفعوا شعار العقيدة الدينية أول أمرهم من أجل الكراسي.. وأنهم قد أسقطوه الآن من أجل الكراسي أيضاً. فهنيئاً لهم بطلبتهم، وهنيئاً لكل غر ساذج وظَّف نفسه في خدمة هذا الغرض الدنيء وهو يحسب أنه يحسن صنعاً، وأنه يخدم في دين الله.
    الإخوان المسلمون ساقوا الشعب
    في التيه نحواً من أربعين سنة !!
    إذا اتضح مما تقدم أن الإخوان المسلمين قد بدءوا برفع شعار الدين لإقصاء خصومهم السياسيين وكسب السلطة، وأنهم الآن تخلوا عن الدين كأساس لتحديد الحقوق والواجبات في الدولة من أجل البقاء في السلطة، لاتضح جلياً أن لا شعب من شعوب الأرض قد بُـلِي بجماعة سياسية هي من الجهل، ومن سوء الخلق، كما بُلِي الشعب السوداني بهذه الجماعة، التي لا تزال تتربع على دست الحكم.

    والحق أن المرء لو استرجع المنعطفات الخطيرة في تاريخ هذا الشعب منذ ولوج الإخوان المسلمين المسرح السياسي بعد ثورة أكتوبر 1964، لوجدهم دائماً هناك، يحيكون الدسائس والمؤامرات، ويضللون مسعى الشعب، ليردوا به موارد الحتوف. فهم الذين ضلعوا بالتلفيق والكذب الصريح في مؤامرة محكمة الردة ضد الأستاذ محمود محمد طه في 18 نوفمبر 1968 بدعوى حماية الشريعة، كأول محاكمة من نوعها في التاريخ الحديث. وهم الذين تولوا كِبْـر حل الحزب الشيوعي السوداني عام 1965 بدعوى محاربة الإلحاد. وهم الذين وظَّفوا كل طاقاتهم لتمرير مؤامرة الدستور الإسلامي المزيف، طيلة العهد النيابي الثاني، مما قوض ذلك العهد بانقلاب نميري.. ثم هم الذين سوَّلوا لنميري أن يعلن نفسه إماماً ويفرض قوانين سبتمبر 1983. وهم الذين سخَّروا أنفسهم لتطبيق تلك القوانين فيما أسموه بمحاكم العدالة الناجزة، ببتر الأيدي والأرجل، والجلد، والإهانة، والإذلال، والقتل، والتفتيش، وحرق الكتب.. وهم الذين حالوا دون إلغاء تلك القوانين السيئة بعد انتفاضة إبريل 1985. وهم الذين ناهضوا كل جهد لإيقاف الحرب الأهلية، ووصفوا مساعي السلام بأنها مساعي استسلام، وأسموا مؤيدي السلام بالطابور الخامس، وأطلقوا النار على منزل السيد محمد عثمان الميرغني عقب توقيعه مبادرة السلام المشهورة مع الحركة الشعبية لتحرير السودان في نوفمبر 1988، بغرض إخافة كل من يسعى للسلام.. ثم هم الذين انقلبوا على الحياة النيابية بليل في 1989، حين بدا لهم أن تيار الحل السلمي للحرب الأهلية قد تنامى.. ثم هم الذين شرَّدوا عشرات الآلاف من السودانيين الشرفاء من الخدمة المدنية والعسكرية باسم الصالح العام، ووظفوا كل طاقات البلاد لخدمة مصالحهم الشخصية الضيقة. وهم الذين ساقوا الأطفال والشباب إلى محرقة الحرب الأهلية تحت دعاوى الجهاد والشهادة، وعقدوا للقتلى والمفقودين منهم زيجات على الحور العين، وسيروا مواكب أعراس الشهداء، وأزهقوا أكثر من مليونين من أرواح المظلومين في حرب أهلية فاجرة رفضوا إيقافها رغم كل الجهود المخلصة، بدعوى أن لديهم "ثوابت" لا يتعدونها. ثم عادوا اليوم ليسقطوا تلك "الثوابت"، وليعترفوا بأن الحرب قد نشأت أصلاً بسبب مظالم تاريخية عانى منها أهلنا بالجنوب!! أرأيتم كيف سار الشعب على حداء جهلاء، ضلوا، وأضلوا؟؟
    اسألوا الإخوان المسلمين !!
    إن الشعب يجب أن يسأل الإخوان المسلمين. يجب أن يسأل قادتهم، من أمثال الترابي، وعلى عثمان، وعلي الحاج، وغازي صلاح الدين، وعمر البشير، وأضرابهم من المدنيين والعسكريين، الذين جرُّوا البلاد إلى هذه الهاوية. كما يجب أن يسأل قاعدتهم من البسطاء الذين سخَّروا أنفسهم لخدمة مطامع أولئك القادة الأشرار. يجب أن يسألهم الشعب حيث وجدهم: لماذا جررتم البلاد منذ انتصار ثورة أكتوبر في خط زعمتم أنه الدين، وأنه "شرع الله" الذي لا بديل عنه، ثم أدرتم له ظهركم اليوم؟ أين هو الحق؟ هل هو في التمييز بين المواطنين على أساس العقيدة كما ظللتم تزعمون منذ الستينات؟ أم هو في اعتبار "المواطنة هي الأساس" كما قلتم اليوم؟ هل دينكم هو قولكم بالأمس أم قولكم اليوم؟ أما كان من الخير لكم ولهذا الشعب المسكين أن تجلسوا في بيوتكم حتى تصلوا لرأي ثاقب بدلاً من هذا العبث والتقلب؟ فكم راح من ضحايا ما بين ضلالكم بالأمس وهدايتكم اليوم، إن كان قد اهتديتم فعلاً؟ ألا تظنون أنكم محاسبون؟!

    إن يوم الحساب قد دنا، ما في ذلك أدنى ريب. ومن الخير للإخوان المسلمين أن يعدوا أنفسهم لهذا اليوم الداني. وهم لن يجدوا عن الحساب مصرفا، إلا إذا حاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا، ووزنوا أعمالهم قبل أن توزن عليهم.. يفعل ذلك كل واحد منهم بنفسه.

    وأول ما يجب أن يبدءوا به، هو أن يدعوا قول الزور. وذلك بأن يقلعوا عن تصايحهم الحالي بأن حكومتهم هي التي استطاعت، دون سائر الحكومات الأخرى، أن توقع اتفاقاً من شأنه أن يضع حداً للمأساة في جنوب البلاد!! فمن خلق المأساة أصلاً؟؟ وماذا كان تبريركم "الأخلاقي" و "السياسي" لانقلابكم العسكري في ليلة الثلاثين من يونيو 1989؟ ألم تقولوا بأنكم قمتم بانقلابكم لإيقاف اتفاقية "استسلام" الميرغني-قرنق المشهورة؟ أم هل عساكم نسيتم؟ أم هل تظنون أن الشعب قد نسي؟ إن من الخير لكم أن توقفوا هذا التبجح القبيح الذي أخذتم تذيعونه على الناس اليوم، فما هو إلا مظهر لعدم الحياء الذي أخذتم عليه عقوداً.
    من تاجر بقضية الدين ؟
    إن مما يأسف له المرء أن الإخوان المسلمين قد يصعب عليهم ترك الكذب والتضليل. فهاهي جريدة "الخرطوم" في عددها بتاريخ 27/7/2002 نقلت لنا الخبر التالي في صفحتها الأولى:- (من جانبه قال عبد الرحمن إبراهيم، عضو الوفد المفاوض، أن كل المفاوضات السابقة كانت تفشلها قضية فصل الدين عن الدولة مشيراً إلى أن هذه الجولة بدأت بهذه القضية وبعد نقاش وجدال اتضح لنا أن البعض استغل قصة الدين لتحقيق مكاسب ذاتية من أحزاب شمالية وأجنده غربية تريد مصالحها الخاصة)!!

    ألا ترون التلفيق؟ ألا ترونه يحاول إنكار مسئولية الحكومة عن فشل المفاوضات السابقة بدعوى "الثوابت"؟ وإذا لم يكن هذا القول تلفيقاً، فأي حزب شمالي كان يفاوض الحركة الشعبية في الجولات السابقة التي فشلت حتى يقال عنه أنه استغل الدين؟ أليس هو حزب الحكومة؟؟ {كبرت كلمة تخرج من أفواههم.. إن يقولون إلا كذبا}!!

    إن محاولات التنصل عن المسئولية لا تجدي، كما أن الكذب ومحاولات التضليل لا تجدي. ولو كانت تجدي، لما وجد الإخوان المسلمون أنفسهم في هذا الموضع بعد عقود من الكذب وتحري الكذب. ومن أجل ذلك ينبغي عليهم أن يدَعوا خطهم القديم.. خط الكذب والنفاق. ويعترفوا فوراً بأنهم جرَّوا هذا الشعب المسكين في نفق من المأساة التي تعز على الوصف، وأنهم أضاعوا عليه بالتهريج السياسي عقوداً عزيزة كان من الممكن أن يستغلها في التنمية الاجتماعية بكافة جوانبها. إن هذا الاعتراف هو السبيل الوحيد الذي يصل به الإخوان المسلمون إلى قلوب أبناء هذا الشعب، المنطوية أبداً على الصفح والعفو والتسامح، مهما عظم الذنب. هذا الاعتراف آت. وهو اليوم أكرم لهم من الغد، وأجدى.
    الإخوان المسلمـون
    بلا أدنى حس إنساني !!
    إن المرء ليأسى حين يطالع أن الإخوان المسلمين قد سجلوا في الاتفاقية انتباههم لفداحة نتائج الحرب. اقرؤوا معي مرة أخرى هذه الفقرة من مقدمة الاتفاقية: ((منتبهين إلى أن النزاع السوداني أطول النزاعات الحالية في كل إفريقيا، وأنه حصد أرواح الملايين، ودمَّر البنيات التحتية للبلاد، وأهدر الموارد الاقتصادية، وتسبب في معاناة تفوق الوصف، وخاصة بالنسبة لشعب جنوب السودان))!!

    إن من حق كل مواطن سوداني أن يسأل: ألم تنتبهوا لهذه المأساة إلا مؤخراً؟ وإذا زعمتم أنكم قد انتبهتم مبكراً، فلماذا تعللتم بما أسميتموه "بالثوابت" لتتقاعسوا عدة سنوات عن توقيع "إعلان المبادئ" الذي وضعته دول الإيقاد ووقعته الحركة الشعبية، وهو الإعلان الذي اعتبره الاتفاق الحالي أساساً لحل سلمي شامل؟

    أما إذا كنتم من العمى ومن انعدام الإحساس بحيث لم تـنتبهوا لهذه المأساة إلا بعد أن حصدت الحرب أرواح الملايين، على نحو ما اعترفتم، فما هي مؤهلاتكم لتسنم السلطة في هذه البلاد الحزينة؟ ولماذا سعيتم إلى السلطة أصلاً؟؟ لماذا سعيتم إلى السلطة خلال العهود النيابية، فسممتموها بجهالاتكم ورعوناتكم؟؟ ثم لماذا ساقكم الحرص على السلطة لتسرقوها بليل؟ هل كنتم في عجلة من أمركم "لتحصدوا أرواح الملايين، وتدمروا البنيات التحتية للبلاد، وتهدروا الموارد الاقتصادية، وتتسببوا في معاناة تفوق الوصف"؟

    لقد نقلت لنا الأنباء يوم 28/7/2002 أن وزير الدفاع بدولة أوكرانيا قدَّم استقالته لأن طائرة عسكرية سقطت خلال استعراض جوي وتسببت في مقتل 78 شخص. ألا ترون أنه رجل يستقيل بسبب رهافة الحس الإنساني؟! فهذا الحادث يمكن أن يقع رغم كل الاحتياطات. والاستقالة من المنصب لأسباب كهذه، أمر عادي وشائع في العالم المتحضر. ولكني أسأل كل أخ مسلم تقلَّد منصباً في حكومتهم هذه أو لم يتقلد: إذا كانت رهافة الحس الإنساني قد ساقت وزير الدفاع الأوكراني إلى الاستقالة لأن 78 شخصاً (فقط) لقوا حتفهم بسبب حادث طائرة تابعة له، فماذا تحسون أنتم الآن وقد حصدت حربكم أرواح الملايين؟ قولوا لي بربكم!! ألا يزال رؤساؤكم يطمعون أن يستمروا زعماء كما كانوا؟؟ أم هل عسى بعضهم يطمع في مناصب أكبر؟!؟ ألا زالوا يخططون لجولة ثانية من التضليل والإفك؟؟ ثم ألا زالت قاعدتكم باقية على غفلتها تعين أولئك الرؤساء؟ ألا ترون أنه يحسن بكم أن تتركوا الحياة العامة، وترجعوا إلى بيوتكم، فتكونوا أحلاسها، ولو إلى حين، لتلتمسوا بهذا الرجوع نوراً يضيء ذراري جلودكم التي لم يعرف الحس الإنساني إليها سبيلا؟
    اتركوا الشعب، يترككم
    خيراً فعل بعضكم. فقد أوردت الصحف قبل فترة وجيزة أن السيد أمين بناني قد استقال من حزبكم، وقال إن من ضمن أهداف استقالته أن يتطهر من تاريخ "الحركة الإسلامية". حسناً فعل السيد أمين بناني. ونوبة الصحو تحمد للمرء، حتى إن بدا لنا أنها جاءت متأخرة. فهي متى جاءت، فقد جاءت في وقتها. فإنما (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلي حتى يبرأ، وعن الصبي حتى يكبر). هكذا حدثنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

    هل أنا بحاجة لأن أقول لكم أن كل الشعب السوداني قد ناله منكم أشد الأذى؟ بل هل أنا بحاجة لأن أقول لكم أن كل بيت في السودان قد تضرر منكم؟؟ كل بيت.. اللهم إلا بيوتكم أنتم، التي باتت كبيوت النمل، تنقلون إليها خيرات غيركم، ولا ينال الناس منها إلا الأذى.

    ثمة أمر واحد يظفركم بمغفرة من ربكم، وعفو من شعبكم: التوبة النصوح. أتعلمون أركانها؟ إنها ثلاثة: الإقلاع الفوري، والندم على ما فات، والإصرار على عدم العودة. أقلعوا الآن عن ما أنتم فيه. أخرجوا من هذا التنظيم زرافات ووحدانا.. واندموا على ما قضيتم فيه من وقت، وعلى ما اجترحتم فيه من عمل، الله يعلمه، وإن لم يعلمه الناس.. وردُّوا المظالم إلى أهلها.. ردوا المظالم إلى أهلها.. ثم أصروا على أن لا تعودوا إلى ذلك أبداً. إنكم إن فعلتم هذا، غفر الله لكم، وعفا الشعب عنكم.. وكان ذلك نصيبكم من هدية ماتشاكوس.

    هذا موجه بنحو خاص إلى البسطاء منكم، الذين ظنوا أن هدف تنظيمكم هذا هو إقامة الدين، فدخلوه.. ثم حين فوجئوا بصور الفساد المريع بعد استيلاء التنظيم على السلطة، ظنوا أنهم يمكنهم البقاء في التنظيم طالما هو يعمل لإقامة الدين، وسيسألوا هم عن ما فعلوا ويسأل المفسدون عن ما يفعلون. فها قد انكشف لهم أمر التنظيم، فماذا هم فاعلون؟

    ثمة أمور لا ريبة فيها، ينبغي أن تدركوها:-
    أولها، أن تنظيمكم هذا فتنة، القعود عنها خير من القيام فيها. وهو تنظيم ضل سعي أهله في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
    وثانيها، أن حكومتكم هذه ما كان لها أن تأبى توقيع هذه الاتفاقية. فهي قد أدركت بالتجربة العملية أن ما كنتم تنادون به لا يصلح للواقع. وهذا أمر قد قيل لكم منذ عقود، ولكنكم كنتم به تستهزئون، ونسيتم أنه ثابت في تدبير العزيز الحكيم أن (من لم يسر إلى الله بلطائف الإحسان، قيد إليه بسلاسل الامتحان).
    وثالثها، أنكم اليوم مساقون للخروج من هذا التنظيم سوقاً لا تملكون عنه فكاكاً. فإن لم تسلسوا قيادكم، أعنتُّـم أنفسكم.

    فاخرجوا من هذا التنظيم الآن، وارجعوا إلى ربكم، وراجعوا أنفسكم. ذلكم خير لكم، فإنكم بحالكم هذا لن تزيدوا الناس إلا وبالا.


    2 من 3
    قوى التجمع تائهة، ولابد أن تدرك الدور المطلوب

    في الحلقة الأولى حاولت أن أفرغ من أمر الإخوان المسلمين. ويهمني هنا أمر قوى التجمع الوطني الديموقراطي، وبخاصة القوى الشمالية. كما يهمني مستقبل المفاوضات، وبرنامج الفترة الانتقالية. فبقدر ما تسدد هذه القوى، وتقارب، وبقدر ما يأتي برنامج الفترة الانتقالية مسدداً، يتيسر للبلاد أن تخرج من هذا النفق المظلم الذي دخلت فيه منذ فجر الحركة الوطنية.

    ضعف المعارضة الشمالية
    أفقدها فرصة المشاركـة
    ليس سراً أن المعارضة الشمالية ليست سوى معارضة اسمية. فهي لا تملك القوة الفكرية، ولا السياسية، ولا الدبلوماسية، ولا الإعلامية، ولا العسكرية، التي تستطيع أن تفرض بها وجودها كطرف أصيل في مفاوضات السلام المقبلة. فهي لم تستطع أن تبني جيشاً، ولا حركة جماهيرية تشكل ضغطاً على النظام، وإن حاولت بعض فصائلها أحياناً إيهام الشعب بأنها تعد العدة للإطاحة بالنظام من الخارج، وما عليه إلا أن ينتظر. وبسبب إدراك المعارضة الشمالية لعجزها، فإنها تنازلت قبل سنوات عن مطمحها في اقتلاع النظام، وارتضت الحل السلمي. وبسبب ضعفها، فقد ازدراها النظام كثيراً، وسخر منها، ولا يزال. فمنطق أهل العنف يقول إن الذي لا يستطيع أن يقيم حرباً لا يُرجَى منه أن يعطي سلاماً.

    ورغم أن النظام قد بدر منه في بعض الأحيان ما يوحي برغبته في تحقيق مصالحة مع المعارضة، إلا أنه كان يهدف إلى جر بعض فصائلها إلى جانبه. وقد أفلح بالفعل في جر حزب الأمة، الذي لم يكن راضياً عن مقررات أسمرا للقضايا المصيرية، وكان النظام أقرب إلى قلبه وعقله.

    هذا الضعف من المعارضة الشمالية، قابله من الجانب الآخر قوة الجيش الشعبي لتحرير السودان، وحجم المأساة الإنسانية في الجنوب، واهتمام دول الإيقاد وكثير من الدول الغربية بهذه المأساة. كل ذلك أجبر الحكومة على الاستمرار في التفاوض مع الحركة الشعبية. ولما كانت دول الإيقاد تركِّز اهتمامها بالجنوب، فقد جاء إعلان المبادئ الذي صاغته مركِّزاً على وضع الجنوب في حالتي الوحدة والانفصال، ولم يول اهتماماً منفصلاً بالشمال.

    من أجل ذلك، فإن إطار الإيقاد لم يسمح للحركة الشعبية بالإصرار على ضم حلفائها للمفاوضات، رغم حرصها على توسيع إطار الحل ليضم كل قوى التجمع. وهذا أمر يعرفه أهل التجمع جيداً، وقد سبق أن اعترفوا به صراحة.

    هذا الوضع المعقد يوجب على قوى التجمع أن لا تلوم الحركة الشعبية على الوصول لاتفاق ثنائي مع الحكومة، وإنما يوجب عليها أن تلوم نفسها على عجزها عن إجبار الحكومة على التفاوض معها. كما أن قوى التجمع يجب أن تقدِّر أن الحركة الشعبية تقف عن قرب على مآسي الحرب والمجاعات بالجنوب، وتقدِّم أفراداً للموت كل يوم، مما يدفعها دفعاً لإحلال السلام، ولو باتفاق ثنائي. كما على قوى التجمع أن تحاول الخروج من مأزقها الحالي بشيء من المهارة، بدل تخذيل الحركة الشعبية، وإرباكها، ومحاولة إثنائها عن خط السلام الذي فتحته هذه الاتفاقية. وخيراً فعلت الحركة الشعبية بأن مضت في سبيلها.

    إن قوى التجمع قد انزعجت، لأنها كانت تأمل أن تستفيد من تضحيات الحركة الشعبية، فتجلس يوماً على طاولة المفاوضات، مثلما يجلس رجال الحركة الشعبية، وتنال ما تريد، دون أن تكون قد دفعت ثمناً. لكن اتفاقية ماتشاكوس بددت هذا الحلم، وفضحت الضعف. والحق أنهم كانوا يحلمون بإحدى الحسنيين: إما أن تضمهم الحركة الشعبية للمفاوضات فينالوا ما يريدون دون ثمن منهم ويعودوا أبطالاً.. وإما أن تحدث ثورة شعبية في الداخل، فيزعموا أنهم حركوها من الخارج بأصابعهم السحرية ويعودوا عودة الأبطال دون أن يكونوا قد فعلوا شيئاً، تماماً مثلما عادت قيادات حزب الأمة العام الماضي، بلا نتيجة، ولا هدف، ولا مبرر، إلا العجز. وتلك خلة قديمة.
    المعارضة بلا بوصلة
    لا يبدو أن المعارضة الشمالية قد فهمت ما يدور. وهي ما لم تفهم، لن تعرف واجبها في المرحلة المقبلة، وستغيب حتماً. وآية عدم فهمها، أنها بدأت بانتقاد الاتفاقية حتى قبل أن تقف على محتواها. وقد ساق هذا الموقف، غير المستغرب، الدكتور منصور خالد للقول في لقاء صحفي أجرته معه جريدة الشرق الأوسط في عددها بتاريخ 26 يوليو 2002 :- (أفهم أن يفاجأ البعض بالاتفاق، ولا أفهم أن يصدروا الأحكام بدون قراءة النص). بيد أن هذه القوى رجعت، فأيدت الاتفاقية، مبدية تحفظاتها واهتماماتها. وذلك خير لها، وللشعب برمته. ويؤمل لها أن تسير خطوات إلى الأمام.

    إن المعارضة الشمالية يجب أن تدرك أنها إذا لم تكن تملك فرض مشاركتها في هذه المحادثات، فهي بالضرورة لا تملك إيقافها. وهذه البديهة تملي عليها أن تقبل المشاركة في المفاوضات المستقبلية بالصفة المتاحة لها، وهي صفة المستشار، عسى أن تتاح لها، من خلال عملية التفاوض نفسها، صفة أفضل. وعليها أن تبذل جهدها من خلال هذه المشاركة لتذلل أي عقبات تعترض المفاوضات المستقبلية، ولتعين الأطراف للتوصل إلى اتفاق سلام مسدد، يتلافى أي عيوب ربما شابت اتفاقية ماتشاكوس، أو أي سوء فهم قد ينشأ عن نصوصها المقتضبة. كما عليها أن تفكر منذ الآن في كيفية إخصاب الفترة الانتقالية، وتحقيق أهدافها. هذا الدور يناسب، على أيسر تقدير، إطار المفاوضات الحالية، المحكوم بإعلان مبادئ الإيقاد، الذي لا يسمح بدخول أطراف أخرى إلا إذا ارتضى الطرفان الأصليان. وهو دور جليل وخطير، إن استطاعت هذه القوى أن تباشره بذكاء واقتدار.

    هل الحكومة الانتقالية ثنائية؟؟
    معلوم أن السيد رئيس الحكومة قد رفض طلب الدكتور قرنق لإشراك القوى الأخرى في المفاوضات بصفة أصلية، ووافق فقط على إشراكهم كمستشارين. والحركة الشعبية لا تستطيع أن تصر على طلبها، وإلا بدت وكأنها تعوق المفاوضات والسلام. ومن أجل ذلك، على قوى التجمع أن تقبل المشاركة بهذه الصفة التي لم تتفضل عليها الحكومة بأحسن منها، وأن تشد من أزر الحركة الشعبية، والحكومة أيضاً، في المفاوضات المقبلة، خصوصاً أنها مفاوضات هامة يتوقف عليها مستقبل السلام. بيد أن بعض قوى التجمع قد أعلنت رفض المشاركة بهذه الصفة، وذلك رفض ليس له ما يبرره. وهو رفض ينذرها، على كل حال، بإخلاء الساحة منذ الآن. ولربما يحسن لقوى التجمع أن تعلم أنها إذا رفضت المشاركة بهذه الصفة، فإنها لن تزيد بهذا الرفض على أن تترك الحركة الشعبية وحيدة في جبهة السلام، بعد أن تركتها وحيدة في جبهة الحرب على مدى السنوات الفائتة.

    ومن الواضح أن قوى التجمع لم ترفض الطبيعة الاستشارية للمشاركة في حد ذاتها، وإنما هي ترفض أمراً تتوهمه وليس له من وجود إلا في أذهان بعض أطرافها. ذلكم هو الفهم الخاطئ الذي أشاعته اللجنة الدستورية والقانونية للتجمع، من موقعها بالقاهرة. ومفاده أن الترتيبات الانتقالية الواردة في اتفاقية ماتشاكوس (تقوم على شراكة مغلقة بين طرفين هما الحكومة والحركة الشعبية ولا مكان فيها لطرف ثالث).

    إن هذا لموقف مؤسف من تلك اللجنة. وهو لخطورة المنعطف يضطرني للقول بأن لا صلة له بالفهم القانوني السليم، ولا بمصلحة البلاد، ولا شعبها. وهو يضطرني أيضاً للتعرض لبعض بنود الاتفاقية، محاولاً تحاشي الإسهاب.

    وأول ما يجب ملاحظته في هذا الشأن هو أن الجزء (ب) من الاتفاقية، المتعلق بالعملية الانتقالية، قد بدأ بهذا النص:-
    (من أجل حل النزاع لضمان مستقبل يعمه الأمن والرخاء لكل شعب السودان، ومن أجل التعاون في حكم البلاد، يتفق الطرفان على تطبيق اتفاقية السلام وفق الترتيب والأطر الزمنية والمراحل المنصوص عليها أدناه).

    والمراحل المنصوص عليها هي مرحلتان:- (1) الفترة التمهيدية.. ومدتها ستة أشهر، ويبدو أنها تسري اعتباراً من إبرام اتفاق السلام. (2) الفترة الانتقالية.. ومدتها ست سنوات، وتبدأ بنهاية الفترة التمهيدية، وفي نهايتها يمارس أهل الجنوب حق تقرير المصير بالاستفتاء.

    ولما كانت اتفاقية ماتشاكوس هي اتفاقية إطار، فإنها لم تدخل في تفاصيل الحكومة الانتقالية، وإنما هي وضعت أسساً عامة. ومن تلك الأسس، النص الوارد أعلاه، والذي يستفاد منه أن الطرفين يجب أن يتفقا في اتفاق السلام على الشروط التي توفر مستقبلاً ((يعمه الأمن والرخاء لكل شعب السودان))، وكذلك على الشروط التي تحقق ((التعاون في حكم البلاد))، كما يجب تطبيق ذلك. وهذا يعني أن طرفي الاتفاقية قد ألزما نفسهما بموجب هذا النص بأن يضمِّنا اتفاق السلام شروطاً تحقق مستقبلاً ((يعمه الأمن والرخاء لكل شعب السودان))، وشروطاً تحقق ((التعاون في حكم البلاد)). وبطبيعة الحال فإن أيسر هذه الشروط هو أن تقوم حكومة انتقالية وطنية، تمثل كل الأطراف المرتضية للاتفاقية ولبرنامج الفترة الانتقالية.

    كما نص البند (2-1-أ) على تأسيس الهيئات والآليات المنصوص عليها في اتفاق السلام خلال الفترة التمهيدية. وهذه هي الهيئات والآليات التي تعمل خلال الفترة الانتقالية. فإذا كان اتفاق السلام هو الذي سيحدد هذه الهيئات والآليات، فلا يجوز القول بأن اتفاقية ماتشاكوس أسست شراكة مغلقة بين طرفين.

    كما نص البند (3-1-2) على أن (تكوَّن لجنة قومية لمراجعة الدستور خلال الفترة التمهيدية وسيكون على رأس مهامها صياغة الدستور والقانون). ومعلوم بالطبع أن الدستور هو دائماً الذي يحدد أجهزة الحكم، وكيفية تشكيلها، وعلائقها ببعضها، وغير ذلك. وقد نصت المادة (3-1-1) من الاتفاقية على ذلك. فإذا كان الدستور ستضعه لجنة قومية، فهل يجوز الزعم بأن الترتيبات الانتقالية الواردة في اتفاقية ماتشاكوس "تقوم على شراكة مغلقة بين طرفين هما الحكومة والحركة الشعبية ولا مكان فيها لطرف ثالث"؟؟

    ثم إن البند (3-1-3) قد نص على أن يجاز الدستور والقانون وفق آلية يتفق عليها الطرفان. فإذا أوجبت الاتفاقية أن تضع الدستور والقانون لجنة قومية، فيخطئ من يظن أن الآلية التي سيتفق عليها الطرفان لإجازة الدستور والقانون هي بالضرورة مكونة من الطرفين فقط. وعلى كل حال، فإن الطرفين إذا لم يتفقا حتى الآن على هذه الآلية، فإن الزعم بأنها مغلقة عليهما، إنما هو ضرب من التنجيم.

    أما إذا جئنا للبند (3-2-1)، وهو البند الوحيد الذي ينص صراحة على شكل الحكومة الانتقالية، فنجده ينص صراحة على حكومة وطنية. والبند يقرأ:- (يتفق على تكوين حكومة وطنية لتمارس الوظائف وتجيز القوانين التي تتطلب طبيعتها أن تجاز وتمارس من قبل سلطة عليا ذات سيادة وعلى المستوى القومي. وستأخذ الحكومة الوطنية في الاعتبار، في كل القوانين التي تجيزها، الطبيعة التعددية للشعب السوداني دينياً وثقافياً).

    والنص على تشكيل حكومة وطنية، يفتح الباب على مصراعيه لأن تشرك في الحكومة الوطنية أكثر، إن لم يكن كل، القوى المؤيدة لاتفاقية ماتشاكوس. وهذا في حد ذاته يجب أن يطمئن قوى التجمع، ويلجمها عن القول بأن الاتفاقية "تقوم على شراكة مغلقة بين طرفين هما الحكومة والحركة الشعبية ولا مكان فيها لطرف ثالث". إن هذا القول لا يخدم أحداً في حقيقة الأمر.. لا، ولا حتى الذين تسرهم رؤيته. وهذا أمر لا مراء فيه.

    ثمة أمور أخرى بالاتفاقية شغلت اللجنة الدستورية والقانونية للتجمع، وجاءت في مذكرتها. بيد أني لا أرى أن مخاوف اللجنة بشأنها مبررة، وسأتطرق لبعضها لاحقاً.

    إن على كثير من أطراف التجمع أن تضع في اعتبارها أن الظروف التي اكتنفت التوصل لهذه الاتفاقية كان من شأنها أن تجيء بها على هذا النحو. ويجب علينا كلنا أن ندرك أن القيمة الكبرى لهذه الاتفاقية هي أنها قد أفلحت في كسر الحاجز الرئيسي الذي حال دون السلام قرابة العقدين الماضيين، وهو حاجز إصرار الحكومة على ربط الدولة بالعقيدة الدينية. والحق أن كل الحواجز الأخرى تبقى هينة بعد كسر هذا الحاجز الرئيسي. بيد أن الأمر يتطلب سعة الفهم والحنكة. ولو أدركت قوى التجمع ذلك، لأمكنها، من موقعها الاستشاري، إعانة الطرفين للتوصل لاتفاق سلام مسدد. أما مسألة الطبيعة الوطنية للحكم الانتقالي، فهو أمر قد حسمته الاتفاقية سلفاً، وينبغي أن لا يشغل بال أحد.
    حكومة الإخوان قد تحاول التراجع
    عن الاتفاق على الحكومة الوطنية
    رغم وضوح نصوص الاتفاقية فيما يتعلق بالحكومة الانتقالية، إلا أن الإخوان المسلمين قد يحاولون استبعاد المعارضة الشمالية من اقتسام الحكومة الانتقالية. وهم قد لوحوا بذلك فعلاً، وذلك حين رفض الرئيس البشير طلب الدكتور جون قرنق لإشراك هذه القوى في المفاوضات. فقد نقلت لنا جريدة الحياة في عددها بتاريخ 29 يوليو قوله بأنهم يقبلون فقط بمشاركة القوى الأخرى كمستشارين في هذه المرحلة، وأنه (بعد الاتفاق النهائي يمكن للطرفين المتفاوضين إشراك الفصائل المتحالفة معها في الحكومة القومية)!!

    بيد أن مشاركة هذه القوى في الحكومة الانتقالية لا تقبل التعويم بعبارة مثل "يمكن". فذلك أمر حسمته الاتفاقية سلفاً. كما هو أمر تمليه اعتبارات عديدة، يتوقف عليها نجاح عملية السلام نفسها. وعلى الإخوان المسلمين أن يفهموا ذلك. عليهم أن يفهموا بصورة خاصة أن القوى الوطنية التي سعت للسلام طيلة الثمانينات، وكانوا هم يسمونها الطابور الخامس، هي طرف أصيل في السلام بأكثر منهم. وعليهم أن يفهموا أن رغبتهم في استبعاد تلك القوى إنما يشكك في حرصهم على السلام، وهو أصلاً موضع شك. كما عليهم أن يفهموا أن الأطراف الراعية لمساعي السلام الحالية تفهم ذلك، وهي تحرص على تحقيق كل ما من شأنه أن يعين على ترسيخ السلام. وعلى المعارضة الشمالية أيضاً أن تفهم ذلك، وأن تتهيأ له، ليس بمد الرقاب إلى المناصب، وإنما بوضع البرنامج المناسب للفترة الانتقالية.

    أحذروا الصادق المهدي، لا يربككم !!

    كنت آمل أن يكون تعليق اللجنة الدستورية والقانونية بالتجمع الوطني، خير من مذكرتها التي نشرتها هذا الأسبوع. فهي لم تشتمل على أي تحفظ مقبول، أو معقول. وأخشى ما أخشاه هو أن يشفق أهل التجمع، بسبب هذه المذكرة، من احتمال استبعادهم من الحكومة الانتقالية، فينجرُّوا وراء مشفق آخر حمله إشفاقه على التماس ضالته في نصوص المبادرة المشتركة، على نحو ما جاء في بيان حزب الأمة حول اتفاقية ماتشاكوس.

    والغريب في الأمر، أن السيد الصادق المهدي قد فهم أن اتفاقية ماتشاكوس قد نصت على حكومة وطنية، بينما لم تفهم ذلك اللجنة الدستورية والقانونية بالتجمع. وهو من منطلق فهمه بدأ يجهد لجر القوى السياسية لحسم أوزان الأطراف في الحكومة الوطنية وفق أحكام المبادرة المشتركة. الأمر المؤسف هو أن اللجنة الدستورية والقانونية بالتجمع كان فهمها دون فهم السيد الصادق. وهذا يؤهلها للسير خلفه. وتلك كارثة. فهو إنما يريد جر القوى السياسية إلى مبادرة خلَّفتها الأحداث وراءها، وهي مبادرة كان هو من تسبب أصلاً في إدخالها حيز الوجود. وقد بعثر بها جهود السلام سنين عددا. وهو يريد أن يبعثها اليوم ليرتد بالناس إلى الوراء، ليخدم حاجة في نفسه، لا إذِن الله له بقضائها.

    وعلى ذكر السيد الصادق المهدي، فإنه يحسن للقوى السياسية الوطنية الآن أن تتجنب مسايرته، وأن تفر منه فرارها من الأسد. فيبدو أنه يود العودة بالناس إلى نقاطه، وتوضيحاته، ومواثيقه التي لا تلوح لها نهاية. فهاهي جريدة الشرق الأوسط قد نقلت لنا في عددها بتاريخ 29/7/2002 قوله بأن (حزب الأمة انتهى من إعداد الميثاق الوطني تمهيداً لتوقيع كل القوى السياسية عليه لتوحيد رؤى الشعب في دعم السلام والعبور من حالة البؤس إلى السلام والحل السياسي الشامل)!!

    وليته وقف عند المناداة بميثاق وطني!! فهاهي جريدة الخرطوم بتاريخ 22/7/2002 تفيدنا بأنه ينادي بميثاق آخر للتعايش الثقافي، وذلك بقوله:- (لابد من الاعتذار للجنوبيين على الاستعلاء الثقافي بوضع ميثاق للتعايش الثقافي)!! فهل سمع الناس قبل اليوم باعتذار بموجب ميثاق؟ أرأيتم كيف يمكن لهذا الرجل أن يبلبل رؤوس الناس، ويربكهم، ويشتت تركيزهم؟ فلو أطاعوه، لجاءهم كل حين بميثاق جديد. ومن أجل ذلك، فمن الخير لكل الناس أن يضربوا عنه صفحاً، وأن يطووا كشحاً.

    والسيد الصادق سيسعى للتأثير على كافة القوى، ليجد لنفسه دوراً. وقد نقل لنا ذات العدد من صحيفة الخرطوم أنه كشف (عن اتصالات سيجريها الحزب مع دولتي المبادرة لتفعيل جهودهما في عملية السلام بالسودان إضافة إلى الاتصال بالحركة الشعبية وبقية القوى السياسية لتوحيد الرؤى..)!! فليحذر الناس.

    إن عملية السلام قد خلَّفت السيد الصادق المهدي وراءها. وتلك علامة خير كبير. فهو الآن ليس شريكاً لأي طرف. فإذا جاءت الحكومة بشركائها كمستشارين، فهو ليس منهم.. وإذا جاءت الحركة الشعبية بشركائها كمستشارين، فهو ليس منهم. وهو قد أدرك ذلك، وانزعج أيما انزعاج. وهو من أجل ذلك يبحث له عن دور، فشرع يقترح الميثاق تلو الآخر، كما طفق يهرول في كل اتجاه. إن علامة الخير هي أن السيد الصادق المهدي، الذي ينوء كاهله بالعبء الأكبر من وزر المأساة التي حاقت بهذا الشعب منذ أن بلغ هو سن الثلاثين، يقف الآن بعيداً، ومعزولاً، في موقع يؤمل فيه أن لا يسمم حياتنا من جديد. ذلك تدبير العزيز الحكيم.. ومع ذلك، يجب على الناس أن يحذروه، فقد دلَّت التجربة أنه لا يأتي من قبله خير أبداً.. وأي برهان خير من التجربة؟

    وبطبيعة الحال، فإن من علامات الخير الكبرى أيضاً أن الدكتور الترابي معزول هو الآخر عن التأثير على مجريات الأمور. وهو قد مدَّ لنفسه في هذه العزلة، بأن هاجم اتفاقية ماتشاكوس لمخالفتها الشريعة. ومعارضته لاتفاقية ماتشاكوس تسلبه وتسلب حزبه حق المشاركة في الحكومة الوطنية الانتقالية. وهذا أمر سيجيء شرحه في الجزء الأخير من هذا المقال.
    مهام المرحلة الانتقالية
    طالما نصت اتفاقية ماتشاكوس على حكومة انتقالية وطنية، فقد وجب أن لا ينشغل أهل التجمع بهذا الأمر، وأن ينشغلوا بما هو مهم. وجب أن يهتموا بإعداد أنفسهم للدور الذي عليهم أن يلعبوه كمستشارين في المفاوضات القادمة. يجب مثلاً أن يحددوا المبادئ العامة التي يجب أن يتضمنها اتفاق السلام، الذي يوشك الطرفان أن يجلسا لوضعه. كما يجب أن يعملوا على وضع برنامج الفترة الانتقالية، الذي يهدف، فيما يهدف، إلى إزالة العوامل التي أنتجت المأساة الراهنة، والتي ستسوق حتماً إلى قسمة الشعب والبلاد إن هي استمرت خلال الفترة الانتقالية. والبرنامج الانتقالي سيكون تفريعاً وتفصيلاً للمبادئ الأساسية والعامة المضمنة في اتفاق السلام.

    هذا يعني أنه يجب على قوى التجمع أن تحرص على المشاركة بصفة مستشارين في جولات المفاوضات المقبلة، ليعينوا الأطراف كافة على الخروج باتفاق السلام مبرأ من العيوب. ومما لا ريب فيه أن الناس إذا دخلوا المفاوضات المقبلة دون هدف واضح، فلن يجني الشعب سلاماً، ولا وحدة، ولا خيراً. فلابد من معرفة مشكلات البلد الأساسية، ومخاطبتها في اتفاق السلام، ومحاولة علاجها في الفترة الانتقالية. ذلك هو موضوع اتفاق السلام، وموضوع الفترة الانتقالية.

    وبطبيعة الحال فإني لا أطمع في وضع برنامج، وإنما يهمني أن أشير إلى بعض الأمور التي من شأنها أن ترسخ فرص الأمن، والسلام، والعدل، والوحدة، والتنمية. وسيكون ذلك في الحلقة الثالثة من هذا المقال.
    3 من 3
    عقلية السلام غير عقلية الحرب.. ولابد من إعادة تأهيل الإنسان ..ولابد أن يستيقظ الشعب

    ثمة تحديات عديدة أمام جهود السلام، خلال مفاوضات السلام، وخلال المرحلة الانتقالية. وأكثر التحديات ترتبط بالعامل البشري. وذلك لأن مشكلة بلادنا هي أصلاً مشكلة إنسان، وليست مشكلة موارد اقتصادية. ولعل أهم التحديات هي:-
    1- توفر عقلية السلام عند الأطراف المعنية.
    2- التوصل لاتفاق سلام منسجم يخاطب أصل المشكلة.
    3- صياغة برنامج انتقالي علمي وواضح.
    4- تكوين حكومة انتقالية مقتدرة لتنفيذ البرنامج الانتقالي.
    5- إعادة تأهيل الإنسان السوداني.. باعتبار أن ذلك هو الحل، لا إعادة تأهيل البنيات الاقتصادية وحدها.
    6- إشراك الشعب في تحقيق أهداف الفترة الانتقالية.
    7- توفر اليقظة والوعي عند الشعب لمراقبة السياسيين والتنفيذيين.
    وسأحاول فيما يلي أن أوجز القول في بعض ما يتعلق بهذه الأمور.
    إننا لن نجني سلاماً بعقلية الحرب
    لعله من نافلة القول أن الأطراف المرتقب جلوسها للتوصل لاتفاق السلام، ولإدارة البلاد خلال الفترة الانتقالية، لن تحقق سلاماً إذا دخلت المفاوضات أو الفترة الانتقالية بعقلية الحرب. فإنها إن فعلت ذلك، أنفقت الوقت في المناورة، والمنافسة، والشقاق، ومواصلة الحرب بأسلحة أخرى أشد خطراً من أسلحة القتال الجسدي. ورغم أن الناس يظنون بمقاييس الوقت الحاضر أن طرفي الحرب عادةً رابح وخاسر، إلا أن كليها خاسران، لدى الدقة. ولذلك، فمن الواجب أن نستقبل المرحلة القادمة بعقلية السلام. وعقلية السلام قد برئت من البغض، والعداء، والالتواء، والمناورة. وهي منصفة، ومستقيمة، ولا ترى نفسها خاسرة حين تعطي الناس أشياءهم، وإنما تراها رابحة. والمظهر العملي لعقلية السلام في المفاوضات هو أن تعطي الطرف الآخر حقه قبل أن يطالب به. أما عقلية الحرب، فتسعى للكسب على حساب الطرف الآخر، وتجاذبه حقه حين يطالب به.

    إن استمرار الحرب لوقت طويل يدفعني للإشفاق من دخول الأطراف المعنية مفاوضات السلام بعقلية الحرب. بيد أن اتفاقية ماتشاكوس قد فتحت باباً للأمل. فالطرفان قد اعترفا فيها بأن الحرب الأهلية في الجنوب إنما نشأت بسبب المظالم التاريخية. وهذا يعني أمرين. أولهما أن المقاتلين من أهلنا بالجنوب لم يكونوا متمردين ولا خوارج، وإنما هم مظاليم استخدموا العنف كوسيلة لرفع الظلم عنهم، مما يبشر بإمكانية دخولهم المرحلة المقبلة بعقلية السلام، لأن عقلية الحرب ليست عقلية أصلية عندهم، وإنما هو تحول أملاه الظلم. وثانيهما، أن اعتراف أهل الشمال- ممثلين في الحكومة- بأسباب الحرب الحقيقية، يبشِّر بدنو الوقت الذي يحرص فيه أهل الشمال على رفع هذا الظلم التاريخي، بعقلية السلام.

    إننا نحتاج أن ندخل العهد الجديد بفكر جديد، يبريء حركتنا السياسية من أدوائها التاريخية. فهذه الأدواء هي التي أوصلت البلاد إلى هذا الوضع المأساوي. ومن ثم فلا أمل لنا إلا إذا برئنا من تلك الأدواء. وبغير ذلك، سنكرر الفشل، وسنحصد الندم. وقد يكون فشلنا منذ الوهلة الأولى، بالعجز عن التوصل لاتفاق سلام. لكنا إن دارينا فشلنا، بتوقيع اتفاق سلام هش، ومعيب، ومتناقض، لا يعكس إلا اختلافنا، فإننا سنخرج من المفاوضات بروح ليست هي روح السلام، فننقل التـناحر إلى الحياة العامة في الفترة الانتقالية. وسيسوق ذلك، بلا ريب، إما إلى انهيار اتفاق السلام كما حدث في تجارب بلدان أخرى، أو إلى تعميق عدم الثقة، وبالتالي قسمة البلاد والشعب عند تقرير المصير. هذه هي فرصنا. فلينظر كل امرئ وكل فريق مشارك في هذه المفاوضات أين يضع نفسه.
    عدم صلاحية الشريعة هـي
    مسألة تاريخ وليست جغرافيا
    كما قلت آنفاً، فإن الاعتراف الذي تم بأصل المشكلة يبشر بميلاد عقلية السلام. ولقد سارت الحكومة شوطاً في إزالة بعض صور الظلم التاريخي. وذلك حين قبلت بأن يتم استبدال العقيدة الدينية بالمواطنة كأساس للحقوق والواجبات، بما في ذلك حق غير المسلم ليكون رئيساً للدولة. وهذه خطوة جيدة يجب مواصلة اتجاهها. ولكني أرى دفناً للرؤوس في الرمال، بغرض الاحتفاظ بالكيان السياسي بأساليب تضر بالبلاد. ومن ذلك أن الحكومة قد أصرت على اعتبار الشريعة مصدراً للتشريع بالشمال. وهي بهذا كأنما تحاول أن تأخذ بالشمال ما أعطته باليمين.

    فقبول الحكومة استبدال العقيدة الدينية بالمواطنة كأساس للحقوق والواجبات يعني أنها قد تخلت عن تطبيق الشريعة، واعترفت بعدم صلاحيتها في هذا الجانب. ولذلك كان يجب على الحكومة أن لا تصر على إدخال نص في الاتفاق يهيئ لتطبيق الشريعة في الشمال. فعدم صلاحية الشريعة في بعض صورها المتعلقة بالمجتمع، ليست مسألة جغرافيا، وإنما هي مسألة تاريخ. فما من شيء يجعل أحكام الشريعة المرادة غير صالحة في الرنك، وصالحة في جودة. هي ببساطة غير صالحة في هذا الوقت من عمر المجتمع البشري، لا في الرنك، ولا في جودة. واعتراف الحكومة بعدم صلاحية الشريعة في الجنوب بالإضافة إلى عدم صلاحيتها كأساس لتحديد الحقوق والواجبات حتى في الشمال، إنما هو مقدمة لسحبها من التداول. ويحسن أن يتم ذلك دون إبطاء. فأي إبطاء له ضحايا، ويضر بفرص السلام والوحدة.
    رئيس دولة غير كفء للشهادة؟!
    وإذا لم يكن الأمر كذلك، فليقل لنا أهل الحكومة: ما معنى الإصرار على أن تكون الشريعة مصدراً رئيسياً للتشريع في الشمال في حين أن رئيس الدولة بكاملها يمكن أن يكون غير مسلم؟

    ثم ما معنى الإصرار على الشريعة في الشمال في حين أن الشريعة تشترط العقيدة الإسلامية حتى لكفاءة الشاهد في كثير من الحالات؟ ألم تقل لنا الشريعة ((واشهدوا ذوي عدل منكم)) أي من المسلمين؟ هل يجوز أن يكون لدينا رئيس دولة غير مسلم ثم ترده المحكمة عن الشهادة لعدم الكفاءة تحت أحكام الشريعة؟ ما معنى أن يكون لدينا مواطنين عاديين ووزراء ومدراء وساسة وبرلمانيين من الجنوبيين في العاصمة القومية، الخرطوم، وهم غير أكفاء للشهادة في كثير من الأمور؟ وأين الدستورية وحقوق الإنسان في ذلك؟ أم أننا نقول ما لا نعني؟ هل الحكومة جادة حين تقول أنها توصلت لاتفاق يمهد للسلام؟ إن كانت الحكومة تزعم الجد، فعليها أن تعلم أن الكرامة لا تتجزأ، وأن أهل الجنوب لم يثوروا من أجل الخبز، وإنما ثاروا من أجل الكرامة.

    ثم هل ستحتفظ الحكومة بمادة الردة من قانون العقوبات؟ وكيف يسهم المواطنون بالرأي في شئون بلدهم وحياتهم ومستقبل أبنائهم في ظل مثل هذه المادة الشرعية التي وضعتها الحكومة لتكميم الأفواه؟ وما هي فرص التقدم المتاحة لشعب يسير برأي واحد، مهما كان حظه من الصواب، ويحكم في أرضه على الرأي الثاني بالإعدام؟ وأي كرامة في ذلك؟ ثم ماذا تفعل الحكومة لو أبدى جنوبي رأيه في الإسلام وهو بالشمال؟ هل ستعدّه محارباً وتقتله؟؟ أم ستعفيه من حكم الشريعة في هذا الشأن؟؟

    إن أهل الحكومة بحاجة لأن يعلموا أن اشتراطهم بقاء الشريعة في الشمال لا يدل على عدم إحرازهم عقلية السلام فحسب، وإنما هو أول دليل قاطع على أنهم غير جادين في أمر السلام، ولا أمر الوحدة، وإنما هم يريدون المناورة، وشراء هدنة. وهذا يقضي بأن نقول لهم أن سبيلهم واحد لإقناعنا بجديتهم في أمر السلام، وهو أن يتـفوقوا على أنفسهم في بداية جولة المفاوضات المقبلة بالتخلي عن اشتراط الشريعة في الشمال. وبغير ذلك، أخشى أن يكون هناك ما يبرر القول بأن الحكومة لا تهدف إلا لاتفاقية سلام من شاكلة اتفاقيات سلامها السابقة.

    يبدو أن أهل الحكومة يحسبون أن لهم من الحنكة والمهارة ما يمكِّنهم من خلق ظروف توهم الناس بأنهم حققوا سلاماً، ليستقطبوا بذلك بعض المال من الدول الراعية لعملية السلام، فيحولوه لمصالحهم مثلما حولوا موارد البلد. إننا سنرى مهارة أهل الحكومة بازاء رعاة السلام. ولكن أحسب أن رعاة السلام يتطلعون الآن ليروا جداً وصدقاً. أحسبهم يتطلعون لرؤية أناس جدد، يهمهم شعبهم، وبلدهم، وليس أنفسهم فحسب. وإن كان أهل الحكومة يودون تدفق الاستثمار الأجنبي، فهم لابد يدركون أن فرص الاستثمار ضئيلة في ظل اتفاق هش للسلام، كما يدركون أن فرص الاستقرار والأمن هي أول ما يدرسه المستثمر الأجنبي.
    رد المظالم في الشمال أول مؤشر على الجدية وتوفر عقلية السلام
    إن اتفاقية ماتشاكوس تهدف أصلاً إلى حل الأزمة من جذورها برفع المظالم التاريخية عن أهل الجنوب، وذلك بخلق إطار للحكم يقوم على الاقتسام العادل للسلطة والثروة وضمان صيانة حقوق الإنسان. ولكي تقنع الحكومة كل الأطراف بأنها حريصة فعلاً على رفع المظالم عن أهل الجنوب، مثلما وعدت في الاتفاقية، فعليها أن ترفع بعض (وأكرر بعض) المظالم في الشمال. فإن ذلك يعين على دعم عقلية السلام لدى الطرف الآخر. وإن لم ترفع الحكومة مظالم أهل الشمال الذين تربطها بهم روابط العقيدة والعنصر، سيصعب على أهل الجنوب (وهم أذكياء بالفطرة) أن ينتظروا منها رفع مظالمهم. ومن أجل ذلك فإن الحكومة مطالبة برفع المظالم التالية فوراً وإرجاع الحقوق إلى أهلها:-
    1- إرجاع المفصولين تحت الصالح العام من الخدمة المدنية والعسكرية إلى العمل فوراً، في الشمال والجنوب. على أن يتم ذلك بقرار عام، وليس بموجب أي ترتيبات يقدِّم بها أولئك المفصولين طلبات لإرجاعهم للعمل، أو أي ترتيبات مماثلة. فإن ذلك يلحق بهم مزيداً من الإهانة.
    2- رفع حالة الطوارئ.
    3- إلغاء القوانين المقيدة للحريات، وكذلك كل مواد القانون المقيدة للحريات، ومنها مادة الردة من قانون العقوبات.
    4- الاعتراف بالأحزاب السياسية فوراً ورفع أي حظر سياسي وأي قيد عليها إلا القيود التي كانت قائمة بموجب القوانين التي كانت سارية قبل صبيحة 30/6/1989، وعدم تقييدها بأي قيد إلا بموجب قوانين قد تسنها الهيئات المنوط بها سن قوانين الفترة الانتقالية.
    5- الاعتراف بالجمعيات وكافة منظمات المجتمع المدني.
    6- الإفراج عن كافة المعتقلين السياسيين، وإيقاف الاعتقالات السياسية.
    7- رد أي أموال مصادرة، سواء أكانت مملوكة لأحزاب أو هيئات أخرى أو أشخاص.
    8- رفع أي حظر قائم على أي شخص أو مجموعة بسبب الرأي أو الموقف السياسي.
    9- الاعتراف بحرية الفكر، والتعبير، والتنظيم.
    10- فتح وسائل الإعلام للرأي الآخر. فهي أصلاً ملك للشعب، وليس للحكومة.. والشعب هو الذي ينفق عليها، ولذلك يجب أن تسخر لمناقشة ما يهم حاضره ومستقبله، وليس للحكومة، أو لقبيل واحد فقط.

    هذه بعض المظالم. ورفعها الفوري له دلالة حسنة، ويمكن أن يتم كبادرة حسن نية تعلنها الحكومة قبل أو عند افتتاح جولة المفاوضات المقبلة. هذا العمل سيدعم ثقة أهل الجنوب، وغيرهم، في الحكومة. ولا يُقبل من أحد القول بأن الاعتراف بهذه الحقوق يحتاج لقوانين تصدر لاحقاً. إذ أن هذه الحقوق هي حقوق أساسية، كالهواء والماء، والوضع الطبيعي هي أن لا تسلب أصلاً، وليس أن تمنح.
    لابد من حكومة انتقالية مقتدرة
    اقتسام مقاعد الحكومة الوطنية وغيرها من الأجهزة الانتقالية بين القوى السياسية هو أحد المآزق التي ستواجه المفاوضات والفترة الانتقالية. ولا أريد هنا استباق الأحداث، لكن أخشى أن ينعكس الحديث عن عدم تفكيك الإنقاذ على هذا الأمر. والعقلية التي تصر على عدم تفكيك الإنقاذ ليست هي عقلية سلام، لأن سلطة الإنقاذ هي سلطة مغتصبة. ومن لا يبتغي أن يرد ما اغتصبه، لا يرجى منه أن يرفع ظلماً، أو يقيم عدلاً، أو يصنع سلاماً.

    ومن المتوقع أن تتنازع القوى الوطنية حول نسب تمثيلها في أجهزة الحكم الانتقالي. وأعتقد أن أفضل مخرج من ذلك هو أن يتفقوا على برنامج الفترة الانتقالية وعلى أن المهم هو تنفيذ البرنامج، وليس المناصب.. وبناء على ذلك، يتسلم البعض المناصب الرسمية للتنفيذ، ويقف الآخرون مراقبين ومساعدين بهدف ضمان تنفيذ البرنامج. هذا في حد ذاته سيكون بداية لتعليم الشعب مراقبة الأداء الحكومي. وذلك أمر نحتاجه أشد الحاجة، فما انساقت البلاد في هذه الهاوية إلا لأن الشعب لا يعرف حقه ولا يحمي مصالحه بمراقبة حكامه.
    ترسيخ مبدأ الرقابة الشعبية هو الحل
    إن ترسيخ مفهوم المشاركة من خلال الرقابة الشعبية من شأنه أن يعيننا أيضاً على تدارك عيب أساسي في حركتنا السياسية. فقد دلت التجارب أن أزمة السودان في جنوبه ليست أزمة اتفاقيات ومواثيق، وإنما هي أزمة وفاء بالعهود. هي أزمة استقامة. هي أزمة فكر وتربية أساسية. وقد بيَّن ذلك السيد أبيل الير في كتابه القيم، الذي رصد فيه هذا التاريخ المخزي للسياسيين الشماليين.

    وهذا يعني أن طبيعة السياسيين والتنفيذيين الذين يناط بهم النهوض بأعباء الفترة الانتقالية هو أمر في غاية الأهمية. بيد أننا لا يمكننا استيراد أجانب لإدارة بلادنا. فيكفينا خزياً أننا بعد قرابة نصف قرن من الاستقلال لا نزال عاجزين عن إحلال السلام، والأمن، وعن إدارة خلافاتنا، ونحتاج لتدخل الدول الأخرى، مثلما يحتاج الأطفال لتدخل الكبار في مشاكلهم. إن في هذا مدعاة للأسف الشديد. بيد أن بعضنا ربما لا يرى بأساً بذلك، بل هو يسيل لعاباً للعون الذي ستدفعه هذه الدول بعد توقيع بعض الأوراق.

    إن المخرج الوحيد من هذه الأزمة العميقة هو ترسيخ مبدأ الرقابة الشعبية، وتوعية الشعب به، ولفه حوله، حتى يجبر السياسيين والتنفيذيين على الاستقامة. ولا بد من ضبط لهذا الأمر.
    قبول الاتفاقية شرط أساسي
    للمشاركة في الحكومة الانتقالية
    وبمعزل عن الأزمة العميقة التي أشرت إليها أعلاه، فلابد من الانسجام في أجهزة الفترة الانتقالية كلها. وهذا يعني أن لا يختار لها أي شخص يعترض اعتراضاً أساسياً على اتفاقية ماتشاكوس. وهذه بداهة ما كان ينبغي أن تحتاج التقرير. إذ لا يمكن أن يسند تنفيذ أي جزء من برنامج الفترة الانتقالية لمجموعة تعترض على الاتفاقية التي تمخضت عن أجهزة الحكم الانتقالي نفسها، وتعترض بالضرورة على اتفاق السلام وبرنامج الفترة الانتقالية. ومن المؤسف إن بعض المشتغلين بالسياسة حالياً لا يدركون شروط أهلية المشاركة في الحكومة الانتقالية. فقد طالب بعضهم بإشراك حزب المؤتمر الشعبي (حزب الترابي). ومعلوم أن حزب الترابي رفض اتفاقية ماتشاكوس لأنها تخالف الشريعة. فقد أفادت صحيفة الخرطوم في عددها بتاريخ 24/7/2002 أن المؤتمر الشعبي أصدر بياناً وجَّه فيه انتقادات حادة لاتفاقية ماتشاكوس وورد فيه أن الاتفاق (أتاح التدخل الأجنبي وأغفل الديموقراطية والحريات العامة وألغى الشريعة مما يفقده الشرعية والاستمرارية والسند الشعبي)، كما قالت الصحيفة أن البيان وصف الدستور الاتحادي بأنه "علماني".

    فإذا كان ذلك هو موقف المؤتمر الشعبي، فلا مجال لأحد للمناداة بإشراكه في المفاوضات المقبلة، ولا في الحكومة الانتقالية. ولكن السياسيين في هذا البلد المنكوب ليس لديهم أي معيار، ولا أهلية، ولا مرجعية لتحديد الموقف السياسي، وإنما هم حاطبو ليل. من الصحيح أن ينادي الناس بالإفراج عن الترابي من المعتقل، ولكن ليس من الصحيح أن ينادوا بإشراك حزبه في المفاوضات أو في الحكومة الانتقالية، لأنه يعارض ذات الاتفاقية التي تجري تحتها المفاوضات والتي ستتمخض عنها الحكومة الانتقالية. والمناداة بإشراك حزب الترابي أو أي حزب مماثل في الحكومة الانتقالية، هي محاولة غير موفقة لإظهار روح ديموقراطي، ولا تنم إلا عن غفلة سياسية منكرة.

    والحق أن اعتراض حزب الترابي على اتفاقية ماتشاكوس بسبب إلغائها الشريعة إنما يكشف عدم جدية الإخوان المسلمين، وتشبعهم بروح المناورة السياسية المجردة من كل خلق. فالترابي سبق له أن توصل لاتفاق مع الحركة الشعبية، وقال أن الحرب في الجنوب ليست جهاداً، وأن أهل الجنوب يدافعون عن حقهم، وأفاض في ذلك. وقد اعتقلته الحكومة متذرعة بذلك الاتفاق الذي اعتبرته خيانة للشهداء. ثم حين جاءت الحكومة اليوم لتعقد اتفاقاً مع الحركة، سعى هو لسحب قاعدتها منها باسم الشريعة. ماذا يعني هذا؟ هل كان هذا الرجل جاداً حين أبرم اتفاقاً مع الحركة الشعبية قبل شهور؟
    محتوى اتفاق السلام حاسم لمستقبل السلام
    لنجاح الفترة الانتقالية لابد من اتفاق سلام منسجم لا تتجاذبه الدوافع والفهوم المتعارضة. وذلك لأن اتفاق السلام سيكون بمثابة فلسفة الحكم خلال الفترة الانتقالية. بعبارة أخرى، فإنه سيكون النموذج النظري الذي سيحاول الشعب تطبيقه في أرض الواقع خلال الفترة الانتقالية بواسطة الأجهزة الانتقالية. ولن تصل الأطراف لاتفاق سلام منسجم إلا إذا خاضوا المفاوضات بعقلية السلام.

    واتفاق السلام لا ينحصر في إجراءات فصل القوات ووقف إطلاق النار وإنهاء المواجهة العسكرية، كما قد يظن البعض. هذه نتائج عملية وتفصيلية قد تجيء في صورة ملاحق لاتفاق السلام. فلأن اتفاقية ماتشاكوس تهدف أصلاً إلى حل الأزمة من جذورها برفع المظالم التاريخية عن أهل الجنوب بخلق إطار للحكم يقوم على الاقتسام العادل للسلطة والثروة وضمان صيانة حقوق الإنسان، فإن اتفاق السلام يجب أن يخاطب المشكلة في هذا المستوى، ويضع الأسس الكافية لحلها. لابد أن يشتمل اتفاق السلام على المبادئ الأساسية التي بموجبها يرفع الظلم التاريخي، والتي سيصاغ على ضوئها البرنامج التفصيلي للفترة الانتقالية، وهو البرنامج الذي يؤمل به تحقيق الهدف المنشود في السلام الحقيقي، والوحدة، والتنمية. وأعتقد أنه من الأفضل، أن يكون هذا البرنامج نفسه ملحقاً لاتفاق السلام، حتى يأخذ قوتها، فلا تسير بعض القوى الانتقالية لتنفيذ أهداف تتعارض معه. ولا بأس من أخذ أي وقت لإعداد الملاحق الكافية لاتفاق السلام. فإن أي وقت يصرف في ذلك، أفضل من العجلة التي قد تتسبب في انهيار الاتفاق نفسه لاحقاً. ويمكن أن توقع الأطراف اتفاق السلام وكل ملحق يتم الاتفاق عليه بمجرد إعداده، وتواصل السير في بقية الملاحق.
    ضرورة إعادة تأهيل السودانيين !!
    كما ورد آنفاً، فإن الخروج باتفاق سلام منسجم ومتحد الأهداف أمر حاسم لنجاح مساعي السلام الحالية. كما يجب أن تتبع ذلك صياغة برنامج مفصل للفترة الانتقالية. وعلى القوى الوطنية كلها أن تصيغ برنامجاً علمياً واضحاً منذ الآن. وسأحاول هنا أن أذكر أموراً هامة أرى ضرورة أن يشتمل عليها البرنامج.

    وقبل ذكر تلك الأمور تحسن الإشارة إلى أن كثيراً من السياسيين يظنون أن نجاح مساعي السلام الحالية رهين بدعم من الدول الراعية للسلام يعاد به تأهيل البنيات التحتية. وهم يعنون بذلك البنيات الاقتصادية، كالطرق والاتصالات والمشروعات. ويبدو أن الدول التي ترعى المفاوضات تنوي بالفعل تقديم دعم للسودان. وهناك رغبة واضحة لدى الساسة السودانيين في استقطاب الدعم الأجنبي، لمآرب شتى.

    والحق أن السودانيين قد استلموا بلدهم عند الاستقلال وبها من البنيات الاقتصادية ما كان مناسباً بحساب ذلك الوقت، ولكنهم حطموها بكفاءة واقتدار. ومن أجل ذلك، فإن أي اتجاه للدعم في الوقت الحاضر يجب أن يتجه للإنسان السوداني نفسه. هذا، بطبيعة الحال، لا يعني أن البنيات الاقتصادية لا تحتاج البناء وإعادة التأهيل، ولكنه يعني أن أكبر من يحتاج إعادة التأهيل هو الإنسان السوداني نفسه، وخصوصاً المهنيين والمشتغلين بالخدمة العامة. وبغير ذلك، سيتحطم ما يبنى بالدعم الجديد، مثلما تحطم سابقه. لابد من برنامج لإعادة تأهيل المتعلمين، ولابد من إعادة تعليم بعضهم. فإن كان حقاً أن الأمية الأبجدية هي أحد مشاكل السودان، فإن الأمية المهنية والوظيفية هي مشكلة أكبر.

    والحق أنه ليس هناك من دعم يمكن أن تقدمه الدول الراعية للسلام هو أهم من تأهيل الإنسان السوداني نفسه. فإن أي تأهيل مادي لا يصاقبه تأهيل للإنسان، مقضي عليه بالفشل والهزيمة منذ أول وهلة. إن من حسن الطالع أن بريطانيا هي الآن من الدول التي ترعى العملية السلمية. فهي تعرف أين تركت السودان في عام 1956 وأين هو السودان الآن.
    الأمية المهنية حاضرة دوماً
    الأمية المهنية تلف حياتنا كلها. وهي من أكبر علله. وما من دليل على الأمية المهنية والسياسية أكبر عندي من النص الذي ظل ثابتاً في دساتيرنا ووثائقنا الأساسية منذ عقود بأن الشريعة هي مصدر رئيسي للتشريع. فليس من شأن الدساتير التي تستحق اسمها أن تنص على مصادر التشريع، وإنما من شأنها أن تنص على المعيار الذي يجب أن يستوفاه أي تشريع، وهو معيار الدستورية.. أي أن يكون التشريع دستورياً. فإذا استوفى التشريع هذا الشرط اللازم، فلا شأن للناس بمصدره. وبنفس القدر، إذا فشل أي تشريع في الوفاء بهذا الشرط، كان باطلاً، دون أدنى اعتبار لمصدره، ولا يشفع له أن أي وثيقة قد نصت على اعتبار مصدره مصدراً رئيسياً للتشريع. إذ لا يصح أن نأخذ من أي مصدر إلا ما كان منطبقاً على الدستور.

    هذه أبجديات خلَّفها العالم قبل أكثر من قرن. ولكن الحكومة أصرت على إدراج نص في الاتفاقية يفيد بأن الشريعة هي مصدر رئيسي للتشريع في الشمال. كما أن لجنة الدستور والقانون بالتجمع الوطني بدت منزعجة من هذا النص. هذا نص عديم القيمة، وهو جهالة تتلبس الدين. ولكن لا يمكننا الاحتراز من هذه الجهالة إلا بقضاء يستحق اسمه.
    ضرورة بناء القضاء من الصفر
    ولكن هل لدينا قضاء بالسودان؟ لا. ولم يكن لنا منذ عقود. ويكفي القول بأن نميري ربما تعذّر عليه تكسير اتفاقية أديس أبابا لو كان هناك قضاء يستحق اسمه. وبالطبع، ليس هناك أدنى أمل في عدل، ولا أمن، ولا سلام، في غياب قضاء مؤهل فنياً وخلقياً. فالقضاء هو صمام الأمان، وهو الذي يحفظ ويرد للناس حقوقهم. وغياب القضاء الحر، يفتح الباب للفوضى فوراً. وليس من سبيل لقضاء حر، إلا ببناء سلطة قضائية كفؤة، من الصفر. ولا يتم ذلك إلا بإعادة تأهيل عدد مناسب من قضاة جدد، وخصوصاً في المحاكم الأعلى، وبخاصة المحكمة العليا التي ترعى الدستور والحقوق الأساسية. لابد من محكمة عليا مؤهلة علمياً وخلقياً لتوقف الاستغلال التاريخي للقضاء من جانب السلطة التنفيذية، والتغول التاريخي عليه. وما يقال عن القضاء، يقال عن بقية الأجهزة العدلية. ويقال عن الشرطة على وجه الخصوص. لابد من تأهيل مكثف بموجب برنامج إسعافي، واضح الأهداف، يركز على الثقافة القانونية الحقة، وعلى ثقافة حقوق الإنسان. وما يقال عن الأجهزة العدلية، يقال أيضاً عن كثير من المؤسسات القومية ومرافق الخدمة العامة.
    تحقيق الأمن لازم لنجاح الفترة الانتقالية
    إن تحقيق الأمن شرط لازم لحياة الإنسان وحريته. ولابد أن يبذل الأطراف أقصى جهد للحيلولة دون زعزعة الأمن في الفترة القادمة. فحالة الحرب ساقت لتكوين مليشيات عديدة، وتسليح قبائل، وغير ذلك. لابد من تأهيل القوات المنوط بها حماية الأمن في كل منطقة تأهيلاً فنياً ومادياً لحفظ الأمن. وربما كان من الأفضل قيام لجنة أمن مركزية، ولجان فرعية، وخصوصاً في مناطق التماس، حتى لا تؤدي أي صدامات في هذه المناطق إلى إحياء العداءات القديمة. ولابد في هذا الإطار من إعادة تكوين الجيش السوداني بموجب أهداف وأسس قومية.

    وبمعزل من مسائل الأمن المرتبطة بالمليشيات والنهب المسلح، لابد من تأهيل الشرطة علمياً داخل المدن والأرياف، لتعين الناس على ممارسة حقوقهم، لا لتصادرها. إن جهاز الشرطة جهاز خطير، ولابد من تثقيف كوادره لوقف إساءة استخدام السلطة. ولابد من اختيار ضباط الشرطة كلهم من الجامعيين المتميزين مستقبلاً.
    حرروا أجهزة الإعلام المحتكرة
    لقد دللت التجارب أن حكوماتنا، عسكرية ونيابية، تحتكر وسائل الإعلام، وتديرها لصالحها. واعتقد أن من أهم عوامل الإصلاح، تأسيس أجهزة إعلام (محطات إذاعية وتلفزيونية)، بمعزل عن الحكومة، وعن الأجهزة الحالية التي قد يستعصي على الحكومات تسخيرها للشعب. ولابد أن يكون هدف هذه الوسائل توعية الشعب. ولابد أن تدار هذه الأجهزة، وكذلك الأجهزة الحالية، بواسطة كفاءات لها دراية برسالة الإعلام في بلد كهذا. ولابد من توفير مادة مفيدة في إطار الدعم الثقافي الذي قد تقدمه الدول الراعية. ولابد من قانون يقطع دابر التغول الحكومي والتسلط بجميع صوره على رسالة الإعلام.
    الطرق والاتصالات
    إن شعباً لا تربط بينه وسائل المواصلات والاتصالات ليس مقضي عليه بالانفصال مستقبلاً، وإنما هو منفصل فعلاً. ولذلك أعتقد أن إنشاء شبكة طرق حديثة تربط الجنوب بالشمال وأجزاء القطر كلها ببعضها هو أهم وأول عمل يمكن أن تنفذه الدول الراعية لعملية السلام. ولابد من إعادة تعمير، وتوسيع، السكك الحديدية. وينطبق ذلك على وسائل الاتصال.
    الدعم الأجنبي ومشاريع التنمية
    معلوم أن الدعم الأجنبي الذي تنوي تقديمه الدول الراعية لعملية السلام سيوزع بمراعاة لمبدأ التوازن، بحيث تنال القسط الأكبر منه الأقاليم الأكثر افتقاراً للدعم، وعلى رأسها الجنوب. بيد أن العمل الإسعافي والإغاثي يجب أن لا يستغرق إلا جزءاً ضئيلاً من الدعم. فلابد من إنشاء مشاريع إنمائية كبرى تؤهل المواطنين لكسب العيش الكريم بأنفسهم على المدى المتوسط والطويل. والشروع في إنشاء هذه المشاريع فوراً سيوفر فرص عمل ومجال رزق للمواطنين منذ أول وهلة. وذلك أفضل لهم من التبطل وانتظار الإغاثة. وأعتقد أن عنصر الإدارة هو عنصر يستحق أن توليه هذه الدول عناية خاصة بكافة المشاريع الإنمائية، بما في ذلك المشاريع القائمة.
    الإصلاح التعليمي ضرورة عاجلة
    إذا كنا نتحدث عن إعادة تأهيل المتعلمين السودانيين، فهذا يعني أن المناهج والأساليب التعليمية قاصرة. وهذا يعني أن نجفف منابع الأزمة، بإصلاح التعليم، حتى تنشأ أجيالنا القادمة وقد نالت تعليماً صحيحاً ومفيداً. إن التعليم قد ناله التخريب عن جهل وعن عمد أيضاً. وإنشاء أجيال متعلمة تعليماً صحيحاً هو الحل الأفضل والمستقر لمشاكلنا.
    ثنائية التعليم أكبر خطر على الشعب
    إن ثنائية التعليم هي من أكبر الأخطار على هذا الشعب. فالتعليم الديني الذي يقوم في المعاهد والجامعات الدينية اليوم إنما يتوفر بصورة أساسية على دراسة الفقه الإسلامي الذي نشأ قبل قرون، وهو لا صلة له بحياتنا الراهنة. بل هو يقوم على ثقافة خلَّفها الوقت. وهذه المعاهد والجامعات هي ماكينات زمن حقيقية (Time Machines)، إذ يدخلها الشاب من هذا القرن، فيتخرج منها وكأنه من قرون سلفت. ولقد ركَّـزت الحكومة الحالية على التعليم الديني في إطار برنامج "التوجه الحضاري" و"التخطيط الاجتماعي"، وذلك لتحويل المجتمع برمته إلى أمة من العصور السالفة، حتى يتواءم مع معارف تلك العصور.

    ولعل الناس يذكرون دور مؤسسة كالمركز الإسلامي الإفريقي في تحويل عدد من ضباط القوات المسلحة من ضباط ينتمون لمؤسسة قومية إلى ضباط حزبيين. كما يذكر الناس أن ذلك قد تم على سمع وبصر ومشاركة ومباركة السيد الصادق المهدي، رئيس وزراء العهد النيابي، ربما في غفلة من غفلاته.

    من أجل ذلك، لابد من تصفية التعليم الديني، والنظر في تأهيل خريجيه في مجالات نافعة لأنفسهم وللناس من حولهم. هذا أمر بالغ الأهمية، ولا يطففه إلا غافل، أو مغرض.

    إن ما يمكن أن يقال في هذا الجانب كثير. ومن ما يؤرق المرء أن القوى السياسية لا تبدو منتبهة لهذه المأساة. بل إن أكبر هذه القوى لا يرى مشكلة غير بعده عن مواقع السلطة. وهو إن جاء إلى موقع السلطة، فإنما يجيء بلا رؤية، وبلا هدف، إلا هدفاً صغيراً أو خاصاً.
    أين هو الشعب من قضيته؟!
    لقد أحس الشعب السوداني بفطرته عمق المأساة. لكن لابد أن يعرف الشعب أبعاد الأزمة، ولابد أن يباشر المثقفون تبصير الشعب بكيفية إدارة هذه الأزمة. وهذا ما من أجله اقترحت إصلاح التعليم، وإعادة تأهيل الأجهزة الحساسة، والاهتمام بالقضاء، والأمن، ووسائل الإعلام.

    إن الشعب يجب أن يملك المعلومات. يجب أن يعرف ماذا يعمل الساسة والتنفيذيون. يجب، مثلاً، أن تنشر الاتفاقيات والوثائق المتعلقة باستغلال موارد الشعب الطبيعية، وغيرها من الاتفاقيات والوثائق المرتبطة بحقوق ومصالح الشعب. فالموارد الطبيعية هي ملك للشعب، وليس للسياسيين والتنفيذيين. إننا نريد سياسيين وتنفيذيين شفافين، كما نريد شركاء شفافين.

    لابد أن يعرف الشعب أن السياسيين والتنفيذيين هم خدمه، لا سادته. ومن ثم، فهو لابد أن يراقبهم، وأن يحاسبهم. لابد أن يعرف الشعب أن الشعوب الأخرى لم تنهض إلا لأنها عرفت حقوقها، ونافحت عن حقوقها، وراقبت حكامها، وحاسبتهم.

    وعلى زعمائنا وسياسيينا أن يقلعوا عن عادتهم الكريهة في اختزال دور الشعب في الهتاف والتصفيق والتهليل لهم. عليهم أن يوقفوا ذلك. عليهم أن يطلبوا من الشعب إذا ابتدرهم بالتصفيق والتهليل أن يوقف التصفيق والتهليل، وأن يسمع ما يقولون، ويفهم ما يقولون، ويقول رأيه فيما يقولون. وذلك يقتضي أن يخاطبوا عقله لا عاطفته. وذلك يقتضي أن يسمعوا من الشعب أيضاً، لا أن يظهروا أمامه للخطابة الفارغة، وإظهار التأييد بالهتاف.

    فهل يا ترى يجد زعماؤنا في نفوسهم ميلاً أو استعداداً لذلك؟ هذا سؤال ستجيب عليه الأيام القادمة إن شاء الله، وعلى ضوء الإجابة عليه ستتحدد مواقعهم من هذا الشعب. فلابد للشعب أن يرتفع، ليمسك قضيته في يده، ويملك القدرة على التمييز. ويومئذ لن يطمع فيه جاهل ولا مضلل.

    إن الشعب قد خاض تجربة جد مريرة، ويرجى له أن يكون قد تعلم منها ما يغنيه عن أخرى. بيد أن آية تعلمه هو أن ينهض ليحمي حقوقه، ويراقب حكامه.

                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de