الدولة الدينية والحقوق والحريات الأساسية في دستور السودان

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-24-2024, 00:25 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف العام (2003م)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
04-30-2003, 00:18 AM

elmahasy
<aelmahasy
تاريخ التسجيل: 03-28-2003
مجموع المشاركات: 1049

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الدولة الدينية والحقوق والحريات الأساسية في دستور السودان

    الدولة الدينية والحقوق والحريات الأساسية
    في دستور السودان لسنة 1998

    عبد السلام حسن عبد السلام*

    مقدمة
    احتل موضوع الدين والدولة أو بالأحرى تحكيم الشريعة الإسلامية حيزاً هاماً في الصراع السياسي في السودان منذ منتصف الستينيات. ومن المفارقات أن انقلاب مايو (1969-1985) الذي أعلن في بدايته أن أحد مبرراته هو إيقاف مؤامرة الدستور الإسلامي قد انتهى به المطاف في عام 1983، بإعلان تطبيق الشريعة الإسلامية (عبر ما عُرف بقوانين سبتمبر). وقد كان إلغاء قوانين سبتمبر 1983، أحد المطالب الرئيسية لانتفاضة إبريل 1985، وظل واحداً من أهم محاور الصراع السياسي طيلة فترة الديمقراطية الثالثة (1985-1989)، وشرطاً أساسيا من شروط الوصول إلى تسوية سلمية للحرب الأهلية التي الدائرة منذ 1983. ولم يكن انقلاب 1989 (حكومة الإنقاذ الوطني)، معزولاً عن ذلك الصراع. إذا أن أحد الدوافع الأساسية لقيامه هو أن الحكومة الديمقراطية كانت على وشك الوصول إلى تسوية سلمية على أساس إلغاء قوانين سبتمبر. وقد أوقف الانقلاب تنفيذ ذلك الاتفاق وأعاد التأكيد على عقوبات الحدود بسنه لقانون العقوبات لسنة 1990. وقد تصاعدت الحرب الأهلية في البلاد بعد نظام الإنقاذ الذي حاول تصوير الحرب الأهلية وكأنها جهاد من جانب الحكومة ضد المتمردين، وشهدت مناطق الحرب جرائم ضد الإنسانية بما في ذلك محاولة إبادة القوميات غير العربية، ولم تنج مناطق البلاد الأخرى من انتهاكات فظيعة لحقوق المعارضين بما في الاعتقال بدون محاكمة وتعذيب وتصفية الخصوم السياسيين.

    سجل نظام الإنقاذ في انتهاكات حقوق الإنسان وفي الجرائم ضد الإنسانية معروف وقد حفلت به العديد من نشرات الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان. ما يهم هذه الورقة أن تجربة الإنقاذ هي أول تجربة لتطبيق ما ظل الإسلاميون السودانيون ينادون به من دولة إسلامية.


    الدولة الدينية والعلمانية
    نشأت الدولة الدينية قبل ظهور الديانات الشرق أوسطية (اليهودية، والمسيحية والإسلام). ولعل نموذج الدولة المصرية القديمة هو من أبرز النماذج وأوضحها فقد بلغت أهمية للقداسة الدينية لسلطة الدولة حداً جعل الإسكندر الأكبر، بعد انتصاره على الدولة المصرية، الإدعاء أنه هو ابن الإله وهو إدعاء حافظ عليه البطالمة بعد الإسكندر.

    وغني عن القول أن الدولة الدينية قد اتسمت بالسلطات المطلقة للحكام فقد بل أن هذه السلطات ما كان يمكن لها أن تُبرر إلا بإدعاء أنها أمر إلهي. ولعل هذا ما يفسر قيام دول على أساس المسيحية على الرغم من أن السيد المسيح قد نادى بشكل صريح بفصل الدين عن الدولة. فقد رد على من سألوه عن رأيه في الجزية بقوله

    "أروني معاملة الجزية، فقدموا له ديناراً فقال لهم لمن الصورة والكتابة، قالوا له لقيصر، فقال لهم أعطوا إذاً ما لقيصر لقيصر وما لله لله".

    إن الصراع ضد سلطات الكنيسة في أوروبا الذي بدأ في القرن الثامن العشر هو في حقيقته صراع ضد الحكم المطلق، وقد نزع في سبيل ذلك القداسة التي حاولت الكنيسة إضفائها على الممالك الأوربية. وكان من نتيجته أن تم إرساء المبادئ التالية:

    ·0أن الشعب مصدر السلطات وليس الله، (غني عن القول، أن الأمر من الناحية العملية هو تفسيرات بعض البشر للإرادة الإلهية، وقد تقلص ذلك التفسير في أوروبا والعالم الإسلامي إلى تبرير الحكم المطلق؛

    ·ㄱعدم مشروعية التمييز على أساس الدين.

    الفصل بين السلطات الأساسية الثلاث (التنفيذية والتشريعية والقضائية).

    هناك العديد من الكتابات التي تحاول الإيحاء بأن كل ذلك الصراع وما تمخض عنه هو أمر أوروبي خالص، وأنه متعلق بالطبيعة الخاصة لرجال الدين المسيحي (الكهنوت)، مجادلين بعدم وجود كهنوت في الإسلام.

    إن ما انتصر في أوروبا الحديثة هو الديمقراطية وليس العلمانية. الحقيقة أنه لا يُوحد مذهب منفرد يمكن أن يُوصف بأنه المذهب العلماني، فكلمة علماني هي وصف لكل ما هو غير ديني. ويحاول الكثيرون في العالم الإسلامي المساواة بين العلمانية والإلحاد. وفي بعض الحالات تصوير العلمانية وكأنها إبعاد للدين من كافة مناجي الحياة العامة. والأمر ليس كذلك إذ لا زال الدين يلعب دوراً في البلدان الغربية المعروفة بعلمانيتها، الأمر الجوهري هو فصل الدين عن الدولة بما يُمكن خضوع أجهزة الدولة لحكم القانون من ناحية وتأسيس الحقوق على أساس المواطنة بدون التمييز على أساس الدين.



    القانون الدستوري الإسلامي
    على الرغم من أن الدعوة المحمدية قد نُظر إليها من قِبل بطون قريش المختلفة باعتبارها انقلاباً دستورياً يهدد التوازن الذي كفلته دار الندوة بين البطون المختلفة لقريش(1)، باعتبار أن الدعوة الإسلامية مقدمة للمناداة بمحمد ملكاً لقريش ومن ثمّ للعرب. إلاً أن الدولة الإسلامية لم توفر، لا في عهد محمد ولا في عهد الخلفاء الراشدين، لأعراف دستورية تصلح لأن تكون نموذجاً دستورياً تتبعه الأمة. فبدايةً كانت دولة الرسول مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بشخص الرسول باعتباره المشرع الأعظم من حيث تلقيه للوحي ومن حيث أن سنته نفسها هي مصدر للتشريع. وقد كان تصريف أعمال الدولة والتشريع لها يسير جنباً لجنب. أما صحيفة المدينة، التي يجادل الكثير من المعاصرين بأنها أول دستور مكتوب، فقد انحصرت في تنظيم العلاقات بين الجماعات الإسلامية والجماعات الأخرى داخل المدنية. ويستخلص الدكتور هيثم مناع وجود "إقرار بالمساواة الاسمية في الحقوق والواجبات بين العصبات المسلمة والعصبات اليهودية"(2). لقد نُسخت تلك المساواة الشكلية بما تلا من أحكام أهل الذمة من نصوص أو ممارسات.

    إن هناك اتجاه غالب في الفقه السني يُميز بين عصر الخلفاء الأربعة "الراشدين" وما تلاهم من دول إسلامية. وهو تمييز يقصد الإيحاء بأن الحكم في عهد الخلفاء الأربعة الأوائل هو المتفق "مع أحكام الدين الصحيحة". ويترتب على ذلك ضرورة وجود نقاط مشتركة بين العهود الأربعة تمثل "أحكام الدين الصحيحة". غير أن الشواهد التاريخية تؤكد قلة، إن لم يكن انعدام، ما هو مشترك في العهود الأربعة من أعراف دستورية. وربما انحصرت الأمور المشتركة في البيعة، وفي عدم قيام الخلافة على التوريث. ولكن ذلك لا يُعني أن هناك أحكام ثابتة للبيعة، مثال ما يروج له البعض من أن البيعة تتم من الأمة أو من أهل الحل والعقد فيها. فبداية لا يُوجد تعريف يمكن استخلاصه لأهل الحل والعقد فخلافة أبو بكر قد عارضها اثنان ممن لا يمكن إنكار أنهم كانوا وقتها نم أهل الحل والعقد؛ هما سعد بين عبادة ، وعلى بن أبي طالب الذي لم يعلن بيعته إلاّ بعد وقت طويل من مباشرة أبو بكر لخلافته. وقد اختلف المنهج الذي تم على أساسه افتراض انعقاد البيعة للخلفاء الراشدين، على النحو التالي:

    تمت البيعة لأبي بكر بعد أن حسم عمر النقاش داخل سقيفة بني ساعدة لصالح أبي بكر.

    تمت البيعة لعمر على أساس وصية أبي بكر.

    تمت البيعة لعثمان على أساس قرار مجلس الصحابة الذي حدده عمر بين الخطاب لاختيار الخليفة، وقد تمت البيعة لعلي على نفس الأساس، غير أن المعارضة المسلحة لعلي قد بدأت منذ اليوم الأول، فيما هو معروف بالفتنة الكبرى.

    لقد قام الحكم في الخلافات الإسلامية بعد ذلك، من عهد معاوية بن أبي سفيان إلى الخلافة العثمانية، على أساس القوة.

    هناك حاجة لأن نختم هذا الجزء بالملاحظات التالية:

    · لم تؤسس الدولة الإسلامية بدايةً بدولة المدينة وانتهاءً بالخلافة العثمانية أعراف دستورية خاصة بطريقة اختيار الخلفاء، وإنما خضع الأمر لسياسة الأمر الواقع، فيما عدا الأعراف التي سنتها كل أسرة حاكمة لاختيار الخليفة من داخلها (مثل الأمويين، والعباسيين الخ).

    · لم تعرف تلك الدول نظام الفصل بين السلطات، فطبيعة سلطة الخلفاء ومداها، ظلت امتداداً لما كانت عليه سلطة النبي رغم تفرده بالوحي الإلهي. فظل الخليفة كما كان النبي الرئيس التنفيذي والقضائي للأمة. وظل من وجهة النظر الدستورية الحاكم الفرد للدولة وصاحب السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية العليا(3).

    · يتم استخدام مفهومي الشورى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، باعتبارهما مبادئ دستورية إسلامية، على نحو مضلل. فبالنسبة للشورى لا يُوجد شكل محدد لمجلس الشورى المعني يجعل منه مؤسسة دستورية. ومن ناحية أخرى فإن الشورى غير ملزِمة للحاكم كما واضح في النص القرآني. أما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو شعار أخلاقي غير محدد. وتُوضح ممارسات الخلفاء، المرصودة بواسطة المؤرخين الإسلاميين، أن مقاصد الحكم كانت في الغالب أبعد ما تكون عن " الأمر بالمعروف".

    · على الرغم من أنه من الصحيح أن الإسلام لم ينشئ طائفة مميزة من رجال الدين مثل سلك الكهنوت المعروف في المسيحية. إلا أن أحكام الإسلام لا يمكن معرفتها إلا من خلال القرآن والذي لا يمكن تفسيره إلا بالمعرفة الدقيقة للغة العربية الكلاسيكية، ولأحكام الناسخ والمنسوخ والإلمام بأسباب النزول وغير ذلك من المهارات. ويصدق نفس الأمر على السنة. وقد نشأ لذلك ما يُعرف في العالم الإسلامي بعلماء الإسلام. وإذا أخذنا بالاعتبار الاختلاف بين الفقهاء داخل المذهب الواحد فضلاً عن تعدد المذاهب فإن من الممكن القول أن ما ينادي به الإسلاميون من اتباع أحكام هو إتباع لتفسيرهم الخاص لأحكام الدين.


    قضايا الدستور في السودان: التاريخ والمعضلات(4)
    في عام 1898 قضت الحملة الأنجلومصرية على الدولة المهدية في السودان، وبينما أُطلق على ذلك النصر العسكري إعادة فتح السودان (إشارة لاستعادة الدولة العثمانية التي كان محمد علي باشا قد احتل السودان باسمها في عام 1821)، إلاّ أنه كان في الواقع تأسيساً لكيان مختلف هو السودان المصري الإنجليزي. وفي عام 1953، تم توقيع اتفاقية الحكم الذاتي بين مصر وبريطانيا، مُنح السودان بموجبها حكماً ذاتيا‌، وكان من المقرر أن تنتهي الفترة الإنتقالية باستفتاء حول تقرير المصير، ليُقرر عبره وضع السودان. وكانت الخيارات المطروحة هي الاتحاد مع مصر؛ أو الدخول في مجموعة الكمونولث البريطانية؛ أو الاستقلال. وكان وضع جنوب السودان الذي كان قادته وقتها يطالبون بدولة مستقلة أو وضع فيدرالي، أحد العقبات الإضافية لصعوبة التوصل لإجماع. إلاّ أن القوى السياسية الشمالية تمكنت من تجاوز خلافاتها وقررت إعلان الاستقلال من البرلمان وقد نجحت في الحصول على إجماع برلمان الحكم الذاتي بعد أن وعدوا نواب الجنوب بالنظر بعد الاستقلال في موضوع الحكم الفيدرالي لجنوب السودان. وهو وعد لم يتم الوفاء به. وفي ديسمبر 1955، أصدر البرلمان السوداني بالإجماع قرار استقلال السودان.

    لقد بدأ السودان استقلاله بتعديل قانون الحكم الذاتي لعام 1953، ليصبح دستور السودان الانتقالي لعام 1956. وخلال الثلاثة وأربعين عاماً من الاستقلال، شهدت البلاد ثلاثة دساتير انتقالية، واثنين دائمين، وعدة أوامر دستورية وجمهورية. الجدير بالذكر أن الدستورين الدائمين المشار إليهما هما دستورا نظام نميري لعام 1973، ودستور النظام الحالي لعام 1998، وكلا الدستوران لم يحسما قضية الاستقرار الدستوري بالبلاد بدليل أن الأول قد أُلغي عقب انتفاضة إبريل 1985، والثاني هو محل صراع ليس بين المعارضة الديمقراطية والنظام فحسب بل بني جناحي النظام المتصارعين.

    إن أهم القضايا التي تواجه الاستقرار الدستوري في السودان هي كون السودان بلد متعدد الثقافات والأعراق والمعتقدات، وهو ما يُعبر عنه بمشاكل الهوية، والتوزيع العادل للثروة والسلطة.

    وتدخل قضية الشريعة الإسلامية في قلب صراع الهوية في السودان، فضلاً عن تداخلها مع قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان. سنعرض في ما يلي أثر قضية الشريعة في عدم الاستقرار الدستوري في كل من العهود العسكرية والديمقراطية:

    أولاً العهود العسكرية
    · اقتصر استخدام الحكم العسكري الأول (1958-1964) للدين على محاولة أسلمة وتعريب جنوب السودان، فقد قام بتضييق نشاط البعثات التبشيرية وقام بإغلاق المدارس التابعة للكنائس وفرض على النشْ الجنوبي تعلم اللغة العربية والإسلام، يل وقامت المدارس بفرض أسماء عربية على الطلاب الجنوبيين. لقد أحدثت تلك السياسية أثراً معاكساً فيما يتعلق بتقبل الجنوبيين للثقافة واللغة العربية، وأدت مع تصعيد العمليات العسكرية إلى كوارث عديدة في جنوب البلاد.

    · وصف دستور 1973 الذي وضعه الحكم العسكري الثاني (1969-1985) جمهورية السودان بأنها دولة اشتراكية يقودها حزب واحد هو الاتحاد الاشتراكي السوداني. وفي عام 1983 أصدر الرئيس نميري ما عُرف بقوانين سبتمبر الإسلامية، وقد أقام نميري مهرجانات في عامي 83، و84 لأخذ البيعة (باعتباره حاكماً إسلاميا) من القوات النظامية المختلفة، والمصالح الحكومية، وتجمعات جماهيرية بوصفه حاكماً إسلامياً للبلاد. وعلى الرغم من أن الحرب الأهلية قد انفجرت مجدداً في عام 1983 عقب قيام النظام بخرق اتفاقية أديس أبابا 1972، الخاصة بالحكم الذاتي الإقليمي لجنوب السودان، إلا أن صدور القوانين الإسلامية في نفس العام قد أضاف وقوداً للحرب وعقد من إمكانية حلها.


    ثانياً: العهود الديمقراطية
    برز اليسار وخاصة الحزب الشيوعي السوداني كقوة سياسية ، والذي لعب دوراً أساسياً في مقاومة الحكم العسكري وفي انتفاضة أكتوبر، في الديمقراطية الثانية (1964-1969) ونجح في الفوز بمعظم دوائر الخريجين في برلمان 1965. وترافق ذلك النهوض مع نمو ما عُرف وقتها في المنطقة بالأنظمة التقدمية مما أصاب القوى التقليدية بالذعر فلجأت إلى حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان ولم تعبأ بحكم المحكمة العليا بعدم دستورية تلك الإجراءات. وقد نالت في تلك الفترة فكرة الدستور الإسلامي تأييداً قوياً من الأحزاب الكبيرة، بما فيها الحزب الوطني الاتحادي الذي كان يُعد حزب الوسط في السودان. ومن الممكن القول استهتار الأحزاب الحاكمة بالدستور إضافة إلى ما أحدثه الدعوة إلى الدستور الإسلامي من انقسام وطني وتصعيد للحرب الأهلية قد أدى للأزمة السياسية التي نتج عنها انقلاب مايو 1969.

    ورثت الديمقراطية الثالثة (1985-1989) قوانين سبتمبر الإسلامية عن نظام مايو، وقد فشل كل من المجلس العسكري الإنتقالي والحكومة المنتخبة في إلغاء قوانين سبتمبر على الرغم من أن إلغائها كان واحداً من الشعارات الأساسية لانتفاضة إبريل التي أتت بالعهد الديمقراطي. وكان الصراع حول قوانين سبتمبر، والحرب الأهلية في البلاد (امتدت في عهد الديمقراطية إلى مناطق جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق)، فضلاً عن الأزمة الاقتصادية هي أهم العوامل التي أثرت على استقرار الديمقراطية الثالثة.


    دستور 1998: تأسيس لوضع جديد أم تقنين لحالة سائدة
    لقد حكم نظام الإنقاذ الحالي منذ انقلابه على الديمقراطية في 30 يونيو 1989، بموجب أوامر دستورية، وحصر الأمر الدستوري الأول للنظام السلطة التنفيذية والتشريعية في يد مجلس قيادة ثورة الإنقاذ الوطني، ثم قام الأمر الجمهوري الثاني تفويض سلطات المجلس لرئيسه العميد عمر البشير حسن أحمد.

    وقد استمر النظام إصدار الأوامر الدستورية بما في ذلك الأمر بإنشاء المجلس الوطني (البرلمان) عن طريق التعيين، وتقاسم ذلك البرلمان السلطة التشريعية مع المشير عمر البشير ثم أصدر قانون بالاستفتاء حول رئاسة الجمهورية. وعلى الرغم من وجود قائمة من المرشحين من بينهم بطل السباحة (كيجاب) إلاً أن نتيجة الاستفتاء أسفرت عن نتيجتها المحتومة بفوز الرئيس البشير بأغلبية تفوق الثمانين في المائة.

    وفي عام 1998 قام النظام بإصدار الدستور الحالي. وقد سبق إعلان الدستور تكوين لجنة فنية للدستور وسط ضجة إعلامية حول الانتقال من الشرعية الثورية إلى الديمقراطية وحكم القانون. الجدير بالملاحظة أن كل خطوات إعداد الدستور قد تمت في ظل مصادرة الحريات الأساسية وعلى رأسها حرية التعبير والتنظيم.


    سلطات رئيس الجمهورية الدستورية
    منحت المادة 43 من الدستور رئيس الجمهورية السلطات التالية:

    تعيين شاغلي المناصب الدستورية الاتحادية

    رئاسة مجلس الوزراء.

    إعلان الحرب وفق أحكام الدستور والقانون.

    إعلان حالة الطوارئ وفق أحكام الدستور والقانون.

    حق ابتدار مشروعات التعديلات الدستورية والتشريعات القانونية والتوقيع عليها.

    التصديق على أحكام الإعدام قتلاً ومنح العفو ورفع الإدانة أو العقوبة.

    تمثيل الدولة في علاقاتها الخارجية بالدول والمنظمات الدولية وتعيي السفراء من الدولة واعتماد السفراء المبعوثين إليها.

    التمثيل العام لسلطان الدولة وإرادة الشعب أمام الرأي العام وفي المناسبات العامة.

    أي اختصاصات أخرى يحددها الدستور أو القانون.

    وقد أضافت مواد الدستور الأخرى إلى تلك السلطات حق تعيين أعضاء المحكمة الدستورية العليا، وحق حل الأجهزة الدستورية بموجب إعلان حالة الطوارئ. وهو عين ما فعله الرئيس البشير عقب نشوب الخلاف بنيه وبين الشيخ الترابي رئيس المجلس الوطني. كما أن المادة 89 من الدستور لرئيس الجمهورية سلطة رفض أي تشريع، ولا يُلغى هذا الرفض إلا بأغلبية ثلثي أعضاء المجلس. كما يُعطي الدستور رئيس الجمهورية حق إصدار التشريعات الاستثنائية أثناء غياب البرلمان.

    من الواضح أن المواد المذكورة قد أقامت جمهورية رئاسية، لم تُعدل كثيراً في السلطات التي انتزعها الرئيس عمر البشير لنفسه عن طريق انقلاب الثلاثين من يونيو سواء باعتباره رئيساً لمجلس الثورة أو رئيساً للجمهورية. وستوضح الفقرات اللاحقة أن المجلس الوطني المزعوم لا يمكن إلا أن يأتي ممثلاً لوجهة نظر سياسية معنية.

    استقلال القضاء
    ·ㅂالهيئة القضائية: لقد جعلت المادة 100 من الدستور الهيئة القضائية مسئولة عن أداء أعمالها أمام رئيس الجمهورية". كما أعطت المادة 104 رئيس الجمهورية حق تعيين رئيس القضاء ونوابه. كما أعطت الفقرة الثانية لرئيس الجمهورية حق تعيين سائر القضاة بناءً على توصية مجلس القضاء العالي. سلطات رئيس الجمهورية هذه ليس سلطات اسمية فقد تم استخدامها من قبل رئيس الجمهورية، قبل صدور الدستور، بحيث تمت تصفية الجهاز القضائي من القضاة المستقلين وتعيين القضاة الموالين للنظام الحاكم.

    ·ㅅالمحكمة الدستورية: تنص المادة 104 من الدستور على أن "يعين رئيس الجمهورية رئيس القضاء ونوابه وفقاً لأحكام القانون". كما تنيط المادة 105 برئيس الجمهورية سلطة تعيين المحكمة الدستورية بموافقة المجلس الوطني. لقد ظلت المحكمة العليا، على مدى تاريخ السودان الحديث، الحارس للدستور، باعتبارها محكمة دستورية. ويسن دستور 1998 سنة جديدة بإقامته لمحكمة دستورية يعنيها كل من رئيس الجمهورية والمجلس الوطني. مما يفقدها استقلالها تجاه السلطة التنفيذية والتشريعية. إن دعوى عدم الدستورية هي في الواقع دعوى ضد تعسف السلطة التشريعية بإصدارها تشريعاً غير دستوري أو التنفيذية لإهدارها حقاً دستورياً. إعطاء سلطة تكوين المحكمة الدستورية لرئيس الجمهورية والبرلمان هو نسف لمبدأ فصل السلطات والرقابة المتبادلة بين السلطات المختلفة. ولعل أوضح مثال لذلك هو عدم قبول رئيس المجلس الوطني د. الترابي لقرار المحكمة الدستورية بتأييد قرار الرئيس البشير بحل المجلس بموجب حالة الطوارئ.

    ·ㅇهيئة المظالم ورد الحسبة العامة: استحدث الدستور في المادة (130) هيئة المظالم والحسبة العامة وأناط بها بموجب الفقرة الثانية من نفس المادة "رفع الظلم وتأمين الكفاءة والطهر في في عمل الدولة والنظم والتصرفات النهائية التنفيذية أو الإدارية. ولبسط العدل من وراء القرارات النهائية للأجهزة العدلية". وعلى الرغم من أن الفقرة المذكورة تبدأ بعبارة "دون المساس باختصاصات القضاء". إلاّ أنها تمثل كما أشار د. أمين "أعظم اعتداء على مبادئ سيادة حكم القانون وفصل السلطات واستقلال السلطة القضائية، فرفع الظلم وبسط العدل من اختصاص الجهاز القضائي"(5).

    الحقوق والحريات الأساسية
    نظم الدستور في الفصل الأول من الباب الثاني الحريات والمحرمات والحقوق. وقد أتاح في المواد من 23 إلى 26حرية التنقل، وحرية العقيدة والعبادة، وحرية حرية الفكر والتعبير إلا أنه ربط ممارستها جميعاً بارتباطها بأحكام القانون. وإذا أخذنا بالاعتبار أن جميع التشريعات المصادرة للحريات التي أصدرها النظام، مثل قانون الأمن الوطني وقانون نقابات العاملين وقانون الصحافة والمطبوعات وقانون النظام العام، لا زالت سارية المفعول فإنه يتبين أن النصوص المذكورة هي مجرد ألفاظ لم تغير من واقع القهر الذي فرضه النظام منذ اليوم الأول. "فقانون الأمن الوطني يتيح سلطة الاعتقال التحفظي لرجال الأمن ويكفل حصانة تامة لأعضاء أجهزة الأمن من أية مسألة قضائية. أما قانون الصحافة والمطبوعات فيتيح لمجلس الصحافة والمطبوعات منح تراخيص الصحف وإلغائها وإيقافها دون الرجوع إلى السلطة القضائية"(6).

    ادعى النظام في السودان أنه قد كفل حرية التنظيم عن طريق "التوالي السياسي" وذلك وفقاً للمادة 26 والتي تقرر التالي:

    (1) "للمواطنين حق التوالي والتنظيم لأغراض ثقافية أو اجتماعية أو اقتصادية أو مهنية أو نقابية لا تقيد إلا وفقاً للقانون.

    (2) يكفل للمواطنين الحق لتنظيم التوالي السياسي. ولا يقيد إلا بشرط الشورى والديمقراطية في قيادة التنظيم واستعمال الدعوة لا القوة المادية في المنافسة والالتزام بثوابت الدستور. كما ينظم ذلك القانون". لقد أثار استخدام الدستور لمصطلح التوالي نقاشاً واسعاً في السودان. فهو مصطلح غامض لم يتم استخدامه من قبل في الدساتير السابقة للسودان، كما لم يتم تداوله في الأدبيات السياسية السودانية. وقد حاول المدافعين عن النظام الترويج للمصطلح باعتباره مستمد من التراث الفلسفي الإسلامي، وأنه يُعني التعددية السياسية كما ما هو متعارف عليها. غير أن ذلك مردود عليه بأن المادة السابقة هي في الواقع تعديل لنص المادة (41) التي اقترحتها اللجنة الفنية مشروع الدستور التي نصت على الآتي: "للمواطنين الحق في التنظيم لأغراض سياسية وثقافية ونقابية وعلمية وعلى الدولة كفالة هذه الحقوق، ويجب ممارستها عبر ضوابط قانونية مناسبة". مما يُعني أن المشرع قد تعمد البعد عن النص الصريح على حرية التنظيم. وتتضح حدود الحرية المزعومة في نص المادة (3/2) من قانون التوالي "يجب على كل تنظيم في الحركة السياسية الالتزام بثوابت وأحكام الدستور" وإذا أخذنا في الاعتبار أن ثوابت الدستور كما حددتها المادة 139 تتضمن الشريعة حسب نص المادة 139 (أ) والتوالي السياسي حسب الفقرة (ب) من نفس المادة، فإن النتيجة المنطقية هي المقصود هو إتاحة حرية التنظيم للتنظيمات التي توافق على(7) المشروع الأساسي للنظام الحالي دون سواها.


    الدولة الإسلامية في السودان
    إذا كانت الدعاية الحكومية قد ركزت حملتها على أن إصدار الدستور هو تدشين لعهد جديد من الحريات وحكم القانون، خاصة في الإعلام الموجه للعالم الخارجي، فإنها حاولت أن الإيحاء، خاصة على المستوى المحلي، بأنها قد وفت بعهدها بإقامة دولة إسلامية في السودان.

    تنص المادة (4) على أن "الحاكمية لله والسيادة للشعب يمارسها عبادةً". وتقرر المادة (7) أن الجهاد في سبيل الوطن واجب على كل مواطن، وتنص المادة (1 على أن "يستصحب العاملون في الدولة والحياة العامة تسخيرها لعبادة الله، بينما تلزم المادة (10) الجميع مسلمين وغير مسلمين بدفع وأداء الزكاة. الواضح أن الغرض من هذه المواد الإيحاء بأن الدولة في السودان دولة دينية إسلامية. وقد حاولت المادة (4) تقديم حل لفظي لمسألة مصدر السلطات بنصها على أن السيادة للشعب، غير أنها قيدت تلك السيادة بحاكمية الله، وبأنها – أي السيادة - تُمارس على وجه العبادة. لا يحتاج المرء إلى أي عمق في فقه القانون الدستوري ليصل إلى أن عبارات مثل ممارسة السيادة عبادةً، وتسخير الدولة والحياة العامة لعبادة الله هي عبارة عديمة الجدوى، لا ترتب أي آثر قانوني. غير أن الغرض منها ومن حشد العبارات الدينية الأخرى التي تمت الإشارة إليها وإضفاء القداسة على دستور تم وضعه لخدمة أغراض سياسية محددة ويتضح الأمر في نص المادة 139، التي تحدد ثوابت الأمة وتبدأها بالشريعة الإسلامية ثم تأتي في الفقرة (د) لتضيف إلى تلك الثوابت "نظام القيادة رئاسي ينتخب فيه رئيس الجمهورية رمزاً للدولة وقائداً للجهاز التنفيذي ومشاركاً في التشريع". وهكذا يحاول الدستور إضفاء القداسة على موقع رئيس الجمهورية وسلطاته الدستورية، وكذلك على كل المواد التي تصادر الحقوق والحريات والأساسية وتدمر استقلال القضاء.



    خاتمة

    لم تُؤد الدولة الدينية على مدار التاريخ البشري منذ حمورابي والدول الفرعونية إلى إقامة مملكة الله في الأرض. إذ ظلت الدولة تُعبر عن وتحمي مصالح معنية. إلقاء الصبغة الدينية على الدولة لم يغير شيئاً في واقع الأمر سوى إضفاء قداسة دينية على الاستبداد. وتجربة السودان من خلال دستور 1998، دليل ساطع على ذلك فقد قامت أحكام الدستور بتأكيد السلطات التي انتزعها الانقلاب بقوة السلاح. وجعلت تلك الأحكام من الشريعة الإسلامية وسلطات الرئيس جمهورية ثوابت للأمة. ولم يؤد ذلك إلى حل الأزمة السياسية والدستورية للسودان، بل زاد من تعقيدها.



    الهوامش:

    (1) يتضح ذلك من قول الوليد بن المغيرة "تسابقنا وبنو عبد مناف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا منا نبي". ويتضح كذلك من معاضدة بني هاشم لمحمد على الرغم من أبو طالب لم يؤمن، حتى وفاته، بالدين الجديد.

    (2) د. هيثم مناع؛ المواطنة في التاريخ العربي الإسلامي. مبادرات فكرية؛ مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان. راجع أيضاً نص صحيفة المدنية في المؤلف المذكور.

    (3) عبد الله أحمد النعيم نحو تطوير التشريع الإسلامي. ترجمة وتقديم حسين أحمد أمين. سينا للنشر. القاهرة الطبعة الأولى 1994.

    (4) تم الاعتماد بشكل أساسي في كتابة هذا القسم على ورقة للكتاب بعنوان "التحديات الدستورية في الفترة الإنتقالية" قُدمت لمؤتمر كمالا لحقوق الإنسان في الفترة الإنتقالية في السودان؛ في فبراير 1999.

    (5) د. أمني مكي مدين؛ " أراء نقدية في دستور السودان لعام 1989" دراسة نشرت في جريدة الخرطوم.

    (6) المصدر السابق.

    (7) "حرية التنظيم" ورقة قُدمت لمؤتمر كمبالا الثاني لحقوق الإنسان في الفترة الإنتقالية.

    نقلاً عن موقع الثقافة الجديدة
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de