إلى صلاح عوض الله وآخرين : نص هيأه صاحبه للنشر .. والنقد

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-25-2024, 11:58 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الاول للعام 2009م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
02-13-2009, 06:29 PM

فتحي البحيري
<aفتحي البحيري
تاريخ التسجيل: 02-14-2003
مجموع المشاركات: 19109

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
إلى صلاح عوض الله وآخرين : نص هيأه صاحبه للنشر .. والنقد


    جبال التوتر
    رواية

    حاتم بابكر عوض الكريم ماهل

    هامش ضد العزلة


    أرى أنه قد آن لنا معاً،بعد معالجة جبال التوتر من الداخل أن نخطو خطوة جادة فنعمل النظر فيها كنص من الخارج،يهدف تحقيق مستوى ضروري من التفاعل بين ظروف كتابة النص والملتقى له ذلك لأن جبال التوتر كنص تخلقت في لحظة تطور كوني معرفي غير مسبوقة كان لها انعكاسها على الأدب والإنتاج الأدبي ومن ثم التذوق والنقد فالحق يقال أن هذه اللحظة الأدبية تتسم بتسارع لا محدود التغيير بل هي كل ثانية عرضه للتطور والتشكل والتحول مما يجعل عملية الإنتاج الأدبي هي الأخرى في تغيير مستمر وتبدل دائم كل ذلك وغيره نسف إلى حد ما البديهيات والمسلمات التي كانت ترسم الحدود الفاصلة بين أجناس الأدب- قصة ،رواية ، شعر ، نقد – فبرزت النصوص الجديدة التي تحمل في جوفها طبيعة الأجناس الأدبية كلها مع احتفاظها بخصوصيتها في أنها تنتحي ناحية التجريب هكذا ارتفعت الكتابة فبرز الإصدار المثابر في الكتابة ليعطي اتجاهات الإنتاج الجديدة رونقها المتألق وهجاً يلامس كل الموضوعات والقضايا فكان هناك اتجاه وضع نصب علينه بلورة أحلام الجماعة وشحذ إرادتها وناقش أعمالها وانفعالاتها في- انكسارها ونهوضها فشلها وانتصارها تقدمها وعجزها فصارت عملية الإنتاج الإبداعي مفتوحة أمام فضاءات لا تحدها حدود إلا زائقة المتلقى ومقاييس الجمال الإبداعي ومركزية الرؤية الإبداعية في عملية صناعة النص فصارت النصوص الأدبية لا تلتزم إلا بالقانون الأساسي الذي يحكم بناء وتكوين وتماسك ونضج النص الأدبي هكذا ضاقت المسافة الفاصلة بين الإبداع والمبدع وتاريخ الابداع فلم تعد هنا مساحة تذكر بين الإبداع الذاتي الموضوعي والإبداع الموضوعي الذاتي فلم يعد السرد النثري فضاء بعيداً عن الشعر كما لم يعد من الجائز افتراض أن الشعر يخلو من القصصية السردية فالذي يجعلنا نعاني القلق والارتباك عند النظر لجبال التوتر كنص أن النقد الأدبي للسرديات تجاوز فرضيات بديهية لم تعد حاكمة للنقد الأدبي ذلك عشية تحرر الأدب من الأيديولوجية الرسالية والكلامية المدرسية وظهر أدب الواقع القائم الذي يعبر عن العصر وأزمانه والتشكيل النفسي الوجداني لإنسان هذا العصر بكل طاقاته الإبداعية الخلاقة التي لم يعد من الممكن حدها بحدود معينة فالأدب المعاصر يعكس إلى حد ما الواقع القائم مهذباً إياه بإعمال طاقات المخيلة كما أخذت تبرز الصور المتخيلة بثوب واقعي كل ذلك يضع جبال التوتور أمام محاكمة من نوع جديد ربما لا يكون كاتبها مهيئاً لها لذلك تناول للملتقى ليصبح شريكاً في التفاعل لإعادة بناء النص من جديد ، دون قيود فأنا أرى أنه قد انتهى والى الأبد ذلك الأدب ذو الاتجاه الواحد الذي يخرج من الكاتب للمتلقى دون أن يكون للمتلقى دور وتأثير في النص أقد ذلك لأن المنتوج الإبداعي الخاضع لسلطة المشروعات الفكرية على اختلافها وتباينها صار يصنف كجزء من الخطاب السياسي أي أنه ترحل من مسار الأدب ودخل مسار أخر له شروطه ومطلوباته وقوانينه التي لا تحكم بأي حال من الأحوال في بناءات الإبداع الأدبي الحر الذي لا يتقيد إلا بقيوده الإبداعية فالأدب الحر كونياً إنسانيا ملتزما بالترقي الداخلي كقاعدة ثابتة لتصنيفه كأدب ،ففي وجهة نظري ككاتب لا بتعاطي النقد أرى أن الإنتاج الأدبي ليس معنياً تماماً باقتحام قضايا الأزمات اليومية فغير مطلوب من الأدب كأدب بأي حال من الأحوال مسايرة الخطاب السياسي في تطلعاته وتقديراته وقراءاته المسبقة لكل تفاصيل حياة الإنسان كفرد وجماعة فالذي يهمني في مطلق إنتاج أدبي أن المح فيه الأصالة والجدية والجرأة في الفكرة والمعالجة حتى ألمس نظرة الكاتب ومجتمعه وعصره والأسئلة السائدة والتناقضات القابضة على وجدانه وقت الكتابة ذلك لأني أقدر أن عملية الإنتاج الأدبي في نهاياتها لا تعدو كونها مساهمة خاصة تعبر عن خبرة ذاتية تتطلع لشيء مختلف عن السائد أي أنها تقدم صورة حية منظورة وأخرى غير منظورة من واقع خبرة ذاتية ونظرة لا تخلو من قوة المخيلة.
    الآن جبال التوتر بين يدي المتلقي على أن أتجاوز تجربتي الخاصة في الكتابة التي كانت شاقة وعرة اعترضنها عقبات متوقعة وأخرى غير متوقعة لأدخل مع المتلقي في قضايا تساهم في ردم الفجوة بيني وبينه وفي ذلك لن أرهقه بما يلي.
    • ما يتصل بظروف كتابة النص.
    • ما يتصل بخلفية الكاتب الفكرية والثقافية وأثر الجغرافيا والتاريخ عليه وقبل ذلك وبعده ما تستحضره ذاكرته وما يسيطر على وجدانه من تطلعات ورجاءات.
    • تاريخ الكتابة الإبداعية ومقاييس النقد التقليدية والتقسيم الجزافي للأجناس الإبداعية.
    • متاهات الثنائيات- التحرر والالتزام، الكونية والمحلية ،الحركية والجمود....الخ.
    مما يشكل ظلال تبرز صورة نمطية للنص كتلك التي ترى الكاتب يقدم صورة موضوعية خاصة بأدواته الخاصة متجاهلاً ظرفيات يطلبها المتلقي الذي يسعى بجد للخروج من تورطه في المحلية الساذجة السخيفة. هنا لابد أن أذكر أني تصرفت بحرية في بعض النقاط التي يتعلق بالفكرة حتى لا تصبح سمجة لزجة.
    • ما يتصل بالحوادث والنزاعات والكوارث والمآسي ليس المطلوب فيها الدقة التي تجعل النص يفقد حيويته وتماسكه.
    فمن القضايا التي أقدر أنها سوف تردم الفجوة بين النص والمتلقي ، تجربتي في الكتابة فقد كتبت النص أكثر من عشرة مرات دون أن أشعر بالرضا عنه،غير أني وجدت نفسي قد جمعت مادة هائلة كمياً، حاولت أن أقرأ المادة المتجمعة نقدياً بالتحليل والمرابطة والتفكير في الجدوى اعتقدت أني كتبت ما لا ينبغي على كتابته وتجاهلت ما ينبغي على كتابته فوجدت نفسي استرسلت وأفضت فاصطادتني تفاصيل التفاصيل عموماً شعرت بالإحباط والفشل وعظم القصور بين الهدف والنتيجة فأخذت إعادة الكتابة بمنهج يراعى العيوب السابقة مع إقراري بأن هدف الكتابة الأولى كان "حسن" لأنه كان بحثاً عن النهضة " النور" فكان من الضروري إدخال شخصية راو جديد حسن النور باعتباره شخصية راوية كلية المعرفة بتفاصيل الأشخاص والحوادث،تدخلت كراو ثاني يقرر في ماهية المادة التي جمعها حسن النور بذلك صارت مدونه حسن النور خاضعة لمعالجة فكرية من راو أخر له تقديراته ووعيه وتصوراته فأبحت لنفسي الإضافة والحذف والتقرير في جدوى المادة فكانت جبال التوتر التي هي عبارة عن مادة جديدة من آتون النار(المادة) الأولى المهم كان علي تحمل تبعات وأثقال الموقف الجديد،وكان علي تحمل تكلفة الأرتقاء والتطور ذلك لأن عملية الإنتاج فعل أنساني متصل له سيروره لا تتوقف بمؤثر الا من داخلها كعملية كتابة لها غايات ومرامي تتجه نحو البحث عن الأفضل فالأفضل الافتراضي فكانت جبال التوتر التي لا تدعي مقياس الكمال ككتابة وبصراحة لي فيها رأي لأني أعتقد أنها عجزت عن إبراز أن تبرز في وجه من أوجهها كظاهرة إبداعية متفردة، فهي عمل إبداعي عادي لا أرى في ذلك فشل أو ما يدعو للتشكيك في جدواها –أي شيء أراد الكاتب تحقيقه- أو أنها رسالة لم تصل للقطاعات المعنية بها ، كل ذلك وغيره فرض على أن أعيد كتابتها أكثر من عشر مرات كي أتصالح مع قواعد ومعايير ومقاييس الكتابة الأدبية الروائية برغم ذلك أستطيع أن أقول قد أكون نجحت أو ربما حالفني الحظ فنلت الفشل،هناك قضايا لابد من توضيحها أني بذلت جهدي في أن يكون النص مختلفاً متميزاً فتدخلت في الأحداث والتطور النفسي للشخصيات كل ذلك تم لغرض التميز المهم في النهاية قررت أنه يستحيل على التحرر من نظرتي الشخصية الخاصة وإن حاولت ولا يمكن إلغاء ثقافتي أو إنفكاكيي تماماً من شرطي الزمان والمكان،وأن أسقط نهائياً أثار العلاقات الاجتماعية المتسلطة على أفكاري ومواقفي الذاتية،إضافة لذلك مناخ انغلاق المجتمع بنظراته الآحادية وخصوصياته الروحية المحلية لن أخفي على المتلقي إني حاولت أن تكون جبال التوتر نصاً يحمل ملامح الإنسان- مطلق أنسان- برغم ذلك لا يحق لي أن أدعي أني وفقت ولا أتشائم بأني أخفقت فتلك خصوصية متعلقة بالمتلقى برغم ذلك لابد من أن أكون واضحاً وصريحاً مع المتلقى في نقاط هامة تؤثر في موقف المتلقى من النص.
    أولاً: جبال التوتر ليس الهدف من كتابتها الترويج إلى مواقف سياسية أيدولوجية،كما أنها كنص أدبي لا يرى كاتبها أنه يتنبأ بموقف مستقبلي حول قضية متنازع حولها، أو منطقة محل صراع، ربما يكون هناك لبث في أن جبال التوتر ضمت بين ضفتيها أسم قبيلة القنوك وهي قبيلة تنتمي إلى قومية الدينكا كذلك أسماء الأشخاص في النص هي ملوال ، ميار،وأشول ،أكيج وأموم ، وول وغيرها مما تتسمى بها قومية الدينكا في جنوب السودان بل النص يتحدث عن مناطق مثل مريال ونوليك والتونج، فنجاك غيرها من المناطق المعروفة والتي لها دلالاتها كأمكنة تقطنها جماعات قومية بعينها. ربما يستخدم البعض كل ذلك للادعاء أن جبال التوتر تتحدث عن النزاع بين شمال السودان وجنوبه ،أو مستقبل منطقة أبي،فاذا صل المتلقي الى تلك النتائج أو غيرها.
    فمن واجبي ككاتب للنص أن أؤكد كل أسماء الأشخاص والأماكن تم اختيارها لغرض وظيفي يخدم النص جماليا،فهذا النص لا يعترف بأنه لسان حال قضية بعينها كما أنه غير معنى بالتعبير عن تراث أي قبيلة،أو أفراد، اسر أو عائلات تحيا في الواقع وإن لامس النص تاريخها وتشكيلها النفسي الاجتماعي كمجموعات في الحياة الواقعية علينا أن نؤكد شيء آخر أننا في جبال التوتر لم نهدف الى اختراق خصوصيات الأفراد والأماكن والعائلات فكل شيء في هذا النص يتصل إلى أقصى الحدود التي يتيحها الأدب بالخيال قد أملت خيارات النص الضرورات الأدبية وليس هنالك اتصال بين النص وأي رسالة ايدولوجية سياسية وإن برزت ملامح ذلك فننصح المتلقي أن يتعامل مع النص بعيداً عن أي صراعات ومؤثرات خارجة فهذا النص لا ينتصر لأي شيء يتعلق بالأشخاص والجغرافيا والتاريخ والعقائد والأماكن ويعلنها صراحة أن كل تلك مستخدمة لأهداف جمالية لا صلة بأي شيء آخر.
    ثانياً: سيجد القارئ في جبال التوتر التطلعات تتصاعد من الصفر ثم تتدرج في الصعود حتى تبلغ القمة في اتساع الأفاق وإحاطتها بالإطارات والالتزامات الصارمة المشحونة بالخبرات الثرية في ميدان واقعي تتلاشي فيه الخصوصية، ثم يأتي الأنحدار من القمة نحو تحت سطح البحر فتظهر جبال التوتر في ذلك الجانب في شكل جرف ساحلي لا يسمح بالهبوط المنطقي المتدرج في ظل انكشاف مروع لمآزق المهاجر للعالم الأول من العالم البدائي فتحيط به الدهشة والحنين معاً إضافة لمسئوليات وتحديات متعاظمة هنا لابد من تلاشي وضعف خصوصية الأزمة والأمكنة في إبراز طغيان المطالب الإنسانية والحوجات غير المحددة فينهار المهاجر فيختار الحل الانسلاخي الأسهل أو الإندماجي الأصعب فالأمر يكون كالأنحدار من القمة إلى تحت البحر مباشرة دون تدرج في سهل ساحلي كان الأمر هكذا لضرورات موضوعية وذاتية معاً.ومحاولة لجعل جبال التوتر تتميز في آلياتها وشخوصها وما يعتريهم من قلق وإرباك ليس على مستوى الذهن فقط بل أيضاً على مستوى السلوك بشكل خاص.
    ثالثا: قد يتوقع المتلقي منا أن نقدم صورة شخصية عن جبال التوتر نقولها ببساطة ليس متاحاً لنا تقديم صورة ما يدور في ذهننا عن جبال التوتر لأن تلك الصورة مهما جاهدنا في أخراجها كاملة محايدة موضوعية لن تلفت من جاذبية التفصيل والمحمولات الثقافية والمعوقات الخاصة التي جابهها بناء النص لهذا لن أقدم صورة عن جبال التوتر لكي لا تترسخ الخصوصية في لحظة كونية أخذت فيها سلطتي الزمان والمكان في الاضمحلال ببل التلاشي في تيار جارف للاندماج في وحدة الإنسانية فجبال التوتر نفسها ضد الانغلاق والعزلة والجمود بل ضد الآليات التي يمكن أن تقود لتلك النتائج فمن الخفي المعلن عن جبال التوتر أنها تعمل مع غيرها دون تردد في عمل دؤوب لهدم الفواصل العازلة بين الناس ولا تمجد الذاتية الخاصة على كافة المستويات وتحتفي بكل اللغات.
    رابعاً: سيجد المتلقي أن هناك مفردات محلية تحتاج لتعريف عام أو كيف يعرفها الكائن في سياق جبال التوتر بمفردة حية ربما متجاوزة سياق استخدامها الخاص باتجاه إنفتاح أكبر وأشمل لتكون للمفردة حياتها ويكون للنص حياته المتصلة بالمفردة نحاول هنا أن نتناول بعض المفردات العامة الواردة في النص فنزلها للمتلقي حتى نضعف الخصوصية ونفكك الأسوار العالية التي تحيط باللغة المحلية نفسها وهذا خيار ارتضيناه في هذا النص ضمن خيارات أخرى تقود للإلتحاق بعجلة التواصل لكي يتحقق للمتلقي سيرورة التفاعل مع النص بعيداً عن أي شروط خاصة.
    هامش مفردات النص:
    1) ليلة السبر الكبير: هي ليلة طقوسية في احتفال فلكلوري متوارث عبر الأجيال فإذا قام الاحتفال يؤثر ذلك بأن يخلق مشاعر التفاؤل وإذا لم يقم يتصور البعض أن سبب ذلك يرجع لغضب الآلهة .قد تكون ليلة السبر حقيقية يقوم بها بعض الناس الآن،وقد تكون من ابتداع الكاتب الذي يبرزها كأقصى ما يكون في طاعة القواعد والتقاليد .
    2) النقوك: بطن من بطون قومية الدينكا في جنوب السودان تقطن منطقة أبي المتنازع عليها من قومية المسيرية العربية وقومية الدينكا،كما أن المنطقة محل نزاع بين شمال وجنوب السودان يقال السبب لأنها تزخر بالنفط في جوفها.استعارها الكاتب هنا بإعتبارها نموذج تعايش لمجموعات متعددة نوحدها الجغرافيا.
    3) الكواليب: جبل في منطقة جبال النوبة في كردفان في غرب السودان. كذلك الكواليب قبيلة من قومية النوبة تعود أصولها الى ممالك النوبة التاريخية في شمال السودان. ترد في النص لدلالة على منطقة الجبال والقومية النوبية.
    4) النبوءات: هي الحديث عن المستقبل وما سيحدث فيه، النبوءة هي دائماً إشارة روحية ما ورائية قد برز ذلك في اليهودية والمسيحية والاسلام، كثير من النبوءات وأشارة في النص تتصل بمحمول المفردة الماورائية.
    5) مريال:هي مريال بأي ضاحية من ضواحي واو ترمز في النص للوطن الأم ومطلق إنتماء أزلي راسخ.
    6) ملوال،مادوت،أشول ،أموم اسماء إرتبطت بقومية الدينكا في جنوب السودان هنا تشير لمطلق إنسان بعيداً عن القومية والأثنية.
    7) المرخيات: جبال في غرب أم درمان دلالتها في النص للعزلة والوحشة لأنها في قفر لا زرع ولا ضرع فيه.
    8) جزيرة إيبريا: أسبانيا والبرتغال ،والأندلس كمنطقة لتعايش الأعراف والديانات والثقافات في لحظة من التاريخ.
    9) الطلح : شجرة من أشجار السافنا الفقيرة وشبه الصحراء لها وظيفة عطرية.
    10) تطعن في الفيل لا في ظله: مثل شعبي شائع.
    11) المردوم: نمط من أنماط الغناء والرقص الجماعي لبدو شمال السودان.
    12) الجراري : نمط من أنماط الغناء البدوي لبعض قوميات شمال السودان.
    13) السافل: الشمال.
    14) الصعيد: الجنوب.
    15) جبل الزيتون: جبل في اسرائيل له دلالات عقائدية تتصل بالتوراة والانجيل.
    16) التونج: مراعي الأبقار في جنوب السودان
    17) أبا دينق: كاهن يرى الكاتب أنه يستمد سلطته من({ث الشلك) يشير الاسم في النص الى معاني روحية ترتبط بالشلك كقومية في الجنوب.
    18) دليب هيل: منطقة على النيل الأبيض تقطنها قومية الشلك.
    19) الملك الألفي: أصل المفردة سفر الرؤية في العهد الجديد وهي إشارة لمجيء المسيح وإقامة ملكوت الله على الأرض ألف عام يقصد الكاتب من استخدام الفدرة الاشارة الروحية الموحية بالنبؤة.
    20) جالا،أوجلاً، حقبوب ، الداخلة والخارجة، واحات معروفة في الصحراء الكبرى في شمال أفريقيا- بين دول مصر وليبيا والسودان.
    21) البافرا والياً أغذية شعبية في جنوب السودان.
    22) الهشاب والطلح والحراز شجيرات من أشجار السافنا الفقيرة وشبه الصحراء.
    23) الجلابة الهوارة:مجموعة قومية عربية سودانية تنتشر في كردفان ودافور وشمال السودان.
    24) وادي هور: مجرى مائي موسمي تقطن فيه بعض قومية الهواوير.
    25) رجال الطريق: يقصد بهم في النص رجال الطرق الصوفية. ونسق التدين الشعبي المنتشر في السودان بين المسلمين والمفردة ترد في النص لتأكيد التسامح الذي يتميز به هذا النسق من أنساق التدين.
    26) النوبات: طبول أفريقية يستخدمها المتصوفة السودانيين في العبادة والذكر والاحتفالات الدينية.
    27) دنقلاً: مدينة في شمال السودان كانت عاصمة الممالك النوبية قبل ميلاد المسيح ترد في النص للعراقة ودلالتها التاريخية الأنثربولوجية بإعتبارها مملكة المعزة المسيحية.
    28) الن، الشاشاي، الدوباي، أنماط من مسميات الشعر والغناء السوداني وهكذا تختلف أسماءها باختلاف الجغرافيا والسكان في شمال السودان تجيء في النص للأهمية الدلاللية.
    29) الجنيات:الأولاد، الأبناء.
    30) التأتيبة ، القسيبة ، الرحى ، المطمورة ، تشير الى أنماط من أنظمة تخزين الحبوب تختلف باختلاف الجغرافيا والسكان في شمال السودان تجيء في النص للأهمية الدلالية.
    31) السرف، الجمام ، المترة ، الحفير ،السد، تشير الى أنظمة محلية للتعامل مع المياه.
    32) نوليك: بحيرة نو على نهر النيل في جنوب السودان.
    33) أبشي: مدينة مهمة في شرق تشاد كانت عاصمة مملكة ودآي التاريخية.
    34) الشامبي: منطقة السدود على بحيرة نو.
    35) ودآي: مملكة تاريخية عريقة في غرب السودان وشرق تشاد شكلتها قومية البرقو.
    36) معركة الكبكب: أحدى المعارك بين الوطنيين والفرنسيين في القرن التاسع عشر الميلادي.
    37) الكبكب: مفردة من لغة البرقو تعني الساطور وهو سكين حاد يشبه السيف.
    38) البرقو: قومية سودنية تشادية تقطن غرب السودان وشرق تشاد.
    39) منواشي: احدى المدن الهامة في دارفور وترتبط بمملكة دارفور.
    40) الأبنوس: شجر استوائي تفيد أخشابه في صناعة الأثاثات مستخدمة كمفردة ذات معاني روحية عبد بعض قوميات السودان ترد في النص لتوحي بكل تلك المعاني والمداليل.
    41) اللورد سلسبري: رئيس وزراء بريطانيا في أواخر العقد الأخير من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.
    42) جيمس كري: مدير المعارف إبان الثنائي وواضع أسس النظام التعليمي في السودان.
    43) أوتاوا: مدينة رئيسية في أمريكا الشمالية وكندا وهي رمز للدنيا الجديدة أو تلك الأرض المستوعبة للهجرات.
    44) فانكوفر: مدينة في غرب كندا.
    45) التمونجنغ: لغة قومية الدينكا في جنوب السودان.
    46) تانحسي : اسم أطلق في الماضي على المنطقة جنوب مصر.
    47) الدنيا الجديدة: هي عبر العالم القديم أوربا وآسيا وأفريقيا ويقصد به الأمريكتين.
    48) الرجاف: سلسلة جبلية في المنطقة الاستوائية من أفريقيا.
    49) التونج: مراعي الأبقار في جنوب السودان.
    50) شوطئ الهادي: يقصد بها شواطئ المحيط الهادي.
    51) أهل الكاريبي : اشارة لسكان أمريكا اللاتينية ذوي الثقافة الاتينية.
    52) نبوؤات بني اسرائيل: يزخر التورات بنبوءات عديدة يشار اليها هنا بنبوءات بني اسرائيل.
    53) النبوءات: تعني مطلق نبوءة يفترض حدوثها في المستقبل سواء دينية أو علمية.
    54) طوفان نوح: هو طوفان ورد ذكره في سفر التكوين.
    55) صورة البعل : هو رمز لكل الألهة غير إله اسرائيل.
    56) جبل الزيتون: جبل يرد ذكره باعتباره مكان مقدس قرب أورشليم القدس.
    57) جبل التجلي: يقصد به مكان عبارة النبي موسى في صحراء سيناء.
    58) أورشليم السماوية: هي رجاء اتباع يسوع المسيح في نهاية التاريخ.
    59) القاهر: مدية القاهرة المصرية وترد هنا اشارة للحضارة الشرقية.
    60) مروي: مدية نوبية مركزية في حضارات النوبة التاريخية في أفريقيا.
    61) البركل : جبل في آثار حضارية النوبة التاريخية في أفريقيا.
    62) الهكسوس : قبائل ليبية سيطرت على مصر حتى أجلتها الأسرة الفرعونية السودانية.
    63) أشروباني بال:رمز من رموز الحضارة الأشورية العريقة في بلادها وراء النهر.
    64) كهنة أمونه: أمون راع هو اله المصريون القديم وكان له سدنة يقومون بخدمة العابد التي أنشئتها المصرية.
    65) سرادين مفازة جبل الملوك :هي مغارة افتراضية وردة لضرورة تتصل بتماسك النص.
    66) الحيزة:منقطة تشير الى مناطق الأهرامات المصرية.
    67) مدينة الاسكندر: اشارة لمدينة الاسكندرية على الساحل المصري المتوسط.
    68) أسيوط : مدينة عريقة في صعيد مصر.
    69) دايتون وسنساتي رموز مكانية للدنيا الحديدة والشمال الصناعي العريق.
    70) الرق: هو استرقاق الانسان واستعبادة كلياً أو جزئياً.
    71) الرق: هو استرقاق الانسان واستعباده كلياً أو جزئياً.
    72) الصحراء: يقصد بها الصحراء الكبرى في الشمال الأفريقي.


    مهما كان رأي المتلقي فإننا نقدر أن جبال التوتر محاولة متواضعة لمقاربة قضايا متعارضة غاية في التركيب في إطار خدم وظيفة الأدب ليس من أهداف جبال التوتر نقل الأيدولوجيات الشائعة كما أنها ليس من أهدافها تزييف الواقع لهذا قد يلاحظ المتلقي أننا عرفنا المفردات حسب ما نرى وليس علمياً معرفياً ذلك بمقدار توظيفنا إياها في النص فعلنا كل ذلك لتعميق التفاعل بين النص والمتلقي حرصاً منا على رأي المتلقي في المادة نؤكد أن هذا النص لا يلتزم بقواعد ولا أهداف مسبقة الا ما يخدم الغرض الأدبي الجمالي ولا يلتزم بأيدولوجية مهما كانت بالرغم من إعلانه في كل جزئياته أشواق عميقة للديموقراطية ورسوخ الحرية.
    أخي المتلقي ها هي جبال التوتر قد خرجت من يدي وصارت ملكاً لك لهذا أرجوك أن تستفيض في إطلاق الأحكام حولها لأني أعرف أنك الحكم العادل الذي بمقدوره أن يقرر قيمة النص وما به وما عليه وهكذا إنتقلت المهمة إليك يسعدني أن أعرف رأيكم فيها كنص أدبي.
    حاتم بابكر عوض الكريم
    أم درمان
    مارس/2008

    سيرة ذاتية
    • حاتم بابكر عوض الكريم ماهل.
    - مواليد مدينة كوستي – الحلة الجيدة 25/نوفمبر/1966
    - التعليم الابتدائي مدرسة جبور الشرقية رقم(5)(1976-1981).
    - التعليم المتوسط مدرسة منيب عبد ربه النموذجية(1981-1984).
    - التعليم الثانوي كوستي القوز الثانوية (1984-1987).
    - كلية النيل اللاهوتية الخرطوم بحري.
    - كلية النصر التقنية قسم الهندسة المدنية.
    - بكالوريوس تربية لغة عربية + تاريخ /جامعة السودان المفتوحة.
    • عمل محرر في صحيفة التلغراف( ديسمبر 1988-30أبريل 1989).
    - عمل محرراً ومتعاوناً في اصدارات الشركة العالمية للصحافة والمطبوعات في اصدارتها فاتي- صباح في(1993-1996).
    - عمل كاتب مشارك في صحيفة الخرطوم(2001-2003).
    - عمل كاتب صحفي راتب في صحيفة الأيام(2003-20047).
    - عمل كاتب صحفي راتب في صحيفة الأَضواء(2004-2007).
    • كتب مقالات متفرقة في صحيفة الصحافة والحرية والشارع السياسي.
    - نشر قصص قصيرة في الصحف والمجالات السودانية.
    - عرف بمقاله الأسبوعي في بابه الثابت( ما بعد الهتاف).
    - له ثلاثة مجموعات قصصية ( مخطوطات لم تنشر).
    - له كتاب سيرة ذاتية يسجل فيها تجربة عوض عبدالرازق سكرتير الحركة السودانية للتحرر الوطني( مخطوطة).
    - له نصان روائيات( تحت الطبع)
    - مساهم في منتديات مدينة أم درمان.
    - عمل معلماً في وزارة التربية والتعليم في ولايتي النيل الأبيض والخرطوم.

    (عدل بواسطة فتحي البحيري on 03-02-2009, 02:07 PM)

                  

02-13-2009, 06:30 PM

فتحي البحيري
<aفتحي البحيري
تاريخ التسجيل: 02-14-2003
مجموع المشاركات: 19109

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: إلى صلاح عوض الله وآخرين : نص هيأه صاحبه للنشر .. والنقد (Re: فتحي البحيري)

    إطـــار:

    في البدء اكتشف المكان نفسه ومنْ ثَّم تعرف على الأمكنة المحيطة به فاختلطت الدماء والأرواح فتعثر الأمل في رحم النبوءات ممهداً لانفجار مخاض قاسي انبثقت عنه المدائن على وادي النهر وعمق الصحراء فتشكلت حياة توالدت منها حيوات عبرت عن وجودها في الرمل والطين ذلك الأصل جذر التناغم والانسجام فصار ثوابت متحركة تتفاعل في ثابت متغير حرك هدير عميق كفعل العواصف فنشأت علاقات وأفلت علاقات ومن ثم تماسكت النفوس بعد إن همدت الحناجر الهاتفة بالأحلام الخائبة التي عجزت عَنْ شق وعثاء الأزمنة فتحررت العقول من الخوف فنفضت الأرواح عن نفسها أغبرة التوهم فمنذئذٍ تاهت المفاهيم والتصورات في أنفاق التوسل المسدودة بالرعب خشية عودة الطوفان لذا تلاشت المسافة بين الحقيقة والخيال واندثرت المعالم عدا ما هو مكتوب في جب هابي فالتصقت الأماني والرجاءات بالأرواح والعقول حتى صمت الهدهد واعترف بما يعرف لسليمان ..

    رسم الأمل ملامحه جنوب الشلال الأول على النهر العتيق فقد كونت رواسب الطمي أرض صالحة للزراعة فابتدع إنسان الوادي العمل فتطورت تانحسي بعيداً عن سلطة الشمال العريق مع الاحتفاظ معه بصلات عميقة عبر الحروب والتجارة والاتفاقات هنا يكمن جذر رغد العيش والعمران ، فانتظم وادي النهر حيويةً تشكلت خضرة وأتاحت فرص الرعي أكثر مما هو عليه في العصور السابقة تلك النعم امتدت إلى الجنوب عبر الحروب والمعاهدات والتبادل التجاري الذي انتظم حتى شلال السبلوقة وملتقى الأنهار حيث تقطن قبائل أرثن فصار الوادي شمالي بالكامل فأخذ الناس نظام الشمال الأقصى وديانته ومعابده وطرق دفن موتاه فانتشر الفخار والأواني الخزفية فصار أدنى الوادي محدود المجال كشريط ضيق على الشواطئ يتسع إلى حد ما في بعض البقاع ويضيق أحيانا جراء تراكم الصخور النارية عند هذا المنعطف اندلعت النزاعات ودارت الصراعات فشهدت تلك الصخور الانتصارات والهزائم وإراقة الدماء لعقود طويلة في حقب متباينة فتأثر سكان المدن في حياتهم الاستهلاكية الناعمة بتلك الحروب فصاروا يتذكرونها كحلم مؤلم فقد دون ذلك وغيره حسن النور في أسفاره البريئة التي جمعها عن الذين عاشوا وطأة الحروب بحماس مثقل بالأوهام الشخصية فمن مما ورد في تلك الإسفار أن مَنْ في الريف لم يسألوا أنفسهم من يحاربون ولأي شيء تدور الحروب ؟ فإنسان الريف الأمر عنده سيان لديه لان شح الموارد وسلطة الطبيعة أنجبا التهور القاتل ومن بعده نما الحقد الذي أغشى العيون وأعماها بالكراهية فتشكلت سحابة صارت غشاوة دموية غطت على العقول فترك الصبيان والصبايا المعاول وهجروا الأرض وامتشقوا السلاح وتزاحموا على ساحات الحرب فطحنتهم وأدمي الوادي دون أسباب معقولة أكثر من مرة لان شباب الريف أدهشته الأسلحة والأنظمة العسكرية والانطلاق عبر المدن البائسة بأغاني بسيطة ساذجة فاحشة فأتون النار هذا ما قاد حسن النور للبحث والتنقيب الصبور المضني عن مكونات شخصية إنسان الوادي بقواسمة المشتركة وتناقضاته وعقده القديمة والجديدة .
    لا يذكر حسن النور متى أصبح مسكوناً بقضايا وموضوعات الوادي ولا يعرف لماذا اهتم بتلك القضايا بصفة محددة فحسن النور يُقرَّب ذلك تقريباً على أساس مدينته التي تبدو في ميدانها الرئيسي كواحدة من أروع وأفخم المدن فكل شيء مبني بصورة عظيمة ليترك انطباعا بالفخامة والثراء . لكن بالنظرة الأقرب تتضح حقيقة مختلفة تماماً . فخلف عظمة المباني الرسمية تكمن العشش المنهارة والفقر المدقع ومبالغات القيادة القاسية . فاغلب الظن إن حسن النور تحمس لمعرفة تفاصيل حياة الوادي وليسجلها في سجله بلغته حيث اشتد البرد والجوع بالأجساد المرهقة من جراء المشي الطويل في الظلمة لقد تعود أن يذهب في الظلمة إلا أنه ضل طريقه تماماً واخذ يدور حول نفسه ولم يعد يهمه أن يعثر على مفتاح حل للواقع المحيط به لكنه يتوق جاهداً لمخرج من هذا التيه ذلك بإيجاد منظور يفسر له لماذا هذا الوادي منهك قاحل برغم النهر والخصب ؟ لماذا الإنسان هنا فريسة في شبكة من الصراعات والانقسامات والخلافات والممارسات الخاطئة ؟ لماذا يُستخدم الإنسان ألعوبة في عبث مصالح حتى ضربت الزلة الجاهلة على الوادي من أعلاه إلى أدناه ؟ يُرجح حسن النور في كتاباته التي جمعها أن كل ذلك يرجع إلى ثقل سلاسل الظلم الذي وقع على أطفال المجاعات التي ضربت الوادي مراراً وتكراراً وبسبب العصيان ، قد يكون حسن النور كتب تصوراته على ضوء ما جمعه من معلومات لكنه كان يعتقد أن وادي النهر يقطنه قوماً لا أمل فيهم لأنهم بلغوا درجة من الشَّر لا يستطيعون معها أن يتغيروا فصاروا سفاحين مغتصبين أقطاب الإرهاب قساة مملئين حقداً وكراهية فالمهم الذي يدعونا إلى إعادة النظر في مدونات حسن النور ليست قيمتها العلمية المعرفية بل لأنها كتبت بمهارة عالية تجذب الانتباه كما أن مدونات حسن النور تناولت مناطق غير منطقته,أسس علاقات وصداقات مع عشائر بعيدة عنه بالارتباط والتبادل والمعاشرة ومن هنا توصل حسن النور إلى أن الإنسان واحد مهما اختلفت قبائل الأرض وان البداية الحقيقة لكل الوجود واحدة قبل بداية الكون المادي فحدثت الانقسامات والصراعات والممارسات الخاطئة التي قسمت الناس إلى جذر متحاربة فطبيعي أن يتشطى وادي النهر العتيق إلى جذر مبعثرة بعد أن تعمقت الجراحات من أقصى شمال الوادي إلى حيث لا يُعلم له نهاية فقد أعترف حسن النور بعد أن تقدمت معرفته وتقدمت به السن وأمتلك جراءة المراجعة لما جمعة من مادة خام مهولة عن إنسان الوادي أن كل ما جمعه انطباعات شخصية وقصص عاطفية ووقائع معممة وأخيلة حافلة بالمزاجية وأفكار شخصية جامحة فكل ذلك مادة غنية غير أنها ليست كافية للبناء عليها أو التعويل على صدقيتها وأن تكن تصلح للنظر فيها بعين صابرة على المراجعة على نحو نهاية الوادي التي تتكرر في مدوناته فإذا كان الحديث عن وادي النهر فقطعاً له منبع ومصب فقد يصلح مجازاً المصب أن يكون نهاية غير النهاية فلا يعقل منطقاً أن يكون المنبع نهاية بأي حال لأن المنبع يوحي فيما يوحي باحتياج إنسان أصيل للانتماء خلافاً للنهاية التي تعني الموت والاختفاء بالرغم من كثافة المادة التي رصدتها مدونة حسن النور إلا أنها مشحونة بكلمات متهورة تخترق الهواء دون أن يلقي لها بالاً في فترة الاضطرابات فالمهم أن مدونة حس تحوي جهداً صبوراً على المراقبة المستمرة المرتكزة على حق كل البشر في إعمار الأرض والتمتع بخيراتها لهذا نقطع منها هذه الأجزاء التي تكشف الحدس الإنساني العميق والرغبة المحبة للتواصل والعمل المشترك فعن ادني الوادي نجده كتب صعد ملوال مادوت ربوة أعلى التونج مخاطباً جموع القنوك المحتشدة في الهزيع الرابع من الليل في (ليلة السَّبر الكبير ) محطماً كل الثوابت والقواعد التقليدية متجهاً لهدفه دون مواربة وبعيداً عن صناعة الكلام ونسج الأساطير لتخرج من فمه عبارات واضحة محددة تصل إلى سامعيه هكذا ( ياأبناء القنوك أهتفوا بصوت العزم فلا يغرنكم استسلام الغابة وخضوع الجبابرة فأنتم رجاء المسكونة والساكنين فيها كي تبنوا المدينة المشرئبة للسماء تطاولاً وعلواً فعليكم تشييد ملجأ الخائفين ومأمن الودعاء فنفضوا عن أياديكم الكسل والتواكل وتابعو انبثاق الحياة ليتجدد وادي النهر المنهك من الفوضى والمجاعات والحروب . فعلى أيديكم تنكسر الأقواس وتضيع معاول العمل لن يكون ذلك فبل تهاجروا لجبل الكواليب بقية الخروج من أطواق العزلة وسلاسل الظلم الكريهة هذا يعني نفض غبار الأزمنة القاسية بروح الحب المتطلع لنور العدل الذي جاء زمانه فقط أطلت عليكم النبوءات وحان حصاد الوصايا المترعة بالرجاء . فلا تهنوا في مطاردة الثعالب حتى اوجارها الباردة ) .
    خرج صوت من بين الجموع هاتفاً محتجاً على دعوة ملوال مادوت للهجرة لكنه تلاشى في جوفه الهتافات المساندة لموال دون تحفظ فعاد صوت مادوت قوياً مخاطباً الجموع المحتشدة )... لا خلاص لكم ولا نجاة بدون الهجرة شمالاً فتعبروا النهر كما جاء في النبوءة القديمة فتدفعوا بالثعالب لتعود إلى اوجارها وتشيدوا حصن الودعاء في جبل المرخيات فينبثق النور من قرن الشمس ليملئ الأرض من أقصاها لأقصاها فلا تتراخوا وعجلوا معي بالهجرة منذ الغد ) .
    هطلت الأمطار فالتجأ القنوك إلى أكواخهم يتجادلون حول الهجرة والبقاء في مريال ياي فظلوا هكذا في أكواخهم طوال موسم الرياح الغربية لا ينزلون للغابة إلا في أوقات نادرة بحثاً عن الطعام أو لملاقاة القوافل الشمالية النازلة من أعلى الوادي حاملة الطعام والرجاءات وألوان قوس قزح التي تسربت رويداً رويداً للأكواخ مثلما تسربت في القديم مع الرياح الشمالية من بحر القلزم حتى بحر الظلمات حتى أدركت لشبونه شبه جزيرة إيبيريا . مع رائحة المطر وردت البهائم انتشرت أريج بخور الطلح والجاو والقدنَّي فقبل شروق الشمس خرجت نساء القنوك ينشدن أهزوجة سهلة اللحن في المقدمة الجدة أموم نصف عارية رافعة يدها للسماء ومتوكئة بالأخرى على عصا غليظة مُخِفيَّة قوامها الفارغ فعند منتصف التونج رفعت الجدة أموم رأسها الضخم مظهراً انفها الأفطس فخرج من أعماقها صوتُُ حاد عليه حشرجات الانفعال وضغط العبرات مخاطباً الجموع التي احتشدت : (.. يا أبناء القنوك لا تهاجروا وتتركوا أرض أجدادكم فهنا ولدنا فولد على ذات البقعة أبناءنا وقبلهم ولد الأسلاف الأقدمين فعاشوا وعشَّنا من عطاء الأرض في اكتفاء فاتركوا خدعة ملوال الذي يقودكم بها للسبي والشتات فلا تخدعكم كلماته المعسولة ففي جوفها العنف والحروب فأنا أقف أمامك باسم أمهات الرجال الذين سوف يدفعهم ملوال للموت ياأبناء القنوك أكاد اسمع صيحات الأرامل والثكالى وانكسارات القلوب وتمزق الأرواح . أتركوا ملوال يرحل وحده ولا تعطوه أولادكم ..) .
    للجدة أموم أسلوبها في الكلام فلسانها قادر دائماً على تبسيط الأمور وفضحها فهي (تطعن في الفيل لا في ظله) كما أنها بارعة في عبارات التشجيع التي تفيض لطفاً ووداعة فأسلوب الجدة قوي ناعم يتسرب إلى شقاق الروح فيملكها ويبعد عنها غبار داكن خالي من الذرات في ظاهرة الأمل في جوفه الدمار لهذا استقبل القنوك كلمات الجدة أموم بفرح كالرقص على الحان (المردوم ) ، ( والجراري) وشعر الصحراء .
    عادت الجدة أموم لدحض دعوة الهجرة التي أطلقها ملوال (... مادوت هذا يدعوكم لهجر أبقاركم وملاحقة أسراب الطيور الهاربة من المحل بعد انقضاء فصل الخريف فإذا حملتنا الأرض في لحظات ضعفنا فلا نحملها في لحظات ضعفها وغضب الطبيعة فحتى أسراب الطيور عادة ما تهاجر من (السافل) إلى (الصعيد) ملتمسة رزقها فلماذا يريدنا ملوال أن نهاجر كي نلبي حلمه ونبوءته فلا تستسلموا لأوهامه لا تهجروا أرضكم فتجعلوها مرتعاً للثعالب لا تطيعوا ملوال فهو منذ ميلاده يعيش القلق وعدم الاستقرار لم يرض عن نفسه ولا عنكم انتم قومه فهو دائماً يبحث عن قوم آخرين وعن أرض أخرى فاحذروا الضياع والخروج خلفه فلن يرحمكم الخراب فمن أراد الحياة وطاعة أرواح الأجداد عليه تجاهل دعوة مادوت وإلا فأن المصير الوبال الوبال.. ).شعر ملوال أن الجدة أموم قد فرغت مشروعه من كل مضمون حتى أنها أظهرت فكرة الهجرة فكرة عبثية خرساء لهذا أراد ملوال أن يرد على الجدة بإظهاره لا تعي ما تقول من فرط الشيخوخة وأن فكرة الهجرة من نبوءاتها وأنها تتنكر لها من تأثير الهرم .
    (... كلكم تعلمون أن الجدة قد بلغت من العمر عتيَّا فطبيعي أن تصاب ذاكرتها فهي من غرس فينا حلم الهجرة فقد جرعتنا نبوءة الهجرة منذ نعومة الأظافر فكم مرة حدثتنا عن الخبر السار (خبر الهجرة ) عندما يطل النور ويظهر في الشمال أبلج ظاهر كنداء للعدل فقد أكدت أن الأحياء وحدهم يتركوا كل شيء فيهاجروا للجبل والقنوك هم أول من يلبي النداء وينصروا النور ويرسخوه فما نقوله الآن لا يعدو كون حديث أملته عليها الشيخوخة فالجدة قد فقدت ذاكرتها فصارت تنسى كل شيء فالحقيقية التي لا جدال حولها أن الجدة امرأة صالحة لكن الكبر قد أشتغل شغله في عقلها فلو كانت بكامل قواها العقلية لما رضيت لنا بالقعود والانتظار دون مناصرة النور الذي صار يشع ليملأ غداً الدنيا كلها من جبل الكواليب حتى جبل الزيتون فيا أبناء القنوك انتم أحرار في اختيار الهجرة أو البقاء في مريال ياي فأنا قررت الانطلاق من الغد فمن أراد منكم الحياة فليرافقني غداً أما من اختار البقاء والانتظار راكداً ساكناً فلينتظر مع الجدة وأخي ميار فلن أحزن عليه ..) اختار ريك ملوال معارضة فكرة الهجرة التي دعا لها والده ملوال مادوت فهو على قناعة بصحة عقل الجدة أموم كما أنه يؤمن أن لا مستقبل للقنوك بعيداً عن مريال ياي وأي تطلعات شمالية هي عبث وأن أفكار والده ملوال لا تشكل له حلم شخصي فحسب بل أن ما علمه له الواقع والجدة أموم يكفي لأن يجعل كل الكتب تصغر تفقد محتواها وتنزوي في المتاحف أو تتبخر أفكارها ونبوءاتها فتصبح تاريخ هذا ما فرض عليه أن يصرّح برأيه أمام جموع القنوك المحتشدة في اجتماع التوتج :(..لا يهمني مطلقاً أن كان أبي جاداً في الهجرة أما أنها مجرد دعوة طيبة فانا أتمنى له التوفيق والسداد لكني عزمت الإقامة في مريال ولن أهاجر مهما حدث ولن أطيع فكرة أو نبوءة حتى وان صدرت من أبي لأني أومن أن كرامة الإنسان تعادل تمسكه بأرضه فالأرض هي الحياة لهذا سأظل في الأرض مع من أحبوها فسابقي مع ميار مادوت الذي هجر الأوهام إيماناً بالواقع المحسوس ولا يحترم الماورائيات ..) .
    من مبادئ الأدغال العتيقة تجنب الجدال في القضايا التي يمكن أن تهدم بناء الوحدة وتزرع الاختلاف والانقسام لهذا تجاهل القنوك كلمات ريك وانسحبوا بهدوء صامت أما ريك ملوال فما زال متماسكاً رابط الجأش فتحرك عائدا يسند الجدة أموم على زراعه متدرجاً معها محاولاً إرجاعها لكوخها وبعد جهد خارق فدلفا باب الكوخ الموارب ليجد ريك نفسه وجهاً لوجه مع أباه ملوال الذي بادره بالانتقاد السَّمج كعادة القنوك في تلك الأحوال :
    - ( أشعر بأنك ياريك سددت لي طعنة نجلاء )
    - ( لا يا أبي لم اقصد جرحك فانا لم افعل الإ ما علمتني من أخلاق الأدغال بأن لا أخالف اتجاه قلبي وأنَّ لا أنطق بلساني إلا ما أومن به لهذا صرحت برغبتي في البقاء في مريال يا أبي كنت أتمنى أن أكون معك في هجرتك ولكن هذا ما كان فليس بالإمكان أفضل مما كان فحقاً من كل قلبي أتمنى أن تحقق من هجرتك أهدافك وما ترجوه وتتمناه ..)
    أحس ريك بأنه أثقل على أبيه فشعر بالذنب فالإباء عند القنوك لهم احترام خاص تحفهم القداسة والتبجيل في كل الأحوال والاختلاف معهم يعتمد على حزمة من القيم الأخلاقية التي لا يُسمح بتجاوزها لهذا أجتهد ريك في إرضاء أباه بالوداعة والحنوّ والرأفة :
    - ( أبي إني أشعر بالأسف عن كل كلمة لم تكن موفقة قلتها كما أن قلة الحيلة تجعلني اندم لأني لم أكون معك في هجرتك فأنت تعرف أن شهوة قلبي خدمتك ورعايتك بسبب هذا يسيطر عليّ الضعف والقصور )
    - ( لا عليك يأبني فأنا اعتدت على مواجهة المصّاعب وفوق كل هذا أنا احترم قرارك وأستطيع أنَّ أتدبَّر أمري )
    تملك ريك الارتياح بعد أن اطمئن لتفهم أبوه بقراره بالبقاء في مريال رغم الارتباك الذي بدأ عليه وحاول ملوال أن يبدده من إسداء النصح لريك عبر قصة مناقشة دينكمير وبلامكير فسأل ملوال أبيه ريك هل سمعت بقصة حوار الرأي الذي دار بين دينمكير وبلامكير .
    رد ريك بتفهم متواضع في لحظة وجدانية فريدة يعينها الوالد مع ولده .
    - عرضاً سمعتك تتحدث عنها مع العم ميار باختزال مختصر دون تفاصيل .
    - حسناً سأرويها لك واترك لك مضمونها وصيتي لك وأنْتَ ستكون هنا في مريال :ـ
    ساد الجفاف وأنقطع المطر فاصفرت الأشجار ومات العشب وانتشرت رائحة المجاعة فظهر في مريال جفاف مادي طال كل شيء وانعكس جفاف في الأرواح والنفوس في تلك الفترة بالتحديد في الأوقات التي ساد فيها الخوف والرعب والموت والاختفاء جراء تبدَّل الأحوال فتغيرت قيم الناس وأفكارهم انحصرت في نطاق ضيق ويبست أجسادهم وتحجرت عباراتهم وانتشرت المخاصمات وباختصار عجز الناس عن ممارسة حياتهم الطبيعية وكان لابد أن يكون لدينمكير وبلانكمير رأي وموقف باعتبارهما الرعاة الروحيين للنقوك ومحل ثقتهم الروحية لهذا بادر دينكمير مناقشة بلانكمير حول أحوال النقوك .
    -(انقطاع المطر أحرق الأرض وأهلَك الضَّرع )
    - ( أنقطع المطر لسوء أعمال الناس وعصيانهم وطغيانهم فلن يهطل المطر ليغير الناس أحوالهم البائسة )
    -( أتفق معك على الإنسان في ضَّلال فما ذنب المخلوقات ؟)
    - ( لا ذنب للمخلوقات تحمل اثر أخطاء الناس فلا تستحق الأشجار المثمرة والبهائم البكماء وسوام الأرض التي تحفظ التوازن أن تحرم من الماء فتهلك )
    - ( لما لا ندعو ونصلي للمطر ؟)
    - ( سأضمن لك أن المطر سيهطل إذا وجدت مئة رجل صالح قلوبهم صافية كقلبك وأرواحهم شفافة كروحك )
    - برغم الضلال لابد أن نفعل شيء من أجل الناس فصعب انتظار صلاح الناس دون عمل من أجل هطول المطر فالماء هو الحياة فالبذرة الصغيرة الطيبة تولد نبته تشق طريقها عبر الصخور حتى تصل إلى عين الماء فمحاولاتها تعبير عن السعي للاحتفاظ بحياتها فوجود الماء وانعدامه هو الخط الفاصل بين الموت والحياة فتلك النبتة تظل مثابرة طوال حياتها القصيرة دون أن تصاب بالقنوط فمن المهم أن يعمل الناس لرفع البلاء وليس المهم عدد المتضرعين من اجل رفع الوباء واستعادة رونق الحياة .
    - ( بالنسبة ليَّ أن العبادة عمل روحي يطرد قوات الظلمة ويقهر المخاوف ويحرك الثقة والرجاء في المسطر العظيم لكن التنازلات الأخلاقية والروحية تعتبر عمل فيه مخاطرة بجوهر الإيمان لهذا يسود الجفاف لأن القنوك تنازلوا عن معتقداهم بالادعاء بأنهم يودون المواكبة كي يطهروا العقول فأرى أن ذلك سبب انقطاع المطر )
    - ( أرى ما قلت فيه كثير من المنطق لكني لا اعتقد أن ذنوب الناس وحدها سبباً لهطول الأمطار أو عدم هطولها فالجفاف له أسبابه فالأشياء خلقت من العدم قبل أن يوجد شيء في الأرض فكل ما في الكون وجد بتصور يعكس طبيعة الصانع العظيم ففكرة أن انقطاع المطر جاء كردة فعل لخطابي الإنسان وقوع صريح في مصيدة أن الكون وليد الصدفة وتشكل عبر بلايين الأعوام من التطور وفي هذا إنكار لحقيقة واضحة : أن كل شيء موجود مرئي أو غير مرئي إنما هو دليلُُُُُ قاطع على تصميم متماسك شديد الترابط والدقة وليس فيه انفعالات مزاجية لصانع واعي مسيطر على كل شيء )
    - إنه لا خلاف جوهري بيننا في ذلك وحتى نتفق لابد أن نعترف أن بشارة أبا دينق أطلقها في دليب هيل أقترب مجيء المخلص لإنشاء (المُلك الالفى) الذي يسود فيه العدل وتنتهي فيه معاناة الإنسان ويتزن نظام الكون فانقطاع المطر عن مريال أراه جزء من تلك المعاناة التي تجعلنا أكثر قرباً من نبوءة مجيء المخلص وانتهاء الألم إلى الأبد فالألم من الجفاف هو خطوة نحو السعادة الأبدية.) إشتاط بلا تفكير غيظاً وبدت في ردوده اللاحقة على دينكمير شيء من القسوة والحَّدة والانفعال ).
    ( يا رجل اترك الأوهام وتعامل مع القضايا الواقعية فعدم هطول الأمطار يجعل الإنسان والحيوان والنبات يموتوا فما الفائدة عندما تتحقق النبوءة يجيء المخلص ليجد الأرض خالية وتدمرت الحياة وهلك الزرع والضرع ؟ وما فائدة أن يكون هناك (مُلك ألفي) على الخراب ؟ في ذات الوقت لا أتفق مع فكرة هطول المطر مربوطة بالرشاوى التي يقدمها الإنسان من قرابين وذبائح بأنها ترفع الغضب فأن كان لهذا الكون صانع فليفعل به ما يشاء وأفعالنا لا تؤثر في خططها وتقديراتها فلن تجلب للإنسان السعادة والشقاء )
    - ( لا أتفق معك فيما توصلت إليه فعلينا فعل أي شيء يجعل المطر ويمنع هلاك الناس فلا ضرر من الدعاء والصلاة لأجل المطر فإن لم تأتي بالمطر فإنها تبعث الأمل حتى وإن كانت الأشياء مكتوبة ومؤسسة منذ الأزل وإلى الأبد على رؤية تفصيلية واضحة لا تغير فيها بمؤثرات مزاج الإنسان وأهوائه مهما كانت إيجابية أو سلبية )
    أعتقد أنك مثلي ياريك وجدت في تلك المناقشة المدهشة كيف يدار الاختلاف دون حقد أو كراهية فدينكمير وبلانكمير كل منهما يهمه هطول المطر ولكنهما مختلفان في الكيفية لهذا يديران الاختلاف بموضوعية دون أن يجعلا من الاختلاف مصدراً للتباغض والمتاعب فلا معنى للحياة نفسها إذا لم يدار بذاكرة متسامحة تغرق بين التصادم والتكامل في التعاطي مع الرؤى المتباينة فالتسامح يكون بمثابة الصمغ الذي يلصق الناس في علاقتهم يبعضهم البعض فالاختلاف حينئذ يظل من الذكريات المشتركة التي لا تثير الحنق والحقد والكراهية بل تفهم على أنها جزء من علاقتنا بالوجود الذي يعايش بصدق وإخلاص محب للآخر هذا يعنى أن هناك بوناً شاسعاً بين الاختلاف والتضاد لهذا لابد أن نكون ممتنين لدينكمير وبلانكمير لأنهم أكدوا لنا أن هناك غير يختلفون معنا ومع غيرنا دون افتراض إن ما يرونه هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه أو خلفه .
    يبدو أن إعادة ملوال مادوت لسرد مناقشة بلانكمير ورينكمير قد جردته هو ابنه ريك من أي روح للغضب جراء المواجهة التي دارت بينهما بسبب الهجرة باعتبار أن المناقشة أبرزت الرأي المختلف لا يلغي القيم الراسخة وعلى رأسها المحبة والحرية باعتباره في قضايا الرأي ليست هناك اختيارات خاطئة فمن حق الكل اكتشاف طريقة نحو المعرفة من زاوية شخصية تستند على وعيه وخبرته فمن المهم أن يعرف الشخص كيفية عرض رأيه بوسائل لا تهضم الآخرين حقهم في الرأي . فالمناقشة التي عرضها ملوال على ابنه ريك هي بحث دءوب عن المثل والمثاليات كما أن فيها جوع للشفافية وإشباع لرغبة التواصل الايجابي بين الناس ذلك التواصل الذي يحترم الاستقلالية وحرية الاختيار فهي تساهم النماء الفكري والروحي للفرد والجماعة .
    أنصرف ريك ملوال للقاء المهاجرين الذين تدافعوا لمريال ياي من كل حدب وصوب بحثاً عن الأمان والاستقرار وهرباً من تقلب الطبيعة وثوراتها المميتة فقد جاء لمريال المهاجرون كالأحجار لحظة ارتطامها بالجسد المُسخن بالجراح فقد سكن المهاجرون ضفاف النهر في القاع التي تتكاثف فيها الأمطار عادة فطاب لهم المقام ونسوا عذابات الهجرة لذا صارت الصيّحات تعلو على الصيّحات بين قراهم برغم من هجمات الذئاب التي ظلوا يتعرضوا لها بين الحين والحين فالذي دعا ريك للذهاب إليهم هو أنهم صاروا موضوعياً جزء من مريال لهذا يسعى ريك لمواجهتهم حول موقفهم من قتل الذئاب والذباب فيعتقد المهاجرون أن القتل من اكبر الخطايا سواء كان المقتول إنساناً أو حيواناً فما يعرفه القنوك ونشأ عليه ريك أن الحياة في الأدغال تحتاج إلى قدر عالي من الصرامة والشَّدة فلكي يحافظوا على الأطفال والأبقار لابد من أن يقتلوا الذئاب المهاجمة لهذا اشترط ريك على المهاجرين للإقامة تعلم كيفية نصب الفخاخ فان لم يهتموا بنصب الفخاخ والمصائد للذئاب والذباب فأن الذئاب سوف تصطاد أبقارهم وأطفالهم والذباب سيورثهم الأمراض لهذا لن يجدوا الحماية من القنوك لأن ريك لا يعرف وسيلة غير المصائد والفخاخ لحمايتهم من خطر الذئاب والذباب . فتلك الكائنات الوحشية إذا شعرت بالتساهل توحشت وصارت خطراً على الجميع وبعد طول جدال وضرب أمثال علمية بأن الذئاب والذباب خطر لابد من لجمه بالقوة تراجع المهاجرون عن اتجاهاتهم حتى لا تهلك القطعان والأطفال من هجمات الذئاب والذباب وأباحوا قتلها مع الكراهية والضرورة القصوى .

    ****************************************************
                  

02-13-2009, 06:35 PM

فتحي البحيري
<aفتحي البحيري
تاريخ التسجيل: 02-14-2003
مجموع المشاركات: 19109

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: إلى صلاح عوض الله وآخرين : نص هيأه صاحبه للنشر .. والنقد (Re: فتحي البحيري)

    مدونة حسن النور مشحونة بحياة القنوك وطاقتهم اللا محدودة في استيعاب الهجرات التي وفدت إلى نهر الجور وأعالي الأنهار وتأثرهم بالهجرات وتأثيرهم فيمن هاجر إليهم فمما جاء في المدونة عن أديم مريال ياي أنه يشبه حجر العقيق الأزرق هذا ما جعل حياة القنوك تتجلى بريقاً بالعمل لهذا السبب ولغيرة لا يهتمون بالهجرة منهم وإليهم فمن يهاجر منهم يحسبونه تنازل عن مكانته المرموقة كرايمي وتخلى عن بناء مريال واستقرارها على الأرض كما في اعتقادهم هذا الشعور أباح به القنوك لملوال مادوت ومن سار معه في مشروع هجرته إلى جبال الكواليب برغم هذا الرأي المشترك انسكبت دموع الفراق وطالت جلسات المؤانسة ففي اليوم الأول من الشهر الذي هاجر في نهايته ملوال مادوت وأتباعه أجتمع ملوال مع أبنه وابن شقيقه ملوال ميار فعندما حضرا وجدا ملوال مادوت مستلقياً على سرير خشبي صنع من أشجار المهوقني ونسج بجلود الأبقار فجلسا القرفصاء واضعين أيديهم على صدريهما فأعتدل ملوال من إستلقائته جالساً على السرير مشبكاً قدماه فقال :
    - ( مرحباً بكما فقد جئتما في الوقت المناسب فأردت أن اسمع رأيكما )
    ردا بصوت واحد
    - ( فيما تريد أن تسمع رأينا؟)
    - ( نحن مقبلون على حدثٍ جلل فيه انقسام للأسر ، وبعضنا قد لا يعود من معارك روحية سيهجر من اجلها مريال الجميلة وقطعاً سيصارع قوى أخرى لها أهدافها الشريرة فتلك المستجدات لها تأثيرها في كل الأسر المقيمة في مريال وتحديداً على أسرتنا فماذا ستفعلان وأنتم الحاضر والمستقبل ؟
    رد ملوال ميار بهدوء الصارم المعهود .
    - ( أنا قطعت أمري بالهجرة معك وسأعمل ألا ينسى القنوك مريال أبداً )
    أشار ملوال مادوت إلي ريك بقوله :
    - ( ماذا عنك ياريك )
    - ( أنا سأبقى في مريال مع عمي ميار نرعى النقوك ونبني مريال )
    - يعتقد ريك أن علاقته بأبيه في تلك الأيام التي سبقت الهجرة من مريال قد صارت أكثر عمقاً والتصاقاً فقد لاحظ ريك أنه أخذ يعمل بكل طاقته ليشد عزم أبيه فكانت المحصلة النهائية أن أباه قد شدد عزمه وأعاد الثقة في نفسه كي يواجه متغيرات ما بعد الهجرة وفي ذلك يقول ريك :
    - ( ذكرني حنَّو والدي علىَّ في الأيام الأخيرة قبل هجرته اهتمامه بيّ عندما ألَّم بيّ مرضُ عضال فقد ظل إلى جانبي يحنوَّ علىَّ كأنني ولده الوحيد فقد ظل إلى جانبي لا يفارقني حتى برئت فقد كان أبي في تلك الظروف العصية يمسح وقرَّ جبهتي ويشد من عزمي ويقوي من إرادتي كي أتحلى بالصبر والتماسك فقد لعب معي كالأطفال حتى تري البهجة في قلبي فهو من منحني الإحساس بالتمسك بالحياة وهزيمة المرض والآن اشعر بالفشل لأني لم استطيع أن أمنحه ذات الحب الحاني الذي أعطاني إياه وهو يستعد لرحلة خطر احتمالات العودة فيها صفراً هذا ما يفرض شحنه بالحب والتضامن .)
    ففي الشهر الأخير الذي سبق خروج ملوال مادوت من مريال مهاجراً باحثاً عن الأحلام والنبوءات ضغط ملوال على أبنه البكر ريك حتى حفر في ذاكرته وصاياه فقد صار ريك صورة من ملوال فقد كرر له مرارا :
    (... الاعتصام بالحكمة والتجمل بالصبر والتحلي بطول الأناة والمقاومة بضبط النفس ، كن مسيطراً على القوة وليست القوة مسيطرة عليك ، تعطر بالمحبة والرحمة واجعل أريجهما يفوح منك صباح مساء ، تحرر من القلق الذي ورثته عنيّ وتمسك بالمحسوس ولا تجعل الأحلام تستدرجك بعيداً عن مريال ...)
    ظل اليوم الأخير من الشهر لملوال قبل هجرته عن مريال راسخاً في ذهن ريك ففيه تمت طقوس الوداع التقليدية فشاع البكاء والعناق فالأسر انقسمت بين المهاجرين والمقيمين في مريال إلا أن الجلسة المنفردة بين ملوال وريك تركزت جوهرياً حول الاعتناء بالقادمين من الصحراء ودمجهم في القنوك وتفهم عباداتهم القاسية وأخلاقهم التي لا تسمح لهم بالقتل حتى الحيوان )
    ففي مريال أمتزج أبناء الصحراء الذين وفدوا إلى النهر من واحات جالا ـ سليمة ـ اوجلا ـ الداخلة ـ وحقبوب فزرعوا الوادي باليام والبافرا وتضاعفت الماشية وضاق التونج بالأبقار بعد تضاعفها فقد جددوا مريال كما تنبأ بذلك ملوال قبل رحيله فقد امتزجت في مريال الدماء وتناغمت الأرواح فأينعت نبته صغيرة على شاطئ النهر ، فارورقت فصارت شجرة عالية فروعها في السماء وجذرها على الأرض فأثمرت المحبة والإخاء والثقة والاستعداد لاستيعاب الآخر بالبحث له عن أعذار إذا اخطأ والشد على يديه إذا أصاب كل تلك التبدلات أعطت مجلس القنوك الحق في اتخاذ قرار جري بتنصيب ريك ملوال سلطان بعد عمه ميار مادوت كما غير مجلس القنوك تقاليد احتفال (السَّبر الكبير) فقد أصبح مجرد احتفال بمواسم الأفراح والحصاد تعمل فيه الأمهات والآباء من اجل إنشاء الأسر العديدة فقد أصبح احتفال (السَّبر الكبير) موسماً للتزاوج والتناسل فقد حظر مجلس القنوك نشر الإشاعات أو التعصب لفكرة مهما كانت والعمل على نشرها في احتفال السَّبر كما أباح مجلس القنوك إضافة رقصات مختلفة لفقرات احتفال السَّبر منها تلك الرقصة التي يمنطق فيها الفتيان والفتيات احقائهم بجلود البقر ويرتدي الكهول ثياب من جلود الحيوانات الوحشية الكاسرة وبعدها يرقص الجميع على إيقاعات الطبول . فالأهم من كل ذلك ادخل مجلس القنوك فقرة الحكي في الاحتفال التي بدأها صلون كبير أبناء الصحراء الذين ذابوا في القنوك حيث حكي قصة هجرتهم من الصحراء وهضبة فوتاجالون إلى مريال ياي ففي الاحتفال السنوي رواها بروايات كثيرة وأساليب عديدة إلا أن أشهرها هذه الرواية الشائعة في كل الأدغال :
    ( روى ليَّ جديَّ عن أبيه عن صلون العاشر أن الصحراء صارت أكثر تصحراً فالواحات جفت ونضب ماؤها فصارت الحياة مستحيلة فكان الخيار الأوحد لأبناء الصحراء الذين تجمعوا من كل بقاع الدنيا الرحيل إلى منابع الأنهار التي جاءهم خيرها من كتاب الاخضري (أصل البلدان وتجمع السكان ) فبدأنا رحلتنا شرقاً من واحة الخارجة التي تجمعنا فيها من كل الصحراء خلال ثلاثة أعوام ففي العام الرابع بدأنا مسيرتنا في قافلة ضمت الرجال والنساء والأطفال وكل زوج من الحيوانات التي استئناسها في الصحراء فسارت القافلة المثقلة بالمعاناة تصارع قسوة الطبيعة واحتمالات الموت الراجحة جراء قلة الماء والغذاء برغم ذلك كان الرجاء هو طاقتنا للوصول إلى منابع الأنهار لهذا تعالت الأناشيد والأغاني والترانيم فكنا نسير ليلاً نلوذ من شمس الصحراء نهاراً حتى أدركنا بقعة تناثرت فيها شجيرات طلح وحراز وهشاب وسدر فشعرت القافلة بالتفاؤل بقرب الوصول للماء لان وجود الأشجار يعني الاقتراب من مجرى نهري وان المنطقة تهطل فيها الأمطار وفي جوفها ماء فمن فرط الفرح قررنا الإقامة مؤقتً في تلك البقعة التي أطلقنا عليها دار انتظار )فأويت مثلي مثل الجميع تحت ظل سدرة ومن فرط الإنهاك ظللت نائماً ربع قرن حسبتها بعد ما استيقظت غفوة صغيرة لكني أدركت كم من الزمن نمت حين وجدت أخي ديسم يأمر القافلة لتصهر كل ما عندها من حديد لتصنع منه معاول كي تحفر بها للوصول للماء فتذمرت القافلة بأن لا طاقة لها بالحفر والمنطقة ليست مقصدهم من الرحلة فالهدف منبع الانهار فاستعمل العنف وأجبرهم على الحفر الذي طال دون الوصول إلى الماء فعندما استيقظت على المشاجرة سألت أخي ديسم :
    - ( لماذا فرضت رأيك على القوم ؟ هل هو العقل والحكمة أم هي الرغبة المتسلطة المستبدة ؟)
    - ( حسبت أن في الأرض ماء لأن بها أشجار )
    - (إلا تعلم أين كان الهدف من هذه الرحلة ؟)
    - ( أعرف أنه منبع الانهار )
    - (لماذا عملت على تحطيم حلم القافلة ؟)
    - ( لأني أؤمن بالعالم الجديد يمكن وليس بالضرورة عند منبع الانهار )
    - (لماذا صادرت حق الآخرين في الاختيار ؟) صمت فكررت له السؤال بصيغة مختلفة :
    - ( أليس للآخرين حق في اختيار مستقبلهم ؟)
    صمت ديسم بعد تلك المناقشة المكشوفة أمام القافلة بأكملها ولم ينطق بعدها كلمة واحدة حتى مات من الصمت بعد عدة أعوام رغم إنيّ حاولت معه كثيراً فحكيت له الحلم الغريب الذي أفزعني وأيقظني فقد رأيت جماعة من الكهول ذوي اللحى البيضاء المرتدين ثياب ناصعة البياض مشرعين أياديهم إلى السماء بعضهم يصعد ويهبط إلى للسماء في مسيرة مهرجانية ملئها الهتاف وفي صعودهم وهبوطهم ينثرون قطعاً مكعبة من الجليد . فعندما حكيت لديسم هذا الحلم كنت أحاول استنطقه وان أجد عنده تفسير لذلك الحلم الكابوسي الذي صار رفيقي لكنه ظل صامتاً ولم يتفوه بكلمة .
    حادثة تسلط ديسم على عرضيتها قد أشعلت في القافلة وفي نفسي خطر تسلط الفرد المطلق لهذا قررنا إنشاء مجلس يدير شئون القافلة ولا يسمح بالتسلط لان السلطة صارت للمجلس فهو المعني بتحديد المسار هذا ما أشاع التفاؤل من جديد فسارت القافلة بسرعة اكبر بعد أن أعطت المجلس لكل فرد حقه في التصرف في شئون القافلة دون أن يكون لأي فرد مهما كان الكلمة النهائية المطلقة في مصير القافلة فعبرنا الفلوات والوهاد القاحلة حتى جاء إلينا صدى أصوات اتجهنا نحوها بتصميم الباحثين عن الحياة برغم وعثاء السفر وإنهاكه فقد حركتنا الأماني بالحياة القادمة المختلفة فالتقينا بالجلابة الهواره الذي أطعمونا وزودونا بالمياه وأرشدونا إلى وادي هور الذي تزودنا فيه بالأخبار والطريق لدنقلا التي قدرنا أن ندركها بعد بضع ليال قبل اليوم الذي ستكون مشغولة فيه بلقاء رجال الطريق وأهل السّر الذين ينتشرون على النهر البركة والتسامح فأسرعنا الخطى نحو دنقلا .
    ففي الطريق لم نكن وحدنا فقد التقينا برجال الحل والعقد الذين جاءوا من كل فجاج الأرض فتعرفنا على (ود أم مريوم ) ، (مريم البتول) ، (مريم النشابة ) ، (رابحة الكنانية) ، ( أم سلمه الحجازية ) (الأمام السحيني )، ( عبد الباقي أزرق طيبة)، ( مرفعين الفقراء )، (مرفعين الضيفان ) ، (حمدالنيل) ، (ود النيل) ، ( المجمر) (ابوجبه) ، (ابوفركه) ، (احمد التجاني) ، ( وغلام الله بن عايد) وصاحب السَّر ومركز الحكمة (محمد احمد) كما يشاع .
    صاحب مسيرنا إلى دنقلا شيء من الإسراع والإبطاء والصمت والقلق حتى أدركنا النهر فوجدنا النساء والرجال والأطفال في استقبالنا بالطعام والأناشيد الرطبة اللينة:
    (... الحب هو طريق لمنابع الماء
    تحركوا لا تقاعسوا اطرقوا يفتح لكم
    ... الدهر مفتاحه الثقة والأمان
    أحسنوا إلى مبغضيكم سامحوا الذين يسيئون إليكم
    جبل اللادو مركز الامل
    منه منابع النهر
    لا تركنوا للشلالات رغما فيها ماء غسل القلوب
    بشراكم بشراكم لأنكم تجاوزتوا طنين ذباب الخريف )
    أدركت القافلة النهر عند الغروب في اللحظة التي اكتست السماء بالنور ملء الأفق صدى (النوبات) فاكتست النفوس بالراحة والأمان بعد طول معاناة وترحال شاق في الطريق الصحراوي المفضي إل النهر وعلى حين غرة ارتفعت اصوات الانشاد :
    مرحباً بالعابرين إلى المنابع
    مرحباً بالعازمين على صقل الإرادات
    أروحنا ترتجف فرحاً وحبور
    قلوبنا تنادي فتهتز نوائبنا حين نرى معكم النور
    عقولنا تدعوكم للإقامة لأننا ننتظركم قبل بدء العصور
    أدركتم نهر الحياة
    بمراكب الشمس الذهبية ستصعدوا للمنابع
    فيحضنكم الدغل بوحوشه لأنكم عبرتم بالطريق الآمن ففي دنقلا عند حلقات الذَّكر في خضم إيقاعات الطبول رأيت وجه أمرآة حسبت أني أعرفها فوجهها مألوف ليَّ تماماً حاولت التركيز على وجهها فلم افلح في هضم تفاصيلها برغم أني رأيتها بوضوح عرفت أنها من سيطرت على مخيلتي في صحوي ومنامي فتركت كل شيء واقتربت منها فاتجهت إليها دون التفاته فتفرست فيَّ كمن تعرفني قبل الف عام وعندما حدثتني عرفت أنها المختارة فلم أجادلها لأنها كانت تمتطي صهوات خيول الغناء فنظرت إلى عينيها فأخبرتني بأنها أموم أنها المختارة التي صارت زوجتي التي ارتبطت بها من أول نظرة والتصقت بيَّ والتصقتُ بها فأنجبت ليَّ أبنائي ألاثني عشر الذين كنت احلم بهم وأنا في الصحراء وفي طوال الطريق إلى النهر لك أكن اصدق أن في زواجي سيجتمع فيه رجال الطريق :
    بانقا الضرير ـ المشّمر ـ الشاذلي ـ الدسوقي ـ الجيلاني ـ بطرن ـ ود فطومة ـ ودكنان بشرى وتمساح فجر عبد الرحمن فتملكني إحساس أن ضفتي النهر فرحتا بفرحتي فقد ارتفعت الأثقال عني حين اندلق عطر البخور الفواح ففي حفل العرس غنى الفتية والفتيات أغاني عديدة فصلتها ليَّ أموم (النَّم)، (الشاشاي)،
    (الدوباي) و(الجراري) فرقصنا مع قبائل النهر على إيقاعات الطبول سبعة ليالي بعدها حملنا عروسنا وركبنا النهر في اتجاه المنابع حتى وصلنا ملتقى الانهار فرأينا ثلة فتيات وفتيان يركضون خلف الأبقار فسألتهم مرشدنا ودليلنا أموم عن اتجاه المنابع بأسلوب لم نعهده :
    - ( سلام ياجنيات)
    - ( مرحب بيكم في ديار حمالين الشيل ، حلالين شبك أهل الحارة)
    ( البكان ده وين )
    - (دياركم انزلوا على الفريق )
    كنا مهتمين أكثر ما يكون بمعرفة المكان لكن الفتية أصروا على الاستضافة ثم يفصحوا لنا عما نريد .
    ( انتو في بلد الدَّيار والعَّمار )
    سألتهم أموم بإلحاح وتصميم جاد لكنهم كانوا أكثر منها تصميماً إنزالنا ضيوفاً عندهم .
    ((البكان ده وين ))
    (دم محل التاتيبه والقسيبة والرحَّا والمطمورة تعالوا قربوا عليَّ الضَّرَّا خلوا الكلام الخير عندنا كثير ) اعادت أموم على الفتية السؤال بأكثر من طريقة وظلوا على إصرارهم بالاستضافة ثم الإرشاد
    (يتقولوا على دياركم دي شنو )
    (انتو في السَّرف والجمام والمترة والحفير والسَّد)
    أخيراً تخلت القافلة عن سؤال المكان وقبلوا الاستضافة التي استمرت لسبعة أيام فيها تعارفنا وتحاورنا وأخذت الحوارات مسارات عديدة لامست كل شيء حتى رحلتنا للمنابع ففي كل ذلك عزفت قيثارة أصدرت الحان تعلن عن إتقان أنغام شجية مؤثرة جعلت الأرض تتفاعل بروح لم تعهده قبل ذلك ولا بعده ، فقدموا لنا مالم تره عين ولم تسمع به أذن ولا خطر على قلب بشر ففي تلك الأيام السبعة التي قضتها القافلة عند ملتقى الانهار أقيمت لها الولائم والاحتفالات وعند الرحيل زودوا قافلتنا بالذبائح والعطايا والهدايا كما أرشدونا للطريق حتى مريال .
    أدركت القافلة نوليك بعد رحلة شاقة كابدت فيها الذباب والناموس وأفراس البحر ووحوش الدغل فعند توليك انقسمت القافلة فبعضها عبر الشايى وتجاوز السدود إلى جزيرة غندكرو وبعضها اتجه نحو السوباط نحو فنجاك وأغلبية القافلة صعدت في اتجاه مريال حيث نزلنا بهدوء في موسم الأمطار وانتشار الذبابه التي أصابت الأبقار في مقتل بعدها تعرضنا لخطر الذئاب الممنوعون من قتلها أو اصطيادها ظللنا هكذا في ظروف قاهرة إلى ابعد الحدود حتى إلتقينا ريك ملوال الذي اهتم أن يدمجونا في القنوك فانصهروا فيهم وتصاهروا فصرنا قنوك لا نتميز عن بقية القنوك فتعلمنا الاوشام وتقاليد احتفال السَّبر )
    منذئذٍ صارت الحكايات فقرة ثابتة في احتفال يوم (السَّبر الكبير ) والحكايات تهدف إلى شحذ النفوس بالعَّبر والقيم وتحريك الأذهان للتفكير في الماضي تطلعاً للمستقبل وتأكيداً على أن القنوك هم مزيج من الناس تعاهدوا على الحياة المشتركة منذ الأزل وإلى الأبد .

    ****************************************************
                  

02-22-2009, 01:49 PM

فتحي البحيري
<aفتحي البحيري
تاريخ التسجيل: 02-14-2003
مجموع المشاركات: 19109

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: إلى صلاح عوض الله وآخرين : نص هيأه صاحبه للنشر .. والنقد (Re: فتحي البحيري)

    تزوج عبد الكريم البرقاوي أشول شقيقة ريك ملوال في زمن القحط الذي أصاب مريال فغير نمط الحياة وطبْاعَ الناس فاجتاحت النفوس أحزان عميقة تتفجر في أوقات الغضب ، فالجفاف يجعل المشاعر داكنة ليس فيها مساحات لبراءة فعندما حلَّ بمريال المحل ضيقاً ثقيلاً لم يترك شخص إلا وخلف في قلبه بقعة حزن لا تمحى أثارها ، هذا ما ملأ النفوس بالهواجس التي لم ينتبه إليها الأطفال إلا بعد أن تبدل طعامهم كماً ونوعاً فالمُدخر من الأقوات يتجه للنفاد فكما زرع الجفاف الجوع بين الناس فأنه أصاب الطبيعة في مقتل فانتشر العطش وجف النهر وصار شريطاً ضيقاً لا يلبي حاجيات الناس والأشجار والأبقار فمريال تعتمد على المطر والنهر فيزرع القنوك الذرة الرفيعة وتعيش أبقارهم على حشائش الخريف ونباتات النهر هذا الواقع هو الذي جعل مريال تفتح زراعيها للمهاجرين فهي في حاجة دائمة للأقوياء الذين يعملون في المراعي والمزارع فمريال في ملامحها العامة لا تعدو كونها بلدُُة متواضعة تستقبل الغرباء فهي في هذه الناحية لا تختلف عن البلدات المنتشرة على طول مجرى النهر من أعلاه إلى أدناه .
    الرعاة في مريال صفتهم البراعة فالراعي الفرد يهتم بقطيعه الذي قد يضم مئات الأبقار يعرفها واحدة واحده بألوانها وصفاتها وسلوكها هذا ما يجعله على علاقة خاصة بكل بقرة متى ولدت ؟ ومتى تلد؟ ومن عاشرها من الثيران ؟ فوق كل ذلك يهتم رعاة مريال بالغ الاهتمام بمواقع الحشائش الطيبة والمراعي المعشبة هذا ما يعطي رعاة مريال صفة الإتقان التي اكتسبوها من واقع الحرية التي يتمتعوا بها في مريال فيحق لهم دخول كل البيوت دون شعور بالجوع أو صدود سالب من أرباب البيت هذه الحرية تعززها صفة الوداعة والمسالمة التي يتمتع بها رعاة مريال الذين هم في استعداد دائم لحماية أبقارهم مدججين بأدوات القتال كاملة فهم لا يستعملون السلاح إلا لحماية الأبقار فرعاة مريال لا يتورطون في المعارك إلا إذا تهددت سلامة أبقارهم ، فعادة ما تدور حولهم المعارك والمشاجرات دون أن يلتفتوا لها فهم دائما مستغرقون في الثرثرة ونسج الحكايات الطريفة المسلية عن أبقارهم أو عن معارك الثيران والوحوش البرية فبرغم الجفاف لم يصمت رعاة مريال لكنهم جعلوا الغناء سلواهم ظناً منهم أن الغناء يجعل الأبقار تحتمل وطأة الجوع .
    تدهورت أحوال الرعاة إلى أقصى مدى في زمن الجفاف لكنهم ظلوا صامدين لم يهجروا مريال ولم يتركوا أبقارهم مثل معظم سكان مريال الذين تحولوا إلى النهر لصيد الأسماك وكسب أقواتهم فقد صمم الرعاة على البقاء مع أبقارهم يعزفون لها قيثارات الصبر ومزامير السيطرة على النفس في أيام شحت فيها الأمطار وانعدمت الحشائش وصارت المحافظة على النفس مسئولية غاية في التعقيد ناهيك عن المحافظة على حياة كائنات بكماء ففي أوقات الجفاف تنعدم الأقوات ويصير الحصول على خبز الكفاف أمراً شاقاً عسيراً يكلف بحثاً مضني من اجل لقمة لا تسد الرمق تلك الظروف حريُُ بها نشر المخاوف واليأس وتعميق الأحزان والاحباطات ففترة المحل ترسم ملامحها في جوف الأطفال نحول وضعف وتغير مفرداتهم فتصبح مسمومة بالسَّباب والشتائم أما الكبار فتكتسي كلماتهم الجفوة والحدة ويلحظ على سلوكهم الجنوح نحو القنوط والتوتر أما النسوة فلا تنقطع عن عيونهن الدموع المعلنة عن الألم والفشل برغم من قسوة تلك الأيام فان ريك ملوال زوج شقيقته لعبد الكريم ـ ربما ليزرع الامل المخرج في مريال التي صارت تعج بانين الرعاة ـ العجزة ـ والأطفال فلم يبخل ريك فصار بيته قبلة الجياع في تلك الأيام المؤلمة حتى أطلق عليه ( فير مجوك ) التي تعني فيما تعني ملاك النار دليل على أن النار لا تنطفئ في بيته مهما ساءت الظروف وضغطت عليه الأحوال المعيشية . فزواج اشول كان بسيطاً مفعم بالبذل والسخاء فقد دعا ريك مريال عن بكرة أبيها لوليمة عظيمة ذبحت الذبائح وأخرج لها المدخر من الحبوب فصنعت النساء مالذ وطاب من مأكول ومشروب فقد طعمت مريال ورقصت حتى كادت نسيان الجفاف بوطأته القاسية .
    اختلفت مريال حول أصل عبد الكريم فالبعض يحسبه حضر إلى مريال من فوتاجالون مع المزارعين الذين يعملون في زراعة المانجو فالأغلبية تعتبره من القنوك قبيلة الغرباء المهاجرين المحافظين على شبابهم دون تبدل ، فالمتفق عليه أن عبد الكريم راعي من رعاة مريال الموثوق فيهم يقيم مع ريك ملوال ويرعى له أبقاره فعبد الكريم موفق حاذق صبور يؤكد لريك ملوال في أحاديثهما الخاصة انه من ودّايّ لهذا أطلقوا عليه عبد الكريم البرقاوي فمن سماته الشخصية أنه شديد الصمت ميال للعزلة واجتناب الاحتكاك ببغية الرعاة لهذا فأخباره شحيحة فعندما يأتي ذكره عرضاً يمر الحديث سريعاً ما ينفك المتحدثون ينتقلوا لموضوع غيره أو لشخص مثير للاهتمام وباعث على الثرثرة وبرغم ذلك فمريال كلها تعرف أن عبد الكريم جاء إليها منذ خمسة وعشرين عام فاندمج في القنوك وعمره خمسة عشر عام جاء إلى مريال طفل هزيل ترتسم في عيناه علامات الخوف وحب الانزواء وصار اليوم رجلُُ فارع الطول عريض المنكبين حاد النظرات له انحناءة خفيفة تبرز قوة ساعديه فعبد الكريم بصفاته تلك لا تخطئة العين بين الجموع فعاش عبد الكريم في بداياته في مريال حياة الضياع والتشرد والبؤس حتى احتضنه ريك ملوال لصمت عبد الكريم اعتقد الكثيرون في مريال انه معتوه لذا صاروا يتجنبوه عكس ريك ملوال الذي منحه الحنوَّ والثقة ففي بدايات عمل عبد الكريم مع ريك تسرب إلي ريك القلق من ميل عبد الكريم للعزلة والانطواء والابتعاد عن الأسر إلا للضرورات لكن ريك بعد متابعته توصل بصعوبة إلى أن الناس هم الذين يتجنبوه لتشائمهم من ثيابه السوداء التي يرتديها في كل الفصول رغم حرصه على نظافتها إلا أنها سربت الارتباك في تصورات أهل مريال عن عبد الكريم مالمسوه من غلظة تظهر بجلاء في حدة نظراته كما أن عبد الكريم كان حاد اللسان قاسي العبارة يطلق الكلمات جافه دون تحميل مشحونة بالحسرة والتبرم واللوم فاعتقد القنوك أن عبد الكريم مملوء بروح حقودة لهذا حسبوا أن عزلة عبد الكريم دليل اختلاله وجنونه وله الحق فحياة القنوك صاخبة تغلي كالمرجل لا مجال فيها للعزلة والانطواء .
    توصل ريك بعد طول معاشرة لعبد الكريم اتسمت بدقة الملاحظة والرصد المتابع أن عبد الكريم رجل حاد نقي يتفق معه في معظم المفاهيم والتصورات التي تتعلق بالحياة ومستقبل القطيع وشيء فشيء صار ريك يعتقد أن طباع عبد الكريم فيها شيء من طباعه شخصياً حتى انه بان يرى أن عبد الكريم خلق من ذات الطينة التي خلق منها فاتجه لتبرير انطواء عبد الكريم وعزلته بأنه لابد تعرض لظروف قاسية في طفولته تراكمت كأسرار دفنْت عميقاً في نفسه وروحه وحتما هي ما قاده للعزلة أو أن انطواءه يرجع لأي أسباب معقولة أو غير معقولة حتماً ستنكشف مع المعاشرة وبناء الثقة والتخلص من ثقل الهموم وتحرير النفس من الأثقال هكذا رسم ريك لنظرته لعبد الكريم فصارا على اتصال دائم حتى أن عبد الكريم أزال الحواجز المعروفة فيه فأخذ يتحرك بحرية في بيت ريك وفي حياته قطعان أبقارة هكذا نشأت بين الرجلين صداقة حقيقية فلم يعد عبد الكريم عند ريك مجرد راعي يقوم برعاية قطيعة فريك يعده شخص من أفراد أسرته وعبد الكريم يبادله ذات الشعور حتى انه تنازل له عن أجرته طواعية دون مناقشة أو ادعاء طوال فترة المحَّل فقد فعل ذلك تعبير عن تضامنه مع ريك في الظروف الصعبة التي تمر بها مريال ومحاولة متواضعة منه للمساهمة مع ريك في معالجة شئون البيت الكبير والتزاماته العديدة فعادة لا يفعل ذلك راعي لا سيما في أوقات القحط حيث يصير الرعاة حادي المزاج يدافعون عن ابسط الحقوق بأعنف الوسائل فعادة لا يجامل الرعاة في أجورهم فيأخذونها أبقار صغيرة يفصلونها عن القطيع في أوقات المحّل غالباً ما تكون صغيرة ولدت لتوها فيحملونها على صدورهم ليقايضوا بها الحبوب والسَّكر أو لإقناع الجلابة على المقايضة وحدها كوسيلة للمعاملات لان الجلابة فقدوا الثقة في هطول الأمطار وانتهاء المحّل فهم يأخذون نظير ما يفدون به من أقمشة وحبوب وسّكر وأغنام وأبقار حتى لو ولدت لتوها . لم يكن ريك يستغَّرب تغير سلوك الرعاة فهو يدرك تماماً كم هي أحوال الرعاة متردية وقاسية لا تطاق فقد صاروا ضعفاء مكسوري الخواطر مفجوعين من رؤية الحياة تموت أمام أعينهم فالأبقار التي يحبونها يفنَّوا أرواحهم لأجلها تنفق وتموت كل ساعة فكان طبيعي أن يبدل الجفاف أحوال الرعاة فالذي أدهش ريك أن أحوال عبد الكريم لم تتغير بل صارت أكثر رأفة وإنسانية ورحمة هذا ما أكد أصالة معدنه هذا ما جعل عبد الكريم محل نظرات أشول أيضاً التي صارت تراقبه بجدية في غدوه ورواحه .
    في أصيل القحط ظَّل ريك وعبد الكريم يترددان على الجزء المخصص لأشول في البيت الكبير ففي احد الأيام حضرا من التونج تبدو على وجهيهما إمارات الكدَّر والعبوس وثقل الهموم فأعدت لهما اشول طعاماً وشراباً رفضاه من فرط ضيقهما بالأحوال التي آلت إليها مريال فأصَّرت أشول أن يطعما وتحت ضغطها استسلما لإلحاحها وبعد فرغا من تناول الوجبة البائسة وأكملا مناقشتهما حول أهمية الرحَّيل غادر عبد الكريم إلى كوخه . حاولت اشول أن تشتري لشقيقها همومه وهي لا تعلم انه لا سبيل لطرد الحزن في لحظة تموت فيها الحياة لراعي شغله رعاية الحياة ففي تلك الظروف تتكاتف المشاعر السالبة التي تلقي بظلالها على التفاصيل اليومية ففي محاولات اشول الهروب من مناقشة اتون الظروف المعيشية وقهرها وجدت في الحديث عن عبد الكريم رفيق ريك مادة مناسبة فلم تتوانى في تناولها فدلفت في ذلك بنية حسنة :
    أرى أن عبد الكريم مفرَّط الحساسية يذرف الدموع إذا مات عجل أو هلكت بقرة .
    عبد الكريم أكثر من راعي أنه صديقي .
    كيف تفهمه وهو دائم الصمت ؟
    ليس صامتاً اقتربي منه تجديه متحدثاً بارعاً فعنده روح وثابه وقلب حي حاضر يفيض نقاء فإذا أذرف الدموع لأنه يحب الأبقار ولا يرجو هلاكها لهذا لا يحتمل نفوقها .
    كيف اقترب منه ونحن في هذا الوّحل المحزن ؟
    الحياة تستمر مهما فعلت بنا الأيام فانا لا استطيع أن افعل شيء وهو لا يستطيع أن يفعل شيء وأنت أيضاً لا تستطيعي فعل شيء لهذا لا تربطي شيء مهما كان صغيراً بأحوالنا وقسوة الجفاف .
    ماذا تعرف عنه ؟
    عبد الكريم صديقي رغم انيَّ اكبر منه بعشرة أعوام .
    من أين جاء إلى مريال ؟
    قال من أبشي في دار ودّاي أنها مسيرة شهور من هنا .
    تعني أن المسافة بعيدة فلماذا يقطع إنسان تلك المسافة أن لم يكن هناك أمر جلل ؟
    هو لا يكذب فهو إنسان ذو ضمير حي وعقل ثاقب ولا فائدة أن كذب وانأ أثق انه ليس من تلك النوعية الباحثة عن السلامة الشخصية .
    لكنهم يقولون انه مخبول منصرف عن الناس ؟
    هذا ما يقولونه عنه وانأ أقول غير ذلك ويجب إن يكون لك ما تقولينه عنه دون تأثير من احد .
    ماذا تعرف عنه ؟
    معرفة الصديق لصديقه تلك المعرفة التي لا تحتاج إلى معلومات فهو رجل طيب مثل ابن عمنا ملوال ميار الذي عاد إلى مريال بعد اشتراكه مع أبي في حروبه ومعاركه وتذوق طعم الهزيمة من الثعالب الجارحة القادمة من الدنيا الباردة فهو معنا وليس معنا لأنه مازال في تلك المعركة لم يخرج منها بعد .
    ماذا عرفت عنه بالضبط قصَّ عليَّ الأمر ؟
    كنا في التونج مع الأبقار أنا وعبد الكريم ودون مقدمات سألني في لحظة صفاء هل تعرف ياريك كيف وصلت إليكم هنا ؟
    كان رديّ صادقاً :
    لا علم لي فكيف حدث ذلك ؟
    حضرت إلى مريال على الأقدام قل راكضاً من أبشي في دار ودّي
    هل قتلت احد ؟ أو هل سرقت مال ؟ اقصد لماذا راكضاً ؟
    لا لم أي شيء ينتهك الكرامة ويمثل جريمة فإذا كنت صغيراً غير مؤهل لارتكاب جريمة
    فماذا حدث إذن ؟
    بعد معركة الكبكب مات أهلي وأحبابي ودمرت ديارنا ــــ
    ماذا تعني بالكبكب ؟
    الكبكب معركة أبيد فيها البرقو بالساطور ) لهذا سميت المعركة بمعركة الكبكب لان الساطور عند البرقو هو الكبكب
    كيف نجوت ؟
    في سوق أبشي سمعت خبر هزيمة سلطان وداي ولم أكن أتوقع إن جيوش الغزاة سوف تجتاح المدينة فعلى حين غرة هجم الجنود على كل شيء فهرولت مع الفارين ولم أتوقف إلا في منواشي حيث سمت إن البرقو هزموا وصار غربان طاروا في السماوات .
    بعد ما سمعت حكاية عبد الكريم كما رواها ريك أخذت اشول تتفهم اثر الطفولة القاسية على حياة عبد الكريم فأخذت تتفق مع ريك بأن تلك الظروف مسئولة عن عزلته وانطواءه قبل تعيد اشول ما دار بينها وبين شقيقها ريك أن انتبهت أن الأطفال قد اصطنع مشاجرة فكان لابد من تدخلها فهي مسئولة عن الأطفال أما ريك فقد انصرف نحو الجزء المخصص لزوجته أدوت .

    ****************************************************
                  

02-22-2009, 01:51 PM

فتحي البحيري
<aفتحي البحيري
تاريخ التسجيل: 02-14-2003
مجموع المشاركات: 19109

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: إلى صلاح عوض الله وآخرين : نص هيأه صاحبه للنشر .. والنقد (Re: فتحي البحيري)


    دارت معارك طاحنة في منطقة الشامي وامتد القتال إلى نوليك ثم أدرك القتال مريال ياي فوجد القنوك أنفسهم متورطين في ذلك الاحتراب الدامي فقتل في المعارك ريك ملوال وعشرة من أولاده الذكوَّر ولم يبق على قيد الحياة من أبناء ريك ملوال إلا اثنين هما يَّن ريك وملوال ريك وهما الأصغر من أبناء ريك من زوجته ادوت بعد تلك الأحداث المريرة التي فقد فيها القنوك أبناءهم وثرواتهم انتقلت قيادة النقوك تلقائياً إلى يَّن ريك الذي أصبح همه الأساسي معالجة الفقر لهذا دعا النقوك إلى صيد الأسماك واستغلال النهر وبدأ بنفسه فصنع له قارب من خشب الأبنوس ثم نزل النهر وأستخدم يَّن مهارته في توطيد علاقة القنوك بالنهر ومنها موهبته في الحي فظَّل يقضي الساعات الطوال في تلك الحكايات التي يقصها لجلساته والتي منها هذه الحكاية التي نختزلها هنا :
    فقدنا معظم أبقارنا في الحروب والقحط الذي ضرب مريال مرات عديدة لهذا أدعو كل القادرين على العمل للنزول للنهر وصيد الأسماك لم اكتف بهذه الدعوات فقد ركبت بقاربي النهر فاكتشفت في عمق أعماق النهر كنوز أجدادنا التي وجدتها واعرف مكانها جيداً واحتاج للرجال الأقوياء لاستخراجها فلم يركب معي النهر احد فالقنوك من نقاط ضعفهم خوفهم من النهر لهذا أثاروا انتظار ما يحدث ليَّ ، صمت يَّن ريك برهة تكفي لتغير جلسته وتصويب عيناه للسماء حتى لا يظهر غضبه الذي يبرز اصدق ما يكون من وهج عيناه فيتمدد الخدر إلى قلوب سامعيه إستفرغ ذلك منبهه ثم واصل حكايته مع النهر :
    (برغم تقاعث القنوك عن ركوب النهر الذي اتخذته صديق أبثه أحزاني ولا سّر في ذلك فأخذ النهر يكشف ليّ المخبوء في جوفه من كنوز وأسرار الأجداد الذين كم التمسوا عنده الرجاءات ففي إحدى المرات انطلقت بقاربي هدفي الوصول لقلب النهر كن ذلك بعد الغروب فقطعت معظم المسافة بين الشاطئ وعمق النهر فسيطرت عليَّ الهواجس فهززت راسي سبع مرات عامداً كي اطرد الأشباح والهواجس هذا ما جعلني فاتح عيني على مصراعيها فدهش السمك خارجاً من النهر وحداناً وجماعات فيحط في قاربي وظللت طوال الليل أشكو إلى النهر ضياع ثروتي وموت أبقاري والفقر الذي أصاب القنوك ) .
    عندما أدرك يَّن التعبير عن أحوال القنوك اعتدل مجدداً في جلسته ثم صوب جلسائه بنظرة معبرة كأنه يحاول أن يعرف وقع حديثه على سامعيه وبحصافته المعهودة أدرك انتباههم لما يقول من عمق نظراتهم الدَّهشة المتوترة فواصل حكايته مع النهر .
    ( ظهرت ليَّ فتاة بارعة الجمال ناقشتني في حياة القنوك وفي همومي الشخصية وأحلامي ومسئولياتي الذاتية وأسرار أجدادي وكنوزهم وثرواتهم المخبوءة في النهر فكانت الكلمات تسيل من شفتاها كالمياه الجارية فتشق صدري وتغوص لأعماق عميقة في وجداني ولكي تؤكد ما تقول أخذتني من يدي إلى جوف النهر فعرضت عليّ ثروات الأجداد وأعطتني إشارة توحي بالإمكان العودة ومعي القنوك كي نحمل الثروات فرجعت إلى بيتي أحلم بلقائها فعدت في اليوم الثاني للنهر ولم أجدها فظللت مرتبطاً بالنهر عسى أن التقيها لمرة ثانية ظللت أعود خائب الامل دون أن أحقق حلمي في العثور عليها أو الوصول للبقعة التي وجدت ثروة الأجداد إلا أنني كنت أفاجأ بأن قاربي مليء بالأسماك فظننت أنها أرادت أن تعلمني صيد السمك فانقلب اعتقادي رأس على عقب حين ظهرت ليَّّ من جديد فقادتني إلى أعماق النهر فعبرت بيّ أخدود بين صخرتين أتسربت فيه ثم أتسربت خلفها فأحسست انَّي أسقط من علو شاهق ثم وجدت نفسي في ارض صلبة تحت الماء ثم قادتني إلى قصر ضيق أجلستني على مقربة منها وشحت ليّ أمور حادثة وأعلمتني بأمور ستحدث وكشفت عن ثروات الأجداد وعن عوالم أعماق الأرض فعرفت مالم يخطر على عقلي وشدّت علىَّ إلا اكشفها لكائن من كان لذلك أبشركم بمعرفة ما أعرف وأكثر إذا صعدتم على ظهر النهر فكل منكم سيد ضالته )
    ( الم ينتابك شيء من الخوف في رحلتك تلك ؟)
    صوت جهوري جاء من احد جلساء يَّن ريك
    رد يّن بثقة :
    ( دون شك كنت خائف ولا أخفي عليك حاولت التراجع أكثر من مرة لكن جمال الفتاة شدَّني للسير أكثر من الخوف لهذا دخلتُ معها مدينة مبنية بالجواهر الخضراء والبيضاء فاجتزنا بوابة يحرسها عمالقة لكنها كانت تمسك بيدي حتى دخلنا إلى صحن في دار بيضاء فخلعت حذائها ففعلت مثلما فعلت فإذا بنا وجه لوجه أمام الآباء والأجداد كل منهم يمسك كتابه في يده مدوناً فيه أحلامه التي لم يحققها والأفعال التي يتمنى أن يعطى فرصة كي يحققها أو يتمنى أن يحققها غيره نيابة عنه فأخذت أحفظ وصايا كل واحد منهم حتى ضربني تيار من الهواء كثيفا مثل دار لف لفاً فصار تيار الهواء لا هو بالمتحرك ولا هو بالساكن فاندفعت للباب ابتغي الهرب فانفتح الجدار من إجتزته لأجد نفسي في ذات المكان سابحاً في ريح زكية معطرة بأريج أشجار المانجو المزهرة )
    تأوه يَّن ريك فاخرج دخان ساخن من صدره ثم لاذ بالصمت فحاول جلساءه دفه إلى مزيد من الحديث عن تجربته مع النهر إلا انه عاد فأكد لهم أنه لن يكشف لهم أكثر مما أخبره به الأجداد من أسرار : ( من أراد منكم أنَّ يعرف أيَّ شيء عن تلك الأحداث فليذهب للنهر فيدرك أنيَّ قلت ما يُسمح ليَّ بانّ أقوله فأنا عاهدتُ نفسي إلا اكشف ما رأيتُ وسمعتُ ولمستُ لكي لا أغضب أرواح الأجداد وتكون عاقبة ذلك مصائب القنوك وأبقارهم لهذا لن يعرف أحدكم ما أعطاني إياه أجدادي من وصايا وأسرار ليّ شخصياً وهذا ليس للإعلان ومن أراد منكم أن يعرف المزيد فليركب قاربه وينزل النهر .)
    لم يهتم يَّن ريك للقصص التي أخذت تتوالد بسرعة هائلة من حكاياته مع النهر فقد استدار نحو بيته كأن قوة خفية تدفعه برفق نحو شباكه ورماحه كي يتفقدها قبل أن يأخذ قيلولة فيغفو قليلاً استعدادا لركوب النهر عند الأصيل .
    الأستاذ ووَّل يَّن ريك نشأ في ظروف غير تلك التي عاش فيها إسلافه من القنوك فهو من الأجيال التي ولدت بعد حرب النهر التي فتحت العيون لتجاوز الانفلاق المفرّط إلى التواصل والارتفاع عن سلطة الخصوصية عبر اكتشاف قوة الزمن وما يحدثه من علاقات متشابكة تتصل بالقلب من الممارسة الحياتية بمعناها الواسع فحرب النهر لم تنتصر فيها قوة متقدمة في إمكانياتها المادية على قوة محلية تقليدية فحسب بل هي نقطة فاصلة لكل الذين يقطنون النهر في نظام حياتهم ومعيشتهم فقد إنتقلو من أزمنة العزلة إلى الانفتاح هذا ما جعل القنوك يضعّوا على طاولة التشريح كل حياتهم بقية التكيف مع الأوضاع المختلفة بتجريد حاد فإن حرب النهر أطلقت العنان للعقول للجدل لكافة سكان النهر فقد ظََّلوا حقباً بمنأى عنه وبمنحى منه بعد أن رأى الناس رأي العَّين ثمار الازدهار في الشمال البعيد ـ حياةٌُ أقل إرهاق ثَّم فيها إلغاء الزمن والمسافات لهذا التحق جيل الأستاذ ووَّل والجيل السابق له والأجيال اللاّحقة بنظام التعليم الذي يراه اللورد سليسبري ( فرضته علينا التزاماتنا فهو محاولة لإزالة ما بين الشعوب من حواجز وإقامة رابطة من المعَّونة الفكرية ونشر الثقافة الإنسانية ) الحياة في الشمال الأقصى ما زالت تنمو وتزدهر بمعدلات القياس لها هذا ما يفرض على العقول الجادة كعقل الأستاذ ووَّل يَّن ريك فهمها واللحاق بها الانتماء إليها بهذا القدر أو ذاك نقصد أن التطور فرض على سكان النهر تحديات جسام على رأسها كسر قيود الذٌّل والمهانة فخاضوا المعارك حتى انتصروا فعندما انتصروا في تلك المعارك وجدوا أنفسهم أمام تحدي مواجهة التخلف هذا يعني التصدي للنفس والحقائق التي كشفها ضوء العلم الساطع .
    الأستاذ ووَّل من جيّل ولد بعد أن دَمُّلت الجراح وتجددت الأرواح وتغيرت الرؤى والمخيلات وأشرق التسامي على نمط الحياة القديمة فارتفعت التصورات عن الجذور وطبيعة الظروف الموروثة من الأجداد لذلك اتجهت أماني الترقي للاندماج في خطوط التطور التي وضعها جيمس كري بعد حرب النهر هادفاً لخلق طبقة من الصُّناع المهرة ونشر المعرفة بين العامة بالقدر الذي يجعل سكان النهر يفهمون التطور وإدارة شئون حياتهم . وبعد أن أنتج نظام التعليم ما أراد ـ تشكيل جيل وجد في نظام تعليم كري فرصة للتحرك نحو المستقبل فاخذ هذا الجيل ينظر إلى نفسه وللشمال العيد فوجد الهوة سحيقة والبون شاسعُُ ليس فقط في الحياة المادية بل في نوعية إنسان الشمال الأقصى الذي وجدوه يختلف نوعياً في عقليته عن إنسان النهر وبديهته أدركت تلك الأجيال أن إنسان الشمال لا يختلف عنهم بيولوجياً بل لأنَّه واصل نضال الإنسانية بعد أن سخَّر المعرفة والعلوم لرفاهيته لهذا آثر البعض الهجرة والانتماء للشمال البعيد هذا ما خطف بصر ووَّل منذ طفولته حين ابتدأ في المدارس الأولية وتدرج في الأقسام الثانوية حتى جاء اليوم الذي هاجر فيه إلى الشمال فوجد الإنسان القاطن حوَّل النهر كرامته مهدرة لأنه مكبل بقيود ثقيلة من التراكيب المختلفة والحياة المعيشية المزرية فكلما أمعن ووَّل النظر بعمق وجد أن الذين جاء نهم مستقيمين حسب المواقع العصبية فما زال التميز بين الناس مؤسس على لون البشرة والمنبت العرقي ـ كما وجد الناس الذين يعيشون بينهم تجاوزوا الفوارق الشكلية واتجهوا للتعامل مع الإنسان على أساس ما يمتلكه من فوارق وميزات في بناء الحياة الأفضل فمفهومة الإنسانية ظلت مسيطرة على وعي إنسان الشمال لهذا وجد المغتربين فرصتهم حتى أن ووَّل وجد مقعده أستاذاً جامعياً .
    ظل يَّن ريك يدعو النقوك لتعميق اتصالهم بالنظام التعليمي كي يتجاوزوا حياتهم التقليدية فهو من المجددين الذين سحبوا القنوك للنهر وصيد الأسماك من خلال دعواته المباشرة وحكاياته واحترافه مهنة صيد الأسماك بديلاً عن رعي الأبقار فيَّن هو من غرس في أبنائه الارتباط بالنظام التعليمي فقد أثمر هذا التشجيع في ابنه ووَّل فشكل تكوينه النفسي الذي جعله متعلقاً للارتقاء منذ أم كان ووَّل لا يعرف من الدنيا مريال فأبعده يَّن عن أي مسئولية في إدارة حياة القنوك مفضلاً دمجه نهائياً في النظام التعليمي فقد كان ووَّل مندهشاً بمظهر (الأفندي ) الذي كان يفِّد إلى والده فمظهر ذلك الغريب كان يُشعر ووَّل بأنه يفتقد إلى شيء ما لا يجده في مريال حتى عند مثله الأعلى يَّن ريك الذي كان يعامل ذلك الغريب دائماً في كِبَّر وتعالي فقد كان يغلق نفسه تحت نظارته ولغته غير المعهودة فعندما سأل ووَّل والده عن سر هذا الرجل فأشار إلى قوة العلم وسلطته .
    يقول الأستاذ ووَّل : ( كنت اشعر أن في ذلك الغريب المتكبر شيء خفي لا افهم برغم إلا انه كان يظهر تجاهي من الرقة التي تصل حد التذلل الذي يدعو إلى الدهشة في بيئة لا تقيم وزناً للأطفال ولا تقدِّر بأي مستوي مشاعرهم وانفعالاتهم وقد لاحظت أن سلوكه هذا لم يكن تجاهي وحدي بل مع الأطفال الذين يُظهر لهم الحنَّو والتواضع والمحبة المترأفة التي كنت احسبها شيء من التملق والذلل حتى أشار لي والدي بأن الذي يظهره ذلك الغريب أصيل ليس فيه اصطناع . ثَّم أدركت بعد ذلك أن التقيت بإنسان الشمال الذي تعلمت منه كيف أن اجلس مع أناس يختلفون عنيَّ اضطرتني الأوضاع للتعايش معهم والإجابة عن أسئلتهم )

    *******************************

    (عدل بواسطة فتحي البحيري on 02-22-2009, 02:19 PM)

                  

02-22-2009, 01:54 PM

فتحي البحيري
<aفتحي البحيري
تاريخ التسجيل: 02-14-2003
مجموع المشاركات: 19109

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: إلى صلاح عوض الله وآخرين : نص هيأه صاحبه للنشر .. والنقد (Re: فتحي البحيري)


    الأستاذ ووَّل يَّن ريك عاش في اوتاوة حياة العزَّلة رغم أن منزله كان يعج بالحيوية بعد أن صار مقصد المهاجرين من أبناء الجنوب لا سيما في أيام المنتدى الذي يرعاه ووَّل بنفسه فيتخذ مجلسه بين الحضور بقامته المديدة وهندامه الأنيق متابعاً موضوعات المنتدى ونقاشات الحضور وانفعالاتهم بحكمة وروية أعطته خبرة معالجة الخلافات وفضَّ الاشتباكات والتوفيق بين الآراء المتعارضة بطريقته الناجزة العميقة المعبِّرة عن فكر ثاقب وعواطف ثاقبة تنبع عن قلب مروض .
    منتدى الأستاذ ووَّل المنزلي لم يكن منبر لعرض الأفكار وحسب فقد كان يصنع المبادرة والمبادءة التي تمس عملياً المشكلات حتى صَّار يوُصف بأنه يقود الحملات الشعرية المتظاهرة أو المعتصمة أو الجامعة للتبرعات أو الداعمة مادياً ومعنوياً للقضايا التي تخص كل الذين يعيشون في ظروفٍ إنسانية قاسية فقد نحج منتدى الأستاذ ووَّل في جمع الأنماط المختلفة والآراء المتعارضة في بوتقة واحدة وبين ذلك العدد الهائل من الحضور كان هناك بضعة أشخاص لهم علاقات شخصية بالأستاذ ووَّل الذي ما انفك محافظ على المسافة بينه وبين الآخرين لا لأي سبب واضح فاغلب الظن مرد ذلك للتقسيم المسبق الصارم لوقته فمن عادات الأستاذ الراسخة أنه لا يجامل مطلقاً في اختلال الزمن فيومه مقسم بتفصيل حازم بين القراءة والتدريس في الجامعة والأعمال المنزلية والتحضير لفعاليات المنتدى .
    عرف الأستاذ ووَّل بنشره الثقة بين طلابه فقد عمد إلى أن يغرس فيهم احترام التباين والإيمان بالمستقبل وقدرة العلم على الإجابة عن كافة الأسئلة وحل المعضلات لهذا يعتبر من الذين غرسوا في أذهان الأجيال الجديدة فكرة النهوض من وهدة الإظلام الثقيلة فمنذ نعومة أظافرة قد أخذ يشجع على بناء السلام وزرع الهدوء وتحقيق الاستقرار فكم مره أعلن بلا مواربة رفضه الحاسم الاحتكام لفوهات البنادق فالعنف عند الأستاذ ووَّل ضار في كل الأحوال ولا يفلح في معالجة مشكلة لأنه يحمل غمامة داكنة خلفها غبار جاف حارق حانق مُفرغ للحياة لهذا أخذ الأستاذ ووَّل في تعرَّية الإرهاب كفعل عدي يكشف المسكون عنه في أذهان أدعياء الغايات السامية من غيبوبة تجعلهم يصنعون المعاناة لهذا السبب عزف منتدى الأستاذ ووَّل الحان السلام وبناء دنيا خالية من الإرهاب ودعم ضحاياه ففضح مرجعياته ، فقد ظلت تلك محاور المنتدى الفكرية لكل مشارب المنتدى بتناقضاتها وتباين أمالها فالقاسم المشترك ين رواد المنتدى دفاعهم المستميت عن الاستقرار ومناهضة الحرب والتحرر من أثارها الثقيلة المؤلمة فقد لامس المنتدى بهدوء ما يدور من عنف وإنفجارات ومجاعات دون أن يتحول المنتدى لقاعة تفرغ فيها الشعارات الجوفاء والرؤى الغامضة الكسولة لهذا بالضبط التزم المنتدى بصوت صارم يعترف بحق الأنانية في الحياة الحرة الكريمة لهذا السبب تحديداً ناهض منتدى الأستاذ ووَّل الإقصاء والتصارع فمن شعارات المنتدى الحياة حق والاستقرار واجب أسمى من الرغبات الذاتية لهذا أكد منتدى الأستاذ ووَّل بتوجيه الرجاءات لكي تثمر فعل بناء يتجاوز الأنانية فقد تناول المنتدى المتغيرات البيئية وإسراف الإنسان الذي بلغ مرحلة تهدد الحياة برمتها فصارت من أولويات المنتدى الاستقرار وسلامة البشرية فساند المنتدى رؤى الإنسانية المتكاملة بإيقاعاتها المختلفة فقد سرب المنتدى رؤى الإنسانية المتكاملة بايقاعتها المختلفة فقد سرب المنتدى الفرح الطفولي الحار إلى أوتاوا الباردة فترسبت تلك الإيقاعات المتناغمة لأعماق الأرواح محققة شيء من التجانس المتوثب للسلام راود منتدى ووَّل لهم حلمهم بعالم مستقر مناهض للحرب يدعو لتجاوز أثارها المؤلمة فقد تجرأ المنتدى على فضح الإنفجارات والحروب والمجاعات فعل ذلك بحرص حتى لا يتحول لمعمل لإنتاج الشعارات فلامس المنتدى أماني المستقبل بحراك المستقبل بحراك يتجاوز الجزئيات كاشفاً خواء فكرة وعدم جدوى الحرائق المزمنة لهذا أستضاف منتدى ووَّل المنزلي أنماط عديدة من دعاة السلام ومناهضي الحرب والمهتمين بالقضايا الساخنة فظَّل الأستاذ ووَّل يحفظ توازن المنتدى بحكمته الموضوعية التي استطاعت ضبط المنتدى لكي لا يتحول إلى نحاس يزَّن وضج يطن بالشتائم والغليان العدمي المغامر .
    فقناعات الأستاذ واضحة في هذا الشأن : المواقف المرتبكة المهزوزة لا تفلح إلا في تعميق التشريس وتنكأ الجراحات وتفجر الخلافات . غير المدينة التي تقوم دائماً أما للفشل أو للتراجع المرهق الذي يفضي للاحتقار والسخرية ويؤكد غياب العقل من هنا صار منتدى الأستاذ ووَّل في أوتاوا ميزان لصَّدق دعوة حماية للإنسان من نفسه والتواصل الإنساني غير المشروط كما أنه يؤكد صدق الإرادات الملتزمة بالقضايا الحيَّة في بحثها عن السَّلام والاستقرار بعيداً عن العبث والتخريب وفوضى الأفكار المدرسية ؟؟؟ يظهر بشكل ما طبيعة الأستاذ ووَّل الذي لم يكن لين العريكة منحصر في حياة التنعم التافهة فهو دائماً يرفض الطيبة الكريهة المؤسسة على السخافة والمزاجية فووَّل ترعرع على ضبط النفس لهذا ظَّل منزل ووَّل تعطره رائحة الصابون ويسوده إلى حد التشبع الدقة فحياة الأستاذ ووَّل يسيطر عليها التخطيط المسبوق المحسوب بدقة فحتى أوقات فراغ ووَّل النادرة ينفقها في إعادة ترتيب غرف منزله فلا تبغّى غرفه على حالها فيقلبها رأس على عقب فعمليات الإبدال التي يقوم بها ووَّل في أوقات فراغه دائماً ما تعكر مزاج زوجته الدكتورة سارة فتجهد نفسها في محاصرة قلقها بالانزواء مع كتاب كاتمة في نفسها اجتاجاها الناعم اللطيف الذي يعبر عن مودة حلوة تجعل المنزل الاستوائي في المدينة الباردة المنزل الأكثر دفئاً في برودة أوتاوا .
    مازال الأستاذ ووَّل يشعر بالفخر والاعتزاز بأبنائه إلى القنوك لا لأن أثار تقاليد القنوك مرتسمة على جسده شلوخ تعطيه المهابة كأنها لألألة تشده للعروض الاستوائية بل لان قيم وأخلاق القنوك صاغت مفاهيمه ومزاجه فصار صارم وفيُُّ لمخططاته وبرامجه التي لا يسمح لها بالاختلال فقد ظّل ووَّل يمارس الرياضة التي عادة ما يبتدئ بها يومه مقاوم التراخي مستعد للتجديد بالموسيقى وتأمل الطبيعة بمناظرها ومخلوقاتها فمازال ووَّل محافظ بثبات على تناوله الحليب الذي يتجرعه في لحظات الهدوء والسكيَّنة كأنه طقّّسُُ تعبُّدي روحي تحضر فيه ذاكرة ووَّل فيعيد تنسيق أولوياته ومهامه الخاصة والعامة صحيح أنَّ حياة الأستاذ ووَّل أسَّاسها الحياة العملية إلا أنها لم تكن جافة خالية من الحيوية الأسرية فقد تعود ووَّل ممازحة سارة التي تفاجأ بطرائف ووَّل المبتدعة فتثور وتخرج من طورها فيعلو وجهها الغضب فيعمل ووَّل على استرضاءها بالملاطفة والمؤانسة ـ قطعاً لم تؤثر عزَّلة ووَّل عن مجتمع أوتاوا في نظام حياة ووَّل أو مشاعره فالأستاذ ووَّل يراه زملائه وطلابه في الجامعة نموذج للوداعة المتفاعلة كما أنَّ الأستاذ ووَّل كائن منزلي في معظم الأحيان لا يغادر منزله لأي سبب بعد أن قررت الأستاذة سارة مقاطعة المنتزهات ومناطق التسلية والترفيه لأنها تحسبها نمط من أنماط الحياة الصناعية غير البريئة فقد عشقت سارة الحياة المنزلية التي كثيراً ما عبرت عنها هكذا :
    ( اجزم أن روح الاستواء تسيطر على منزلي المملوء تفاعل فمنزلي مركز الوفاء والسعادة لأنَّه أفضل بقاع الأرض لقلبي لأننْ أحسُ فيه الأمان وأعرف فيه طعم الطيبة لذا لا أرغب مطلقاً في مغادرته أو الخروج منه مضّطرة فشعوري أن الكون بأثره في حالة فوضى وعدم استقرار إلا منزلي هذا ..)

    ****************************************************
                  

02-22-2009, 01:56 PM

فتحي البحيري
<aفتحي البحيري
تاريخ التسجيل: 02-14-2003
مجموع المشاركات: 19109

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: إلى صلاح عوض الله وآخرين : نص هيأه صاحبه للنشر .. والنقد (Re: فتحي البحيري)


    روّتين الحياة العملية في الاغتراب يوّرثُ برودة الأرواح فتيبس الأجساد ويتسرب إلى النفوس القلق الذي ماينفك يكبر متحول لتوتر وارتباك يشبعان حاله من حالات عدم التماسك تظهر كضيق واضطراب في الأفكار التي تتجه في ذلك الحين للآمال التي لم تتحقق مطلقاً والرجاءات المجهضة هذا ما أخذت تشعر به الدكتورة سارة منذ فترة حتى أنها صارت تبدو تصف ما كان يملأ نفسها من حيوية عاطفية فالحياة زجت بها في تغيَّر الانفعالات فمالت للحساسية المتوترة فتكفي ذرة غبار لتزيل صفاء مزاجها ويحل محله الكدَّر والاستياء فمن حظ الدكتورة سارة أن مشاعر البأس والإحباط أقل سرعة في حركتها نحو التلاشي فلم تكن الأستاذة سارة قاسية مطلقاً فهي رقيقة كنسائم الصباح فالملاحظ مؤخراً بدأت تظهر عليها علامات ضيق الصدر وعدم الاحتمال للدعابات العرضية مما يؤشر إلى أن حالة من ثقل الدم صار متلبسها بهذا القدر أو ذاك فقد صارت حادة المزاج تنتقي الردود الجاهزة المفحمة وتستعمل الكلمات اللاسعة المنتحية للصرامة المصارمة هذا ما لاحظه ووَّل فصارحها به لذلك صارت تتهرب من إطالة لحظات الصمت فتشغل نفسها بأي شيء يكن تطيل معه الجلوس فصارت من عاداتها الانزواء في غرفة النوم بعد عودتها من عملها في الجامعة .
    منزل الأستاذ ووَّل في أوتاوا يضم ثلاثة حجرات رئيسية إضافة إلى حجرة رابعة مخصصة للمنتدى فالحجرات الأخرى إحداها غرفة طعام ومطبخ يلتئم فيه شمل الأسرة كما جرت العادة في وجبتي الإفطار والعشاء أما الحجرة الوسطى فقد تم تهيئتها لتكون غرفة نوم فيها سريران ملتصقان أرضيتها مفروشة بسجاد أيراني ففي ناحية الغرفة اليمين دولاب للملابس فيه صفان من الأدراج وتتناثر في الحجرة عدة طاولات صغيرة ومناضد عليها مزهريات إما الحجرة الثالثة فهي غرفة المكتب ففيها تحتفظ الأسرة بمكتباتها المقروءة والمسموعة والمرتبة كما تلعب الغرفة دور استديو التسجيلات هذا لا ينفي أن الغرفة بسيطة التأثيث فيها مكتبان متقابلان على ظهر كل منهما جهاز حاسوب .
    سارة إمراة ذات جمال هادي يتسرب إلى عمق الشرايين مع نغمات صوتها الرخيمة وجاذبية بشرتها الناعمة وصفاء عينياها المملوءتين تعابير تكشف عن أسنانها البيضاء فسارة أنثي من طراز فريد فهي تمتلك جسد لادن تظهر روعته أجمل ما يكون في اختيارها لألوانها فسارة تهتم بالجاذبية في ملبسها وحتى في طلاء منزلها بالجملة سارة إمراة مثيرة للإعجاب عصرية متحررة من ثقل التقاليد وقهر التخلف فسارة منذ نعومة أظافرها تمتلك قراراها وتحترم الفكرة الواضحة العقلانية ونعتقد أن الحظ كان إلى جانبها في كل الأوقات فقد كانت موفقة في حياتها الأكاديمية فنالت أعلى الدرجات العلمية في مجتمع ذكوري لا يمنح كل الرجال فرص النماء الأكاديمي والمهني كما أنها اختارت بحرية مطلقة رفيق حياتها ولم تجد ممانعة تذكر في مجتمع زواجه داخلي في الأغلب الأعم برغم كل تلك المميزات التي لعب فيها القدر دوراً أصيل إلا أن وجهها تبدو فيه سحابة داكنة من القلق حتى أن ووَّل لاحظ ذلك فأخذ يناقشها في إرهاقها لنفسها بأعمال المطبخ والأعمال المنزلية وفي عزلتها الدائمة في غرفة النوم فإذا لم تجد لنفسها عمل تستغرق نفسها بإخراج ثيابها وإعادة ترتيبها في حركة دائرية .
    دخل ووَّل غرفة الطعام فوجد سارة تطبخ في كباب كفته فقد انتهت لتوها من خلطها اللحمة المفرومة والدقيق والبصلة المفرومة المضاف إليها البقدونس فقد كانت تتبل وتعجن في الخليط عندما فتح ووَّل معها أبواب الحوار فسارة لم تترك ما تعمل بل أخذت تناقش ووَّل وتصنع كباب الكفتة :
    ماذا بك ياعزيز أشعر أن أحوالك متبدل بعض الشيء ؟
    إنها البرود تفُّت عظامي وتستهلك روحي وتجمد عقلي .
    أشعر بما تشعرين به فمؤخراً أصيحتي مستغرغه في العمل فما الحكاية ؟
    عندما طرح ووَّل أخذت سارة تشكل خليط اللحمة المفرومة والبصل والدقيق على شكل أصابع وتقليها في الدهن
    أشعر ياووَّل بضيق في صدري من روتين الحياة العملية باختصار أحس بالفراغ وعدم الجدوى .
    كلمات سارة الصريحة جعلت ووَّل ينتابه شيء من الحرج في تلك الأثناء وضعت سارة أصابع الكفتة في صينية .
    ماذا تعتقدي علينا أن نفعل ؟
    لا أعرف بالضبط ولكن لدى أفكا واقتراحات .
    وضعت الصلصة في صينية الكفتة المرصوصة في شكل أصابع كما قطعت حلقات من البصل والطماطم على الكفتة وأضافت الملح والفلفل ثم أدخلت الصينية الفرن .
    ماذا تقترحين ؟
    أن نصنع برامج جديدة كفيلة بأن تحقق لنا شيء من التغير تسترد بعض الوهج لحياتنا الذي أضعناه مع ضغط الروتين .
    بعد خمسة عشر دقيقة أخرجت سارة صينية كباب الكفتة من الفرن حاولت تواصل المناقشة التي أخذت مسارات عديدة حيث ناقشا المقترحات إلا أن سارة مازالت صارمة :
    نحن محتاجين نخرج من أجواء ضغط الشهور الماضية التي أتسمت بالضيق والتوتر وثقل الحياة العملية مما أوجد حاله من التذمر والشعور بالغربة .
    كيف نفعل ذلك ؟
    لا أعرف أعتقد أنت تقدر على فعل سريع تتجاوز به الركوض والروتين الذي يؤثر على حياتنا .
    اعدت سارة وجبة الغداء وهيئت المائدة وهي مازالت تناقش ووَّل في حقن الدفء في حياتهم
    لماذا لا نعطي حياتنا محتوى جديد؟
    كيف نفعل ذلك ؟
    بان نرفع رؤوسنا من الرمال ونتعامل مع الحقائق لأننا في حاجة لهجر النمطية لأنها مصدر الملل والضياع .
    لن يتيسر فعل خطوة عملية دون استيعاب المسألة نظرياً بذلك تصبح حياتنا ذات معنى ومضمون .
    أرى نعود إلى ديارنا ونترك هذا المكان البارد
    لكن إذا رجعنا في الوقت الراهن فستنهار كل مشاريعنا ومخططاتنا عشنا لأجلها أفنينا فيها زهرة الشباب .
    كيف نحتمل البقاء هنا والظروف واضحة .
    بعد أن تناول ووَّل وسارة وجبة الغذاء أعدت سارة الشاي الأسود فأخذ ووَّل يصبه في الأكواب بعد أن وضع ملعقتان من السَّكر في كل كوب لخصت سارة القضية في كلمات:
    ( مهما تحدثنا واقترحنا فإن حياتنا تحتاج لشيء من التجديد حتى نكسر حلقة التكرار هذا يعني أن نفك سلطة الحياة العملية بروتينها ومللها ..)
    أخذ الدكتور ووَّل في تأمل حياته بهدوء وروية في غرفة المكتب محاولاً الابتعاد عن الانحياز الانفعالي للذات فأقرَّ بأن سارة لها الحق في التحرك من أجل تبديل حياتهما الأسرية التي ضربها الروتين والتخشب ففي غمرة تأملاته في جزيئيات حياته أدرك أنه يتعرض لموقف مفصلي لهذا أدار الحاسوب ومن ثم فتح بريده الالكتروني فوجد رسالة من اتحاد أدباء مدينة فانكوفر بين طياتها دعوة للمشاركة في احتفال بداية السنة الجديدة شعر ووَّل بالارتياح لأنه وجد في تلك الدعوة فرص لتبديل أحوال أسرته فالاستمتاع بهواء المحيط الهادي ربما يحقق لسارة بعض السلام لهذا وافقت سارة على الفكرة عندما عرضها عليها .
    (علينا قبول الدعوة لندفن عند الهادي غمامات الروتين الذي أوثنا التوتر بل شحن حياتنا بالكدَّر فإذا كان قدرنا في هذه العروض الباردة فلابد من إيجاد نوافذ السعادة التي أراها في مثل الدعوة )
    -( لا بأس في ذلك لكننا نحتاج لوقت كي لا نقع في حبائل الدهشة )
    هناك وسيلة سهلة للتعرف على أي بقعة وذلك من خلال النزول إلى قاعها والتجوال في أزقتها وحواريها ).
    صارت الدكتور سارة تشعر بالغثيان من مصطلحات علم الاقتصاد الذي برعت في تدريسه خلال عشر سنوات في الجامعات حتى أن سارة لم تعد تبذل جهدها في إظهار طول الأناة والسيطرة على النفس كما في السابق عندما يطرح عليها طلابها أسئلتهم للحوحة فهي تعرف أكثر من غيرها أن هذه الأسئلة موضوعية تعبر عن محتوى التغيرات التي أصابت العلوم في صميمها وعلى وجه التحديد على الاقتصاد الذي ظهرت فيه نظريات وأفكار جديدة لا يمكن تناولها باقتصاب عجول برغم إدراكها ذاك سلم مره تعمدت اختصار الأسئلة التي تلاحق المستجدات فهي تعتقد أنها كإنسانة نسيت مشكلاتها الخاصة في زحمة المصطلحات وقاعات الدراسة وجدل الطلاب ومناقشات الأساتذة فلم يعد من المجدي تفريغ شحنات قلقها في متابعة التطورات النفسية والروحية لشخصية من شخصيات رواية عربية فهي في حاجة للولوج لعوالم تجربة إنسانية تدخلها في البحث من جديد في فرض إنجابها وما تتصوره سارة يتضمن التحول من طور جسماني مختلف باستصحاب أحداث تكشف طاقتها في الصبر واحتمال ثقل الانتظار لهذا تشعر بأن حياتها الناجحة كأستاذة للاقتصاد القياسي لا تغنيها عن ممارسة الأمومة بل على العكس أم نجاحها العملي والاجتماعي يشعرها بالفشل في تحقيق وظيفتها كأنثى تشتهي ممارسة الأمومة هذا ما يشعرها بالفراغ والضيق .
    الأستاذة سارة فكرت ملياً بموضوع الإنجاب وبحثت عن كل الوسائل التي تحقق لها هذا الهدف فقد ظلت تترد على عيادات الأطباء الذين عرضوها هي وزوجها لكل أنماط الفحوصات والتحاليل التي جاءت نتائجها إيجابية فقد تناولت كل أنماط الأدوية فلم تجدي شيئاً وأخذت أخيراً تعول على تبديل المكان ربما يأتي بنتيجة لم تحققها الأدوية يبدو أن هذا الموقف جاء بسبب حالتها المستعصية لهذا تحمست لتلبية دعوة الاحتفال ببداية العام الجديد في مدينة فانكوفر الساحلية برغبة دفينة في نفسها أن تكون الرحلة الجسر الذي تعبر به من حالة العمل الروتيني إلى أجواء الهدوء .
    اجتاحت سارة موجه من الفرح الطفولي بعد سماعها خبر دعوة أدباء فانكوفر لأنها تعتقد أن الرحلة ستوفر لها فترة تعيشها بعيداً عن روتين الحياة العملية في انطلاقة تجعلها تستعيد لنفسها الفرحة المخبوئه من ضغط العمل الروتيني حتى أن الأستاذ ووَّل أخذ يحدث نفسه ويخبئ في سريرته عن حالة سارة مما يدور في دواخله :
    (أتستطيع الإجازة السارة أن تحدث كل هذا التغير الوجداني الذي يطلق أنهار الحيوية دون كابح؟ .. ما أقوى سلطان الكلمة حاملة الرجاء فإنها تكشف أبعاد من الروح الإنسانية كانت مثقلة بأعباء المعاناة والضيق فالكلمة قادرة على إعادة صياغة الإنسان إيجاباً وسلباً )
    لم يلاحظ الأستاذ ووَّل أن سارة بقبولها فكرة قضاء عطلة نهاية العام وبداية العام الجديد في فانكوفر يشوبها حزن غامض أو قل بتعبير آخر شيء من عدم الرضا فقد ألحت سارة في إخفاء ذاك الشعور باجتهادها في إظهار تحمسها مخفية قلقها الحقيقي من شيء اكبر من التخلص من ثقل الروتين وكآبة الاغتراب فعلى الرغم من أن رحلة فانكوفر بشرتها بالتغير الذي تنشده للتخلص من وطأة الروتين المنفجر إلا أن فكرة الرحلة أيقظت في أعماقها مطلبها القديم بالأمومة والدخول في تجربة الإنجاب ورعاية الأطفال فالذي جعل ووَّل لا يشعر بقلق سارة هو تكريره الجاد على الإعداد لتفاصيل الرحلة فقد اهتمت سارة بكل معلومة شاردة أو وارده عن فانكوفر بل كل ساحل الهادي حتى أن مفكرة سارة الشخصية التي كانت خالية فاضت بها عناوين الأصدقاء والمعارف حتى أنها اتصلت يبعضهم فالحقيقة التي أثرت على رأي سارة لاحقاً حول الرحلة أنها كانت تتحرك تجاه الرحلة بآمال ظاهرة وأخرى خفية .

    ****************************************************
                  

02-22-2009, 02:25 PM

فتحي البحيري
<aفتحي البحيري
تاريخ التسجيل: 02-14-2003
مجموع المشاركات: 19109

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: إلى صلاح عوض الله وآخرين : نص هيأه صاحبه للنشر .. والنقد (Re: فتحي البحيري)

    من البديهيات المدركة للأستاذ ووَّل والتي رددها مراراً أن الأجيال الأولى من المهاجرين الأوائل للدنيا الجديدة من أبناء الجنوب كانت لهم طاقة هائلة لتسجيل تجاربهم في بحثهم عن الثروة كخيار لا يقاوم فقد كان معظم أولئك المهاجرين فقراء وغير متعلمين ويجهلون الكتابة بأية لغة ولم يكونوا مدربين على مهنة معينة . ويوصفهم عمال غير ماهرين ، بعد أن تعلموا مبادئ اللغة الانجليزية أصبح بوسعهم العمل في المزارع والمصانع والمناجم غير أن مثل تلك الأعمال كانت مرهقة ورتيبة والأهم من ذلك لم تتح لهم فرصاً لجمع الثروة بسرعة وذلك هو الهدف الأصلي لهجرات أبناء الجنوب للدنيا الجديدة فشكلت الزراعة لهم صعوبات إضافية على نحو العزلة والوحدة والظروف الجوية السيئة كما أن المهاجرين من الجنوب كانوا ولا زالوا يعتبرون أنفسهم كقيمين في الدنيا الجديدة إقامة مؤقتة أي أناس موجودين كنازحين لكنهم ليسوا جزء من الأوطان الجديدة فحياتهم تتأثر لأقصى حد بما يدور في بلدانهم الأصلية بل عمدوا بإصرار منقطع النظير لتقليدها من حيث الجوهر والفكر والأسلوب لأنهم كانوا بعيدين مؤقتاً عن ديارهم فتركزت حياتهم على ما يدور في مدنهم وقراهم القديمة هذا لم ينحصر في الهجرات الأولى بل حتى الهجرات اللاحقة التي ضمت مهندسين وأطباء وطلاب وأساتذة جامعيين ومستويات علمية وأكاديمية نادرة فقد ظلوا في عزلة وحالة من الاغتراب يعيشون اضطراب القيم وتبدل الأحوال فبعضهم عكس ثقافات مشلولة ـ أو ظهروا كتقليدين محاصرين ـ أو عصريين مفتعلين من جذورهم فالسؤال الذي ماانفك يضغط على ذهن الأستاذ ووَّل لماذا اختار أبناء الجنوب في الدنيا الجديدة أن يكونوا مقيمين مؤقتين بدل أن يخطو خطوات فعلية ليصبحوا مندمجين فيها ؟ يعرف الدكتور ووَّل أن أبناء الجنوب خلفياتهم الثقافية تقليدية عشائرية منعزلة تدول حوَّل تعميق الصلات بالأقارب هذا لا يعني ازدراء الجذور كما لا يعني تجاهل حقيقة المجتمعات الجديدة فبرغم دعوة ووَّل للانصهار إلا أنه لم ينتابه مطلقاً الازدراء بتنشئته في القرية ولم يشعر بالخذي من إملاق القرية والصعوبات التي عاشها في مريال ياي التي تغيب عنها مياه الشرب والطرق المعبدة والتيار الكهربائي والسكن الجيد فقد ظلت مريال على حالها دون إصلاحات منذ أن خُلقت الأرض فبرغم ارتباط ووَّل بمريال فان مخيلته تحتمل فكرة الاندماج لافتراضه أن هناك قوى حقيقية تصارع من اجل جعل الاندماج واقع لا مناص منه .
    أطبق الصمت على سارة وووَّل وهما على متن الطائرة المتجهة إلى فانكوفر ربما يرجع ذلك لطبيعة الأفكار والمشاعر المتناقضة التي تدور في مخيلتهما فسارة تفكر في رغبتها في أنجاب طفل فهي تعتقد أنها مثل كل المهاجرات تتعرض لاختلال التوازن وما يستصحبه من تغير في السلوكيات على نحو الاختلال في أنماط الأكل ومستويات النشاطات الذهنية والجسمانية وما يترتب على كل ذلك من القرارات التي تثير خطر الإصابة بمرض معين لهذا تعتقد سارة أن للعوامل السلوكية أو الغذائية دور مهم في اختلال ساعتها البيولوجية بالتالي عدم إنجابها فهناك ثمة فروقات بين مجتمعها القديم ومجتمعها الجديد في الأحوال الجسمانية والبدنية المتأثرة بهذا القدر أو ذاك بكميات الكولسترول والدهون واللحوم التي يتم تناولها هنا وهنا واتجاهات تصريفها فالحقيقة الواقعية لأن معظم المهاجرات في مختلف المستويات والخلفيات القادمات من الجنوب يتعرضن لزيادات مخيفة في الوزن بالقدر الذي لا تنفع فيعه الحمية الغذائية في خلق التوازن الضروري وذلك لأنهن معرضات للبقاء في المنازل طوال اليوم في مشاهدة شبه دائمة لأجهزة التلفاز وتناول المسكرات والعصائر والفطائر والمثلجات حتى أن الوجبات الغذائية يشجع فيها واقع الدنيا الجديدة على تناول السكر والحلويات فملاحظة الأستاذة سارة الأولى عن حالة المهاجرات من بنات الجنوب فأنهن يعانين من داء السكر وارتفاع الكولسترول وارتفاع ضغط الدم فسارة نفسها تعتقد أنه مع تقدمها في السن تعاني من بعض أعراض تلك الأمراض أو أمراض غيرها برغم تأكيدات الكشف الطبي الدوري عن سلامتها من أي مرض أو علة جسدية من ذات العينة تربط سارة الأعراض التي تنتابها بتبدل سلوكيات معينة أو أنماط محددة أثرت في نظام غذائها فالعلم يؤكد أن السلوك وأنماط الآكل مؤشر على أخطار الإصابة بالأمراض الأكثر شيوعاً والتي تتصل بالافتقار إلى التمارين الرياضية والنظام الغذائي العالي الدهون فقد حاولت سارة جاهدة المحافظة على الأنماط الغذائية الموروثة لكي لا يحدث لها اختلال إلا أن صرامتها تحولت بمرور الوقت إلى التكيف مع النظم الغذائية السائدة فانزلقت لذلك في محاولتها للتطبع الثقافي لهذا ترى في رحلة فانكوفر فرصة للتغير المكاني الذي ربما يساعد على تحقيق حاله نفسية ربما تهيئها هي وزوجها للإنجاب واستقبال ضيف انتظارهما له فيمليء حياتهما ابتهاج فطوال الرحلة إلى فانكوفر لم تتخلص سارة من تلك الأفكار والمشاعر بل لم تبارحها الانفعالات المتضاربة التي أثقلت على ذهنها ووجدانها أما الدكتور ووَّل فقد ذهب ذهنه إلى مشكلات تحاصر حياتهما لغة المسيطر كشكل للمقاومة وميل الأفكار العنصرية إلى إدراج اختلافات التفكير والسلوك إلى النظرة البيولوجية القاصرة التي تعزي التفضيل الاجتماعي لبياض البشرة وعزي الفشل والإخفاق إلى سواد السحنة فتلك الأفكار العنصرية تمثل قطعاً تركه كولونيالية فما يحذُ في ضمير ووُل استمرار تلك النظرة العنصرية المناهضة لأبناء الجنوب التي تعبر عنها أوساط نافذة بكل جلاء فاضح في الدنيا الجديدة فحتى السياسات المرتكزة إلى تلك النظرة التميزية عندما تكتشف قصورها تبدلها بسياسات أخرى تقود إلى التحولات إلى المزيد من أتساع الفجوة بين النظريات والأفعال الحقيقة المطبقة على مستوى الواقع فمثلاً عندما تتحرك السلطة في تفكيك قوانين العمل الايجابي لصالح المهاجرين تنفذ سياسات مناهضة الإرهاب والمسئولية الشخصية التي تمارس من خلالها أقسى أنواع التميز ضد المهاجرين هذه الحياة المركبة تقود رأساً إلى الانصهار في الدنيا الجديدة كما يعتقد المُشرع إلا ما يحدث هو شعور المهاجرون أنهم في حاجة أكثر للعمل بجد من اجل صورة أفضل لأنفسهم وتراثهم وثقافاتهم وأهلهم الذين مازالوا في المناطق التي جاءوا منها هذا ما يفرض عليهم بذل جهد اكبر في تنظيم حملات تعريف بخلفياتهم وتقاليدهم ومبادئهم وثقافاته وتراثهم هذا ما كان يقوم به منتدى ووَّل المنزلي الذي الذي بذل جهد خارق في تلك المحاور فالذي وصل إليه أخيراً الدكتور ووَّل أن هذا الجهد على أهميته لا يتجاوز حالة نستولوجية أو حنين للوطن الأم ولا يعبر بأي حال عن فعل حقيقي للاندماج الانصهار في الدنيا الجديدة لان تلك الجهود تعبر أن أبناء الجنوب مازالوا جالية تقيم مؤقتاً لذا هم في حالة عزلة تفرض عليه العمل بجهد خارق للمحافظة على سماتهم لهذا فهم يقيمون في مستوطنات سكنية خاصة بهم يشجعون فيها أعضاء تلك الجالية على الزواج من الأقارب ممتدحين مزايا تلك الزيجات موضحين مساوي الزواج من فتيات من أصول مختلفة أوربية أو هندية فالدكتور ووَّل يرى أن المنتدى أخفق في مهمته في تسهيل عملية الاندماج الثقافي حتى الأستاذ ووَّل ربان المنتدى وهو في طريقه إلى فانكوفر يسيطر عليه الحنين إلى مريال هرباً من ثقل الاغتراب الذي ينتابه كإحساس بالفراغ وعدم الجدوى فينحاز إلى طفولته في مريال عندما كان طفل يافع يعيش ببراءة وهدوء لاهي مع شقيقة أشول التي كانت تطالبه أن يصعد للسماء على ثورهم الأبيض ليأتيه بالنجم الأحمر الذي كان يملئ الكون بوهجه في الليالي المظلمة فعندما وصل ووَّل لاستعراض طفولته في مريال ارتجفت وجنتاه وتساقطت من عينية الدموع التي مرت تحت نظارته حتى أدركت شاربه فلاحظت سارة دموع ووَّل التي لا تتقاطر عادة في أحلك الظروف فالدموع عند القنوك بالمسبة للرجال مظهر ضعف غير محتمل لهذا لاحقت سارة ووَّل بحزمة من الأسئلة الوجدانية الحميمة التي تختلط فيها مشاعر الحب والشفة والدهشة:
    -(مابك ياووَّل؟)
    - ( لاشيء لاشيء)
    - (هل تشعر بعلة جسدية ؟ هل عاد إليك الصداع ؟)
    - (مجرد تفاعل مع ذكريات بريئة عابرة )
    - (هل للدموع علاقة برحلتنا إلى فانكوفر )
    - ( لا انه الحنين إلى ريال ولشقيقاتي والأهل )

    ****************************************************
                  

02-22-2009, 03:38 PM

salah awad allah
<asalah awad allah
تاريخ التسجيل: 07-15-2007
مجموع المشاركات: 2298

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: إلى صلاح عوض الله وآخرين : نص هيأه صاحبه للنشر .. والنقد (Re: فتحي البحيري)

    الصديق العتيق والمعتق بالكلمة الجميلة
    وانت اذ يزينك سماواتك اصدقاء جميلين مثلك
    انا هنا يدهسنى الحنين الى امسياتنا الثقافية فى البشير الريح
    ومنتدى محمد صديق ...
    شكرا لهذا العبء الجميل
    انزلت البوست على جهازى وسوف اوافيك عنه فى هذا البوست
    لك محبتى
                  

03-02-2009, 02:03 PM

فتحي البحيري
<aفتحي البحيري
تاريخ التسجيل: 02-14-2003
مجموع المشاركات: 19109

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: إلى صلاح عوض الله وآخرين : نص هيأه صاحبه للنشر .. والنقد (Re: salah awad allah)

    لك الود يا صديقي

    انتظر

    ولدي المزيد من بقية هذا النص


    ووافر المودة والامتنان
                  

03-02-2009, 07:17 PM

salah awad allah
<asalah awad allah
تاريخ التسجيل: 07-15-2007
مجموع المشاركات: 2298

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: إلى صلاح عوض الله وآخرين : نص هيأه صاحبه للنشر .. والنقد (Re: فتحي البحيري)

    متابع يا بحيرى ارجو انزال ما تبقى
                  

03-03-2009, 06:35 AM

salah awad allah
<asalah awad allah
تاريخ التسجيل: 07-15-2007
مجموع المشاركات: 2298

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: إلى صلاح عوض الله وآخرين : نص هيأه صاحبه للنشر .. والنقد (Re: salah awad allah)

    تحياتى عبرك الى حاتم بابكر ود كوستى
    لم ارى هذا الخيط التعريف من قبل
                  

03-23-2009, 12:27 PM

فتحي البحيري
<aفتحي البحيري
تاريخ التسجيل: 02-14-2003
مجموع المشاركات: 19109

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: إلى صلاح عوض الله وآخرين : نص هيأه صاحبه للنشر .. والنقد (Re: salah awad allah)

    الاغتراب عن الوطن الأم رسخ علاقة ووَّل وسارة الزوجية فقد بدأت حياتهما كعلاقة تقليدية نشأة كما تنشأ علاقات الأزواج في كل الجنوب تحت مباركة شخصية بنية تذكرهم بأمور الواجبات الملقاة على عاتق الزوج والزوجة وتحسهما على الشعائر الدينية والدنيوية إلا أن ما تعرض له ووَّل وسارة من ظروف غير مواتية مستدامة جعلت حياتهما مفعمة بالحيوية وصارت سرّ تكيفهما التدريجي مع الدنيا الجديدة التي اختاراها مع إنهما قررا التباهي مع أصلهما العرقي والكدح المثابر مع مستقبلهما فقد أنتقد الانهيار الذي يعيشه وطنهما القديم وأعربا عن سخطهما على انعكاساته في ظروفهما المحلية وبالتصاقهما فظهرا أقل ذهلاً أو الأقل فقداناً للاتجاه ذلك لان سارة ووَّل صارا يعرفان بعضهما البعض للدرجة التي تكفي فيها نظرة واحدة متبادلة ليعرف كل منهما ما يدور في خاطرتيهما فيتجاوزان الظاهرة المدركة ليغوصا بالفهم والانسجام والتناغم إلى أعماق حياتية ملئها الوضوح الشفاف لهذا أدرك ووَّل ما ترمي له سارة من أسئلتها القلقة فكان ووَّل واضح حتى لا يسمح لخيالها بالتحليق بعيداً عن سرب معطيات ما يدور في ذهنه ووجدانه لأنه يعرف طاقات سارة في التفكير فهي تتناول أي قضية بطريقة معقدة متداخلة فتجعلها مشكلة متشابكة خاضع للبحث الذي تعمل فيه المناهج والآليات الصارمة فمن عادات ووَّل التصاقه بزوجته أنه يلجأ دائماً للوضوح الذي يحصن علاقتهما من الهزات والاختلالات فالوضوح عادة ما يثمر في علاقتهما تفهم وتناغم فالحقيقة أن الصراحة والوضوح حصَّنا علاقة سارة وووَّل من عاديات الزمن ورياحه ومشكلاته العاصفة .
    - ( كل مافي الأمر سيطرت عليَّ رغبة في العودة للتونج والتمتع بالحرية في مريال فأحس بأنيَّ مختنق )
    - -( أتفق معك في هذا لاشعور والحنين إلى دفء الاستواء )
    - ( أحس أني فقدت انتمائي للنقوك وتورطت في ثقافة لا تحترمني وتميزني بلون بشرتي )
    - ( نعرف منذ جئنا هنا إلى هنا ، أننا سوف نصطدم بالنظام القانوني فجذورنا ستظل مشكلة دائمة ربما سوف تتبدد عند الأجيال القادمة )
    - ( الم تلاحظي من حضور المنتدى أن الجيل الأول من المهاجرين الجنوبيين يميلون إلى الانصهار في الدنيا الجديدة وان الأجيال الجديدة تميل للتجمع والعزوف عن الاندماج )
    - ( لا خيار لنا سوى تحديد مشكلاتنا ومعالجتها كما فعل الجميع عبر تاريخ الدنيا الجديدة )
    - ( لا اختلف معك انه لا خيار لنا سوى المشاركة النشيطة في التغلب على مشكلاتنا كما فعل غيرنا وتبقى أثار الظروف التي تعانيها )
    تتعرض حياة سارة وووَّل إلى أزمات خفية جراء الثقافة المختلفة التي وجدا نفسيهما فيها برغم نضجهما الفكري ووعيهما الثقافي المتماسك يعملان في التعليم الذي يركز بحده على الثقافة عبر النظام المدرس بمورثهم الثقافي الذي يميل إلى الضغط على حقوق الجماعة والتسلسل الهرمي للسلطة ضمن الأسرة ومنها العلاقة الزوجية الأقل اتساماً بالمساواة برغم أن علاقة ووَّل وسارة قامت في الأصل على التكافؤ والاختيار الحر إلا أنهما لم يتصالحا مع النزعة الفردية والحقوق الفردية المسيطرة خارج منزلهما فقد عمد ووَّل وسارة للإبحار في الثقافة الجديدة محاولين عدم الاستغراق فيها بالدرجة التي تنتزعهما من تقاليد مازالا يثقا فيها ويعتزان بالانتماء إليها .
    في كافتريا المطار ركز ووَّل على اللوحات المعلقة على جدران الكافتريا فقد كانت بين اللوحات لوحة مميزة بحجمها وموقعها بل بمضمونها الذي يجسد السيد المسيح على الصليب فنظرة ووَّل الممعنة في اللوحة بالدرجة التي يحاول أن يقوص في عقل الرسام الذي صنعها أثر في تعابير وجهه ولفت إليه نظر سارة فنظرت إليه فأخذت تناقش معه اللوحة :
    - ( أعتقد أن هذه اللوحة تحمل معاني عميقة )
    - ( ربما ، ربما فانا لا افهم في مثل هذه اللوحات التي يدفع فيها البعض الأموال لذلك ...)
    - ( نعم يعكف عليها الخبراء بالدراسة والفحص والتنظير فيكتبوا عنها المجلدات في محاولة للوصول للمعاني )
    - (لم يعد من الممكن تعريف اللوحات بكلمات على شاكلة جيد ورديئة )
    حوار ووَّل وسارة الذي دار حول اللوحة أعطاهما فرصة للتأمل والتفكير حتى أن سارة أحسست أنها مستعدة للتأملات الفكرية العميقة لذلك نقلت الحوار نقلة أساسية :
    - ( أعتقد أن هذه اللوحة نسخه مقلده من لوحه أصلية رأيتها في كوبيك )
    - ( مهما يكن فاعتقد إنها نسخة ممتازة )
    - ( برغم عدم تخصصي استطيع الجزم بأن النسخة الأصلية فيها تعبير موحي أكثر من هذه النسخة المقلدة )
    - ( هل تعتقد أن الزائفة الجمالية متساوية عن الكل )
    - ( لا اعتقد ذلك فالزائفة الجمالية تتأسس على الوعي المعرفي الذي يصيغ الوجدان صياغة مختلفة بين الأفراد )
    - ( يرى البعض في مثل هذه اللوحة رسالة تؤثر بهذا القدر أو ذاك في الاعتقادات حتى يفقد البعض إيمانه )
    - (يفقد الشخص إيمانه ؟)
    - ( اقصد أن بعض اللوحات بها تكثيف عقائدي روحي )
    - ( مهما حملت اللوحات من رسائل فهي لوحات نختلف أو نتفق معها في أبعاد الجمال والإتقان دون هواجس أو أفكار مسبقة )

    ****************************************************

    في الطريق لمنزل الأستاذ ريتشارد نيوفيلد صاحب الدعوة ظلت سارة تطالع صحيفة مبتذلة أما ووَّل فما زال في صمته مستبدة به ذكريات طفولته التي ماانفكت تتحرك في ذهنه صوراً ولوحات باهتة يغطيها الضباب وتتضح شيء فشيء مع تكثيف مشاعره فجأة انتقلت سارة لصفحة الموسيقى فقرأت خبر عن الموسيقى بصوت جهوري كأنها تحاول إعادة التواصل مع ووَّل الذي ركز في تبيان الاختلاف بين (المودرن ميوسك ( و(الكلاسيك ميوسك)
    -( المودرن ميوسك ) يلمس عمق أعماق روحي وأشعر أنها إنسانية أما (الكلاسيك ميوسك) فباردة تدفع للنوم )
    -( لكني أحس فيها ايقاعات الاستواء فمضمونها عذب داخلي )
    - ( رأيك عاطفي منحاز للعوض الاستوائية )
    -( هل نملك إلا أن ننظر لأي موضوع بعيداً عن العاطفة )
    - ( لا يمكن إسقاط العاطفة كمكون مهم لحساب التطور المادي والوعي الجماعي والنضج الروحي )
    - ( التطور في الشمال البار متعدد الأبعاد وهو خبرة لكل البشر لهذا أُرجح أن من الإيقاعات ايقاعات الاستواء )
    بعد أن سكنت الضوضاء نظر ووَّل في عيني سارة فرأى كل أنوار الدنيا تبرق منها معلن عن أشواق عميقة مخزونة فقدر أن ذلك هو الانسجام فسكن للخمول والكسل لكن التفاعل باغته حين سألت سارة :
    - ( متى استمتعنا بمثل هذا الهدوء ؟)
    - ( بصراحة لا اذكر ..)
    - ( أرجوك تذكر )
    - ( نعم تذكرت عندما كنا نستمع لبوب مالي )
    - ( لماذا تذكر بوب الآن ...)
    - ( لا اعرف ربما كأثر للحنين الطاغي للاستواء الذي أحس بقوته عندما انظر في عينيك )
    - ( فماذا في ذلك ..؟)
    - ( لن أطيل عليك ولن أزيد فمن الواضَّح إنك مازلت مسجوناً بين النظريات الجافة أرجوك لا تفسد علينا هذه العطلة )
    - ( لن افسد العطلة بالكتب والنظريات والكلام المدرسي والأطروحات العقلية الثقيلة لانَّي لا أرى إلا عينيك الكتاب تلهماني وتفرحاني وتدهشاني ولا أحتمل غضبتهما)
    - ( لكنك حائر بين واقعنا المكاني وحنينك المشروع لمريال ومراعي الأبقار )
    - ( عندما تكوني بقربي لا فرق عندي بين مريال ومنتريال )
    - ( دائماً تنتصر علىَّ ولهذا أحبَك وأحتمل هذه البرودة القاسية )

    ****************************************************

    الدكتور ووَّل يَّن متصالح مع نفسه لأنَّه أختار بإرادته الحرَّة الإقامة في الدنيا الجديدة لهذا فنفسه دائماً مبتهجة لا ينقَّصّها القلق المرتبك فقد تعلم صعوبة تحدي الحنين لمريال ياي باستكانة الحياة في أوتاوا بضجيجها وصخبها وغموضها ومحتواها الاقتصادي المستهدف الأرباح واكتناز المزيد من الدولار الأمريكي . فالدكتور ووَّل منذ أيامه الأولى أدرك أن حياته في وطنه الجديد تعتمد على مخطط تفصيلي ليس فيه احتمالات الصَّدف لأنه اختار العمل في المكان الأكثر نشاطاً وحيوية ففي هذا المكان لا يمتلك المرء ساعة فارغة بصورة كاملة الكل يركض خلف نوافذ البيع والمضاربات وتبادل الصكوك كما أن الحياة مسيطرة عليها وسائل الاتصال وحركة الطيران وازدحام الشوارع بالسيارات القادمة من وإلى مواقع الإنتاج والاستهلاك .
    تعرض ووَّل إلى مشكلة التكيف في مجتمع سريع الإيقاع مشحون بعوائق تجعل من نشأ في مكان بعيد عنها منحصراً في حالة انقسام داخلي فقد أكتشف ووَّل أنَّ حياته في بلاد الفُرص النادرة هي ليست سهلة كما اعتقد بل هي أيضاً ملأى بالصعاب ولا تفرش بساط الترحيب لأي كائن من كان بل تواجهه بالاهانات وتهم التخلف وأنماط الضغوط غير المتخيلة هذا ما يجعل المرء دائماً في حالة دفاع عن النفس بحثاً عن لغة دقيقة رسمية تجعله يواجه التحدي والشعور بعدم الاطمئنان عن وضعه العرقي مما يزلقه دون إرادته في معارك قانونية لضمان وضعه في قالب التعايش .، فالإقامة في وطنه الجديد وجد ووَّل تضطره للبحث عن هوية فكرية أو دينية أو سياسية تتناسب مع وضعه غير المحدد فقد كان ووَّل يعرف نفسه مَنْ هو ؟ وكان لديه شعور قوي بانتمائه الشخصي فهو من قرب الشمس من خط الاستواء حيث تحرق الشمس الأجساد فتميل للسواد فهناك تتشكل الشخصية تحت ظل سلطة العائلة وقبل كل شيء في ارتباط بالعشرة برغم أن الرابطة القومية فقد ظلت غير متبلورة ومتحولة من اتجاه إلى آخر بسهولة دون اختلال نفسي فعرف ووَّل في وطنه الجديد العلاقة الفردية هي العلاقة التي تتأسس عليها رابطة القومية التي هي أكثر صلابة وتماسك ورسوخ ولو لا أدراك ووَّل وفهمه الواعي للتباين المختلف بين مجتمعه القديم ومجتمعه الجديد فأنه لكان طبيعياً أن يتعرض إلى الاختلال النفسي فووَّل تسيطر عليه الأشواق لمريال ذلك الشوق الذي لا ينحرف إلى حنين غير سوي فانتماء ووَّل للاستواء لم يمنعه من ترجيح قراره الشخصي بالانتماء الكليّ لأرض الفرَّص النادرة دون التفات إلى العراقيل التي ما انفكت تتوالد في مواجهته فقد واجه ووَّل صعوبات جمة في الاندماج في أعماقه فقد شعر بتنازع عميق بين وطن يسكن فيه ووطن يسكنه في وجدانه هذا ما يفرض المعاناة من أجل التوفيق بينهما فأشواق ووَّل مع موضوعيتها تصطدم بقرار فوري جريء بأن يصبح مستوطن في أوتاوا هذا يعني أن ووَّل حسم أمره بالا يعيش كمقيم مؤقت فقد قرر الانتماء لوضعه كأستاذ جامعي في أوتاوا فهو يعلم استحالة انجاز مهنته إذا ما أصر على العمل في أوتاوا بوصفه من أجانب مؤقتين فقد حسم ووَّل أمره بالتحول من مقيم مؤقت إلى مستوطن دائم هذا استلزم منه تغييرات في طريقة تفكيره وسلوكه هذا يعني أن ووَّل قرر أن يصْبح مواطن بالكامل فقد بذل ووَّل جهد جاد هو وزوجته سارة في برامج التدريب على المواطنة ، والتعاطي مع مفاهيم وقيم المجتمع الجديد هذا من جانب أما في الجانب الآخر فقد حاصر ووَّل أشواقه لمريال بالا تبدو كتصادم هويتين فقد حسم أمره للانتماء للهوية التي تجعله يحيا بمقاييس التطور والارتقاء فهو لن يستكتف أن يكون رسول إلى وطنه القديم حاملاً بشارات السوق وتداول رأس المال والديمقراطية وحقوق الإنسان .
    مريال ياي عند ووَّل ليس مكاناً بل هوية تجري في دماءه ولغته وذاكرته الشخصية وملامحه ولون بشرته ونقوش وجهه ولكي يوازن الدكتور بين الماضي والحاضر أظهر اهتمامه بالتعبير عن الإنسانية بكل انكساراتها وإخفاقاتها وسقطاتها وانتصاراتها وإنجازاتها ، سار الدكتور ووَّل في الطريق الضيق مصَّمماً ألا ينزلق في الدعاوي الجوفاء إلا تعبر عن نفسها كااصوات هائجة بمعادلة الشمال وإنهاء لسلطة رأس المال وأكاذيب التحرر من القهر والاضطهاد فالحقيقة التي لابد نبرزها هي أن ووَّل لم يقاطع أي دعوة أو فكرة بل أنشأ لحوار الأفكار منبراً حُرَّاً لكي تحاكم الأفكار والدعاوي عند سلطة العقل باختبارها بأسئلة الذهن في إطار النقاشات الموضوعية ، هكذا تحول منتدى الدكتور ووَّل المنزلي إلى قاعدة تعصف الأذهان برغم أن الدكتور ووَّل أهتم بأن لا يتحول المنتدى إلى منبر يناصر أيدلوجية على نحو أماني أن يتحول المنتدى إلى قاعدة لتعبير عن نظرات معادية للكنونيالية ومنازلة الشمال الانتصار للعقائد بتغير عقائد الدنيا بأثرها حرص ووَّل أن تتحول أسواقه إلى مسقط رأسه إلى فعل عدمي يسيء إلى وطنه الجديد وبتاءاته القانونية والأخلاقية باعتبار إيمانه بالتحول رهين بالتفاعل الثقافي لا بالتسلط الثقافي ففي قناعات ووَّل أن الفكرة قادرة على التأثير في النفس البشرية باعتبارات والدوافع والأماني والتطلعات كمركزها عاطفي وجداني من هنا أهتم بتقديم مريال لكل الدنيا باعتبارها عالم مختلف عن العالم المناقض المتصارع المتحارب فقد استطاع أن يبرز مريال كبيت كبير معزول مهجور منفصل عن الدنيا الواقعية في طريق جبلي واحد تسلكه القوافل للوصول لأرض الأحلام . يعترف ووَّل بأنَّه لم يفلح في عرض مريال كما هي لأنه يؤكد أنَّه أهتم في منتداه الذي أستضاف فئات عديدة عرضت قضايا عديدة إلا أن ووَّل يعتقد انه لم يوفق في عرض مريال بطبيعتها ولغتها في المنتدى لأنه اهتم بدحض الصور المتخيلة عن الجنوب وإبراز الواقع دون إدعاءات واتهامات من هنا نقرر أن منتدى ووَّل استطاع أن يعبر عن حياة الجنوب بتعقيداتها بل أن المنتدى أعطاها عمقاً إنسانياً جعلها جزء من الذاكرة الإنسانية هذا ما أعطى ووَّل موقعاً خاصاً في الذاكرة الثقافية باعتباره مهتم بعكس صلات أبعد من الحدود المنعزلة لهوية المنتمين للمنتدى باعتبار أن المنتدى أبرز الهوية خارج الخطوط العرقية إذ أن هوية الجنوب هدفاً نهائياً يحتفل به ، بل الوقوف عندها لنقطة تحول يعاد منها تحديد مفاهيم الإنسانية كمستوى أعلى للانتماء .
    تبدو دعوة أدباء فانكوفر للأستاذ ووَّل بالاحتفال معهم بنهاية العام المنصرم وبداية العام الجديد تعتمد على ما رشح عن هويته العرقية الثقافية وما يعكسه منتداه المنزلي من تنوع ثقافي فالحقيقة لا جدال حولها أن منتدى ووَّل قد أصطاد بنشاطه اهتمام الصحافة الأدبية والثقافية فرسخ اسم المنتدى في ذاكرة الرأي العام ، هذا ما حقق شُهرة لا حدود لها للدكتور ووَّل فصار اسمه يملأ الأفاق حتى أن وقائع جلسات المنتدى مادة تتناقش حولها فضائيات الثقافة باعتبار أن المنتدى منبر يناقش قضايا تهم كل الناس . فالحضور الإعلامي لمنتدى الدكتور ووَّل ربما قاد اتحاد أدباء فانكوفر لدعوة ووَّل فما يؤكد ذلك كثافة المقالات التي اهتمت بالمنتدى وبالدكتور ووَّل شخصياً ومنها هذا المقال التي نقطف منها مقاطع على سبيل المثال لا الحصر بل لتأكيد دور الأعلام في التأثير على المشهد الثقافي في الدنيا الجديدة (منتدى الدكتور هو المنتدى البارز للفكر فهو يقدم اتجاها منهجياً للاندماج والتواصل في آنٍ معاً ، فالموضوعات التي عرضت فيه خلال هذا الموسم الثقافي تعكس اتجاه المنتدى الفكري الذي يقف خلفه فمثلاً فأن أربعة عشر موضوع ناقشت قضايا جنوبية محضة من مجموع مائة موضوع فالموضوعات الأخرى ناقشت قضايا إنسانية ووجودية وأدبية واجتماعية مما يعني أن هذا المنتدى يأطر لسؤال محوري يدور حوَّله منهج المنتدى : كيف نتفاهم مع هذا العالم الذي ليس لنا حياد إلا أن نكون جزء منه ؟ .. الدكتور ووَّل قد لا يعرف أكثر من بقيتنا ماذا يفعل غير أنه يعرف أكثر من معظمنا كيف يجعل أناس مختلفون يعيشون في مكان واحد فمن خلال المنتدى ينصفهم جميعاً بأن يبرز الحاجة إلى التغيير بل المنتدى يتيح فرصة نادرة لأناس مختلفين كي يفكروا معاً عن الوسائل الممكنة التي تجعل في بيوتهم أناس على نحو متنوع لهم الرغبة في الحياة المشتركة والحفاظ على الحياة ) مثل تلك الكتابة مسئولة عن اهتمام أدباء فانكوفر بمنتدى الدكتور ووَّل وبه شخصياً بالدرجة التي أرسلوا له فيها بطاقة دعوة للمشاركة معهم في احتفالات رأس السنة ليس ذلك فحسب بل لأن المنتدى صاغ موقف الإنصات لمشكلات حية يعيشها الناس عبر العلاقات التي تتأثر بحدود العَّرق والقومية وجنس الشخصية على الرغم أن تلك العلاقات شخصية إلا أنها تقدم أساس الروابط التي تتخذ رنيناً مجازياً كما أن أدباء فانكوفر اهتموا ببناء الجسور بين الكتاب ذوو الثقافة الثنائية الواعون للتراث والمهتمون به ، فالدكتور ووَّل قطعاً من هذه الفئة التي تستند من العَّرق قاعدة لنفسها غير أنها لا تقصد ميراث الدّم فحسب بل تهتم بمستوى اكبر بعمليات التدفق والتبادل : مثلما يؤشر الخفقان إلى تدفق الدّم عبر الجسم فيشير العرَّق لدى منتدى ووَّل إلى الانتقال والتبادل فووَّل يرى أن التراث مهم ، ليس بسبب ما يبغ به عن الهويات بل من أجل تفاعل كل البشر فما يعتقد فيه الدكتور ووَّل هو :
    (... على الرغم أنَّ العّرق لا يوفر إجابات مسبقة إلا أنه يمكّن من توجيه أسئلة ضرورية ولو أن من غير الممكن الاجابه عنها دائماً ..)
    فالحضور الاعلامي للمنتدى وطريقة إدارته ومنهج الدكتور ووَّل الفكر كلها تجمعت كحزمة واحدة لفتت النظر للدكتور ووَّل باعتباره يستمد من خلفيته العرقية الطاقة لمد الجسور وإقامة الصلات الأبعد من حدود العرق والهويات الخاصة فقد عبر منتدى الدكتور ووَّل ذلك بتقديمه مجموعات متباينة من وجهات النظر فالمنتدى يهدف من ذلك إلى الإعلان عن قابلية التحرك أبعد من الحدود التقليدية بينما يكرَّم المنتدى الهويات التي ترسم الحدود وتقيَّم الحواجز من هنا اكتسب المنتدى صفة تحدي الحدود الجامدة فالمنتدى يعمل على مقاربة وجهات النظر المتباينة فمنتدى الدكتور ووَّل استضاف شخصيات مختلفة لها وجهات نظر متعارضة منطلقات متضاربة كما قُدمت في المنتدى هنا أوراق فكرية تناقش قضايا في غاية الخطورة كما تناول لمنتدى التجارب الشخصية والسير الذاتية فعلوا كل ذلك بإصرار منهجي لا يحترم الوحدة المصطنعة فالأمر المهم هو مهم مهما تهرَّبنا منه فالوحدة الدائمة تبنى على أساس الاختلاق .

    ****************************************************

    مدينة فانكوفر تقع على ساحل المحيط الهادي في غرب الدنيا الجديدة الأقصى فهي منطقة تصدير القمح برغم ذلك لا تختلف عن غيرها من المدن التي تمتاز بطابعها المعماري المتسم بروعته الإبداعية .
    في فانكوفر نزل ووَّل وزوجته سارة في مسكن ريتشارد نيوفيلد أمين عام اتحاد فانكوفر الذي يتخذ موقعاً وسطاً برغم من أنه مسكن متواضع مصرعيه يطلان على ساحة مهمة محاطة بمجموعة من المساكن الأنيقة المميزة بشرفاتها ذات الألوان الخضراء فمسكن ريتشارد نيوفيلد يشابه تلك المساكن من الخارج إلا أنه من الداخل يظهر الذوق المعماري الرفيع الذي يبرز لوحة تنضح بالجمال والترتيب والنظام . فأثاث مسكن ريتشارد منسجم مع طلاء الحوائط والسقوفات والأرضيات المغطاة بالسجاد الإيراني كما تتناثر شرفات المسكن بالمزهريات والتحف واللوحات كأن المسكن معرض دائم للجمال ـ قطعاً يعكس مسكن نيوفيلد حسن الفنان التشكيلي في اختياره وترتيبه فالمسكن مصمم بحيث يسع أكثر من آسرة في آن واحد لهذا وجد ووَّل وسارة السكينة والرَّاحة حيث قرر ووَّل أن يستلقي في مقعد وثير أما سارة فقد دلفت إلى الحمام فاغتسلت من وعثاء السفر ثم استلقت على سجادة الغرفة ومن ثَّم غطت في نوم عميق أما ووَّل فما زال يحاول ترتيب ذهنه بمراجعة الأسئلة الضاغطة على ذهنه :
    ( هل هذا العالم الذي نعيش فيه قائم على العنصرية ويحتقر البشرات السوداء؟ هل للون البشرات تأثير على مكتسبات الوعي والثقافة ؟ هل بالضرورة أن أصحاب البشرات السوداء لهم عقول سوداء وقلوب سوداء ؟ لماذا تصدر مراكز الدراسات والخطابات السياسة القانونية العنصرية ؟ لماذا يحاكم السلوك السياسي للأفراد السود من خلال نظريات توترات الهوية ؟ لماذا يحاول المنظْرون الثقافيون ضد السياسات العنصرية ؟ لماذا لا تصاغ هويات هجينة وقربة من خطوط الفاصلة عرفياً وتسمح للناس العرقيين بالتفاوض على أرضية ثقافية اجتماعية حرَّة ؟ لماذا لا يعمل المهمشين والمنفيين والأقليات واقعاً يقدم قدرة كامنة حقيقية لثقافة إنسانية غير إنسانية ؟ لماذا الإصرار على واقع ظالم عنصري بدرجة عالية لا تنال الفئات العنصرية فرصة الوصول إلى القوة السياسية لوضع الأقلية ؟ إذا كانت الهوية شيئاً يمتلكه المرء أقل أهمية من تحديدها كشيء يفعله المرء هذا ما يفرض سؤال ما موقع البيض منا ، وهل نصنف مع الملونين أم مع اليهود أم العرب أم مع الزنوج أم نظَّل سلعة تدعم هولاء ضد أولئك أي تتحول إلى دقيق من نوع جديد ؟) باختصار ظل ووَّل سابح في بحر متلاطم من الأسئلة المتشابهة والمتناقضة والمتعارضة دون أن يستقر على قرار غير انه توصل إلى أن هناك مشكلة خاصة به أهم من المشاكل العامة فووَّل يعتقد أنه اخفق في واجب أخلاقي تجاه لغته الأم التَّمُونجنّغ إذا كان بمقدوره أن يلعب دوراً ايجابياً في تعريف العالم بها لاسيما أنها تحمل في مفرداتها ثراء لا محدود يمكن أن يكون أساس لترياق لكثير من جذور الصراعات الدامية هذا ما يجعل ووَّل يعتقد أنه مدين لها بواجبات لم يجد بعد متسع من الوقت ليقوم بها لكنه مصمم على القيام بها طال الزمن أم قصر . فووَّل يعتقد انه لابد أن يستعين بدفء مريال في تحريك القضايا والموضوعات المؤجلة منذ عهود طويلة ومازالت تحتاج إلى الأرواح الصادقة والضمائر النقية فتلك هي الطريقة الأمثل لنقل القضايا من الغرف الباردة المعبقة بروائح العَّته فلابد أن تحقن من قرن الشمس لتأخذ الطاقة الحيوية القادرة على أخراج الأفعال من سكونها وعبثيتها وإعطاءها عمق وروح حركة الإنسان .
    طرد ووَّل الأسئلة من ذهنه كي يهيئ نفسه لبرنامج أدباء فانكوفر الذي لم يكتبوه تفصيلياً كما هو معتاد في تلك البرامج لذلك وجد صعوبة غير محدودة فاكتفى بالتركيز على تقديرات سارة التي دارت حول البحث عن اصَّطياد البساطة والسكينة من زيارة فانكوفر فمن أولويات سارة نمطية ضغط العمل اليومي وتفاصيل العمل الأكاديمي بمستجداته المرهقة التي تبعث الإنهاك الإجهاد الذهني لهذا تحديداً في فانكوفر لذا عليه أن لا يحيد عن هدف الزيارة .
    واضح جداً أنَّ دعوة إتحاد فانكوفر يعَّول عليها الدكتور ووَّل وزوجته في تجديد حياتهما الأسرية باعتبار إنَّ الدعوة غير تقليدية ليست مهتمة بالبرامج التفصيلية ففيها شيء من الحرية هذا بالضبط ما يربك ووَّل فهو لا يدري ما سوف يقدمه خلال البرامج أيام الافتتاح والختام وجلسات المناقشة لكنه وطن نفسه على قراءات قصصية وإعادة طرح ورقته الفكرية التي قدمها الأسبوع المنصرم في المنتدى الاندماج والخصوبة بين النظرية والتطبيق .
    تعرض الدكتور ووَّل إلى انتكاسة صحية جاءته كأثر للإرهاق المنهك الذي تعرض له في زيارته الأخيرة إلى فانكوفر ، فيعتقد أن وعكته تلك ليست أزمة جسمانية وحسب بل يميل إلى من أسبابها الحقيقية الإرهاق النفسي فقد أباح لسارة أنه يعاني من ضغط القضايا العامة أكثر من إحساسه بالإرهاق الجسماني ، فما يعتقد فيه ووَّل أنه مرتبك أبعد الحدود من تنامي الصراعات الدموية الحمقاء التي مازالت تمزق وادي النهر وتحرق مريال ، وما يزيد عنده الأمر سوءاً أن الميديا العالمية مازالت تقدمها كمادة تجارية تدعم أحد الفاعلين في الحريق من هذا الطرف أو ذاك لا تهتم بالإنسان الذي يحصد ناتج الأفعال العابثة لذا يشعر ووَّل بالمسؤولية لضآلة اهتمامه بإطفاء هذا الحريق الهائل وانشغاله بقضايا الثقافة والتحول الفكري التي يمكن تصنف شؤوناً خاصة تماماً على نحو قضايا الجندر . حقوق فاعلية الرجل والمرأة في الحياة ، العرقية وحقوق السكان الأصليين وحقوق الأقليات والقوة السوداء إضافة إلى قائمة طويلة تشمل حقوق الفئات العمرية ـ حقوق الأطفال والشباب والمسنين ـ وخصوصية حجرة النوم والأسرة أنشطة الأقليات التي تتوق إلى ذاتية أفرادها كأشخاص لا مجرد تابعين تحت مسمى المواطنة . بالطبع تلك قضايا متشعبة ينظر إليها بنظرات متعارضة برغم ذلك فقد كان الدكتور ووَّل واضحاً فيها موقعه في كفاح متواصل لإسناد تلك القضايا بايجابية متحملاً ردود الفعل الأكثر قسوة والتي تعارض تلك القضايا وبسبب مواقفه المنحازة تلقى ووَّل الضربة تلو الضربة على المستويين الحقيقي والاقتراحات في صحته وسمعته مما أضطره في أحيان عديدة إلى مجابهة منهج تسيس تلك القضايا بإعادة صياغة المفاهيم التي يستظل بها بعض الضالعين في الفعل العام أولئك الذين استعادوا من ازدهار تكنولوجيا المعلومات وأسواق الأسهم المالية . الحقيقة أن الدكتور ووَّل لم يهمل قضايا الاحتراب في منابع النهر أنما تزامن تصاعد وتأثر الاحتراب مع موجة ضلوع الدكتور ووَّل في القضايا الإنسانية فاعتقد الدكتور ووَّل أنه انشغل عن العنف الذي دمر مريال وأعاق فيها فرصة أن يخاطب الناس بعضهم وشيدت المتاريس وبنيت الحواجز حتى تبادرت إلى فرصة للتفاعل على أيادي العنف والتطرف التي كثفت أعمال إرادتها لتعزيز كل عناصر إيقاد واستمرار الحريق ربما هذا ما يجعله يعتقد في قرارة نفسه أنه هرب , اثر السلامة وابتعد عن مريال وصار يغني لها .حتى أنه صار في كل نقاش ، أو حوار صريح مع نفسه واقع على خط الرماية الأول فلا خيار له سوى أن يقرر انه محاكم وموبخ ومدان باعتباره هارباً من معركة دماءه إلى معارك خيالية في التناقضات الاجتماعية التي ليست في حاجة إلى تقصي الحقائق في لا تحظى بالاهتمام فتلك القضايا من الطراز القديم الذي يمكن تحديد بسهولة من نواتج عمليات الضغط اليومي .
    الدكتور ووَّل له اعتقاد راسخ بأنه لم يستخدم موهبته الفردية في فض النزاعات التي أسست للحرب أي انه لم يلعب دور في حل الأزمة القديمة بمعالجة جديدة تحترم الوجود الواقعي وتنقذ مريال وكل وادي النهر من موجات التطرف والتشنج وأخذ الحقوق بالعضلات يبدو أن الدكتور ووَّل يعرف أن جذور الانهيار عميقة تمتد إلى عقود وعقود فمن غير المنطقي أن توجد لها وصفة سحرية تطيح على عجل هذا لا يعني بالضرورة أن يقف ويشاهد الحريق كما لا يعني أن يتهم نفسه بالتقصير والهروب عن مواجهة الأوضاع الواقعية ومصارعة القضايا الافتراضية لا ادري على أي معّيار تقسم القضايا إلى واقعية وافتراضية على أساس وجودها وأثرها أم على أساس أنها قضية حوار ذهني أم غير ذلك على كل حال شعور الدكتور ووَّل بالذنب تجاه حياة الناس تلك في حد ذاتها خطوة إيجابية وانه مهموم بالذين يعيشون تحت ظلال العنف وانه يتمنى أن تنتهي فوضى العنف المنظمة التي جعلت الحياة تموت من تلقاء نفسها فقد هلك الإنسان والزرع والضرع وأجدبت الحقول وتمددت الصحراء على الأرض وفي العقول .
    حاولت سارة أن تخفف عن ووَّل إحساسه بثقل المسئولية في دوران آلة العنف بالتقاعس عن التدخل لإلجامها معنى لإدانته لنفسه بافتراض أنه أهمل مريال وتركها تواجه المآسي وتتخبط في مزالق التوتر فدور المثقف التدخل لإعلاء شأن العقل هذا إذا كانت الأمور تحسم بالعقول فقد المواقف الأسلحة أكثر من الحكمة بهذا أشارت سارة لكي لا يحمل نفسه مسئولية اختلال أنظمة الحياة التي هي أصلاً مختلة منذ الأزل وإلى الأبد ففي تقدير سارة أن كان هناك من هو مسئول عن تدهور حالته الصحية فهي المسئولة لأنها ضغطت عليه أكثر من اللازم ولم تراع تاريخه المرضي . لم يرض عن كلمات سارة وقرر هو الآخر أن تدهور حالته لم يكن مفاجئاً له شخصياً لأنَّه منذ زمن أخذ يخالف إرشادات الأطباء فهو يعرف تمام المعرفة أن مرض القلب كالصديق إذا أحسنت التعامل معه أحسن التعامل معك وكسبته وإذا فشلت في التعامل معه خسرته وخسرت نفسك أيضاً لأنه يعرف نقاط ضعفك وسيضغط عليها بقوة .
    تبدد الارتباك الذي غشي حياة سارة وووَّل نتيجة للتناصح الذي يلف حياتهما كنوع من أنواع المعرفة الضمنية غير المكتوبة التي تقوم عليها حياتهما ودربا نفسيهما عليها برغم انه يصعب لفظها كجمل نظرية إلا أنها من العمق بحيث تصل عادة في سياقات شديدة الخصوصية وهي نمط من المعرفة التي تتم بين أي زوجين في حياتهما الخاصة وبإمكانهما تطويرها وإعطائهما محتوى جديد فيها يدركان لغتهما المميزة المشتركة فهذا النمط من المعرفة يعتمد على لأنها معرفة غير مصقولة القوالب وعادة ما تكون حدسية ارتدادية الفعل فيها أفضل سبيل إلى اليقين باعتباره يقدم النموذج التطبيقي فالمبادرة التي قامت بها سارة تقع ضمن تلك الخبرات المتراكمة في حياتها الزوجية وشكلت لكليهما مهارة خاصة في الحوارات العميقة فمنذ الوهلة الأولى أدركت سارة أن ووَّل ليس له مشكلة في المعلومات فما عنده من معلومات شديد الحرارة عن الاحتراب واحتراق مريال فما يحتاج إليه الرأي حول موقعه من لك المعلومات أي أنه في حاجة فهم المعلومات للتوصل لأحكام موضوعية لهذا كان حوارها مع ووَّل يساعد في تحسنه النسبي باعتبار التوتر الحاد الذي يضغط على ووَّل ليس لنقص المعلومات والإفصاح عن ما يدور في أعماقه هذا استطاعت أن تفعله سارة عبر ما يمكن أن نطلق عليه تبادل المعرفة الضمنية .

    ****************************************************

    تأسست موافقة سارة على زيارة فانكوفر على فكرة التحرر من الضغط النفسي والارتباك الفكري والقلق الروحي المتنامي في أوتاوا جراء الوحشة وروتين العمل وحنينها للأمومة . فلم تكن سارة ترغب في الاحتفال برأس السنة الجديدة ، ولا التورط في أعمال الأدباء وندواتهم ومحاضراتهم فقد كانت تبتغي التغيير فكان لابد لها أن تشهد كل ذلك والصبر على الصداقات الجديدة والتعايش مع أناس جدد طالما ترغب في التجديد وهي تدرك أن دعوة أدباء فانكوفر تجعل ذلك ممكناً فهي تتعامل مع حضور الفعاليات مهما كانت ثقيلة ومملة تأبى تحت بند الإذعان لأنها محتاجة لشيء من التبدل في حياتها . شعرت سارة بطغيان رغبة التغير في فانكوفر لحظة دخلت عليها ميمي ابنة ريتشارد نيوفيلد ففي اللحظة التي وقعت عيَّنا سارة عليها اتشح وجهها بوشاح الارتباك وغطته غمامه من الهموم القلقة . أعتقد ووَّل أن تلك الحالة الفجائية من اثر النوم فقد نهضت سارة من الأريكة لتفتح باب المدخل الرئيسي الذي كان جرسه يقرع لحظتئذٍ إلا انه أدرك خطا اعتقاده مما تفوهت به سارة من جمل وكلمات حادة لم تكن جزء من طباعها وطريقتها في التعبير بعد تلك الحادثة العرضية دخلت سارة في ذهول أو قل شرود ذهني فيه تكثيف لشعور عميق بالضياع كأنها تحيا تحت ظلال أشجار ميتة آيلة للسقوط من طول التخشب ونخر السوس فما يرعبها أنها يمكن تسقط عليها في أي لحظة قضية الأطفال هي الموضوع المركزي في سلوك اهتمامات سارة منذ اعوام واعوم فهم الخيط المتين الذي يربط الإنسان ـ مطلق إنسان بتفاصيل الحياة وزخمها فالأطفال هم الذين يجعلون أمهاتهم وإبائهم يحتملون قهر الحياة اليومية بعنفها المستبد الطاغي فالإنجاب بالنسبة لسارة هو الخيط الذي يربطها بطغيان الواقع فمن دوافعها الخفية المعلنة من رحلة فانكوفر الإنجاب إذ أن الأطباء أشاروا عليها ربما يكون تغير المكان فيه بارقة أمل لحدوث الممكن المستحيل . ربما لهذا تحديداً توترت أو امتقع لونها واحتدت عبارتها فربما ذكرتها صورة ميمي وهي تطل من الباب بمطلبها القديم المسكوت عنه بضبط الإيمان القدري أو ربما ظهور ميمي حرك فيها مشاعر غاية في التناغض يصعب احتباسها فانفجرت، الراجح أنها عندما رأت ميمي تحركت فيها طاقة داخلية لا محدودة في البقاء كتأكيد لوجودها الأنثوي فالتعبير المتوتر المنفعل يؤكد طموحها الدفين في إعادة إنتاج نفسها من خلال كائن يخرج من أحشائها ربما هذا يفسر الإرباك الذي اتسم به سلوك سارة في اللحظات وأتصل معها طوال اليوم فكل كائن بشري سوف يتخلى يوماً عن حياته الزاخرة بالهموم والمتاعب وهي أيضاً للفناء سيكون ذلك قبل أن توفق في إنجاب بذرتها التي تحفظ نوعها ومن خلال تلك البذرة تترسخ تلك المبادئ والقيم التي آمنت بها وميزتها عن كل شيء حتى منتجات الاقتصاد الصناعي ووحدات اقتصاد المعرفة وكل الكائنات التي لها قيم اقتصادية بدرجة ما لذلك كانت ردة فعل سارة من مشاهدة ميمي التقوقع بالتراجع لداخل نفسها هذا ما تفعله الوحوش البرية في تفضل الانزواء مرتابة من أساليب التعزية التي يوفرها لها من حولها . لم يكن وقع ميمي على سارة نذير شؤم كما يبدو من الوهلة الأولى فالحقيقة نظرة سارة للطفلة أعاد إليها فكرة يأسها من الإنجاب حيث وجدت نفسها في موقف دفاعي ضد الشفقة مما يفرض عليها تلقائياً التفاعل القسري . فعلى الرغم من وعي سارة وصلابتها إلا أن موقفها الحاد المتوتر كأسوأ مما اعتاد عليه ووَّل منها في أحرج الظروف وأكثرها إرباكا برغم اعتياد وول على ردات فعل سارة الصاخبة فمنذ فترة صارت سارة حساسة تجاه رؤية الأطفال أو الحديث عنهم فهي تحس بالتحطم والفشل يلفها برغم من أنها منذ دعوة فانكوفر تركت كل شيء ولم تعد تلاحقها تلك المشاعر ربما لأنها كانت تحلم بان تغير المكان سوف يعيد إليها الامل لهذا قطعت صلتها بالانكسار الجريح داخل قلبها .
    سارة في يومها الأول في فانكوفر اعتقدت أنها اصطبحت أقوى من ذي قبل وهي تترك في أوتاوا هواجسها وتطلعاتها وفكرة الإنجاب فما كانت تحلم به صار واقعاً فما عليها إلا أن تعيشه بثقة وضبط نفس إلاَّ أنها تفجرت مشاعرها بخوف يؤشر إلى هشاشة قناعاتها بان التغير وحده لا يكفي لإنهاء صداع الإنجاب الكابوسي .


    ****************************************************

    حاولت سارة في غمرة اضطرابها أن تعيد تقييم ردود فعلها ونظامها الفكري وبتنسيق مشاعرها فسالت هل توترها بعد رؤية ميمي كان منطقياً ؟ هل سلوكها لم يكن متزن للدرجة التي يلاحظه ووَّل ؟ هل انتبه ووَّل لما يدور في داخلها ؟ هل يمكن أن تنقله أفكاره لموضوعات لم تدر في ذهنها برؤيته ردة فعلها الحادة وهل يمكن أن يكون توصل إلى أسبابه ؟ لكل ذلك ولشيء يدور في نفسها نقلت أفكارها إلى مستوى المصارحة بوضع ما يدور في داخلها من غليان بين يدي ووَّل فبادرته في المساء الذي لم يكن لهم فيه التزامات قائلة :
    - ألا تعتقد ياووَّل أن حياتنا هكذا بائسة معقرة مشحونة بالفراغ . وان حياتنا سوف تشهد مزيد من التعاسة إذا لم نرزق بأطفال ؟
    - رد ووَّل كمن مسه تيار كهربي في رأسه
    - لماذا الآن تفكري فيه هذا الموضوع بعد الفهم القاسي
    - أنا لم اترك لحظة تمر إلا وكنت أفكر فيه فهو شغلي الشاغل منذ أن التقيتك وأنت تعلم ذلك ؟
    - أنت تعلمين أننا فعلنا كل شيء فالأطباء أكدوا أن لا مشكلة لدينا الأمر بمجمله موضوع زمن وآخر اقتراحهم تبديل المكان فما المشكلة إذاً ؟
    - المشكلة أنك مازلت متمسك بأرض الأحلام الخائبة هذه فإذا كان ضروريا أن يكون لنا أطفال فأفضل أن نغادرها ؟
    - الأطفال لا يولدون بقرار أو أمنية جامحة فمجيئهم خارج الإرادات والتخطيط وأنتي اعترضتى على التخصيب الصناعي فاصبري قليلاً سيكون لنا أطفال ألم تلكن تلك أفكارك وقناعتك فماذا حدث هل أعياك الانتظار ولم تعودِ تحتملي ؟ أم فقدني الصبر ؟
    - لم أغير قناعتي وأفكاري فانا محتاجة لطفل يخرج من أحشائي لأعيش تجربة الأمومة لهذا رفضت فكرة الأنابيب والتخصيب الصناعي أنا في حاجة لحظي كأنثى ومازلت وسأظل في انتظاره ولن افقد الصبر ولكن جزء من دنيا تحكمها قواعد وتقاليد ولا تستطيع أنت أن تكون خارج نظام التقاليد التي تحكم الكون لهذا اقترح أن نجد لنا حلاً؟
    - ماذا تقترحي ؟
    - ليس لدى حل محدد غير أني أرى من الصعوبة الاستمرار في التصالح مع تقاليد وقيم لا نعبَّر عنها ولا تقبلنا بل تترك في أعماقنا ألماً مراً .
    - افهم من كلامك انك تقترحي العودة لأرض الوادي والمياه
    - إذا الأمر بيدي لا أرى شيء ثمين لنتمسك به
    - العودة فيها شرط استقرار جديد ولمنه ليس الأفضل فماذا نفعل هناك ؟
    - يكفي أن نعانق قرن الشمس فسنجد الأطفال في انتظارنا لنلعب معهم ونبني ونهدم ونحكي لهم حكايات الأجداد ونغني معهم أغاني الأصيل . الأطفال هناك أحرار فكل شيء حر لا سلطان يتدخل وفوق كل هذا وذاك نفي بوصية السَّير التي كادت أن تورثنا العقم
    - منذ متى أنت تعتقدين في الأوهام والاسبار ؟
    - أبدا أنت تعرف أني لا اعتقد في الأوهام لكنك قلت ليّ أن الاسبار لها تأثير مباشر على حياتكم انتم القنوك وكل الذين يرتبطون بكم فطبيعي أن اربط عدم إنجابي بالاسبار ووصايا الأجداد وغيرها ..
    - أحس ووَّل بعنف كلمات سارة فاضطرب مذهولاً كمن أطلق عليه مارداً من مردة قصص القرون الأولى برغم ذلك حاول ضبط نفسه مرتكزاً على المنطق .
    - هل افهم انك تنسي أفكار والدي ألحت عليك في الوفاء بوصايا الأجداد وكرر الفكرة ذاتها كاهن المطر فهل صارت تلك عقائدك فانا لن افعل ما أرادوا لانَّي لا أطيع الأوهام . أفكارك هذه جديدة عليَّ وتخالف القواعد التي قامت عليها حياتنا .
    - ما أعبر عنه مجرد فكرة للتوازن بين أفكارنا والتصالح مع الأشياء من جوانا وهذا لا يعني تراجع عن ما قامت عليه حياتنا من تفكير واضح فانا لا اقصد أن للاسبار مسئولية ما في إنجابنا لكني في حاجة لفعل يعبر عن احترامي للتقاليد كما انَّي أود أن أزيل مجرد التعليل النفسي لعدم إنجابي فانا لست من الذين يزرعون الأوهام فأنا في حاجة للأطفال وفي سبيلهم سأفعل كل شيء.
    من العادة أن يقاوم الناس معظم تراثهم وتقاليدهم بحجة الانتماء لمناهج تفكير جديد منادية بتجاوز التقاليد والتراث لافتراض أن التقاليد التي يطلق عليها بدائية لا تتصالح مع مذاهب الفردية العقلاني والطبيعي ولأنهما يعلَّمان معارف ومهارات لا تحترم المكتسبات القديمة فالذهن الذي يتعامل مع التراث يعتبر ذهناً تقليدياً سلبياً والذهن الذي يتصالح مع الأفكار والمهارات الجديدة ذهناً تقدمياً حديثاً فمن نافلة القول أن نؤكد أن حياة سارة ووَّل قامت على قواعد الحداثة التي تقدر نوع واحد من المعرفة فمن القواعد التي قامت عليها حياة سارة ووَّل عدم التصالح مع التخلف والبدائية تلك النظرة قد حرمتهما في تقديراتهما من الاعتماد على التفاعل بين الإحساس والتفكير لذا ظَّلت حياتهما اقل مسامية ويعوزها الالق لافتقادها التوازن بين التفكير الاستدلالي والتفكير النقدي أي أنهما لا يسمحان بأي مساحة تربط بين التفكير والتجرَّيب فقد ولدت علاقتهما على عملية خطية من التفكير العقلاني فالآن بعد أن فجرت سارة قضية ووصايا الأجداد ـ فقد أوصاها كاهن المطر بتقديم ديك وسبع دجاجات وسبعين بيضه جميعها من الذهب الخالص وفي حجم الديك والدجاج المنزلي ـ للفقراء في يوم السَّبر الكبير في حضرة كاهن المطر وإذا لم تفعلي وصايا الأجداد لن تنجحي أبداً ولن تحملي في رحمك حمل . هذا الإصرار على تنفيذ وصايا الأجداد يعني أنها تصر على التجريب بديلاً للاستسلام المطلق للتفكير المحض فهي محاولة للربط بين الأسلوبين أي أنه خروج على قواعدهم القديمة لذا حاول ووَّل على مضض أن يتفهم وجهة نظر سارة بعد أن ناقشا موضوع وصّايا الأجداد نقاشاً مستفيضاً .


    ****************************************************

                  

03-23-2009, 12:34 PM

فتحي البحيري
<aفتحي البحيري
تاريخ التسجيل: 02-14-2003
مجموع المشاركات: 19109

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: إلى صلاح عوض الله وآخرين : نص هيأه صاحبه للنشر .. والنقد (Re: salah awad allah)

    أظهرت سارة توترها العاطفي بعد اليوم الأول من وصولهما فانكوفر حيث ضغطت بحده على وجدان ووَّل موظفة طائفة من الأسئلة القوية المقدمة بمهارة فائقة تؤكد أنها مرت فيها وفي نتائجها فأنزلتها دفعة واحدة هكذا :
    هل تعرف ياووَّل أنك الرج الوحيد من آسرتك الذي ليس له نسل ؟ أبناء أبيك لهم عشرات البنين والبنات إلاّ أنت هذا أن ذكرك سينتهي برحيلك ؟ هل تعرف أن أهلك غاضبين عليّ لأنك الوحيد الذي له زوجة واحده عقيم ؟ لماذا لا تتزوج من تنجب لك الأولاد يهودية أم عربية أم القنوك؟ سأكون سعيدة لو رأيت لك أولاد حتى لو كان من امرأة غيري فأنا لا ارضي أن تنتهي ذكرك بسببي؟
    أحتمل ووَّل بصبر تساؤلات سارة المنطقية مبدياً اشمئزازه من فكرة معاشرة امرأة غير سارة مهما كان السبب لاسيما إرضاء لتراث أهل مريال السذج الذين مازالوا يعتقدن أن قيمة المرء في عدد زوجاته وأبنائه لا في موقفه من خير الإنسان وتفاصيل الحياة يبدو أن سارة مازالت تحرك في عقله الصَّور المحفورة في ذاكرتهما عن تراث وقيم القنوك لكي تكشف أعماق ووَّل ومدى تأثره بعدم الإنجاب ورغبته في الأبوة فقد صاغت كل ذلك في قالب معهم هكذا انك تعرف أن القنوك ليس لهم أهرامات يخلدون بها أنفسهم وإنما يفعلون ذلك بإنجاب الذكور ويتداولون الثروة بإنجابهم الإناث اللائي هن وسيلة القنوك في تحقيق التوازن الاقتصادي .
    بنظرة ثاقبة قرأ ووَّل ما تخفيه سارة من اضطراب وتوقع الكارثة في تساؤلاتها واستدعاءها تراث وقيم القنوك ففاجئها يقوله: ليَّ ثقة انك يوماً ما ستنجبين ليَّ أجمل الأطفال وإذا لم تفعلي فانا لا ابحث عن الخلود بالإنجاب فإذا كان ليَّ في المستقبل ذكر بين الناس فلن يكون أبداً عبر التناسل فأنت ياسارة تعرفين ذلك قبل غيرك أنا لست في حاجة للأبوة إذا لم تأت منك ، لأني أحب وأعرف أنك لا ترغبين في الأمومة إلا منيَّ ولاّ لماذا بقيتي معيَّ إلى هذا اليوم ؟ وإذا كنت تؤمنين بتلك الأفكار لماذا أصبح بيتك بمثابة بيت لكل صاحب فكرة ورأي وله قضية فكم حضر إلى بيتك أصحاب الرأي ليتناقشوا في كل شيء وأنت تسمعين الأصوات المتجادلة حولك كأنها صادرة من مكان بعيد فقد كنتي لا ترغبين في الجدال وشيء فشيء بدأني بالتقاط ما يدور حولك ثم التعبير عن رأيك بصوت مكتوم بعدها بمقاطع من جمل فدعابات تجبر أحياناً الحضور على إبداء رأيهم قطعاً تكيفتي مع هذا الطريق الذي لم يكن جزء من اهتمامك لأنه جزء من اهتمامي هكذا صار اهتمامي اهتمامك فتبدل صمتك وتحول إلى محادثات حيوية تطرحين فيها أفكارك بجرأة فانا منذ آن التقيتك عشت معك سلسلة مصادمات غيرت صمتك إلى أراء معلنة تعلمت منها الابتكار والانتقال من فكر لفكرة ومن وضع إلى وضع فأخذت تنمو وتتطور عزيمتي سارة لنكن واقعيين أنا ارغب دائماً فيك ولا ارغب في سواك وليَّ قناعة تامة انك ترغبين فيَّ ولا ترغبين في سواي فإذا كان للإنجاب سلطة تعلو على قرارنا في الاندماج المنصهر في بعضنا البعض لانفصلنا من اعوام ، يقيناً أنت ، نسيتي حكاية ميار مادينج التي أعدنا كتابتها مسحية قدمتها الإذاعة الوطنية فجوهر الحكاية أن فكرة الخلود لا تتم ولا تتحقق من خلال التناسل بل من خلال الاقتناع بأفكار وجدواها .
    استرجعت سارة حياتها برمتها منذ أن التقت ووَّل وهما في ريعان الشباب هذا ماجعلها تتلجلج حيث أرادت توضيح رأيها فيما ذكره عن ميار مادينج الذي اشر لها عن فكرة النهضة المخبوءة في عمق التراث فهي تؤمن أن حكاية ميار مادينج دعوة للتحرر من إقفال الماضي التي تفضي رأساً للخيبة لأنها تدعو بعدم الاندماج في عجلة البدائية وترفض بإصرار تغذية مراكز القوت ولأنها تجعل الأغلبية المنتجة في موقع ضعيف تابع لهذا اتجهت سارة لتحقق من حالة التوتر التي نشأت جراء تعبيرها المفرَّط عن دواخلها . فقد أكدت سارة لووَّل أنها لم تقصد تضيع ثقته فيها أو حتى تضع موضع الاختيار لان ووَّل عندها مصدر الطاقة الممكنة لتجاوز الذات وتحقيق إلى إمكانية الاندماج الطوعي لهذا قالت ( ما تعلمتاه من ميار مادينج أن الإنسان يحقق إنسانيته بالصراع من اجل توسيع الهوامش المتاحة بين قوى الأمر الواقع وقوى الاعتراض عليه ، فتعجز قوى الأمر الواقع عند تتسلح قوى الاعتراض بالهامش المتاح الذي يصبح قوى خطيرة إذا كان تراثنا تاريخياً أو روحياً فقد يخلق ذلك تناقضاً جزئياً مع مصالح مؤثرة لكنه يبقى متاحاً يمكن الاستفادة منه في تحقيق تراكمات بطيئة تؤدي مع الوقت إلى حدوث التراكم النوعي المرتجى فقد انتصر ميار مادينج على فكرة الشرّ بإعلاء قيم الفداء المحب الرافض للانتقام لفعل وكفكرة لهذا تلاشى ميار مادينج عند جبل بوما بدلاً من الانتقام من أقوك أكول هكذا هلك الجسد وأنفذت الروح التي صعدت على السموات السبع )

    *********************

    حكاية ميار مادينج لها رواية أخرى لم تسمعها سارة أراد ووَّل أن يحكيها لها مستفيداً من فرصة نقاشه لها فاجئها بعد الصَّمت لتجاوزها انفعالات النقاش بقوله :
    - هل تدرين أن حكاية ميار مادينج لها وجه آخر غير الذي سمعناه من الجدة اموم التي قدمت المشرق من الحكاية وتجاهلت تفاصيل أخرى كنت أرغب أن تسمعي الرواية الأخرى فعدلت عن رأي خشية أن تملأ علينا الحكاية برنامجنا بالتفاصيل والاستطراد والمناقشات والتحليل والاستنتاجات فتفسد الرحلة والعطلة معاً ؟
    - أنا مهتمة لسماع الرواية الثانية للحكاية بالدرجة التي استطيع أن التزم بسماعها دون إبداء رأي أو إثارة الأسئلة والمناقشات .
    - لا خيار ليّ إلا أن ارويها لك كما سمعتها من دينج باندير : ( اهتز جبل الرجاف هزة اهتزت لها الأرض بساكنيها فتطايرت الشظايا حمراء وصفراء فبلغت أطراف الأرض فاختفت الشمس مره أو هكذا تخيل الناس فتفجرت ارض التَّونج أخاديد جرت فيها المياه فصارت الانهار والخيران فانحدرت حتى التقت في نوليك فاتجهت إليها الأنظار للقاء الصاعد النازل من السماء بروح العَّدل فهتف القنوك بهذا النشيد:
    النور دواء الجراح ومشعلُ الأماني
    ومخلصُ النفوس
    النور معّبرُ الحب
    لتجاوز انهار الدماء
    النور سلم الصاعد الهابط من السماء
    النور قبس من نور يمحو الدياجر الظلماء
    النور مرتجى الودعاء والفقراء
    تواصل الانشاد وتداخلت ايقاعات الطبول تعبير عن ابتهاج التونج الذي تحرر من قيوده فانطلقت الثيران والأبقار على ظهورها الصبيان والصبايا فبرزت الأبقار الوحشية تخور بلا خوف صيد الصائدون .بعد أن غطى الغروب التّونج وغشي الليل النهار تقدم ميار مادينج نحو القنوك المحتشدين موزعاً لهم ثمار المانجو فإضاءة الجهات السبعة بالنور واكتشفت عورات المسكونة وتبخرت الأحلام الوردية فانفصلت الأرواح عن الأجساد أو كادت فاهتزت الأرض من جديد وصار التونج خراباً فتلاشى ميار مادينج رغم انه كان يمكنه فعل الكثير فعادت الحناجر تنشده نشيداً جماعياً ملأ الأفاق الأربعة :
    غطت الأرض السكينة
    فانهارت الحواجز ...
    فأصبح الرجال أطفال في الوداعة
    وعزفت مزامير الصفاء
    وتبخر الخبث وانحرفت الأسفار المقدسة
    لأنه لم تعد هناك ضرورة لنبوءات
    فبدأ الناس الكتابة من جديد
    صمت ووَّل منبهات فسارعت سارة بسؤاله لماذا أوقفت الحكاية هل اكتلمت ؟
    - نعم اكتملت ولم يبق منها حرف
    - اعتقد أنها قصيدة أكثر منها حكاية لكنها مختلفة عّما سمعت سابقاً فهذه الرواية الجريئة لمست فيَّ جانباً قيمياً كادت أن تغمره رمال الحياة العابثة وإيقاعات الغرائز ومزالق النور التي ظللت ارتقبها .
    أدركت سارة بحكم خبرتها أنّ التعامل مع الماضي تحيط به مخاطر داهمة فدائماً ما يقود الماضي للإبقاء على جذوة الحزن بديلاً عن تجاوزه بالانتماء إلى ما سيحدث وما يتوقع حدوثه وما هو حادث فالحزن يدفع المرء نحو إيقاظ النقاط السوداء فتصبح مؤثرة فيه فسارة عندما استرجعت مع ووَّل حكاية ميار مادينج كيف تناولاها في الماضي فحزنت لفترة طويلة أُهدرت دون إثمار في حياتهما الزوجية فقد أدركت أنها خسرت في علاقتها الزوجية مع ووَّل الأشياء التي أعتادا أن يفعلاها معاً ولم يفعلاها معاً هذا ما نتج منه أنها عاشت الفترة الأخيرة بذهن شارد لأنها لم تمارس هي ووَّل عادة تهذيب أفكارهما هذا ما جعل ذهنها يفكر فيما يشاء وقتما يشاء ربما هذا ورطها في إدمان العمل الأكاديمي الذي اثر عليها بالإرهاق والمداومة على العمل الأكاديمي الذي له أثره أيضاً فعادة ما يكون الإنسان متعباً للغاية تهاجمه الهواجس فتهتك مقاومته حتى يبدو المرء كأنه مصاب بقصور ذهني فالقراءة تتعذر عليه فذلك شيء طبيعي لان القراءة مرتبطة بالفهم ارتباطاً وثيقاً حتى أن سارة كانت ترى أن الكلمات صفحات الكتب أو على شاشة الحاسوب لكن عقلها لا يساعدها على التجميع والتركيز باعتبار آن الإرهاق لا يسمح بفهم الأشياء كما هي هذا ما ولد شعور بخيبة الامل كاد أن يؤثر على رحلة فانكوفر التي عولت عليها سارة كثيراً فتتحول إلى وقت مشوش لولا أن ووَّل أعاد حكاية ميار مادينج التي أشارت إلى سارة بوضوح كي تنعم بالاستقرار عليها أن تترك الأمور التي في الماضي وان تتقدم نحو الأمام فلم يعد الماضي هو الحياة فعليها أن تفعل ما هو مختلف .

    *********************

    سارة ووَّل حافظا على حياتهم الزوجية لأنهما كانا دائماً قادرين على تحسين علاقتهما بتفاصيل مذهلة هذا ما أباح لهما أن يستمتع كل منهما بالآخر فعلا ذلك لإدراكهما المستمر للتباين بينهما في النظرة واتجاه التفكير فلقد تعلما أن يحسنا علاقتهما بأساليب وطرق لم يكن آباؤهما يعرفونها قط ، وقطعاً لم يكونوا قادرين على اكتسابها منها فما يميز سارة ووَّل أنهما دائماً يشتركان في مناقشة نظراتهم ورؤاهم بذلك أصبحت علاقتهما أكثر ثراء بقدرتهما الذاتية في تخطي الإحباط وخيبة الأمل ، فكلما فقدا مشاعرهما الدافئة قررا التوقف ليفكرا معاً ليقلصا نقاط الاختلاف بإعمال الذهن وإخضاعها للتفكير يجدا نفسيهما وقعا في الحب مره أخرى فتنهض علاقتهما الزوجية بشكل مثير للعجب فيتطلعا للمستقبل لقضاء بقية حياتهما معاً فالمحاور الفكرية التي دارت بين سارة ووَّل مركزة على حكاية ميار مادينج أعادت الانسجام لهما ليشهدا بروح واثبة احتفالات بداية العام الجديد التي حضرا إليها بغية أن ينفضا فيها غبار الروتين وصدأ الإرهاق وضغط العمل اليومي حتى أن وول عبر لسارة قبطته بأيامه في فانكوفر في قوله ( اعتقد أن هذا الاحتفال قد أيقظ وجداني وأنعش روحي ونفض عن دواخلي غبار الزمن واجلي عن مخيلتي الصدأ الذي راكمته الغربة حتى أني اشعر بأني صرت شاباً أكثر . اشعر باني عدت عقدين إلى الوراء عندما كانت الحياة بكراً نضرة فتفاصيل الأعمال المسرحية التي شاهدناها حملتني إلى مريال عندما كنا نحس بدفء الاستواء واكتمال الطبيعة إثماراً وعطاءاً حين يتفاعل الناس الحق يقال أن المحاور الذهنية التي دارت بين سارة ووّل نتج عنها إزالة الحواجز التي نشأت من الإحباط وخيبات الآمل ففتحا قلبيهما لبعضهما فأثمر ذلك تسامح أعظم ودافعية متزايدة لكليهما لتقبل الأفعال المحبة والمساندة فالمحاورة جعلتهما يكتشفا استراتجيات جديدة لإنماء حياتهما دون أن يقصدا فقد تجاوزا الضغوط النفسية لذلك كان حوارهما عن مشاهد إحدى المسرحيات بأنها شاهدت هذا العرض واقعياً ضمن قول ذكي طويل تختزله في :
    ( أكاد اجزم أني شاهدت مثل هذا العرض في مسقط رأسي في طفولتي فهناك اعتاد الناس أن يقوموا بمثل هذا العرض كاحتفال للحصاد فيه يسير الشبان والشابات في موكب يطابق هذا المشهد المسرحي )
    تدخل ووَّل مقاطعاً سارة بقوله :
    (اعتقد أن المشهد المسرحي يعبر أيضاً عن مواسم الحصاد ، وحركة الشباب تعبر عن اجتياز الحقول بالثمار فكيف يكون المشهد على الواقع هل تذكرين ؟).
    ردت سارة كمن أتيحت لها الفرصة للإطناب :
    ( حدثني الراسخون أن هذه الاحتفالات يبدأ الاستعداد لها في أعقاب مواسم الزراعة مباشرة فيعلم الكهول ذوي الخبرة الشباب أهازيج الاحتفال ثم يختاروا شباب قيادة الموكب بشروط محددة أولها يكون والديه على قيد الحياة وتربى على أحضانهما علاوة على تمتعه بموهبة القيادة ومشهود له بحسن السيرة وفوق كل ذلك يتميز الشباب المختار بطول الانانه وقدرته على السيطرة على نفسه )
    - ما مسار الموكب وما هي ميزة الاشتراك فيه ـ
    ( عادة ما ينطلق هذا الموكب من سوق القرية ويطوف بأسواق القرى المجاورة وينهى بنقطة انطلاقه . ويعتبر هذا الموكب للمشاركين فيه حدثاً مهماً لمستقبلهم فهو يمثل لهم بداية الدخول في طور الرجولة فعندما يصل الموكب لنقطة النهاية يحلق الأعمام رؤوس أبناء إخوانهم إعلاناً بأن الأولاد صاروا رجالاً بالغين يحق لهم ارتياد الحانات وخطبة النساء ).
    طوال الأشهر الثلاث السابقة لرحلة فانكوفر كانت سارة تعتقد أن ووّل منصرف عنها لشؤون غامضة لا تعلمها لكنها طمئنت نفسها بان ووّل يعلق دائماً في التفاصيل الروتينية فقد لاحظت انه صار مجهداً منهك لا يحتمل المشقة والإهمال من كل ذلك عاجز عن منحها ما تعودت عليه من الاهتمام والانتباه فلم يكن في مقدروها الاحتجاج فتقبلت ذلك الانقلاب الذي اجتاح حياة ووّل باعتبار أيام عصيبة ستمضي لحال سبيلها فالذي أزعجها وأرقها أن ووّل طال سكونه الصامت فمن سمات شخصيته انه لا يتكلم عن المشاكل بصوت عالي إلا نادراً فهي لا تعرف كيف تشعره بتعاطفها فهو صامت لا يتكلم في القضية التي ينبغي أن تكون معه فيها بتعاطفها إن لم يكن بفكرها . لم تكن سارة قلقة فأنها مدركة تماماً لطبيعة ووَّل فهي لا تعترض مطلقاً أن ووّل لا يهتم بها أو أن عاطفته تجاهها قد همدت فووَّل لا يفرغ ما بجوفه من أزمات وقضايا إلا بعد أن يشعر على قرار فيظل يتعايش مع الضغط حتى ينتصر عليه لهذا لا تتوقع سارة أن يفتح ووَّل صدره ويبوح بالضغط الذي ينقص عليه حياته ودون شك حياتها هي الأخرى فبرغم من ثقل ذلك فهي تظل هادئة غير منزعجة بل متفهمة لإسرافه في اهتماماته الرياضية الاجتماعية باعتبارها طريقته في إيجاد رئات صناعية ينفس بها عن الضغط فسارة حافظة عن ظهر قلب فعل وردود فعل ووَّل في كافة الظروف والأحوال فهي تعرف متى يكون ووّل منفتحاً سهلاً مهيأ للاستجابة الايجابية ففي لحظات الضغط الحاسمة فهي لا تتوقع أن يكون على صلة بمشاعره وعاطفته إلا بعد زوال الضغط ففي لحظات الضغط تعرف سارة أن ووَّل في تفكيره يميل إلى نسيان آو تجاهل كثير من تفاصيله الحياتية فيهمل أصدقاءه الذين يقدر أنهم محملون بالمشاكلات أو هم غير فعالين ففي مثل هذا الضغط الذي يعيشه ووّل اتجاهات تفكيره تتجه إلى أن الأولوية الاهتمام بالنفس فقد تعلمت سارة من فهمها له ومن استقرار حياتهما أن لا تقاومه وتتجاهل انصرافه عنها لأنها تستطيع آن تفسر جيد ردة فعله تجاه الضغط فلا تُحمل الأشياء فوق ما تحتمل على نحو تفسير سلبياً فهي لا تعتبر التغير في سلوكه إشارة لمشاعره تجاهها ففي تلك الأوضاع النادرة النشوء في حياتهما تبدأ بالتعاون معه ، وتقلل من الحوارات العميقة وتتجنب نقل الأخبار المركبة فعادة ما تحصل على ما تحتاج إليه منه دون ممانعة فتقديرات سارة مبنية على أن الدكتور يمتلك من الوعي ما يكفي ليقدر أثر صحته على حياتهما فمن حقه أن يتعاطى ايجابياً مع الضغط الذي يواجه فهو يعرف تعامله مع تلك التحديات الجديدة قد اثر على حياته الداخلية وزاد ضغط الاكاديمات على سارة فمن الطبيعي أن تفسر انطوائه على نفسه تجاهل لها انه لم يعد مهتم بها هذا ما يجعل النساء انتقاديات وكثيرات المطالب فسارة امرأة بارعة في تأكيد حضورها في حياة ووَّل بالطريقة المناسبة فتستطيع في الظروف الطارئة أن تجعل ووَّل يدرك صدق مشاعرها دون أن تتكلف جهداً زائداً فسارة تعرف أن ووَّل يمكن أن يتبدل بتطرف من كونه فعال دافئ إلى كونه خامد غير متجاوب فعندما تحل عليه الظروف الضاغطة لا يعي كيف يبدو موقفه غير المكترث لهذا ظلت سارة تحرص على كتمان مشاعرها فلم تسأله حتى بالخطأ قائلة :إنك لا تستمع ليّ لأنها تعرف انه منصرف عنها وعن كل شيء بغية معالجة القضية المسيطرة على ذهنه . ففي هذه الظروف لا تتناول سارة تتجاهل التبدل الحادث في مزاج وسلوك ووَّل وتتجنب قدر الإمكان مطالبته بالإيضاح أو حتى بالإيحاء فهي تدرك خطورة أن تقول له : اشعر كما لو انك هنا . آنت لا تهتم بيّ ... أحس أني لست مهمة إليك . ففي لحظات الضغط لا تميل سارة للمواجهة السالبة بان تقول له : آنت ليس لديك أي مشاعر آنت مرحوم . فقد وطنت سارة عندما تكون محتاجة للأحاديث الدافئة تتناول المشاعر والأحاسيس من زاوية حالة ووَّل لأنها تعلم انه واقع تحت الضغط لم تهتم سارة بأن ووَّل تحت الضغط لا يفكر في أحاسيسها لأنها تعلم أن ووَّل في تلك الأثناء يكون مُسلباً تماماً من الضغط لهذا تجد أن أفضل تجاوب في مثل هذه الظروف الامتناع عن الكلام أو إثارة الموضوعات التي تفتح الكلام .

    *********************

    أعطت دعوة أدباء فانكوفر سارة فرصة لتكتشف أن معاناة ووَّل في الفترة الأخيرة ليست جراء الضغط بل لكثافة التفكير في قضية يحبسها في صدره فكانت تتمنى لو صارحها بها برغم ذلك فقد تصرفت كمن هو في مشكلة فراعت أولوياته وعملت على معالجة المشكلات التافه كما تجنبت اقتناص التصالح مع نفسها بالتعبير عفوياً دون نظام عن مشاعرها وابتعدت كلياً عن الميل لمناقشة المشكلات المحتملة دون التركيز على حلول على نحو تناول مشكلات ماضية ـ مشكلات مستقبلية ـ مشكلات محتملة وحتى عن مشكلات مستعصية لا حل لها. ذلك لأن سارة تعرف من خبرتها إن كثرة الحديث في أوضاع غير طبيعية سوف تجعلها هي تتحسن لكنها ستوتر علاقتها بل ربما تجعلها تسوء لأنها سوف تكون استسلمت للراحة بالثرثرة التفصيلية بتطرقها للمشكلات المتنوعة فإذا كان الطرف المستمع مهيأ للاستماع سيتلاشى توترها ففي الأوضاع المواتية الطبيعية تتحدث عن موضوع واحد ، وتتوقف برهة ثم تنتقل للذي يليه ثم تتوسع في أمور ومشكلات مثيرة للقلق مخيبة للآمال وربما محبطة وقد تكون القضايا غير مترابطة منطقيا فيحتمل ووَّل ويتجاوب بتفاعل أما حين يكون ووَّل منصرفاً بذهنه في قضية ما فسارة تحرص كل الحرص على تقليل المناقشات كماً ونوعاً ففي هذا الوضع تفهم سارة أن وول لا يتحدث في المشاكل أو يفترض في الآخرين الحديث عنها إلا لأسباب موضوعية اقلها ؟؟؟؟ انه يود أن يلوم شخصاً أو أنه يلتمس نصحاً فووّل عادة ما يبدو أكثر هدوء وصفاءاً وفاعلية مع الحلول مادام غيره طلب منه ذلك فيتطوع بالتقدم بالإجابات والحلول ولكن عندما يشعر أن إجاباته وحلوله رفضت يشعر في قرارة نفسه بأنه غير مقدر حق قدره وما تعرفه سارة عن ووَّل انه يسكت فيفرغ في الصمت مشاعره .
    من ملامح علاقة وول وسارة أنهما يتبادلان باستمرار مواقع الدعم لبعضهما البعض فتشعر سارة بالدعم لان يبرز لها استماعه لإحباطها وخيبة أملها فهو يفهم أنها تحتاج فقط إلى أن تتحدث ومن ثَّم تشعر بالتحسن فسارة لا تتحدث عن مشكلات حياتها الأسرية أو عن ايجابية تواصلها بتفاصيل دقيقة فهدفها في الأصل ليس البحث عن إجابات وحلول فهي تتحدث لأنها تبحث عن رعاية ووَّل وتفهمه ودعمه ولا بإدراك سارة أن الإنصات عملية صعبة لهذا تحرص عدم بث مشاعرها المؤلمة في حديثها لكي لا تكون متورطة عاطفياً في مشاكل عاطفية مع ووَّل ولكي يربط الحديث منطقيا بينهما لأنها تعرف أن ووَّل يبحث باستمرار في أي محادثة عن النتيجة النهائية برغم ذلك يستمع ووَّل إلى كل التفاصيل باهتمام لأنه يعلم أن التفاصيل تجعل سارة تتحسن وكذلك سارة دائماً ما تحرص على عرض النتيجة النهائية قبل الإبحار في أمواج التفاصيل المتلاطمة وذلك لإدراكها عبر التجربة أن ووَّل لا يحتمل الانتظار والقلق المترقب . هذا الانسجام والتناغم هو ما جعل الحياة هادئة حتى بين سارة ووَّل وان تمضي الأيام مثمرة دون أزمات عاطفية تؤثر على قواعد البيت رغم إ قرارهما الدائم أن حياتهما ينقصها الكثير من الأشياء المادية ذلك لأنهما كانا يحترمان اختلافاتهما فالتفكير والاستجابة للمؤثرات ولان ووَّل تعلم ان يحترم في سارة رغبتها في الحديث بالاستماع الذكي ليجعلها تشعر بالتحسن فكان يجاريها في الحديث حتى لو لم يكن لديه ما يقوله أو رغبة في الاستماع لهذا النمط من الموضوعات فقد تعلم ووَّل أنه بالإنصات يمكن أن يكون معيناً إيجابياً لزوجته . كما تعلمت سارة احترام رغبة ووَّل في لحظات تركيزه أو ضغطه للانسحاب لذاته ليتعايش مع الضغط أو ينتصر عليه فسارة في بيتها تعتقد أنها محبوبة ومرغوبة ومسموعة من ووَّل ففي إطار حياته الزوجية تعلم ووَّل أن يستمع دون شعور بأنه ملوم أو مسئول مع الزمن أصبح الاستماع أكثر سهولة لأن ووَّل وجد فيه طريقة مُثلى لنسيان المشكلات اليومية ويحقق نتيجة الرضَّا بالنسبة لسارة حتى أنه أخذ يوقد شهية سارة في الحديث كلما رآها همدت فيفتح الموضوعات التي تتلذَّ بها فقد حدثها في فانكوفر عن انه تلقى خطاباً وجدانياً عميقاً من مادوت ابن أخته أشول إلا أن الخطاب أشاع في نفسه القلق إذ أنه لمس من مفردات الخطاب أن مادوت له مشكلات مزمنة إذ انه يشعر بعدم الأمان وأنه غير راضي عن نفسه ويفتقر للفرح فمن لغة خطاب مادوت توصل الدكتور ووَّل أن مادوت قد عانى من آلاماً نفسية وجسدية قاسية وذلك من تعمده استعمال مفردات الرفض الصارم والايزاء الشديد لغيرة فمادوت ليس في سن اليأس فهو في سن البحث عن القبول والإعجاب والاستحسان كما اقرَّ الدكتور ووَّل أنه لمس من كلمات خطاب مادوت أنه لم يحاول التغلب على الشعور بالرفض وأما قابليته للانسجام مع غيره صفراً ربما مرد ذلك لأنه ولد في اتون النار فعاش كل مزالق التوتر وشهد لحظات الدمار المختلفة واكتوى مثله مثل كل الناس في وادي النهر بالحروب القاسية ، يعتقد الدكتور ووَّل أن الظروف القاسية التي ولد وترعرع فيها مادوت حفرت في نفسه الشعور بالعجز مما اكسبه عادة إدمان الشكوى وتوهم الرفض وتعمد إيذاء غيره . أعتقد ووَّل أن مادوت يحتاج إلى من يؤكد له ويطمئنه أن الحياة جديرة بأن تعاش بعيداً عن الأسباب الحاضرة والماضية وأنه كإنسان مؤهل عليه أن يثبت ذاته في أي مكان على الأرض وأنه كشخص مقبول ومحترم ومحبوب . أباح ووَّل لسارة في نهاية كلامهم مادوت أنه أرسله إليه ليحضر إلى اوتاوا ليعيش معهما ليكمل دراسته بدافع تغيير مشاعره الجريحة التي التمسها في مفردات خطابه . أدركت سارة أن كلمات ووَّل كانت في مجملها تحفيز لقبول مادوت لأنها تعتقد أن دافع ووَّل في إرساله لابن أخته إيجابي فالحقيقة أن سارة لم تكن في حاجة إلى محفزات أو مبررات ليكون مادوت معها في بيتها تعطيه رعايتها ومحبتها واهتمامها لأنها فطرياً كانت مستعدة لاستقبال من يشعرها بالأمومة .

    *********************

    تصادف أن تأخرت طائرة مادوت إلى أوتاوا فأصبح مجيئها أبان زيارة الدكتور ووَّل إلى فانكوفر لهذا برزت مشكلة استقبال مادوت في أوتاوا فلم يكن بمقدور ووَّل استقبال مادوت فقد أعياه التفكير وشعور بخوار العزيمة لهذا ناقش سارة في المشكلة التي تواجهه فأشارت عليه بالاتصال بدكتور الطاهر عبد الله لكي يستقبله في منزل بدلاً من إقامة الفنادق . اقتراح سارة وجد ارتياح كبير في نفس ووَّل وأزاح عن كاهل ووَّل عبئاً ثقيلاً وأتاح له فرصه نادرة لتعميق علاقاته المتصلة بدكتور الطاهر لتصبح أكثر حميمية لهذا لم يتوانى في الاتصال بدكتور الطاهر عبر هاتف منزله . لم تمر ثواني حتى جاء من الطرف الثاني صوت يستوضح عن المستقبل :
    - دكتور الطاهر أنا ووَّل
    - أين آنت يا رجل قطعت عنا أخبارك
    - أنا الآن في فانكوفر أقضي العطلة هناك
    - أعتقد أنها فرصة جيدة لاستنشاق هواء الهادي
    - دون شك هي فرصة لتحلل من ثقل روتين العمل المنهك بقضاء أيام في استضافة أدباء فانكوفر .
    - فرصة للسباحة بين ضفاف الأدب قطعاً ستمنعكم من الاستمتاع لشوطي الهادي . هل ليَّ أن أساعدك بشيّ هنا في أوتاوا ؟
    - سيصل غداً ابن أختي إلى أوتاوا احتاج إليك لاستقباله معك في البيت .
    - بسيطة عندما تعود تجده معنا .
    - لم تستمع إلى مميزاته وتفاصيله .
    - أي مميزات الأمر ساهل كما تعلم لن أجد غيره بشبه وان حدث فالأمر أيضاً بسيط أنا اعتبر أن مسالة أبن أختك منهية .
    - بصراحة أنا محظوظ لأنك بجانبي في هذه الدنيا الباردة .
    - ماذا تعني بالدنيا الباردة العبارة تكشف فتورك وإحباطك وضيقك صححني إذا لم أكن صائباً .
    - الأمر ليس كما وصفت فقط أشعر برغبة جامحة تضغط علىَّ للعودة إلى أرض الوادي فانا في شوق للشمس والنهر والأبقار .
    - يبدو أنك ياصديقي أخذت تتحرر من الإنهاك ولن اقلق بشأنك طالما لعواطفك كل هذه المساحة .
    - الوقائع تفرض أن نكون سلبيون للغاية إزاء مشاعرنا إذا تعارضت مع الوقائع العملية وخططنا ومشاريعنا التي تحتاج كل الجهد للتماسك والصمود
    - سمعت كثيراً مثل عباراتك تلك طاوع مشاعرك مرة ولن تندم .
    - يبدو أنك عزمت يا دكتور أن تضغط على أعصابي بأسلوبك ..
    - عفواً ووَّل لا أتحدث معك بصراحة إلا لأنني أحترمك وأنت تعلم أن الاختلاف أصل كل شيء وأعرفك أنك تصارع في داخلك أفكار متعارضة كثيرة ورأيت أن أساعدك برأي .
    - اختلافنا في الرأي لا يمنع أني أخاف أفكارك حول الاتزان
    - الاتزان عندي هو قمة الحرية من ثقل أي مسيطر يعوق الإرادة .
    - هذا يعني أنك تفرض أن الخطط والبرامج والمشاريع سيطرة
    - دون شك هي أنماط من السيطرة السلبية فأنها تساوي عندي الرادمان
    - مازلت أحس كلامك سهام التطرف .
    - لن أظن انك تحمي نفسك بالعدوان التعويضي فتهاجمني لتحمي شيء آخر
    - تدرك يادكتور انك لمست في حاجة الإرادة الكون وتحديد المصائر .
    - تعرف رأي في الأيدلوجية أنها سرطان قاتل لإرادة الإنسان فأنا محصن ضد داء العقائدية الوبائي
    - المهم أنيَّ احترم دعوتك للحرية طالما إنها لن تتحول إلى فكرة تحكمية قمعية
    - المهم ياصديقي أن تهتم بموضوع مادوت في غمرة اهتمامك بحرية الإرادة فمادوت طائرته ستهبط أوتاوا غداً الساعة السابعة مساء سيكون في الطائرة الغربية
    - موضوع مادوت منتهي فأنا أعرف الإجراءات ما هي أخبار سارة توافقك رأي العودة إلى الدنيا الدافئة ؟
    - هي قائمة الآن لكنها شعرت بطعم التغيير
    - أحس أنيَّ حولت الاتصال لحوار فكري فلك العتبى حتى ترضى ففي النهاية ستجدني في انتظارك بأفكاري ولن يكون لك خيار غير احتمالي .
    - يا طاهر لا تضخم الأمور فالمحبة التي بيننا تحتمل كل شيء وتغفر كل شيء فلا يأس من الاختلاف فأنت أخي وصديقي اشعر بالفراغ إذا لم أجادلك لهذا استعنت بك في أول محطة شعرت فيها لمساندة آخر .
    هل أصبحت شاعر .. على كل حال مادوت ستجده في انتظارك أرجو أن يكون أكثر مرونة واقل هدواً منك .
    - اللقاء
    - اللقاء

    *********************

    تجول ووَّل وسارة في كافة أنحاء فانكوفر برغم حرصهما الشديد بالتركيز على بقاع بعينها لكي لا يستهلكا نفسيهما في كثرة الطواف والزيارات إلاَّ أنهما تورطا إلى ابعد الحدود في فانكوفر كمدينة وفي برامج اتحاد الكتاب فأتاحت لهم الفعاليات الاحتفالية فرصاً نادرة للتعرف بأناس جدد فحظيا بأصدقاء حتى أن ووَّل كتب مذكراته هذا القول عن مضيفهما الأستاذ ريتشارد :
    صديقي الجديد كاتب وشاعر عمل سياسي لهذا يعرف جيداً الأوساط الرسمية وشروط الحياة وأخلاق هذه المنطقة من خلاله تعرفنا على فانكوفر الحقيقية لا فانكوفر المباني والشوارع والميناء ففي طوافنا على المدينة كانت معه دائماً زوجته سلفيا امرأة شابه ذات لكنة لاتينية عذبه تنطق الانجليزية بطريقة أهل الكاريبي ، لن نجد دليلً أفضل منهما بغيرهما سنكون أنا وسارة مجرد زنجيان في مدينة نائية فكنا في وجهة نظر ريتشارد وسلفيا مثقفان يهمهما ادارك كنه المدينة فأمتعانا فهما يعتبران مرافقتنا تسلية جميلة . كان ريتشارد يشرح ليَّ أن مهنة المحاماة من مهنة الكتابة فهي مهنة حرة تسمح بالدفاع عمّن تريد الدفاع عنه مع الاحتفاظ بخصوصيته فهو يحاول آن يقول أنه مازال شاعر ومحامي برغم من اهتمامه بمناكفة العدل ليل نهار في محاولته الحفاظ على حقوق أناس متعارضة أو متفقة مع فكرة النظام القضائي..)
    دعا ريتشارد وزوجته للعشاء في مطعم يطل على أحد الشوارع الرئيسية فانتهوا من العشاء التاسعة وقرروا حضور أمسية أدبية خاصة في صالون ريتشارد فاستمعوا لأشعار ريتشارد مما أتاح لووَّل التسرب في عوالم ريتشارد الشعرية فتلذذ بكلماته وأفكاره حتى حفظ الكثير من شعره حتى أنه أصبح يردد هذا المقطع :

    حمقاء أيتها الأرض
    لأنك طمرت وادي الغجر باللعنات
    برغم ذلك لم تحافظي على ماكياج القوانين
    فغمرتك طوفانات الفوضى
    لذا ادعوك بنبوءات إسرائيل
    أن تنفضي الصدأ وتخاصمي الوهم
    وتعبقي طرقات اورشليم وحواري بيت لحم
    العنبر وبخور الصندل
    أدعوك بتوراة موسى أن تكفي عن الحمق
    وتزرعي البراءة في الغناء البدوي وتنزعي عنه التهور
    أيتها الحمقاء لما لم تحطمي الحوادث البونابرتية وقصائد
    الجنرالات الدموية فتوقدي مشاعل الحق وتملى الكؤوس
    بالخمرة الجيدة لما مازلتى تتجرعي الخمرة الرديئة
    أيتها الأرض الساكنة أنت موعودة بالبروق والرعود
    والزلازل لما لا تشتري الفرح قبل السقوط الأخير
    أيتها الأرض لأنك قاسية ومكابرة أجدبتي وظل البحر
    غارق في أوهامك والسماوات تسخر من جهلك وتكبرك
    يا أيتها الأرض ياصانعة الإلهات والاله لما لا تتوبي وترجعي
    للوادي المقدس من جديد لأنك حمقاء علمتي أولادك
    العبث بالسنابل العنقودية فاعتمدوا على قهر الفسفور
    ياأرض متى تفرحي بصدق ومتى تنشري الأمان ؟ ولما تأسريني
    بالكلمات الملونة والأماني الوردية وأسوار خيال بنيل أغلال
    وقيود ودماء فجرعتيني الكرى والآهات الباكية ودموع الدماء
    أيتها الأرض
    لما لا تنطقي الكلمة الأخيرة بعد أكثر بنوك الأحاديث النبوءات
    هل مازلت قادرة على تمييز صوت الحق بعد أن اختلطت الأصوات
    وارتفعت صيحات الهزائم والانتصارات
    أيتها الأرض
    يا أمنا وأم كل البسطاء الودعاء
    أدعوك باأبناء يعقوب وبالأنبياء وبمحمد والمسيح
    أدعوك بموسى وأنبياء إسرائيل أن تحطمي صورة البعل
    حتى لو غمرتي نفسك من جديد في طوفان نوح
    فالناس اكتسوا بالغازورات والأوساخ ولابد من الطهارة
    ياأرض انفضي عن نفسك غبار الحماقة وأكاليل الزيف الدموية
    يا أرض طهري نفسك من الانكسارات والألم والأحزان
    وضمدي جراح الحزانى حتى أرتجي عند قدميك زاد المسير الطويل
    المقطع طويل لكن ووَّل جعل منه ترنيمة دائمة يكررها دون ملل على مسامع سارة حتى أنها حفظته فصارت تردده في خلوتها فالمقطع ينتهي بهذه الكلمات :
    ما أروعك ما ابهاك يا جبل الزيتون
    الأرض وملتها
    المسكونة والساكنين فيها يشتهوا الحج إليك طمعاً في الأمان
    يا جبل الزيتون لست وحدي أرمي ألامي وهمومي في ذرى
    سهلك ورباك فكل من وطء الثرى يشتهي الصعود
    إلى علاك
    يا جبل الزيتون يا جبل التجلي ما أجملك وما أروعك
    ما أبهى صخورك حين ترشدي عابري الصحراء كملاك .

    *********************


    تلذذ سارة ووَّل بالتجوال في تفاصيل فانكوفر ثم جاءت ليلة الاحتفاء بالدكتور ووَّل التي عرضت فيها تفاصيل القضايا التي يتناولها منتدى ووَّل وتجربته مع الكتابة فلم يكن أمام ووَّل متسع من الخيارات لرفض طلبات الحضور بأن يقرأ لهم نماذج من مجموعته القصصية أطفال على جبل البركة التي تحدث عنها النقاد باهتمام وتفصيل شمل لغتها المتحررة ومن قوالب الانجليزية ومن الصور التقليدية .وبعد إلحاح أرسل ووَّل صوته الجهوري ممتطيا صهوات خيول المفردات مندفعا كبناء حازق أحصى النققة فبني هيكلاً شامخاً فقرأ ووَّل قصصاً عديدة عرض في بعضها أغاني الحرب والسلام ـ الحنين إلى مريال ثم قرأ القصة الرئيسية في المجموعة التي نختزل منها الجزء :
    ( .. آه من رياح الليل التي أوصدت الطرق بين الناصرة ووادي الملوك فدفع الرياح العاتي أخرج من جوانحي الخبايا وأسدل على غطاء الهموم. فماذا وراءك يارياح الليل الثقيلة من أمنيات تبرق في الأفاق كترق المياه على ظهر النيل الكرستالي المخبوء بالكنوز وخيرات الأجداد . ويحك أيها الليل العتيق الملبد بالقيود إلاَّ تعلم أنيّ في انتظار قطار الشمال وأنت تلفحني بزمهريراتك الثاقل أليس لك التفاته عابرة تدرك أنيّ ما زلت في أول الطريق مصطلي بحرارة الدواخل وبرد العتامير ؟ قل ليَّ ياقطار الشمال ماذا أصابك هل وهنت قواك أم تخلفت عن ميعادك بضغط رياح الليل الثقال أم هل انغرست في ردف الصحراء واستسلمت للرَّمال ؟ ألاَّ تعلم أن قلوبنا اكتشفت نفسها عند عبورك الشلالات والجنادل وتوليك ؟ ألا تدري انك ياقطار الشمال عندما تعبر الجبال السمراء تصبح ضفلاً غراً كما النيل وديعاً سهل الترويض ... ألاّ تعلم أنه لا خيار لك إلا التوجه بالتضرع للسماء ونسيان الأرض هناك اورشليم السماوية لماذا لا تنزل من علاك ياقطار الشمال لتلمس معنا الثرى فتجترع عصير المانجو كما تجرعت عصير العنب في القديم أو تتناول معنا صدى المواقف الأحداث الخضراء في وجبة طعام خضروات وكايمود .. ألاَّ تدري ياقطار الشمال عندما تلتفت إليك الجموع هاتفة فإنها حقاً تهتف لك بأن لا تتراجع وتتقهقر فتكبح جماح اندفاع النيل الدفاق فتحجب الشمس عن القاهرة . ياقطار الشمال السريع أوعدنا بفجر جديد وأصيل هاديء فتهرب الثعالب جائعة إلى اوبارها الصحراوية النتنه حتى تعود البسمة إلى مروي معانقة قرن الشمس قبل الغروب . ياقطار الشمال قل لنا متى موعدك فقد طال الغياب ولابد شروق تبلج فيه الشمس تطلعات تطارد وحوش البرية فتنحدر صعيداً باحثين في كهوف البركل عن الذهب والحديد والنحاس .
    رياح الليل المغامرة جعلت فرح الأصيل في المصب مخنوقاً لقرون في أحلام الودعاء برغم أن عجلات قطار الشمال تجرجر الآمال عابره بها الوهاد والأودية متجاهلة صيحات العسس ومجرة عجلات الهكسوس وصائدي البشر وغطرسات أسور باني بال ورعونة مطاردي الصبايا وملتوي الالسنه المعبرين عن الفراغ أولئك الذين لم يشيدوا هرماً ظل باقياً كحبل النور ففي هذي الأيام السوداء فاض النيل دماء قانية ابتلعت الأرض وما صنعه الإنسان ونشرت الروائح الكريهة فلم تبق وقتئذ يابسة هذا يطابق نبوءات اسفار الصحراء الجافة الجارحة التي قادت البؤساء للعبث وإراقة الدماء ففاض نهر الهاربين من القيود والسلطان الاخرف وخرج كهنة أمون حفاة حلقاء الرؤوس من قبل جبل البركل توقاً للنجاة بعد أن ضاقت بهم الكهوف والمغارات ولم يعد يحتمل جبل التجلي المزيد من الصراعات والبكاء وانهارت سراديب مغارة جبل الملوك التي يلجأ إليها كهنة أمون عند الأزمات فتلك السراديب تحفظ إسفار جبل الزيتون التي قيل أنه مكتوب فيها الطريق المستقيم الذي يربط اتجاهات الدنيا الأربعة فيمر تحت البركل فمنهم يأخذ الناس سلالهم مملوء عسلاً ولبن وطيور برية قبل هطول عتمات الليل الثقال فتحجب أشعة الروح النافذة التي تصلي معبد جبل التجلي فتضاء الدنيا كلها .. ففي الهزيع الرابع من الليل يبرق البرق بضوء ناري فتنحسر المياه ويتراجع الظلام اللهيب الضوئي أمام الأشعة الخارجة من جوف جبل الزيتون وقتئذ يصل الناس وحداناً وجماعات دون نظام فتتراجع ساحات الأعماق اليابسة في دواخلهم وقتئذ ينكمش الظلام وتتمدد الخضرة في كل الأرض نوراً وتكسو الجيزة ومدينة الاسكندر المقابلة جزر البحر الأبيض فتعيد الحقول اليباب حيويتها وتهرب خيول التسلط إل ما وراء الظلام .. برغم إعياء الصبر تنحسر رويداً رويداً بدءاً من وادي الملوك وهرم الملك الكبير خوفو هذا ما يعطي مروي اشراقات الفرح للحياة التي تظل متمددة ببطء يقاوم الحجم الخرسانية وتوحش الإنسان بصناعاته وتسلط الفسفور فينطلق من جديد رشيقاً ، قطار الشمال يجبر المكسور ويضمد الجروح ويجمع الشظايا فتبدد عن الأرض الظلمات التي أعمت الأرض وساكنيها من أقصاها إلى أقصاها وتزيل تلوث هيكل الأرض بعد أن دفق النيل دفقته المرتجاة التي جعلت الصخور الصماء تتراجع عن المجرى فمياه النيل غسلت الضغائن وبذلك انفتح الطريق لقطار الشمال بين الأرض والسماء .)
    إنحدرت الأمال لدركاً سحيق في خضم العنف الذي ضرب منابع النهر فلم تسمو التطلعات مما أدى لانهيار الإرادات فتراجعت الرجاءات إلى قاعات سحيقة فوجدت الأوهام لها مسارات فتفجرت الذواكر القديمة فصارت الحياة لوحات رقطاء يطغى فيها اللون الرمادي بخداعه فانفجرت كل أنماط العنف مما جعل البدايات والنهايات تختلط حتى أن فكرة العودة للبدايات صارت تمثل تطلعاً عاماً للمساومة والتسوية فجمدت المواقف وتصلبت الأرواح والإرادات وانعكس ذلك تكلساً للمواقف واصفرت حقول التفاوت الخضراء وكان الانزلاق العظيم من الضياع للضياع بذلك تصدعت نظرات ورؤى كانت متماسكة حتى الأمس الغريب فتلبسها الشعور بالفشل هكذا كانت أعماق مادوت تغلي كمرجل وهو حاضر في رحلته إلى أوتاوا جسداً فارغاً محاصراً بسيل جارف من الذكريات المؤلمة التي لم تفارق مخيلته فمادوت لم يستطيع أن يتحرر من دوي الرصاص ويد العنف التي طاردته وهو بعد طفلُُ بريء حين عمَّ الموت دون مقدمات يومئذٍ كان الهدوء مسيطراً على مريال المكسوة بالخضر من أثر الخريف تبدد ذلك كله مع أحذية المقاتلين التي حاصرت مريال فنشرت الدماء وغطت أصوات الرصاص على الأذهان السوية ومن ثم التهب حريق هائل التهم كل شيء حتى أن الجد دينق دفع مادوت للابتعاد عن مريال مبعداً إياه من موتٍ محقق بعد وصلت السنة اللهب العمياء الغاضبة إلى المساكن في مريال فلم تتبق نسمة حياة فهرب مادوت من مريال فقد ظل هروبه ذاك راسخاً في ذهنه مؤثراً إلى حد بعيد في سلوكه فقطعاً هذا ما أثر في ذهنه فصار يميل نحو المواقف المتطرفة المحتده ربما مرد ذلك لشعور عميق بالضيم والظلم . فالحقيقة أن مادوت لم يغادر مريال وحده فقد فعل ما فعل الجموع فماذا يعني إذا أطلق أعزل ساقيه للريح هل هذا جبن فقد ركض مادوت بفرع إلى أويل التي أدركها بعد جهد بآخر أنفاسه فقد سقط مغشياً عليه فاقد الوعي وأمه تحاول استنطاقه لتعرف منه ما حدث بالضبط : فأشول لم تكف عن لجاجة الأم مابك يامادوت ؟ ماذا أصابك ؟ أين تركت جدك وجدتك ؟ من الواضح أن حادثة مريال قد زرعت بعمق الخوار النفسي في عمق أعماق مادوت فهو يحمل نفسه المسئولية لأنه لم يدافع عن جديه بما يكفي ولم يبادر لحمايتهم فهل كان بإمكانه أن يفعل شيء فمادوت استخدم قدراته الفطرية في التخيل هو لا يقصد مطلقاً أن تتحول إلى صفه ملازمة له طوال حياته فقد أعتاد أن يلوم نفسه مبكتاً إياها فمن تخيلات مادوت أنه كان بإمكانه أخذ زمام المبادرة وأن ينجي جديه من الهلاك فالحقيقة أن مادوت استسلم للأكاذيب التي صورها له خياله ولم يختبرها بذهنه فمن غير المنطقي أن يغير طفل كمادوت آنئذٍ مسار هجوم لقوة مسلحة منظمة فمادوت لم يكن مؤهل لتغيير ما حدث فببساطة لا يمتلك القدرات والإمكانات التي تهزم العقل العدواني مهما كان فعالاً وثابتاً فأن حاول مادوت بتلك المقدرات الدفاع عن جديه فإنه يكون قد وقع في مغامرة فاشلة كانت ستلحقه في عداد الموتى لهذا ما كان لمادوت أن يعمق في نفسه الشعور بالذنب لأنه مجرد طفل أعزل لا يملك أي شيء يجعله يسيطر على العنف أو يحول دون وقوعه فمادوت مجرد ضحية لم يشارك في صناعته وغير مؤهل لإيقافه هذا من جانب فمن الجانب الآخر فبيس مجدياً على الإطلاق اعتبار أن حادثة مريال قد حددت سمات مادوت فيه شيء من المبالغة إذ لا يعقل أن حالة الرعب التي سيطرت على مادوت ودفعته للهرولة إلى أويل ظلت تتحكم فيه دون تبدل فلكي نعرف مادوت ليس كافياً النظر إلى مادوت من هذه الزاوية الضيقة لأنها تقدم صوره غير حقيقية لمادوت فحادثة مريال مهما بدت عميقة فإنها مجرد حادثة سطحية محدودة الأثر فمادوت في يوم حادثة مريال عندما أصبح في حضُن أمه سيطر عليه شعور طاغي للامان حتى أنه في لحظات أخرى أنكر كل ما شاهده أعتبره كوابيس تتفاوت في عمقها وأتساعها غير أن علامات الفزع المرتسمة في الوجه ووجوده في أويل تؤكل الحادثة المروعة ولا تقل المكابرة من حدوثه كما أن تساؤلات أشول عن مصير بقية الأسرة التي لم يعرف عنها أحد شيء بعد ذلك ، لم تسمح لمادوت بمزيد من المكابرة فقد عاد مادوت للواقع الذي فرض عليه الانسجام والتركيز الذهني وقد تراجع مادوت عن حالة المغالطة للنفس التي أوجدتها لحظات الأمان فأدرك مادوت أن لا سبيل سوى مقاومة فكرة سيطرة الرعب ويبدأ ذلك بالاعتراف بوقوع الحادثة فلا سبيل لمواصلة الهروب والاختباء من الحادثة التي فرضت عليه ولم يكن بمقدوره أن يفعل إزاءها شيء ولا ذنب له فيها وفي نتائجها المأسوية .

    *********************



    عاد ووَّل لأوتاوا من فانكوفر بروح مستعدة للتعاطي مع الحياة فهو يشعر بأنه استعاد طاقته واستجمع قدراته لمواجهة الضجر والروتين حتى أنه يحسب أن أوتاوا صار لها رونق خاص وبريق وهاج يلمسه في أعماقه هذا ما جعله ينظر للمدينة بعين مختلفة فوجدها كحبيبة تاهت منه وسط الزحام فلم يمل البحث عنها ولم يتحسر عمَّا أنفقه من وقت وطاقة كي يجدها أكثر باء فاكتشف ووَّل أن السعادة لا تأتي من خارج الناس بل من دواخلهم فالسعادة قرار إرادي واختيار مجرد يتخذه المرء بنفسه في كل ما يحياه فإما أن يمتلئ بالبؤس أو يمتلئ بالفرح فيعيش السعادة فالأيام القلائل التي قضاها ووَّل في فانكوفر أزالت عنه حواجز كادت تفصل بينه وبين زوجته سارة كما أن أنسام فانكوفر أكسبته هو وسارة حيوية جعلتهما في شوق لدوامة الأعمال اليومية التي هربا منها بحثاً عن التغييرَّ فما الذي حدث لهما فلم تتبدل أوتاوا ولم تتغير الأشياء فيها فالأشياء كما هي الأشياء لكن ووَّل وسارة تغيرا فقد وجدا متسعاً من الوقت للتحاور والتصالح وتفهم إيضاحات بعضهم البعض فزالت كل الأسباب التي تزرع الإحباط الذي إذا لم يواجهانه في الوقت المناسب فكان سوف يتحول إلى شعور بخيبة الأمل وغالباً ما يتحول إلى امتلاء بالبؤس لذا أصبحت سارة وووَّل يعتقدان أن إيقاع الحياة بعد عودتهما مختلف حتى أنهما اعتقدا أن حركة الناس في الطرقات لها تعبير لذيذ ممتع فتفاعل السابله في الطرقات خيل لهما من فرط سعادتهما أنه فعل من المعتاد وذا دلالات أعمق مما هو ظاهر فالتغيير حدث في حياتهما وفي داخل كل منهما لذا صارت نظرتهما لما حولهما منفتحه تغوص لأعماق الأمور بعد أن تركا النظرة الجافة المرهقة التي ودعا بها أوتاوا .
    تغير أسلوب حديث سارة وووَّل فصار دافئاً عذباً يميل لأنغام الموسيقى ويبتعدا بهذا القدر أو ذاك عن لغة البشر المعتادة المشحونة بالقلق والتوتر فمن فرط السعادة تملكهما شعور بالتفرد المميز الذي أعاد إليهما حرارة أيام ماضية محفورة في ذاكرتيهما وقد رحلت تلك الأيام مع غبار الحياة القاسي ربما بارزها ذلك الشعور الذي سيطر عليهما وهما يهبطان لاوتاوا لأول مره مملوءتان بالتطلعات والطموحات والآمال فاندهشا بالمدينة وشوارعها الهادئة وحركة السابله الغامضة وقتئذ بدت لهاما أن الشوارع مضاءة بأضواء متباينة فبعض الشوارع بدت ضيقة وبعضها الآخر أكثر اتساعاً يومئذ تحركت في لغتهما كل الانفعالات فعندما دلفا ذلك الشارع الرئيسي المشهور بمطاعمه ومحلاته السياحية وبتصرف لا إرادي ودون أن تصدر منهما كلمة اتجها ناحية المنعطف فسارا في صمت وهما يداعبان بعضهما كمل لو أنهما يسيران تحت تأثير قوة جذب مغنطيسية لا يستطيعان الفكاك منها بل تجعلهما يسيران هما نائمين إلا أن حالة الابتهاج جعلتهما خارج زمن الواقع أي أنهما دخلا زمنهما الخاص الذي يفوح عطراً معبقاً بأريج الأزاهر حتى خطاهما صارت تغني للبراءة فتخطيا السابله في الطرقات وتجاوزا السيارات فقد سيطر عليهما وقتئذٍ شعور الانتماء للمستقبل فأدركا المدخل المفضي للحديقة العامة فتخطياها بعد توهان فوجدا نفسيهما منفردين تلفهما رغبة التمتع بالحياة وارتشفا معانيها الموغلة في التداخل والتعقيد واثبات الوجود .

    *********************



    أستيقظ ووَّل من النوم بشعور عميق بالرضي بعد أن تجاوز أثار الوعكة التي ألمت به في فانكوفر فاستجمع طاقته وغادر فراشه للحمام فهو محتاج ليراق في جسده الماء ففي الحمام وهو تحت الماء أخذ يتأمل في أحوال بيته بعد مجيء مادوت وما يتوقعه من تبدل نفسي في سلوك سارة فمن الراجح أن مادوت سيلبي احتياجهما للولد وربما يكون العكس بالنسبة لسارة فبضغط مطلب الأمومة عندها بإلحاح أكثر وتقديراته تعتمد على أن مادوت صعب التكيف لشعوره العميق بعدم الأمان هذا يعني أنه يفتقر إلى الفرح فمادوت واحد من جيل عانى آلاماً قاسية بسبب الحرب فسيطر عليه شعور عميق برفض الآخرين فمادوت من الذين يبحثون عن الإعجاب واستحسانهم ذلك كردة فعل طبيعية للتغلب على الشعور بالرفض والاضطراب الذي تسرب في جيله عميقاً مما اكسبهم شعور بالعجز والوحدة كل ذلك وغيره جعل ووَّل يتشكك في أن يكون مادوت تعويض لسارة عن حلمها بالولد فيغطي حياتها بالدفء والحيوية كما أن سارة ربما لا تتفهم اختلافات مادوت من حيث نشأته ونظام حياته حتى أن ووَّل نفسه لا يعرف عن مادوت كثيراً إلا ما استنتجه من خلال رسائله التي اوحت لووَّل أن مادوت نقي السريرة ـ حي الضمير له نظرة ثاقبة وجريئة وصلابة في إبداء الرأي فتلك الملامح الايجابية في شخصية مادوت قد تصبح عامل عدم انسجام مع سارة فما تحلم به سارة أن يكون لها ابن سهل وديع مطيع تشكله كما تشاء فتصادقه على طريقتها الأمومية فهي تحلم بأن تتدخل في نظراته وتطلعاته وأحلامه فتخطط له برامجه ومستقبله فقطاً لن يكون ممكناً مع رجل مكتمل الشخصية كمادوت . فما يجعل ووَّل مطمئناً معرفته الدقيقة بسارة فمما تتميز به سارة أنها تمتلك قدرات غير محدودة في تفجير إمكانيات من حولها ذلك لطاقتها العاطفية المتسقة فحتماًَ سيلتصق مادوت بوجدان سارة لهذا توصل ووَّل أن وجود مادوت معهما سيكون مصدر سعادة له ولسارة وعنصر إثراء لحياتهما .
    كانت سارة مسترخية في حديقة المنزل تتصفح مجلة نسائية منسجمة مع مزاجها الهادي فسارة في مثل هذا الظرف المزاجي تكون مستعدة لإرضاء غيرها بالإجتهاد من أجل راحتهم . جلس ووَّل مقابل لها وبعد المقدمات الروتينية التقليدية سألها بوضوح وصراحة :
    - كيف سينسجم مادوت مع حياتنا المركبة ظ
    كانت سارة صادقة ومحدده.
    - سأعمل على استيعابه في تفاصيل حياتنا .
    - هذا يعني أنك سترضينه على حساب مبادئنا ونظام حياتنا.
    - سأُعِامله كابني الضال الذي عاد إليَّ ليملأ حياتي بالحبور .
    - ألا تخشي أن تقعي تحت سيطرة مادوت وتحكمه وربما استغلاله .
    - إذا تحررت من الخوف فلا أخشى غضب الآخرين وعدم تقبلهم لذا فأنا لا أقع فريسة السيطرة والاستغلال.
    - أفهم وجهة نظرك لكن مادوت شخص محمل بمرارات الحرب .
    - مهما يكن فأنا متفائلة أن مادوت سيملأ حياتي بمعاني ومشاعر أنا في امس الحاجة إليها .
    - فليكن ما يكون كل الذي يهمني ويشغل بالي أن تشعري بالحرية وأنت تمارسين اتخاذ قراراتك المتصلة بمادوت وأن لا تشعري بالذنب لعدم إرضاءه
    - أنت تعرف أنيَّ لا أعاني من التردد أو الخجل فأنا لا أعمل إلا ما أومن به لأن رأي حول نفسي أهم عندي من أراء غيري فيما أفعل .
    - أخشى أن يكون مادوت من الأنانيين الذين يسرقون الأحلام ؟ قد لا يتفهم مادوت حياتنا أو قد لا يتفق معنا
    - لا تخشى شيء فالحياة ستسير من أفضل لأفضل إذا تفاءلنا وتركنا التشاؤم جانباً .

    *********************


    من كثرة حديث ووَّل عن تأثر مادوت بأوضاع الحرب توقعت سارة أن يكون مادوت شارد الذهن غير قادر على التركيز فيما يدور حوّله من قضايا مما رسخ لها ذلك الانطباع معرفتها أن ضحايا الخروب يقضون سنوات حياتهم بأذهان شاردة غير قادرة على التركيز حتى أن بعضهم يبدو كمن أصيب بقصور ذهني . المفاجأة أن سارة عندما تعرفت على مادوت عن قرب صرفت النظر عن كل تصوراتها عنه فوجدت في مادوت شخصية حيوية ذات تأثير هادي قدرت أنه يملأ مساحة خاصة في دواخلها تعمق عند سارة هذا الإحساس عندما حدثها مادوت عن أمه أشول وقلقه عليها لأنه تركها مريضة فقد ترك ذلك الحديث الهامس في نفس سارة انطباعاً يلخص شخصية مادوت باعتبارها شخصية مسالمة لا تبدو عليها علامات الخلل أو الارتباك التي تحدث عنها ووَّل بعد رسائل مادوت الأخيرة لذلك أصبحت سارة مترددة تسال نفسها بإلحاح أن يكون ووَّل مبالغاً في توصيفه لحالة مادوت ؟ أم أن مادوت في حالة ذهنية مثالية عارضة تظهره في حالته الطبيعية فيعود منقلباً رأساً على عقب ؟ ربما أن ووَّل أعتاد التطرف في الاستنتاجات والاعتماد على الشكوك والانتقادات في النهاية قدرت أن مادوت شخص طبيعي وأن تعبير ووَّل عنه أرتكز على طريقته المعتادة في تناول الموضوعات بالاعتماد على الخلفيات والملابسات المرتبطة بالموضوع . فمن حيث مادوت فهمت سارة مدى تشوه الصورة التي رسمتها عن مادوت قبل أن تلتقيه لهذا ظلت لوقت طويل تعمل على تصحيح كل فكرة خاطئة رسمها ذهنها عن مادوت قبل أن تلتقيه من خلال السلوك العملي فحررت نفسها بهدوء من كل الصور التي رسمتها مسبقاً عن مادوت . المدهش أن سارة توصلت إلى أن مادوت له رأي متماسك عميق حول كل شيء حتى تفاصيل ثوبها الذي ترتديه هل يناسبها أم لا . لم يترك مادوت فرصة ليعبر فيها عن رأيه في لون وخامات وتصميمات ثياب سارة إلا ووظفها بشكل أفضل .
    ظلت سارة تراقب عن كثب حوارات ووَّل ومادوت باهتمام للتعرف على مادوت فالحقيقة أن سارة تأثرت بكلمات مادوت التي تسربت في أعماقها فقد ظلت سارة تشهد لمادوت بتفكيره المركز المحدد رغم أنها لاحظت طابع الحزن المرتسم في نبرة صوته واختياره للمفردة اللاسعة فأن سارة تأكدت أن مادوت يعيش في سلام داخلي لثقته من الاتجاه الذي يسلكه في تصريف تفاصيل يومه فقد أصبحت سارة تعرف طريقة تفكير مادوت واتجاهه في اتخاذ القرارات أدركت كل ذلك من استراقها السمع لمناقشات ووَّل ومادوت التي تتخللها حكاياته التي تصور معاناة مريال مع الحرب فقد كان مادوت يسرد حكاياته بعفوية تفصيلية مدهشة ثم أن ووَّل كان يحتملها بصبر لا لأنه لم يكن شغوفاً بتفاصيل الحكايات يبدو أنه كان يحاول الولوج إلى ذهن مادوت عبر الأسئلة والمقاطعات التي أتاحت لمادوت الاستطراد في التفاصيل الجزئية هذا ما أتاح لووَّل التعرف على ذهن مادوت وطريقة تناوله القضايا فالذي كان يجبر ووَّل أن مادوت كان يعبر بوضوح عن امتلائه بالمخاوف والقلق والاضطراب وفي ذات الوقت أن سلوكه هادئاً مستقراً مما يعبر عن ذهن صارم هادي مطمئن فالحقيقة التي توصل لها ووَّل عن مادوت أن نبرة الحرب لا تعدو كونها إطار خارجي لذهن متماسك معتمد على المعرفة العقلية فمادوت لا يكبر المسافة بين انفعالاته كإنسان والواقع الموضوعي بكل قسوته فمادوت يعرف الموازنة والمعطيات الآمال الممكن تحققها أو التي يمكن الاستفادة منها فمادوت لا يسمح بأن يجعل من ذهنه أرض معركة فالتطلعات والآمال إذا لم تخضع لعمليات ارتقاء وتهذيب تقضي لإرباك للذهن يحطم إمكانياته ويرهقه بأمور غاية في الاستحالة لا طاقة له بها فقد استطاع مادوت أن يحافظ على أن يكون ذهنه حرَّاً منفتحاً هل أدرك مادوت هذا المستوى ليسير دون معاناة ؟ فالحقيقة أن مادوت تعلم تهذيب أفكاره وأماله وتطلعاته بكلفة باهظة حتى أدرك المستوى الذي جعل ذهنه يحافظ على سلامة يقظاً بعيداً عن الانشغال بأمور لا طاقه له بها فمن ملاحظات سارة عن مادوت أن مادوت يرهق نفسه بجدية لكي لا يفقد اتزانه فيظل يلاحق قضايا الواقع الزاخرة بالمدهش فقد لاحظت سارة أن مادوت لا يهتم ولا يتوقف عن الإحداث الطارئة والتناقضات الموضوعية والتفاصيل الإجرائية فقد اعتاد مادوت أن يعطي ذهنه التدريب والتمرين والترهيب الضروري الذي لا يجعل ذهنه يتحرك دون هدف محدد أدركت سارة ذلك عندما لاحظت أن مادوت وووَّل أصبحا يفهم بعضهما الأخر دون زيف أو تصورات مسبقة فمراقبة سارة لتطور علاقة مادوت وووَّل قد احدث في نفسها انشغالاً عصفاً ذهنياً جعلهما يغوصان عميقاً بلا تحفظات في شخصية بعضهما البعض كما أعطت سارة الإشارة في التفكير فيما تشاء وقتما تشاء لكنها تحررت من نظرتها لمادوت باعتباره قابعاً في زوايا العنف والضغط فمادوت عند سارة أصبح يعني رجاحة العقل رغم قناعتها بأن ماجوت مازال في حوجه للمزيد من التدريب العملي للتخلي عن كثير من عاداته القديمة وتشكيل عادات جديدة بالجملة شعرت سارة أنها ناجحة في استيعاب مادوت في حياتها الأسرية .

    *********************


    استفاد مادوت من مندى ووَّل المنزلي فقد حوله للمنبر الذي يعرض فيه أفكاره وينتقد فيه أفكار وتصورات غيره بمنهج غرائبي ينصرف عن تناول مفهوم الظواهر ويظل مرتهن إلى وثائر نتائجها يظهر ذلك بجلاء عندما قدم الدكتور ووَّل فكرية تناول فيها ظاهرة الإرهاب الأصول والجذور تجاهل مادوت أطروحات الدكتور فقدم ورقة موازية اعتبر فيها أن الإرهاب ناتج للحالة العالمية التي سيطرت كما اعتبرها مادوت الطور الراهن لدينامية ثقافية ابتدأت قبل أربعة قرون مع بزوغ آليات التوسع التجاري والهيمنة الملاحية ومن ثَّم أدت هذه الدينامية إلى توسع اشتمل فيه السيطرة المباشرة والإشباع الاقتصادي فأحدث ذلك انقلاب في القيم المعرفية فترتب على هذا الوضع توجهات عامة وجدت ترجمتها في دول حديثة لا تمتلك مقومات البقاء وصارعت من أجل أولويات الدولة ثم جاءت مرحلة تصارع الكتل فانتصبت مفاهيم الحرية للغة سادت العالم ثم انحسرت هذه النزعات المتفائلة أمام الهزائم المتتالية والنتائج البائسة للتجارب التي نفذت على أرض الواقع عملياً كل ذلك وغيره أدى إلى تحول بالغ السرعة يظن البعض أن ذلك تراجع عن الأوضاع القديمة لأنظمة الرعايا فتقلص دور الدولة في كافة المجالات أدى هذا إلى تهميش ونبذ أفكار التخطيط واستعيض عنها بترتيبات التعديل الهيكلي وإيلاء مهام الدولة إلى منظمات غير حكومية بذلك انتصرت فكرة السوق فتم تجريد الفرد واستلابه بشبكة من العلاقات الوحشية في سوق دائرية مجرده من أي مسئوليات أدى هذا إلى نزوع متزايد نحو المحافظة وتغذية الانطوائية الدفاعية المنبعثة من أسباب الانهيار فارتدى هذا النوع لباساً دينياً سلوكياً مظهرياً فتعمق الادعاء بأن للمجتمعات طبائع سابقة على التاريخ تتمثل في أوهام الفرد والخصوصية والأصالة الاستمرار مع الماضي ونبذ كل المكتسبات الجديدة وأن المجتمعات والحضارة تتباين تباين النباتات دونما جامع تاريخي بينها في سياقاتها فالعالمية بهذا الفهم تعني حركة رأس المال الذي تحول إلى وحش في غياب البدائل هذا ما خلق الممانعة الثقافية باسم الدين والتراث باعتبار أن أقصى ما يمتد إليه بصر الإنسان لا يتجاوز حد الموت ن فالموت يضع حداً لكل تدابير البشر وأمالهم وأفراحهم ، هذا ، والعقل البشري لا يستطيع أن يهتك أسراره أو تعلن أسراره ، فالآراء التي فاقت الحصر لم تستطيع أن تبدد ظلامه الحالك ، أنه سحابة كثيفة قاتمة تخيم على العقول ، وليس إلى اختراقها سبيل من هنا تأسست فكرة الإرهاب التي تقود إلى الموت فأصبح الحوار حول قضايا الحياة مؤسس على الموت لأن الناس تخلوا تخلياً مطلقاً أو محدوداً عن فكرة أن كل الناس سواء أكانوا أبراراً أو أشراراً هم خالدون بالوراثة ، وعليه عند الموت تنطلق نفوسهم إلى عالم الخلود كما تخلو عن فكرة أخرى تدعي استحالة خلود النفس الوراثي أو الطبيعي وهم يعتقدون بأن الخلود هبه مجانية لا يعطاها إلا الذين يقبلونها بالإيمان ، فالمؤمنين هم وحدهم الذين سيظفرون بالخلود ، وأبعد من ذلك أن الذين لا يحصلون عليه من هذا الطريق فليس لهم خلود قطعاً ولن يكون لهم هذا يعني أن لا احد في الأرض بات يؤمن أن الإنسان حياته وجيزة زائلة بالتطور العلمي والهندسة الوراثية فأصبح بوسع الإنسان الضعيف المتداعي أن يقول : أيضاً أنا حي إلى الأبد فهل الإرهاب جاء ليثبت عكس ذلك بأن لا خلود للإنسان والبقاء لله الواحد وما الإنسان إلا هالك يستمد حياته لحظة بلحظة من الله فالإرهاب ليس فكرة وليدة الجنوب أو الشمال أنما هو ابن شرعي للخصخصة الاقتصادية التي صارت خصخصة ثقافية فانسحب حكم الأولي على الثانية على صورة متسرعة ميسره حقاً فقد انشطرت الثقافة في دول الجنوب الفقيرة كما انشطرت الثقافة في دول الشمال باعتبار أن الثقافة نصاب طبيعي يرتكز على تحولات التاريخ الكامن في سجايا غرائزية ثم افترض الغرائز المنسوبة هنا يمكن التقاط أطراف عدم التجانس والعصيان وتختزل إلى الدين فيؤدي على العموم إلى الإلهام بذاكرة ثقافية دينية متعصبة تترجم تلقائياً إلى عنف يوظف العلوم الاجتماعية والتقنية للبحث عن عصر الإيمان الذهبي وما لهذه الدعاوي إشعاعية جمالية وقيميه تتراجع الحساسية تجاه البيئة التي يراد لها الحماية من التلوث فتلك الذاكرة المتسلطة قطعاً تتماشى مع اتجاهات الإيغال في الخصوصية فتتسع دائرة الاشتطاط لعنف مؤسس باعتبار لغة الحوار الوحيدة فحديث الخصوصية هو أنجب العنف الإرهاب الذي هو اعتراف ضمني بممانعة هذه المجتمعات للترقي القيمي . وهنا جذر أخر للإرهاب هو استبدال الشأن العام بالشأن الخاص إلى عام ومن ثم يتضعضع البناء الوطني بالمخصصات دون اعتبار للأهلية كما أنه يفتح المجال للعنف والعنف المضاد باعتبار أن السلطة المجردة تصبح هدفاً في ذاتها هذا ما يجعل أصوات الهوسا والأقباط والامازيع والأكراد والأرمن تتعالى فيتأسس العنف على الهوية فيتحطم الوضع الطبيعي للمجتمعات فتلد الفوضى العنف والعنف المضاد فلا أمل في نهاية الإرهاب وتوظيف الفشل لمقاصد خاصة أو كسر إدارة الخصم باسخانه بالموت مالم يتأكد للناس كل الناس أن الموت ليس تعديلاً يطرأ على الحياة . وليس هو استمرار الحياة في حالة أخرى وليس هو تحرير من قيد الجسد إلى حياة أوفر. ليس الموت بحياة الشقاء أو الهناء فالموت ليس حياة على الإطلاق بمعنى أن يعرف الناس أن الموت هو نهاية الحياة ـ الانقطاع التام عن الحياة وأسبابها. فيفهم الناس أن الموت لا يعني بحال الانتقال إلى النعيم والجحيم إنما يعني انقطاع الحياة فحين يموت الإنسان لا يعيش في مكان ما ، في السماء أو في الجحيم لا يعيش على الإطلاق ـ لا روحاً ولا نفساً مع التأكيد أن بعض الناس سوف يعود إلى الحياة في المستقبل . إلا أن تلك الحياة المقبلة تكون استمرار لهذه الحياة الحاضر هانما حياة جديدة حياة أخرى لا تبدأ بالموت إنما عند قيامة الأموات .
    تشعبت المناقشات بين مادوت وهاله حول مداخلته التي صرح بها في المنتدى حوَّل جذور الإرهاب مختلفاً مع ورقة الدكتور ووَّل ولم تكن مناقشات هاله ومادوت ولدت بالصدفة فقد ترسخت بينهما الصداقة وتمددت بينهما خطوط الثقة أبان الفترة التي قضاها مادوت في استضافة دكتور الطاهر حتى أنه لم تعد هناك أسرار تفصل بين هاله ومادوت ـ حتى أن هناء ابنة الدكتور الطاهر أخذت تبتعد عن مجالستهما ومحاورتهما لاعتقادها أن حياة هاله ومادوت جافه ـ صارمة ـ واقعية أكثر مما يجب ولا تناسب تطلعاتها وأن نمط حياتهما تحسبه ضرباً من العبث الذي يستهلك الوقت والطاقة دون ناتج عملي واضح كما أن هناء لا تهتم بالقضايا الذهنية المركبة باعتبارها قضايا ثقيلة حسب اعتقادها .كانت الغرفة تستطع من الداخل فقد كان الجو رطباً في الخارج . وقف مادوت يراجع مع هاله أفكاره التي أفضى بها في المنتدى كان ينظر من النافذة إلى الحديقة المخضرة يغمره إحساس بسعادة لا متناهية لم يكن يفكر فيما يحصل الآن فقد كان يفكر في أن الحجج التي أطلقها في مداخلته كانت دامغة حتى أن هاله تشجعت لمواجهته فهو يعتقد أن أفكاره أثرت فيها كما أثرت في غيرها . لو كان مادوت يفكر قبل اللحظة لموقع رأيه على غيره فأنه كان سيعتبر ذلك مضحكاً . فلا مجال له في إبداء الرأي في مريال فالوضع التراتبي يفرض عليه أن يضع أصابعه في فاهه بل يبتلع لسانه فالكلام مسموح به للعجائز من النساء والرجال . لكن مادوت الآن هو في أوتاوا حيث يحق لرجل مثله في مقتبل العمر أن يقول أفكار حول مطلق الموضوع . كذلك فتاة فاتنة رائعة كهاله يمكنها أن تتفهم رأيه ذو قيمة قابل للمناقشة والحوار أن كان في مريال تجرأ وتحدث بجرأته التي تحدث بها في المنتدى لسمع من بعض ذوي التأثير في مثل هذه الحالة عليك ابتلاع لسانك قبل أن يقطع نرجو إلا تصرفنا عن عظائم الأمور بتقشتانك ولغوك الموغل في لزوجته ربما كانت ستنتابه رغبة في الضحك فيظهر خبثاً بائن فيتساءل كيف لرجل في كامل رجولته يمكنه أن يستسلم لمثل هذا النوع من الحماقات مع ذلك لم يتجرأ على إبداء رأيه لأنه يعرف القوانين ولا يمتلك القدرة على مخالفة التقاليد فهو فرد من القطيع لا يحق له الشذوذ عنه . القدر قاسي حقيقة والإنسان مخلوق في غاية الضعف أمام المحن التي يصنعها أو يصنعها غيره فتصبح سجناً مؤلماً لا يعرف سبل الفرار منه.
    انصب نقاش هاله حول فكرة الموت التي عرضها مادوت بقالب متيولوجي يفترض أن الإنسان لا يستوعب فكرة الموت والخلود لهذا يعبث بأرواح الناس ويقرر إعدَّامهم وإعدَّام نفسه ليحث أثراً ما في أعداءه فيتراجعوا عن مواقفهم كاستجابة لما فعله من عمل دموي في غاية القسوة لا يحترم اهتمامات المحكوم عليهم بالموت من قبل أن يلفظوا بكلماتهم المهمة التي تعرض أحاديث الخلق والخالق والحية ومقارعة الظلم من الواضح أن الذين انغمسوا في لعبة الموت الفاشلة لا يعرفون ما يقولون وإنما يلفظون الكلمات دون معاني أو دلالات محدده.
    الأفكار التي طرحتها هاله كانت جوهر اهتمامات مادوت ومشروعه لذلك استطرد معها وتناولا الموضوع من كل جوانبه وإبعاده وأصوله وجذوره ونتائجه وتداعياته ـ إلا أن الذي خطر بذهن مادوت حقيقة أثر اختلاف المكان ، فإذا صرّح بأفكاره التي القي بها في المنتدى في مريال فإن طريقته الموضوعية في الدفاع عنها كانت ستكون التنازل عنها والتضرع بالعفو من جمهور المستمعين لأصبح التعبير عن الرأي الأكثر ابتذالاً عن السعادة . كان ذلك هو الموقف الجديد ـ خصوصية المكان ـ جعلت مساحات اليأس تتضاءل في داخله . لقد اهتم مادوت برأيه واكتملت المعجزة فعبر عنه بسهولة لذا كان سعيداً في دخيلته. هذا الشعور لم يجروء على الإفصاح عنه فيكشف ما يدور في دواخله لهاله ـ ربما لم يكن مطمئناً تماماً للنتيجة التي توصل إليها ـ أنه في مكان مختلف عن مكان نشأته فعليه أن يتجنب التعميمية ـ فهاله نفسها هي في أوتاوا لأنها لم تكن تقدر اختلاف الأجواء فقد كانت تعرف من خلال دراستها في علم الآثار تأثير الشمال في الجنوب هذا جذر مروي فكتبت أطروحتها في نهاية دراستها ، لم تكن تطابق النتيجة إليها بعد الاستهداء بالحفريات الأخيرة مع رأي الأستاذ المشرف وخلال مناقشة عقائدية بينها وعميد القسم اعترضت على تصوراته ومسلماته هذا كان سبباً لتعطيلها وإرسالها للعمل في المتحف للعناية بالآثار وحتى تدرك مسلمات العميد وافتراضاته . لم تستطيع بعد ذلك أن تجد وظيفة إلا بعد وساطة خاطبت الرئيس. لم تكن تتوقع أن تطرد من الوظيفة وتدان بوصفها عميلة إستخاريه للشمال ومعادية لمشروع الحضارة . لقد تعرضت هاله لصعوبات عديدة خلال سع سنوات قضتها في سجن النساء قبل أن تبرئها المحكمة الإيجازية لعدم كفاية الأدلة وقلة الأدلة للتحقق من الاتهام. قالت عندما عادت قريتها القديمة إلى أوتاوا .
    - لا فرق كل العالم محشو بالصعوبات والمرارات لابد أن أجد ليَّ مكان على ظهر هذا الكوكب بعد أن منحت فرصة جديدة للحياة .
    سردت هاله قصتها لمادوت عندما كان يعاني أسوأ حالات الإحباط والتضعضع النفسي ـ في تلك الفترة تغيّب عن الجامعة وساءت حالته هذا ما أثار انزعاج سارة التي تابعت منذ فتر تكرار كوابيسه التي كانت تنتابه أثناء النوم فكم مرة أوقظته كي يقف عن الصراخ الذي يملأ البيت فتسأله مابك يامادوت عادة كان يجيبها باختزال هرولي :
    مجرد أحلام مجرد أحلام.
    ألحت سارة على مادوت بعد أن تكررت الكوابيس . فاخفي لها بكل شيء فاستعانت سارة بهاله أول أصدقائه في أوتاوا . فقد التقاها في منزل الدكتور الطاهر الذي عرفه بأنها ابنة أخيه أستاذ مساعد في كلية الآداب .
    حضرت هاله لمنزل الدكتور ووَّل للقاء مادوت بعد أن افتقدته عدة مرات فلم يشاء مقابلتها فقصت لها سارة معاناة مادوت مع الكوابيس فظلت تتردد عليه حتى التقته غرفته التي كان مظهرها بائساً يعبر عن حالة الإحباط وخيبة الأمل التي كانت تحاصر مادوت . تطرقت هاله مع موضوع الكوابيس التي كانت تحاصره في نومه لم يحكيها لها . بدا عليه الهم والخجل والارتباك.
    - هي مجرد أحلام تكررت لي مؤخراً فأصاب بالرعب فاستيقظ لأجد سارة قربي مؤكدة ليَّ أني كنت أصرخ .
    - ما تفسيرك أنت لتلك الأحلام ؟
    - ليس عندي تفسير منطقي أو غير منطقي
    - هل تعتقد أنه حديث العقل الباطن ؟
    - لا استطيع أن اجزم بشيء
    - هل يمكنك أن تعرض عليَّ تفاصيل تلك الأحلاَّم.
    - لا أرغب أن انقل إليك قلقي واضطرابي بسردي الأحلام
    - إذا حكيت ليَّ أو لم تحكي فأنا قلقة عليك فالأفضل أن أعرفها.
    - خلاصة الأمر أنها ثلاثة أحرم تتكرر في تعاقب ممل فالحلم الأول : (أراني وسط حريق هائل أكُل أجساد الموتى أسخر من جدتي أموم ) أما الحلم الثاني ( أجد نفسي في غابه مملوءة بالأفاعي فتطلق أحدهما سمها في عيني فأصاب بالعمى ) أم الحلم الثالث (أراني أتبرز في العراء وأكل برازي ومن ثم تتضخم شفتاي فيزداد حجم لساني حتى أنه يخرج من فمي فلا استطيع السيطرة عليه فأحاول الصراخ فلا أفلح )
    - هي حقاً أحلام مزعجة أنصحك بأن لا تحاول تفسيرها سيكولوجياً أو ميتوفيزقياً قبل استشارة أخصائي نفساني.
    - هل تعرفي شخص مناسب قادر على تقديم الاستشارة الضرورية ؟
    - دون شك أعرف الدكتورة باربرا .
    - هل لك معرفة وطيدة بها .
    - هي من أشرفت على علاجي من التبول اللاإرادي الذي أصبت به بعد خروجي من سجن النساء.
    - هل كنت في سجن النساء في يوم من الأيام وخرجت بأمراض .
    - هل الفترة كانت قاسية وطويلة إلى هذا الحد ؟
    قصت هاله قصتها كلها على مادوت الذي أصغى إليها باهتمام ودهشة ففي ختام حوارهما أكد لها أنه متحرر من أي فكر تقليدي سلبي يتخوف أو يتشكك من الطب النفسي لكنه أبرز لها رهبته من مقابلة الدكتورة باربرا باعتبارها له تجربة خاصة معها أبان عملها مع منظمة أطباء بلا حدود في أبشىَّ فقد ساعدتها في تجاوز علتها . أتفق مادوت وهاله على زيارة الدكتور باربرا للتعارف ومناقشة تجربتها مع علاج هاله فإذا شعر مادوت بالارتياح عرض عليها موضوع كوابيسه.

    *********************

    عرض الدكتور ووَّل ورقته التي قدمها في منتداه المنزلي التي ناقش فيها جذور الإرهاب بمقوله مفتاحيه : أن علاج جزء من البناء المائل ليس يهدم كل البناء ـ فإذا كان الهم لدول الجنوب الارتقاء وتأكيد تحررها مادياً وروحياً ، فإن التجليات المباشرة لهذه العملية الجريئة تمس ، أو تحطم أحياناً ، قناعات ، وأحلام وعناصر التكوين النفسي ، وكلها ، تحولت بفضل الممارسة والزمن ، إلى تقاليد وعقيدة جامدة هذا ما يدفع البعض للدعوة إلى إلغاء تلك التقاليد والعقائد الجامدة بالعنف والهدم وينجلي جانب الهدم في هذه العملية كعنصر جذب للقوى بمقاييس أكبر , وأوسع من البناء من هنا يتراكم الالتباس ويزداد القلق لدى أوساط حيوية لا تنطوي مواقفها على أي نية سلبية إزاء عملية الارتقاء أو ضرورتها لكنها تفتح الباب لأصوات لا تتورع من إثبات دول الجنوب فشلت في إعمال قدرتها واستغلال إمكانياتها فحقيقة لم تفلح الدول حديثة الاستغلال في استغلال المساحات والعمق والقوى المحركة القوى البشرية والمواد الخام ورأس المال فكل تلك مازالت رهينة لدول الشمال التي تفتقر لها مما ينجب أفكار التطرف والمواجهة.
    فمما عرضه الدكتور في ورقته : أن دول الجنوب ضعيفة الأداء مما يولد لا مبالاة الشعوب وحاجتها الدائمة لمن يقودهم ويوجه خطاهم عبر العقائد أو العقائد السياسية مما يبرز مظهراً من تحكم دول الشمال بل محافظه على الاستبداد والتخلف مما يرفع من قيمة دعاوى إبراز الذات ولضيق الأفق تميل للوسائل العدوانية العدمية كل ذلك يلد العنف هذا أخذنا في الاعتبار أن دول الشمال تعيش عملياً حرية الوطن والمواطن كما دول الشمال عملت على تحقيق كفاية الإنتاج وعدالة التوزيع وتتجه ناحية استدامة الرفاهية هذا ما تغذي مشاريع دعاوى العنف من منظورات التباين الاقتصادي والثقافي والروحي بحجة أن الصوت الانتخابي في دول الشمال أساسه لقمة العيش الحرة كما أن الشمال دولاً ومجتمعات تقوم على التخطيط لصالح الدولة والفرد بلغ ذلك مبلغاً ووصل إلى تهذيب رأس المال بالتامين والضمان الاجتماعي وإقرار حقوق العاملين .
    تعرض ووَّل في مجمل ورقته إلى مجمل قضايا دعمت دعاوى العنف وأسست لظاهرة العنف السياسي التي يطلق عليها الإرهاب ومن تلك القضايا ما يجيء في هذه الفقرة لا يختلف اثنان في عجز الدول حديثة الاستقلال عن تحقيق انسجام ثقافي وتماسك اجتماعي كما عجزت في بناء واقع اقتصادي كما فشلت في الحياد الايجابي لهذا جاءت الدعاوي صارخة التطرف المستهدف كامل البناء باعتباره بناء غير أصيل مستورد من الخارج والعودة للتأصيل بإلغاء البناء القديم كلياً للرجوع للحظة ما في الذاكرة للبداية فهذه النظرة تركز على إعلان الحرب للانفكاك من أغلال الخارج هكذا عجزت دول الجنوب عن إبراز شخصيتها وتحقيق مستوى الاستقرار الداخلي قائم على تماسك بناء مؤسسي شرعي يستمد ثقته من الشعوب فالاستقرار الزائف الذي يسود الجنوب هو استقرار غير حقيقي وبالتالي يحدث تماسك شكلي ناجم عن القهر والبطش والاستبداد فالذي تشهده كل السلطات التي جاءت في دول الجنوب بعد حقبة السيطرة المباشرة أنها كانت عاجزة وقاصرة ومرتبكة في إدارة الشئون العامة وبناء المؤسسات ودارت حول نفسها مصارعة على السلطة ولا تحترم الخيار الشعبي مقابل ذلك أهملت الشعوب لا تملك آليات الضغط لأجل مصالحها هنا كانت الصدمة فاجعة في الحاضر فاختلطت القضايا وتاهت المفاهيم وفقدت المفاهيم مضامينها ناهيك عن تجددها بذلك اختلت آليات السيطرة على توجهات الشعوب فلم يعد من الممكن معرفة الأحاسيس التي تعتمل في نفوس إلا لنخب المؤثرة فأضحت العلاقة بين الدولة والمجتمع في حالة تغير والعلاقة بين الحاكم والمحكوم في حالة سيولة ومفاهيم السلطة كلها مائعة أو هي في طور التبدل كل ذلك أعطت الميديا الحديثة قدرة ماده دسمة تعرضها ليل نهار مصور العنف والاستبداد وبطولات سفك الدماء لهذا كانت تفاصيل التحولات الدراماتيكية في الاختلاف بين الشمل والجنوب ودفعه لأن يصبح اشتباك فوضوي عدمي .
    تعرض الدكتور ووَّل في ورقته عن الصدمة على المستقبل فعرض وجهة نظره هكذا : الفاصل بين طبيعة العقائد ووظيفتها قد شكل قلقاً وجودياً لقطاعات واسعة تحس بالفجيعة على المستقبل المحدود في الحياة الدنيا وفيما بعدها فأصبح القلق متنامياً وعاماً وممياً وتبددت الثقة في اليقينيات فصار المستقبل شغلاً فردياً لقطاعات واسعة برغم ذلك وضع الحساب لعدة حوادث حدثت وغيرت طريقة التفكير واتجاهات النظر فرعت من قيمة سؤال لم يتم الاهتداء لوضع في الحساب ولما لم يتم التنبوء بها يرى الدكتور ووَّل تلك معطيات تشكل أفاق ما يميز ظاهرة الإرهاب التي في جوهرها حالة فوضى ذهنية وروحية واجتماعية فهو يعتقد أنه لم يهتم الاشتغال بفهم المستقبل بموضوع أثر الثروة المتركزة في أيدي قلة مغامرة عبثية جاهليه لا تحترم الحياة الموجدة وبهمها المستقبل بعد الموت كل ذلك وغيره عرض الاستقرار لخطر وجودي مما أنجب ظاهرة موازية ممثلة في انكفاء على النصوص الماضوية استدعاء ذاكرة الأجداد لتعالج مشاكل الحاضر ذلك لأن المنشغلين بالمستقبل تجنبوا الأمور التي تثير حساسيات السلطان الفاعلة مع أنهم كانوا يعلمون خطورتها على المستقبل فنسجو السيناريوهات لكنهم لم يستطيعوا استحضارها فيها لا لعدم تقديهم لخطورتها فحصروا أنفسهم في التأرجح بين اتجاهات التغيير إلى أسوأ واتجاهات التطور للأفضل هنا كان العجز الذي أنجب الإرهاب .
    الدكتور ووَّل يرى أن الإرهاب وليد شرعي للعجز عن التنبوء بما سيكون عليه المستقبل مع التقيد بالواقعية فقد أنجب العجز التطرف في الركون للإرادة والاعتماد عليها في التحولات والركون للإرادة في تشييد المستقبل لا انطلاقاً من المعطيات التي يتشكل منها الواقع الراهن في دول الجنوب كله متغيرات مؤقتة لم تحصر الورقة جذور الإرهاب في الفشل في أدارك المتغيرات بل تتهم المخطط للمستقبل أنه ووقع في هوى العامة والمزاج فئة عقائدية لها طموحاتها وتطلعاتها التي من أجلها مستعدة للتضحية والحركة والفعل والضغط فاستسلموا لتشييد المستقبل بنفاذ الإرادات لا بالتوازنات الكمية والنوعية الحقيقية تعبرها عن نظام كوني ملامحه في التنافس مع التزام التداخل والتفاهم والصراحة وواقعية بعيد عن المزايدة . جاء في ورقة الدكتور ووَّل : الإرهاب مسئولة عنه محاولات فرض الإرادات لتشكيل المستقبل بمعنا المحاولة المفرطة لتكيف المستقبل مع الرغبات بفرض الإرادات فالمستقبل الذي دائماً يأتي على غير ما يتوقعه الناس فالمهم ليس استدعاء الإرادات لبناء المستقبل كل ذلك ألهب نيران العنف في كل الكون . كما يتحمل المسئولية أيضاً الذين يرون أن إرادة المستقبل ليست مجرد استشراقة وبناء التمنيات حول حشد الطاقات وإحداث الاشتباكات للتأثير في المستقبل بتفعيل الإرادة .
    يرى الدكتور ووَّل أن الإرادة يجب أن تبعث في العقول والقلوب والسلوك لأنه ليس من بديل لكل الناس سوى إعادة صياغة قواعد ردة الفعل في ظل تطور إمكانيات الإفناء والتدمير والقتل لأنه دون تهذيب طريقة رد الفعل لمعظم الناس الفاعلين فالنتيجة الاضمحلال والفناء . لهذا فالإرادة عندما تشغل الأفكار والعقول فأن ذلك الاهتمام بالمستقبل وتوظيف الماضي بصورة عقلانية ذلك بالاستفادة من أسباب النجاح التي أحصى بعضها الدكتور ووَّل على هذا النحو : التقدم في مناهج البحث وأدوات التحليل ـ توثيق التجارب ـ ودراستها واكتساب قناعات منها تفرض نفسها فرضاً .
    يرى الدكتور ووَّل في ورقته أن العالم وحدة واحده في تغير مترابط ولم يعد واقعاً في القرون الماضية فالأطراف القاطنة الأرض لابد أن تتفاهم حول مستقبلها ذلك وحده ما يضحض الوهم الذي يروجه دعاة الإرهاب الزاعمين أن حملات السيطرة المباشرة ستكرر عليهم أن يدركوا أن استنتاجهم عبارة عن خمول ذهني وسذاجة.
    تحدثت ورقة الدكتور ووَّل عن التحديات ومواجهتها بتدخل العقل لمعالجة الإرهاب : قطعاً ستكون هناك تحديات ستكون مختلفة عن المعهود تفرض مسئوليات مختلفة عن ما تعارفوا عليه تحتاج المواجهات الجريئة فهل الحياة شيء غير مواجهة التحديات هذا لا يعني هدم البناء لأن جزء منه مائل فإذا فعل الناس ذلك فإنهم يكونوا قد وقعوا في حبائل أدعياء استخدام إرادة القوى لتحديد ملامح المستقبل فلا خيار سوى تدخل العقل في كل المعادلات فهذا ما يستهدفه الإرهاب تعطيل العقل لأنه تدخل العقل انهزم الإرهاب فلا معنى للتبرير تأجيل التداول السلمي بأوهام الواحد ذو الرأس الحامل بادعاء أنه الخيار الأنسب المحتوم .
    كما ناقشت ورقة الدكتور ووَّل التطرف كمله واحده. المستقبل المرتقي بالإنسان لا يحتمل التطرف أي كان نوعه وموضوعه ومصدره. فلا يحتمل التطرف في استعمال السلطة وتوظيفها لمصالح عابثة . هذا يطابق التطرف في الدين أو في التعبير عن اليأس بحجة الرفض ، فالرفض ليس سنة الحياة بل هو ظاهرة مؤقتة يفعل فيها الوقت فعله . فالمستقبل ستجدده إرادة الممارسة العقلانية بتخطيطها الصبور وتمسكها بالرجاء فمناهضة الإرهاب تبدأ من مناهضة الرفض والتطرف هي تعني تهذيب النظر للأمور وإخضاعها للفعل والواقع . ومعالجتها بنظرة تجمع بين الموضوعية وهدف إعادة بناء الحياة.
    تطرق الدكتور في ورقته إلى أن جذور الإرهاب تكمن في تقسيم إلى نحن والآخر بمعنى رفض النظرة التي تحرك قضايا قديمة تهرب من إعمال العقل أو تناول قضايا جديدة بنظرة قاصه مأزومة فالجذر الرئيس للإرهاب هو العجز عن استخدام العقل والاعتماد على التلقين مما يعطي الإشارة للتطرف. كما أن ورقة الدكتور ووَّل قررت أهمية تأسيس الوعي للمستقبل بنظرة موضوعية بعيداً عن التبرير والتطرف وتغيب العقل ولن يكون ذلك إلا بتجاوز سلوك الجمود واعتماد الإجابات السهلة التي تستدعي العنف هذا يعني إعمال العقل والاهتمام بالسلوك التجديدي ينظر للبشر أجمعين ككتلة واحدة لا تقبل التجزئة العدوانية والتوقف عن طرح الأسئلة المزايده والمزيفة .

    *********************
                  

03-23-2009, 12:48 PM

فتحي البحيري
<aفتحي البحيري
تاريخ التسجيل: 02-14-2003
مجموع المشاركات: 19109

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: إلى صلاح عوض الله وآخرين : نص هيأه صاحبه للنشر .. والنقد (Re: فتحي البحيري)



    حاولت سارَّة أن تخرج ووَّل من صدمته من تبدل مريَّال ذلك من خلال تأكيد تغيير الأحوال من طبيعة الأشياء وأن ما شهده القليل بحسب الاعتقاد الإيماني الذي يتحدث عن دمار لا حدود له لكل الأرض فتجف الزروع وتخرب المدن ويغلق الناس ديارهم .فتعتقد سارَّة أن ما حدث من تحول في مريَّال طبيعي وليس مزيجاً مخيفاً كما هو النواة القديمة فقرأت سارة لووَّل ما هو مكتوب في الكتب القديمة :
    (تنجست الأرض بسبب سكانها لأنهم خالفوا الشائع ، وتعدوا على الفرائض ونقضوا العهد الأبدي لهذا اللعنة تأكل الأرض ويحل العقاب سكانها لهذا يحترق سكان الأرض ولا يبقى منهم غير عدد قليل وتجف الخمر وتذبل الكرمه بين كل الفرحانين ليصمت طرب الدف ويسكت صوت المرحين ويتوقف عزف العود . لا يشربون الخمر على الغناء ويكون المسكر مراً لشاربيه تخرب المداين ، تعم الفوضى ، يغلق الناس ديارهم لكي لا يخزل أحد يصرخون في الشوارع طلباً للخمر يغيب كل فرح ويزول كل سرور على الأرض ولا يبقى في المدينة غير الخراب ويصير باباها محطماً فتكون الشعوب في وسط المرض كزيتونة جمعت حباتها أو كبعض العنب المتروك بعد الحصاد) قالت سارَّة أن سلوك الناس هو الذي يقود في نهاية المطاف إلى الخراب لهذا لا أشعر بالقلق من مظهر مريَّال وما يحدث فيها من تطور وعمران يوازيه إنحطاط في القيم التي تسميها الكتب القديمة نجاسة لذلك لن أقول دع القلق على مريَّال وأبدأ الحياة ولكن أقول لك أفهم النبوءات تجد فيها الإجابة الواضحة لما يحدث أمامك من تحولات وتبدلات قد تبدو مخيفة للذي لا يغوص في مرامي النصوص فيدرك إبعادها العصية .
    - يا سارَّة أنا احترم إيمانك بالنبوءات ولكن النبوءة التي قرأتيها تتحدث عن الدمار والخراب وما يحدث في مريَّال عمران وتطور فكيف تفسرين هذا التناقض الجوهري .
    - النبوءة تتحدث عن خراب في نفوس الناس ومخالفة أمر الله وشرائعه وهذا ما أراه جديداً في مريَّال وسوف يصل مداه كما في كل الأرض .
    - كلامك هذا فيه كثير من التعقيد أحتاج لإيضاح أكثر .
    - التطور المادي القائم على رؤية بشرية محدودة تصاحبه تدهورات في الأخلاق والمبادئ وهذا ما يسبب غضب الله فيدمر الأرض .
    - ما اعببه على فكرتك أنها تطوع نص قديم ليخدم فكرة جديدة هذا ما سيزيد الهاربين من الإيمان ؟
    - لا أتفق معك فالنص قديم للذين لا يؤمنون به وجديد لكل من يؤمن به ففيه يجد الإجابة .
    - فما قولك في تعاظم البناء .
    - قبل الكسر الكبَّر
    - لكن أنا لا أؤمن أن النبوءات تتحقق هكذا ربما خيالي لا يساعدني للنظر للأمور كما تنظرين .
    - أنه إيماني وطريقتي في فهم النص وإنزاله للواقع .
    - أنا أعرف إيمانك ولا أعارضه لكن ليس مرجعيتي النص الذي تؤمنين به .
    - هذا شأنك .
    - أعترف أن هناك مشكلة أخلاقية ربما تسبب دمار عظيم واحتاج لجهودك معي .
    - ستجدني دائماً بجانبك متى ما رأيت ذلك في كل ما هو ايجابي .


    ************


    من عادات النقوك الاحتفال الطقوسي الذي يطلق عليه السَّبَّر ليكون حداً فاصلاً لمواسم الإنهاك في العمل والدخول لمواسم الإثمار والتزاوج ففي هذا الاحتفال يلعب الكهنة والسحرة والعرافون والعرافات دوراً متقدماً فيتقمص الأبناء أرواح الأجداد فيعلنوا الوصايا كما تستحضر الأرواح وتظهر المعجزات فينال أصحاب الحاجات ما يريدون فيشفى المرضى ويبصر العمى وتعطى النساء العاقرات البشارات بالبنين والبنات ويقوم رينميكا بأمر المطر فتهطل الأمطار لترتوي الأرض وتشبع الأنعام يقام هذا الاحتفال الطقوسي يتم بقرار من مجلس النقوك الذي يضم سلاطين بطون قبائل النقوك وحلفاءهم من قبائل العطايا في موسم عينة الخرسان عندما يكتمل القمر الثالث قبل نهاية مواسم الأمطار كان ووَّل عضواً في هذا المجلس بحكم أنه أحد أبناء سلاطين االنقوك الذين كان لهم تأثير عظيم في حياة النقوك ـ فقد دعي ووَّل للاجتماع كان متردداً في حضور الاجتماع . سارَّة شجعته لحضور الاجتماع لأنه يمكن من خلال الاجتماع تنفيذ فكرته في التغيير القصدي بدل ترك مسألة التحولات للصدق . وطن ووَّل نفسه على أن يعمل على تجريدها فكرة الإحتفال من الأوهام والعادات البالية والموروث الثقيل ليصبح الاحتفال فرصة للمرح والمودة والتواصل الإنساني . كانت أخر مرة حضر فيها ووَّل مثل هذا الاجتماع قبل هجرته لأوتاوا عندما كان في مقتبل العمر كانت له أفكار راديكالية حول الاجتماع ملؤها التشكك في جدواه.الآّن يحضر ووَّل الاجتماع هذه المرة برؤية واضحة لهذا أبدى اعتراضات وجيهة لأنه قرر العمل الايجابي فمما قاله : ( أن عصرنا الحاضر هذا هو عصر المعرفة حيث تتسع فيه سلطة العقل دوراً ووظيفة ونحن النقوك لسنا أقل من غيرنا فعلينا أن نكون أيضاً من صناع المستقبل . علينا أن نقر بضرورة المواكبة للعلم والمعرفة ولن نواكب إذا لم نغير سلوكنا ونجعل عاداتنا وتقاليدنا في تناغم مع العقل والعلم ). كانت الأفكار التي طرحها ووّل تجد مساندة فورية من الشباب المتحمس . أما الشيوخ فقد كانوا واجمين ينظرون بجزع لما يدور حولهم . توصل الاجتماع إلى قرارات غاية في الأهمية منها أن يكون الاحتفال في أي مكان بأي عدد من الناس دون أهمية للكهنة العرافين والعرافات فقد اقترح أن يبدأ التغيير باختيار صالة فندق الهيلتون للاحتفال الطقوسي هذا العام. كما أقر المجلس ذبح ذبيحة واحدة بديلاً لمئات الذبائح . كما تساهل المجلس في الأزياء التي يرتديها القنول فأبيح لهم ارتداء أي ثياب في الاحتفال بدلاً عن الأزياء الطقوسية المصنوعة من جلود الوحوش كما حظر المجلس في الاحتفال حمل أي أداة قتالية لأي سبب كما بدل فقرات الاحتفال فاسقط المجلس كل الفقرات التي تتصف بالوحشية والعنف وحوّر بعضها المتصف بالسذاجة إلى فقرات فكاهية تميل للفرح والبهجة فالأهم من كل ذلك أعيد النظر في دور كاهن المطر وكل الكهنة والسحرة والعرافين والعرافات فأصبح دورهم شكلياً صورياً .

    ************



    وجد ووَّل نفسه موضع المسئولية بعد أن كلفه مجلس النقوك وآخرين بالإعداد للاحتفال الطقوسي بعد التعديلات الجوهرية التي ادخلها المجلس . هذا الوضع فرض عليه الاهتمام بتفاصيل التفاصيل كما أتاح له الالتقاء بكل أشقائه وشقيقاته ففي إثناء حركة ووَّل الدائبة افتقد شقيقته أشول أم مادوت الذي كان معه في أوتاوا . فسأل عنها الكل فتهربوا من سؤاله أو لاذوا بالصمت واضعين أيديهم في أفواههم . ازداد قلق ووَّل على أشول فكثف أسئلته وبذل جهداً اكبر فعرف أن اشول في طريقها لمادوت وزوجته باربرا اللذان فرضت عليهما الإقامة الجبرية في غندكرو ا بعد أن ألقت عليهم القبض جماعة مسلحة تسيطر على أعالي الرجاف . كان وقع الخبر قاسياً على ووَّل ليس بسبب موضوع الإقامة الجبرية بل لأن الكل أخفى عنه الخبر وعرفه بالصدفة حين دلف لبرج الواحة القائم خلف ساحة تهراقا حيث محطة الحافلات . صعد ووَّل طوابق البرج وثباً على السلالم حتى الطابق السابع لأن المصعد كان معطلاً إتجه إلى مكتب صديقه سلمان وزوجته نادية اللذان يعملان معه في جمعية التراحم . فتحت نادية باب المكتب الشقة أو الشقة المكتب . إكتسى وجه نادية بمسحة غريبة فيها مزيج من الأسى والحزن . كانت نادية من ذلك النوع من النساء القادرات على ضبط أعصابهن فتحدثت مع ووًّل حول كل شيء ثم دلفت لموضوع مادوت :
    - كنت أتوقع سؤالك عن أخبار مادوت وباربرا ؟
    - ما بهم لا أعلم عنهم شيء منذ أن تركتهم في أوتاوا .
    - ألا تعلم أنهم تحت الإقامة الجبرية في غندكرو؟
    - منذ متى هذا الأمر؟
    - منذ الخريف .
    - كيف حدث ذلك ؟
    - كانت مهمة باربرا ومادوت إغاثة ملاجئ الأطفال بإيصال الأغذية والمواد التموينية لها.
    - لماذا هم تحت الإقامة الجبرية ؟
    - متهمان بالإخلال بالأمن وتخطي الأنظمة المتعارف عليها في عمليات الإغاثة .
    - كيف عرفتم الخبر ؟
    - من خلال جمعية التراحم .
    - هل أسرة مادوت تعلم ذلك؟
    - بالطبع والدته إلتقت سلمان قبل أن تغادر لغندكرو.
    دارت الدنيا أمام ناظري ووَّل وضبط نفسه حتى لا يفضح ما بنفسه لذلك لم يوفق في سماع المحاضرة السياسية الغامضة التي ألقتها نادية على مسامعه فقد أسرفت في الحديث عن الحقوق الإنسانية والحرية الفردية برغم ذلك رسخ في ذهنه المثل الذي تطرقت له نادية ( جو يساعدو في دفن ابو دسَّ المحافير ) . غادر ووَّل مكتب سلمان فسار بإحباط من كل شيء حوله فكان مسرعاً يتخطى أدراج السلم درجتان درجتان أخيراً أدرك الشارع . الحقيقة أن ووَّل كان يتمكلة شعور عميق من السأم والحزن لأن كل الذين سألهم يعلمون أن مادوت مفروضة عليه الإقامة الجبرية في غندكرو وأن أشول كانت تبحث عن سبيل للاتصال به . عرف ذلك بعد أن ناقش كل من سألهم عن أشول لذلك إعتكف ووَّل في منزله مفضلاً العزلة لا يقابل أحد لا يدخل غرفته أحد إلا سارَّة . إستطاعت سارَّة أن تخرج ووَّل من حالة الإحباط بعد أن أقنعته بضرورة إكمال عمله للإعداد الاحتفال الطقوسي . إلتقى ووَّل بشقيقته أشول فشكا لها حزنه من إخفاءها حال ووضع مادوت وباربرا . يعتقد ووَّل أن مَنْ حوله عاملوه بجفاء وحسبوه من الغرباء بافتراضهم أن هجرته للدنيا الجديدة قد غيرت انتمائه الأسري . لم يكن ووَّل مواكباً ما هية التغيرات التي أصابت النقوك فقد أضحى المسكوت عنه في حياتهم أكثر من ذلك المعلن في أقوالهم وسلوكهم ، فحياة النقوك تحولت لسلسلة من الألغاز صارت نسيج مترابط من الأسرار فحتى التفاصيل العادية يتعاطونها بتوجس وحذر شديدين فووَّل لم يكن يعلم كل ذلك حتى إلتقى شقيقته أشول التي حدثته عن ما تبدل في حياة النقوك قائلة :
    ( أراك صدمت لأنك لا تعرف ما آلت إليه حياتنا وما طالها من تبدل فلم نعد نحن أولئك النقوك الودعاء البسطاء فقد تغيرت ظروفنا وصارت حياتنا مشحونه بالغموض والألغاز حتى أني اعتقد أننا لا نحيا حياة حقيقية لكثرة الأوهام التي تحيط بنا . فالناس هنا يضعون أقنعة تخفي حقائقهم . هل تدري أن النقوك إعتادوا إبتلاع ألسنتهم وتحوير لغاتهم فزوروا اللغة الأم بعبارات التزلق والمراوغة وكل الكلمات المطاطية المتحزلقة الأنانية فالصمت صار فضيلة في حياة النقوك بديلاً للوضوح والصراحة ـ فخلف الصمت هناك الخوف المروع من القضايا التي لا يمكن تصورها . طغت على سلوكهم الفردية فالانغماس في الهزل والسطحية ) كان وقع حديث أشول قاسياً على ووَّل للحد الذي شعر بأن الدنيا أظلمت أمامه ، لكنه تيقن أن الواقع لا يشبه المعلومات التي كانت ترده في أوتاوا . قسوة كلمات أشول وصراحتها كانت دافعاً قوياً للعزم لإنفاذ مادوت وباربرا فقد شرحت أشول له طبيعة الأوضاع في غندكرو وأكدت له أهمية تدخله المباشر بالشهادة عن باربرا ومادوت .
    - ووَّل أنا اعتمد عليك في إنهاء إقامة مادوت وباربرا الجبرية فشهادتك كما علمت كافية .
    - حباً وكرامة . فلتسامحيني لأني لم أبذل جهدي منذ أن سمعت الخبر .
    - لا اعتقد أن هناك وقت إهداره علينا أن نبذل كل الجهد .
    كانت سارّة مهتمة بموضوع باربرا ومادوت لعلاقتها الخاصة بهما ولأن هذا الموضوع صار الشغل الشاغل لووَّل فكان يشاورها في كل خطاه لمعالجة هذه القضية إلا أنه أظهر لها يأسه وإحباطه من دائرية الإجراءات وتعدد الجهات المسئولة عن هذه القضية طرح ووَّل على سارَّة سؤال مباشر :
    - أتعتقدي يا سارَّة أننا قادرون على فعل شيء يسهم في إنهاء إقامة باربرا ومادوت في غندكرو في ظل التعقيدات الإدارية ؟
    - لا شك عندي رجاء عظيم في أن الصبر وطول الأناة سيثمران خيراً .
    - أخذت اشك أن مادوت ربما ارتكب جريمة أعظم لهذا هو في هذا الوضع .
    - لا أعتقد أن هناك شيء مما قلت لأني أثق في مادوت يمتلك الحكمة الكافية لتجاوز كل موقف ولن يرتكب جريمة مهما حدث.


    ************




    سارَّة امرأة تعرف تماماً كيف تصنع الهدوء في مملكتها الصغيرة لأنها تعرف كيفية استدامة السكينة . كانت سارَّة إلى جانب ووَّل في هزائمه وإنتصاراته فهي امرأة قادرة للغوص عميقاً إلى عمق أعماق القضايا فتسبر غورها فتصل إلى جذورها فهي دائماً تعرف العمل المطلوب في اللحظة المناسبة فهي امرأة تعودت استخدام ذهنها بحثاً عن توطين الطمأنينة في بيتها الذي أنشأته على قواعد التفاهم والتقاط الرؤى الخلاقة القادرة على إخضاع كل جديد وترويضه ففي قضية مادوت أشارة سارَّة على ووَّل بأهمية الاستعانة بكل المتاح من العلاقات وتوظيف كل القدرات وتحريك كل الإمكانيات لأن مريَّال لم تعد سهلة ففيها من المتناقضات ما يهدم كل بناء ويدمر كل جهد . الحقيقة أن سارّة لا تعول على أمل زائف واهم دون أفعال حقيقية لأنها تؤمن ذلك يقود رأساً إلى الإحباط لخصت وجهة نظرها في قولها :
    ( صحيح أن اتفاق المتحاربين قضى بتحرير كل السجناء والذين هم تحت الإقامة الجبرية هذا لا يمنع التحرك السريع الجاد الحاسم لإطلاق سراح مادوت وباربرا بتأكيد أنهما من دعاة السلام وما جاء بهما إلى غندكرو هو إغاثة ومساعدة الناس لتسود لغة السلام ويتحقق التعايش ).
    كانت سارَّة تحلم بأن تعود مريَّال إلى طفولتها . إلى ذلك الزمان الذي كانت فيه بريئة لا تعرف الاحتراب والصعوبات وينتفي فيها التوتر . كانت سارّة تعرف إستحالة العودة للوراء لذلك الزمن الجميل دون إعادة بناء هيكل الأسرة الذي يتغير مع تبدل الأحوال . فقد كانت مريَّال تعرف نمطاً واحداً للأسرة والآن في مريَّال عدد قليل من الأطفال ينشأون مع كل من الأم والأب ، فهناك الكثيرون الذين يربيهم الأجداد أو أحد أقارب الآخرين، بينما هناك في مريَّال أطفال يربون على يد أحد المعارف ، حيث أنفصل الزوجان وارتبط كل منهما بشخص آخر فإحساس الأطفال أن البالغين لا يحبوهم ويعتبرونهم كائنات جاءت إلى الدنيا برغم إرادتهم . فيشعر الأطفال بقلة عدد المهتمين بهم برغم أن القاعدة الإنسانية السوية تقول : كلما زاد عدد المحبين والمهتمين في حياة الأطفال يستفيدون من التواصل المستمر والعرضي مع الأسرة الممتدة والأصدقاء والأقارب . ففي فهم سارَّة أن إعادة تماسك الأسرة في مريَّال رهين بموقف عملي من العقل أى إعتراف بأن العقل على ما يحيط به من حدود، وينطوي فيه مخاطر هو القوى التي لا غنى للإنسان عنها في الارتقاء باعتباره المكان الذي تسجل وتخزن فيه الذكريات والعادات والغرائز وضروب القدرة والشهوة وكل تلك الحسابات التي تفوق التصور فالعقل يحمل حوافز ملحة وحشية غير مصقولة لا تهذب إلا بالعلم لهذا كانت تصر سارَّة أن خلاص مريَّال يكمن في العلم والعقل فتقول سارَّة : ( أن العقل في ذاكرته يحتفظ بصوت همسة سمعها من أربعة عقود ما يحتفظ بمشاعر البغضاء منذ طفولته وكل لحظات البهجة التي لم ينلها تظل عالقة بذاكرته لا ينفك يتخيلها كل شيء مخزون في الذاكرة ـ عطر ـ حديقة ـ صلوات ـ مخترعات ـ جرائم ـ ملاحم ـ قصائد ـ نكات ـ مشكلات لم تحل ـ انتصارات عفي عليها الزمن وحتى الخوف من الجحيم نجده حاضر في الذهن ، فأي اتجاه للارتقاء بالقيم في مريَّال أو في أي مكان لابد أن يشمل عملية تهذيب للعقول بالقدرة على إخضاع الأفكار وتوجيهها وممارسة التفكير الذي يروض الأذهان فالفارق بين التخلف والتقدم عند سارَّة هو فارق في الإنسان الذي يستعمل عقله ويلتقط دوماً حزماً من الأفكار الحافزة لتحسين حياته وحياة من حوله من البشر هذا يعني ضرورة احترام المعرفة والذين يدونونها والذين ينقلونها ففي رأي سارَّة أن ما يحول بين مريَّال والارتقاء هو أن مريَّال مصابة بداء تكبيل العقول . صرحت سارَّة بتلك الأفكار في محاولة لتحمل بعض الأثقال عن كاهل ووَّل الذي أُرهق تماماً بقضية مادوت وباربرا التي يعتقد ووَّل أنها ليست حادثاً عرضياً يمر فيه شخصياً هذا ماجعله يمتحن أحلام الذين حملوا السلاح ليغيروا مريَّال فما فعلوا شيئاً غير التمرد على الظلم والاستبداد ليمارسوه هم أيضاً . كان ووَّل يطلق عليهم ضحايا رغبة الاستئثار بنيابة الشعب كأن سارَّة تؤكد أن الذين أشعلوا الحروب مهما كانت دوافعهم تنطبق عليهم وصفة المثقف الكلاسيكي الذي تراه سارَّة ذلك الرجل الذي يمتلك قوة تحت أمره أو تحت طلبه في أي وقت يريد فهو يمتلك القوة والمعرفة فيحولها بنفسه بلا عقلانية إلى قوة تدمير ذاتي بسبب الهواجس الفصامية التي تجعله في حالة شعور دائم أنه ليس الشخص الذي يريد أن يكون فمن أجل هدفه الخاص يصادر حق غيره في التفكير ليت الأمر يقف عند هذا الحد بل يدعي أنه مفوض ليفكر للشعب الذي عليه أن يتبعه ويطيع أوامره دون مناقشة أو إبداء رأي يعتقد ووَّل أن تلك النـزعة التسلطية الاستبدادية هي التي تهدم أي نظام إجتماعي مهما كان، ناهيك عن حالة مريَّال التي فيها النظام الاجتماعي ضعيف وهش لغياب منظمات التفكير الفردي والجمعي التي تنظم التعبير عن المثقف الكلاسيكي في تقدير سارَّة المثقف الكلاسيكي ناقد جيد لكل شيء فهو يستفيد من ضميره المعذب فيتحول إلى إنسان يتكلم للناس فيستمتع بتصفيقهم من ثم يتحول إلى محارب نيابة عن الجميع لأنه يعتقد أنه يفهم مصالح الجميع أكثر من الجميع بذلك يهدم حياة الجميع ولا يقدم لهم سوى المعاناة والألم وفي الوقت ذاته يستفيد من كل الأوضاع فمثل هذا النوع من الناس لا يتورع من صناعة أبشع الأسلحة والدعوة للعنف والإرهاب وتوفير مقوماتها، كل ذلك لا يمنعه من التبجح في إجتماع عام أمام الجميع أنه ضد العنف والإرهاب . يعتقد ووَّل أن هذه الشخصية المأزومة المتوترة تشكلها ظروف خارجها وأزمات غير محسومة تعرف علي هذا النمط من الشخصيات المأزومة وهو بعد تلميذ في المرحلة الأولية فقد أحب معلمته ، أنها معلمه العلوم ، كان ذلك لا يتعدى كونه إحساس ولد صغير ، لقد إنجذب لصوتها قوامها الفارع وعيناها الزرقاوان برغم من أن مادة العلوم كانت عصية على الأذهان وبلا طعم ، فقد كان يجاوب على الأسئلة الصعبة بهمه عالية ومثابرة فائقة ، ذات يوم لم يحصل إلا على خمس درجات من خمس وعشرين درجة في الامتحان ، ما جعله يفرغ الدموع ويفقد أعصابه فينهار في الصف أمام زملائه أثناء توزيع الأوراق فصرخ بأعلى صوته،إستعادة المعلمة ورقته وهي تقول أنها ستعيد النظر فيها فأعطته بعض الدرجات قال ووَّل أنه لن يمد يده فرمى ورقته على الأرض أمام زملائه في الصف ولم يمنع نفسه من البكاء بمرارة حسبها الكل بكاء لإخفاقه في الامتحان والآن بعد مضي كل تلك السنوات يعترف أنه كان يبكي لعواطفه ومشاعره الجريحة فقد كان نموذج لنفسية المثقف الكلاسيكي فلم يعر ووَّل معلمته انتباهاً بعد تلك الحادثة كأنه لم يهتم بها مطلقاً برغم أنه أحب فيها مظهرها الموحي بالشرف والفضيلة .


    ************




    كان العنف يمليء الغابات الفاصلة بين مريَّال وغندكرو برغم ذلك إنطلقت حافلة صغيرة من مريَّال في إتجاه غندكرو لا تبالي بعد أن صعد فيها رجل وإمرأة هما ووَّل وسارَّة كان عليهم الإدلاء بشهادتيهما للسلطات المحلية حول شخصيتي باربرا ومادوت . كانت الرحلة شاقة من لحظة الإنطلاق من موقف الحافلات فقد ظلت الحافلة التي كانا على متنها عالقة بين الطرق الداخلية في زحام المركبات التي تضج به مريَّال . بعد جهد جهيد إجتاز السائق وتجاوز عبر الشوارع الجانبية ظلت الحافلة تدور في الطرقات حتى دخلت الطريق الترابي متجه إلى غندكرو . مرت بتسعة وتسعون حاجز يتم تفتيشهم فيها تفتيشاً شخصياً دقيقا ومن ثمً التحقق من هوياتهم وأسباب رحلتهم لغندكرو قالت سارَّة :
    (... كثرة الحواجز توحي بأنهم يبحثون عن شيء ما ) فقد كان هذا هو الإجراء الروتيني لمتحصلي الجبايات ورسوم العبور أما التدقيق في التفتيش يهدف لتأكيد هيبة السلطات المحلية العديدة.
    كان الركاب يتذمرون وكان السائق الأكثر ضبطاً لأعصابه فهو يعلم ما يحدث في مثل هذه الأحوال كان يتعامل مع رجال المرور بحصافة . كان بعض الركاب ثقيلي الدم وحادي المزاج يمطروه بالشتائم واللعنات لأنه لم ينـزل من الردمية إلى شارع الغابة . كان السائق يعرف طريقه ومسئوليته، عبر راكب كان مستعد للشجار متخطياً المقاعد الأمامية متجهاً للسائق . متذمرا ويأمر السائق بإتباع أوامره مهدداً السائق بأصبعه :
    - أوقف الحافلة .
    ينفذ السائق الأمر بلا تردد ربما يكون مسلحاً أو رجل نافذاً في السلطات العديدة .
    بعد حوار غريب برر السائق خط سيره وأبرز له حسن نيته أنه يمكن أن ينزل في نقطة قريبة جداً من نوليك طالما كانت هي مقصده، تحت تضرعات وإلحاح الراكب عاد المسافر لمقعده يهدد ويتوعد ويسبب كل من في الأرض والسماء ثم عادت الحافلة لسيرها المتذبذب بين الحركة والسكون عند الحواجز .


    ************




    في غندكرو بحث ووَّل عن مادوت وباربرا بروح الصبر وطول الأناة لأنه أصبح يدرك ما جرى في مريَّال من تقلبات الزمان ويفهم لِعمق أن الأمور لا تسير هنا حسب المنطق أو أنها لا تجري كما يشتهي كان يتوقع رحلة سريعة يوثق فيها هو وسارَّة شهادتهما عن باربرا ومادوت ثم يلتقي بهما فيعودا إدراجهما كانت الصدمة عظيمة عندما إستحال عليهما مقابلة الضابط المسئول عن قضية باربرا ومادوت تفاجأ عندما لقاءهما بكثيرين يبحثون عن ذويهم لذات الأسباب التي جاءت به إلى غندكرو . أنصت ووَّل لشكواهم باهتمام بالغ بعد أن أدلى ووَّل وسارَّة بشهادتيهما كان لابد من لقاء مادوت وزوجته . كان ذوى المحجوزين في غندكرو جلوساً تحت شمس ساطعة يسيطر عليهم الاشمئزاز والضجر من تحرشات الحراس، شيئاً فشيء تحول الاشمئزاز إلى حقد، لأنهم يفصلون بينهم وبين ذويهم . كان يمكن أن تحدث معركة لولا حادث عرضي غير إتجاه مشاعر الحشود حيث انفجرت أنبوبة غاز في أحد المطاعم المجاورة وبلغ الحريق محطة للوقود فأشعل الحريق السوق كله وتكثفت القوات المسلحة عند مباني المقاطعة التي طارت بعض نوافذها بعد سبعة أيام سمح لزوي المحجوزين من الإقامة الجبرية بمقابلة ذويهم لمدة خمس دقائق في وجود المحامي العام للمقاطعة . عندما التقى ووَّل وسارَّة ، مادوت وباربرا لم تكن هناك فرصة للشكوى أو إبداء الحزن لأن كل شيء واضحاً لا يحتاج للبكاء على مواثيق جنيف . قال مادوت أنه لم يتوقع كل الذي عايشه وشاهده وسمعه ولمسه .
    ردت سارَّة بهدوء :
    - ليست الحياة عادلة تماماً .
    تناول الحديث مخاطباً مادوت .
    - ما هي قضيتكم بالضبط ؟
    - إتهام بعد التعاون مع الاجانب وتحريض السكان وتوزيع مواد تموينية دون استشارة السلطات المحلية التي تفضل أن تذهب للجنود.
    - والذي ينبغي أن يحدث في ظل الحروب والإرهاب ؟
    - لاشيء غير الذي حدث
    - ما الذي عليك فعله حتى نكمل إجراءات إطلاق سراحكما
    - لا شيء غير الصبر وانتظار الفرج.
    كان صوت الحارس يعلن إنتهاء المقابلة التي نجحت في التخفيف عن باربرا ومادوت وشرحت لووَّل ما يحدث بالضبط
    عاد ووَّل وسارَّة إلى مريَّال وهما يعرفان ماذا يفعلان لمساندة باربرا ومادوت فتحت الضغط الشعبي تم ترحيل مادوت وباربرا ضمن مجموعة كبيرة من الذين فرضت عليهم الإقامة الجبرية من غندكرو إلى مريَّال فبعد إعادة التحقيق في القضية أُطلق ساح باربرا ومادوت بعد أن أُسقطت عنهم التهم الموجه إليهم بعد أن أكد القاضي إنسانية وطوعية نشاطهما . برغم قرار المحكمة ظل مادوت وباربرا تحت الإقامة الجبرية إلى حين إكمال الفحص الأمني الذي تجريه السلطات الأمنية المحلية ، في ظهر أحد الأيام رن جرس الهاتف في منزل الدكتور ووَّل فرفعت سماعة الهاتف سارَّة :
    - أهلاً وسهلاً هذا منزل الدكتور ووَّل
    - ليّ أن أتحدث للدكتور
    - الدكتور في الجامعة الآن هل من خدمة يمكن أن أقوم بها نيابة عنه أنا زوجته ؟
    - أنا صديق قديم يهمني أن يعلم أن مادوت وزوجته أطلق سراحهما
    - هل أنت متأكد مما تقول
    - كل التأكيد
    - كيف عرفت بإطلاق سراحهما
    - لقد إلتقيتهم بعد أن تجاوزا البوابات الأمنية ولولا بعض الصعوبات لكنت حملتهم للدكتور ووَّل
    - من أنت؟
    لا يهم المهم أن يعلم الدكتور أن هناك فاعل خير قد أزف لكم البشرى
    - أطمئن الدكتور سيكون على علم .

    ************



    من حق المتصفح لهذه الكتابة أن نطلعه على المهمة الأصعب التي واجهتنا ونحن نعالج المادة الخام التي جمعها حسن النور إلا وهي إبراز روح كتابات حسن النور ليصبح السد هو الوسيط أو الجسر بين تجارب الشخصيات وذكرياتهم وانفعالاتهم وعواطفهم حتى يلعب تفجر التجارب الشخصية وواقع ما في مريَّال وما شهده من تبدل البذرة في أطوار تغيرها المختلفة لتصبح شجرة وارفة الظلال فقد كانت المادة جبال التوتر متداخلة مركبة لهذا إستعصى علينا تفريغها كلها هنا لأننا لا نرغب في تعميق الصدمة بالتوتر نجحنا عن عمد بإصرار جاد في كثير من أجزاء تلك المادة حتى نعطي الذين يشاركونا تصفحها صورة مفعمة بالحيوية لهذا أثرنا ألا ننقل كل الحياة المروية عن جبال التوتر تخفيفاً للألم واستلهاماً للأمل بابتعادنا عن تكرار السلوك الموغل في بدائيته الذي إحتشدت به المادة التي جمعها حسن النور بقية النأي عن قسوة التعبير المائل نحو أبراز الضياع والانحدار والهوان لأننا نقدر أن فطنة المتصفح كافية لإدراك الإشارات الخفية التي تكفي لآعلان طبيعة الأشياء باعتبار أن الكتابة تخفي أهوالاً أعمق مما هو مكتوب لا تغني عن حصافة المتصفح لأن ما تعرضه الكلمة المكتوبة كمسئولية أشد عمقاً وخطراً مما تلامسه ظواهر المفردات فإذا لم يتم التعامل معها بحساسية ترجع إلى طرق مسدودة ، نقصد أننا وجدنا صعوبة في مهمة تهذيب المادة الأصلية التي دونها حسن النور لأنها كانت تتعرض للمشاكل الحالية والماضية والمفترضة مستقبلاً وتبعاتها ورؤوسها .
    على نحو إثارت تسلط قوى كبرى، وتوهانات شعبية، وعثرات سلطوية وظروف انهيارات كلية وجزئية، فالحقيقة أن المادة التي جمعها حسن النور عجزت أن تسير في اتجاه البساطة والسلاسة لأنها قامت بترتيب الأزمات على إختلافها وتبوبها كما أنها ركزت كثيراً على القضايا الخلافية في المادة ونحن في صياغتنا لجبال التوتر تعترف أنها محاولة محدودة ومتفاعلة ومؤثرة في النظر لملامح المستقبل لهذا رأينا مصائر شخصيات جبال التوتر التي تعرضنا لها يجب الا تكون تكرار .
    من حق المتصفح لجبال التوتر أن نعترف أمامه أن ما دفعنا إلى إعادة بناء المادة التي جمعها حسن النور إعتقادنا بأنها أضاعت جهداً ، ووقتاً عظيمين في تغليب النظرة المستبقة لحسن النور شخصياً على باقي مقومات وعناصر بناء النص فكان لازماً علينا معالجتها بتجاوز الإطناب الذي إحتشي به النص ،والوصف السريالي لمريَّال، والتركيز على الزمان والمكان المحددين، كذلك الالتزام بالإشارات المحفزة على إدراك حقيقة الشخوص وواقعيتهم، بإبراز تفاصيل حركتهم في المكان الموضوعي لم تهتم المدونة بأعمال الخيال بالقدر الكافي مما أظهر النص تقريراً لأجل هذا كله ولغيره تجاوزناه بإدخال المخيلة كعنصر مع إلغاء الزمان والمكان والجغرافية والتاريخ بغية نقل النص إلى فضاء الأدب مع الاحتفاظ بالملامح الخاصة لمريَّال لكي لا تضيع الخصوصية كما أردنا القفز نحو المستقبل لأننا نرى المادة التي جمعها حسن النور راسخة في الحنين غير السوي للماضي ـ النستولجيا ـ بادعائها تخلف الحاضر عن الماضي وغموض المستقبل ودورانها حول تراجع الحقوق الإنسانية ... لم نهتم باستطراد المادة الأولي لأننا نفترض أنه يدمر جمالية العمل ويحرمه فرصة التخلق كأدب ، بفعلنا ذاك ربما أخفقنا إلى حد ما في إبراز لوعة الألم وإظهار التطور النفسي للشخوص الذين يعانون قسوته أو يوفقون أوضاعهم فيه لأسباب تتعلق بالابتعاد عن الملل والرتابة فتكرار ما هو يومي بما هو يومي يفسد المتعة واللذة ويحدث حالة من اللزوجة التي لا تراعي التنوع في المادة والموضوعات يعقد تصنيف الكتابة ككتابة لهذا أثرنا في المادة كتابة جبال التوتر نوعاً ما لتعلق الشخصيات نفسها مع تمسكنا القصدي إلا تلتزم تماماً بحدود عرقية ـ قوميةـ وطنية على الرغم من إهتمامنا بكل ذلك لكي يضفي نكهة جمالية نأثر التحفظ فيها لأننا نعتقد أن كل تلك كعلاقات هي في الأصل شخصية وليست مجتمعية لأنها لا تقدم أساس الروابط التي تتخذ دنيا مجازية. ترى ضرورتها وأهميتها لبناء الجسور بين التعدد والتراث وكذلك الجسور بين العوالم المتباينة والمتشابهة. لا ندعي أن جبال التوتر تمثل جسوراً للتواصل لكننا نعتقد أنها نبضه لا تلتزم بميراث الدم بل تتصالح إلى أقصى مدى مع عمليات التدفق المتبادل . لا أستطيع أن أصنف جبال التوتر ككتابة لكن إصر أنها كنص لا يعدم التراث بل ترى أنه مهم ، ليس لإبراز الخصائص الذاتية للأشخاص والمجتمعات بل لأن التراث يبلغ ما يفعله الأشخاص بالوسائل والأدوات التي يتقبلونها من استلهامهم للماضي الجمعي من أجل التواصل والاندماج في إثراء الحياة فهذه الكتابة لا تناول التراث كقاعدة حركه للخلف بل كزفرة رجاء إلى الأمام لإقامة صلات وعلاقات أبعد من الحدود بالتحدث عن نقطة اكبر حول التنوع في تجديد وجهتنا من الصور المجازية والمحسوسة في متابعة تعلق النمو الموضوعي للأشخاص داخل النص تمثلت في إصرار حسن النور على جعل الإنجاب رمزاً للمستقبل وانتظار الإنجاب مجازاً للاحتفال وكثافة التوتر فقد رأينا أن تقبل مجموعة متنوعة من وجهات النظر تشير إلى قابلية التحرك ابعد من المحسوس ولا تجمع في التعاطي مع الخيال . ضمت كتابات حسن النور نهاية ما تمثل رغبة الدكتورة سارَّة وزوجها ووَّل بانتفاضه رأينا أنها مخلة بتماسك بالنص لافتقارها للدلالات الخادمة لفكرة حية في النص، ولأنها تعمق المجازية والرمزية مما يجعل النص يتلبس حالة من الغموض كما تقود إلى التشويش لأنها لا تترك شيء يمكن أن يتصوره المتصفح للكتابة، لكي تقدم دليل على ما نقول لابد أن نعرض مقطعاً نموذجياً للحالة الموصوفة ولكي يفهم المتصفح للنص لماذا أهملنا عشرات المقاطع والفقرات المختلفة أو المشابهة التي تقود للإرباك فعلنا ذلك لمصلحة النص لكي يجد حظه من التفاهم الضروري مع متصفحه ركزنا على النشاطات العادية والأمور التي لها رنين في إثراء النص بعيداً عن الاحتفال بالغموض المجازي والرمزي :
    (.. تعلم أنني أحاور نفسي لأواسيها لعدم إنجابي من يشاركني حوا ري لنفسي مخرجي من عزلتي ، لا أحد يستطيع هدم كهف عزلتي إلا طفل أو طفلة تخرج من أحشائي وتشاركني كل شيء طال هذا الرجاء الفردي كحوار عميق في وجدان سارَّة حول الأمومة هدف حياتي ، هي أمنياتي التي لا أتجرأ الإفصاح بها فهي ليست سوى حلم فأنا لا احتمل الوحدة واراني أكبر في السن وتضيق فرصتي في إنجاب من يسمع حديثي لقد قبلت حظي وما زلت أحيا بخيالي انتظاراً لحدوث معجزة ميلاد طفل . لم أعد أميز بين ما هو واقعي وما هو خيالي إذا كنت أنا نفسي غير قادرة على التميز بين ما عشته وما الم بي من انطباعات فإن ميلاد طفل سيميز بين تجربتي وخيالي ففي إثناء ترحالي تجمعت عندي كل لحظات السعادة والشقاء التي أود أن احكيها لشخص يخرج مني، يشبهني تماماً ولا يكرر أخطائي وتستوعب نجاحاتي )
    كان ذلك ما يدور في داخل سارَّة وهي تتعرض لتجربة إحتمال إنتظار نتائج الفحوصات التي خضعت لها مؤخراً ، فطبيب النساء كان يعتقد في إحتمال أن رحم سارة يحمل جنيناً لهذا أجرى لها تلك الفحوصات المعقدة ليتأكد،سارّه قامت بالفحوصات دون مشاعر تجاهها كإجراء روتيني كانت المفاجأة بعد بأن أظهرت نتائج العينة الأولى فقد أكدت ايجابية الحمل لهذا كان على سارَّة الانتظار بمشاعر جديدة ايجابية . لم تشارك سارَّة ووَّل برأي الطبيب في البداية لأن ووَّل كان منشغلاً بقضية مادوت ظلت سارَّة تتكتم على خبر ما في رحمها خشية خيبة الأمل .
    بعد مضي الشهور الأولى كان ووَّل تجاوز أزمة مادوت وباربرا وإنتبه تماماً للتبدل في سلوك سارَة التي لم يسعها الاستمرار في كتمان خبر مهم كان ينتظره ووَّل منذ إرتباطهما . نسي ووَّل متابعة سارًّة على كتمانها الخبر السار في غمرة فرحته بتحقيق حلمه , أمضى ووَّل الليالي ساهراً على سارَّة يحكي لها الحكايات ويؤانسها بالطرف والحكايات لأنه يعتقد بأن الحالة النفسية للأم في أشهر الحمل تنعكس على سلوك المولود مستقبلاً . الحقيقة التي لا جدال حولها أن ووَّل تجاوز أحزانه وكل المشكلات التي كانت تسيطر عليه فأضحى همه إنتظار المولود المنتظر لعقود في أحلامه . كان ووَّل يذهب مع سارَّة لمعارض التسوق لشراء ضروريات فقد أعد له غرفه مجهزة من كل شيء فقد اهتما بكل شيء بعد أن ظهر الحمل واقعاً لا تخطئه أعين الناظرين استولت على سارَّة رغبة عارمة في مشاركة كل من حولها بأسباب الرجاء الذي فيها كانت تفعل ذلك بالكلام وأيضاً من خلال إهتمامها بمظهرها فالحق يقال :
    إن سارَّة غطت وجهها بنضرة خاصة وحيوية ظاهرة لم تعرف بها من قبل، شهد بذلك كل من يعرفها وكانت تؤكد أنها وجدت شهوة قلبها وأنها تنتظر إكتمال تحقق أمنيتها . كان ووَّل يعتقد أن إدراك السعادة التي يرجوها هو معجزة بعد أن فقد الرجاء لذلك شاركه أقاربه وأحبائه على طول وعرض مريَّال . في الشهر السابع أعد ووَّل حفلاً شاركه فيه الأهل والأصدقاء وبعض النقوك. ظل ووَّل تحت سلطان قهر القلق طوال أشهر حمل سارَّة ففي لحظة الانتقال لمستشفى الولادة إستبد به القلق وكاد أن يفقد أعصابه لولا أنه يدرك أثر ذلك على سارَّة فمصدر قلق ووَّل أن سارة تحمل في رحمها توأم ولا خيار سوى العملية القيصرية ذلك لإنتفاء إحتمال الولادة الطبيعية . كانت سارَّة في غرفة العمليات تستعد لإجراء العملية برغم ذلك تتبادل النكات القفاشات مع باربرا . في خارج غرفة العمليات كان ووَّل مركزاً على الباب الرئيسي للغرفة تركيزاً لم يعهده في نفسه فبعد نصف ساعة خرج الطبيب في وجهه البشر والسرور دون أن يقول شيء أطلقت النسوة زغاريد الفرح ثم نطق كلمته التي انتظرها ووَّل طويلاً :
    - مبروك مبروك رزقتم بتوأم
    - شكراً لله، وشكراً لك ولكن ما هو حال سارَّة
    - في أحسن حال
    - هل ليّ أن اراها
    - بعد نصف ساعة تستطيع أن ترى سارَّة أما الطفلان ستجرى لهما عملية عاجلة فهما ملتصقان من الأطراف .
    - هل عملية الفصل خطرة على حياتهما
    - لا خطورة، العلم حل الصعوبات نسبة نجاح العملية ألف في المية .
    بنظرة فاحصة للنموذج السابق يعرف المتصفح أننا عالجنا كتابة حسن النور خلال نظرة عادية بسيط تبتعد عن التعقيد لفهمها الذي نريد به المشاركة به غيرنا فالعالم قرية واحدة لذلك لم نحاول العمل في النص أو الاستسلام للكلام الزائد الذي كانت تحتويه المدونات لأنه لا يمكن النظر المآسي بمعزل عن تغلب الناس على المعاناة فالحقيقة أننا عندما اشتغلنا بأدواتنا البسيطة في المادة التي جمعها حسن النور كنا نعتبر هذه الاشتغال بها مجرد وسيلة لفهم طبيعة ما يحيط بنا لكننا الآن نعرف أنها نافذة للمشاركة مع آخرين مسكونون بذات الهموم التي تسيطر علينا وعبرنا عنها من خلال جبال التوتر من أجل ذلك كان لابد من إبراز ملاحظة أخيرة عن عملية معالجة هذا النص من طور أنه مادة خام حتى أخذ هذا الشكل : هي أننا حرصنا على تخليص هذا النص من كل الزيادات الكلامية المعممة والمفردات المطاطة على نحو ما جاء في مادة حسن النور الخام :
    (.. هكذا بدء وهج الشمس واضحاً في نظرات ووَّل كما بدت له مريَّال مختلفة عن مريَّال القديمة ـ مريَّال التي عاد إليها من أوتاوا إذا أنه وجد لأول مره مريَّال التي أنجب فيها أولاده من صلبه. هنا تيقن ووَّل أن الرجاء قادر على تغير نظرات الناس . فيجعلهم يتنفسون هواء عليل نقي صافي . فقد لاحظ ووَّل أن ميلاد التوأم فجر في أعماقه فجراً صادقاً أنهى التوهان في غياهب انتظار الأمل والأماني المستحيلة ليطل الهناء في الإقبال على الحياة بقلبٍ صادقٍ وضميرٍ نقي مؤمن بالفعل المباشر الذي هو عنصر تحقق الأمان).
    تكيف ووَّل وسارَّة مع مريَّال وتجاوزا معاناة صعوبات الإندماج في الدنيا الجديدة ولم تعد تهمهما تبدلات مريَّال ولا متاريس التفاصيل اليومية وأثرها كما حالهما في السابق ولم يهتما بعد لضعف إيقاع مريَّال فكرسا جهدهما لتفاصيل الأسرة التي أحدت تتمدد وتتسع في إتجاهات دائرية غير مكرره لهواجس النقوك، يبدو ليّ ان ووَّل وسارَّة وجدا جسر العبور من جبال التور برغم ذلك لا استطيع أن اقول أنهما تخطيا كلياً قسوة اتون النار .




    ************




    نوفمبر 1999- نوفمبر 2007


    وادي سيدنا ـ أم درمان

    حاتم بابكر عوض الكريم
                  

03-23-2009, 02:38 PM

فتحي البحيري
<aفتحي البحيري
تاريخ التسجيل: 02-14-2003
مجموع المشاركات: 19109

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: إلى صلاح عوض الله وآخرين : نص هيأه صاحبه للنشر .. والنقد (Re: فتحي البحيري)

    Quote:

    صديقي وحبيبي صلاح الدين هوض الله
    المجد للقلوب الواعدة بالأماني
    وأنا أقطف في الغد الآتي أولى الثمرات من كرمتي رأيت أهمية رأيك في مذاق خمرها "جبال التوتر". الحق ... يسعدني تعليقك قبل أن تتحول إلى الورق . اشتهي كوستي ... أرجوك افتح الموبايل فقد حاولته مراراً .. أنا في حوجة للاتصال بك
    صديقي صلاح

    دمت ذخرا لنا
    أخوك حاتم بابكر عوض الكريم

                  

03-25-2009, 03:56 PM

salah awad allah
<asalah awad allah
تاريخ التسجيل: 07-15-2007
مجموع المشاركات: 2298

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: إلى صلاح عوض الله وآخرين : نص هيأه صاحبه للنشر .. والنقد (Re: فتحي البحيري)

    شكراً حاتم وبحيرى ... وأنتم تحملونى هذا العبء الجميل
    فى بداية الفصل الثانى للمنبر سوف أنشر بعض من رؤى نقديه
    آمل ان تلامس الكهوف السريه للنص ( جبال التوتر ).. وإن غصت هناك فى
    دهاليزه الخفيه .. فأنتشلونى .. من اليم ؟؟؟ لكم محبتى
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de