غنوات لحليوة: محمد طه القدال - تأمّل فى معنى القصيد: المقال الكامل

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-25-2024, 04:16 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الاول للعام 2009م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
01-14-2009, 11:54 AM

abdelmoniem ali

تاريخ التسجيل: 02-13-2007
مجموع المشاركات: 35

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
غنوات لحليوة: محمد طه القدال - تأمّل فى معنى القصيد: المقال الكامل

    مقدّمة:
    ولدت الكراسة الأولى من شعر الأستاذ محمد طه القدال بعد طول انتظارٍ من محبّيه وهى ليست بأفضل شعره ولكنّها أشهره. وأذكر أنّنى سمعت قصيدة حليوة على شاطئ النيل الأزرق بقرية الجديد عمران بعد عودتى من مصر الحبيبة عام 1977، ونحن نبلُّ الشوق ونغتسل من عناء افتراقنا وسفرنا ، الذى لم ولن ينته ، بالشعر ونيل الفردوس. يسمعنى ما عنده وأسمعه ما عندى ، وعندها تبيّن لى أنّ أخى أعمق موهبة وأعلى منـزلة وأوضح رؤية وأنضج تجربة منّى ، وأنا استطعم ما أسمع وتأخذنى الدهشة ترفعنى وتضعنى وتهزّنى ذات اليمين وذات الشمال ، والصوت الجميل ، ببحّته الدافئة وعمقه المؤثّر يتدفّق كمويجات نهرنا الخالد وينفض عنّى غبار الغربة ويغسلنى من وعثائها ويدثّرنى بدفء العشيرة ، فقلت له ما معناه: "لا يحقّ لك الصمت والشحّ بما عندك فغرّد كما شئت أو كما شاء لك الهوى" ففعل.

    وأقرّ أنّنى ، طيلة الأعوام السابقة ، ظننت أنّه كتب قصيدة حليوة بعد عام 1975 عندما قلعت خيمتى ونشدت داراً أوسع وأطيب مقاماً ، دعوته وألححت عليه أن نترافق إليها ولكنّه أبى ومنعه ما أراد الله لكلينا ، فقد ضقنا بدراسة الطب وفضّلت، فعل العاجز والجبان، أن ألوّن مشواره وأخّفف طعمه بمزجه بصحبة الأخيار فى قاهرة المعز والتزوّد من طيّبات بحرها العظيم ولو أنّنا ، وأقول أنّنا ، لم نتزوّد منها بغير الخال عبدالرحمن الأبنودى وسامى عبدالقوى لكفى ولكنّها أكرمتنا بصداقتهما، كما هو حالها وزادت فى العطاء واختار القدّال طريق الأدب فأفلح وحلّق بجناحى العبقرية والشجاعة.
    ولم استغرب ، وأنا أتصفّح كراسته الأولى التى أخذت أكثر من 30 عاماً لتُزف، عندما اتّضح لى أنّ حليوة ولدت عروساً بكامل "هقيتها" عام 1973 فهاهو تواضعه كلّفنا فقداً عزيزاً وكلّفه اعترافاً منّا جميعاً ، وهذا يقين يشاركنى فيه العديد ممّن هو أكثر دراية بدروب الأدب ، بأنّه أشعر من كتب مزجاً للعامية والعربية الفصحى بالسودان فى ذاكرتنا الحيّة.

    كلام الرتينة بت سالم ولد عتمان فى حنّة على الشاشوق :
    "بـنَيَّـة
    بِـنَيَّة لى سالم ولد عِتمان ،
    صلاة الزين
    وسَمّوها الرَتينة
    أُمَّها بت عَلِي الخَمْجَان
    خَرِيفْ الرَّازَّة ، عِزِّينَا
    كُبَارْ الحِلّة أبَّاتا ،
    بُكَارْ الحِلة أُمَّاتا "
    أبدأ بأقدم قصائد الكراسة وهى كتبت فى عام 1971 ممّا يعنى أنها كُتبت والقدّال قد خطا من المراهقة إلى بداية النضوج. ولربّما كُتبت القصيدة عن تجربة تسبق ذلك الزّمان ولذا توهّجت فيها العاطفة والتّفاؤل والانتصار ، بلا قيدٍ ، لا كما توحى قصائده اللاّحقة.
    واختيار الإسم هو قصيدة فرِحةٌ فى ذاته ولمن يعى معانى ودلالات المفردات متعةٌ خالصة تعمّدك بالضّحك. فالرتينة هو اسمٌ شاع فى القرى لمن تسبق قريناتها جمالاً وبديهةً ورزانة ، فهو ليس وصفاً لشكلٍ أو طبعٍ فقط ، بل لمكانة اجتماعيّة تضعها فى أعلى السلّم الاجتماعى يتنافس دونها فتيان القرية ومن يفوز بها يتبّوأ عرش الفروسيّة والنّصر.
    والرتينة كما عرّفها المعجم الوسيط ، لمن لا يعلم معناها من الأجيال الشّابة أو من أهل المدن من نعموا بالكهرباء وولدوا فى المشافى ، هى نسيجٌ مشبّعٌ بأكاسيد الثريوم يولد فى المصباح ضوءاً ساطعاً ، ومصدرها من الكلمة الأعجمية "رَتِنَا" وهى الشبكيّة فى قاع العين التى فيها خلايا الضوء وقد كان علماء الماضى يظنّون أنّ الضوء يصدر من العين ، وقد كانت وما تزال فى بعض القرى ، علامة الأفراح والأتراح فى القرى فى لياليها إن أولموا أو شيّعوا أو داهمهم الفيضان أو ضاع منهم شىء. ولها طقوسٌ يتسابق إليها الشباب للفوز بتنظيفها وتلميعها وملئها بالكحول (السبيرتو) وربط النسيج على أعلى عمودها ومن ثمّ نفخها حتى تفحُّ فحيحاً كالثعبانِ الغاضب ، وحين ذاك توقد فيها النار فيتلوّن اللّهب إلى ازرقاقٍ سماوىٍّ ، واصفرارٍ عابرٍ ، وحمرة مشاغبة حتى يحترق النسيج وتهسُّ هسيساً ، وحينها يشفُّ عن شبكةٍ رقيقة يكاد ينتفى الحاجز بينها وبين هالة الضوء للدّانى ولا يرى منها القاصى غير النور تدعمه زجاجة مستديرة.
    وكما توضع الفتاة الرتينة فى أعلى مكانٍ فى قلوب النّاس فتتطلّع إليها كالفراش يجذبهم ضياؤها ، كذلك توضع الرتينة على مقعدٍ عالٍ ذى ثلاث شعب بحذرٍ عظيمٍ ، إذ أنّ أقلّ ارتجاجٍ يفتّت نسيج شبكتها رميماً ، فتلاحق اللعنات الجانى. وكم ذكّرتنى معاملة الرتينة والقربى العبقريّة التى مزج بها أهل القرى بينها وبين أحلى الحسان بقول المصطفى (ص) عندما يصف النّساء بالقوارير ويوصى بالرفق بهنّ.
    وفى قصيدة مدينة من تراب لعليّ المك رحمه الله وأحسن إليه ، والتى أهداها لبابلو نيرودا ، يقول:
    "حبيبتى تحب نفسها
    اسمها فى الحارة المصباح
    وأمها تناديها: قمر"
    فاختيار الرمز (الرتينة) يفتّق فى الذاكرة رموزاً ومعانٍ تدفع بعضها البعض ، وتمسك بمعاصمها وتولّد فى الخيال رؤىً وتجارب ومشاعر تحتفظ بحرارتها رغم تداول السنين.
    فشيخى محمد المكى إبراهيم خلّدها وجعلها رمزاً للإلفة والدفء حين نزل فى الخرطوم بلا استقبال:
    "ونزلنا فى الخرطوم بلا استقبال
    فتذكّرت الحشد المتدافع فى إحدى السندات
    برتينتهم وقفوا فى وجه الريح"
    فهذه الرتينة ابنة سالم ولد عتمان ولا نريد اسماً أو وصفاً آخر فهى علم على رأسها نار مثلما الأخرى ، والسالم لا يلد إلاّ سالمة من كلّ شىء ، لاشية فيها تسرُّ الناظرين. والعجيب في القرى أن أيما فتاة تكنى بالرتينة يكون اسمها أصلاً فاطمة وليس غيرها ومن هذا نستشفّ أنّ محبوبة القدال اسمها فاطمة بنت سالم بن عتمان ولربما سمّيت على جدّتها وهى اسم على مسمّى فهى مفطومة على العزِّ والخلق الطيّب.
    وتمعّن فى تخفيف اسم عِتمان بدلاً من عُثمان! فاسم عِتمان يستخدم فى أوسط السودان وشماله وحتى صعيد مصر وهنالك قرية بسوريا تعرف بقرية عتمان والإسم فيه رقّة وعذوبة تشى بحنّية المسمّى والتحبّب إليه. وعندما ينسب الإبن لأبيه فهو إمّا دليل شغفٍ أو قرفٍ ولا شىء بينهما ، ولذا لزم تثليث الإسم فى هذه الحالة حتى نعى جيداً دلالة الأصل والفصل لمن تتكلّم ونأخذه مأخذ الجدّ. فمجرّد قولها استلزم قصيدة تخلّده ولا يمكن لنا أن نفصل بين الكلام والمقام الذى حدث فيه موقف المصارحة ، فهناك الغنى الكامل للمعنى ولذا وجب التنويه على أنّه حدث فى "حنّة على الشاشوق".

    والطقس الاحتفالى للحنّة غير ليلة الزفاف أو الدخلة ، فهو للشباب من الأصدقاء والأقارب دون الشياب والأغراب إلا قليلاً. وفيها تودّ القلوب لو تلاقى قرين روحها فترقّ وتنفتح مسامها للعشق ، ويسرقها الأمل فيحملهم الحلم على جناحه يوهمهم بأنّ ساعة التلاق والعناق قد دنت ، فإذا هم فى تلك الليلة أحلى وأنضر وأبهج ، يضحكون بلا باعث فكاهة ، ويتقافزون حول العريس جذلى كحملان الخريف ، فى قلوبهم رفّة كما الشموع فى الحنّة ، وفى أرواحهم خفّةٌ ، والليل ساتر الأسرار ، ودفء الحميمية فى اكتمال يسرى فيه ويطوّقه فوح الطِّيب والحنّاء والمحلبيّة والسرّتية والضريرة ، (وفصيحها الذريرة ، وأهل السودان يقلبون الذال ضاداً مثلما سيرد فى القصيدة ككلمة ضراع التى أصلها ذراع أو ناضرة التى فصيحها ناذرة) ، فيسهل البوح والوصال ، والفتيات ناضرات متوهّجاتٍ كالأقمار ، وناضجات كالثمار وقت القطاف لمن يجد الجرأة فى قلبه والمال فى جيبه ومن لم يملك إلاّ قلباً ووجلاً يمدُّ اصبعاً للحنَّاء لمليكة فؤاده عساه أن يتوّج ليلته بلمسة وذكرى.
    واختيار اسم "عليّْ الشاشوق" تلقى الضوء على طبع السودانيين فى إطلاق أسماء الصحابة والألقاب الملائمة مثل ، كما ورد فى القصيدة، "عليّ الخمجان" ، حامد العولاق" ، "عامر المسكين" ، والشاشوق جزء من الشادوف فى النبرو ولعلّه اكتسب اللقب من عمله على الشادوف ، وهو دليل على ارتباط الناس بنهر النيل ، أو من أجل طبعه النشط أو الكريم الذى يروى ظمأ المحتاج إليه ، ومهما يكن فهو قد أفلح فجمع فتزوّج واحتفل الناس به.
    بهذا العنوان يهيئ القدال مستمعه وقارئه لعالم القصيدة وهو لا يبتعد كثيراً من القول الشعبى "الجواب بيعرفوهو من عنوانو" أو "علوانو" كما كان يقول أخى أبراهيم ود البحر رحمه الله وأحسن إليه.
    "بنية
    بنيّة لى سالم ولد عِتمان
    صلاة الزين
    وسموها الرتينة
    أمها بت على الخمجان .."
    بعد تنويه القدال فى العنوان على أهمية "كلام الرتينة"؛ يبدأ القصيدة بتعريفه لصاحبة الكلام. فكلمة "بنية" وصفٌ وتصغيرٌ محبّب يشى بيفاعة الفتاة ولينها ، ولذا فقد وصفها "بالبريـبة"، وهى الغض من النبات :
    "كذا البريـبة تبرِّد عينى"
    أى تقرّ بها عينى فلا تذهب لغيرها ، وهذا لا يعنى أنّها طفلة صغيرة ، ولكنّه طبع العرب فى التشبيب بالعذارى من شببن عن الطوق ولفتن النظر وأسرن القلوب مثلما قال امرؤ القيس : (تعلّق قلبى طفلة عربيّة). وقرن التعريف بها بالصلاة على المصطفى (ص) زين الخلق ليقيها شرّ العين وهو دعاء الأمّهات والجدّات إعجاباً لا تستحقه إلاّ زينة البنات:
    "وبتمرق زينة
    تبرق زينة"
    ومقطع "صلاة الزين" يدل على أنّ القدال اعتاد جلسات الأمهات "والحبوبات" وذاكرته الفوتغرافية تسجّل مفردات وجملاً وصوراً ستكوّن كنـزه اللغوى الخاص ينظم جواهره بعبقرية الفنّان المحقّق المدقّق الخلاّق.
    فهذه "البنيّة" من بنات سالم ، ولا بد أنّ له من البنات كثرٌ ، ولربّما أيضاً من النساء فهو الوحيد من الرجال الذى ذكر منسوباً إلى أبيه فى القصيدة ، فهناك "ود سعد" و "ود مجمّر" و"عليْ االخمجان" جدها لأمها ، وهو كريم معطاء كالخريف يأتي فتشبع الضعيفة من النعم، ومن يتزوج ابنة (عزِّينا) وهي بنت "عليْ الخمجان" فهو حرىٌّ بأن يكون مقتدراً ويتّسع داره وقلبه فيشمل أخريات.
    ولذا يوحى هذا التحديد لأمّها بأنّ له بنات من نساء أُخر ، أو لربما يريد أنّ أمّها نشأت فى حليةٍ وترفٍ ، مع أبٍ كريمٍ معطاءٍ كالخريف الذى تتشوّق له ضعاف الخلق فتتعزّى بظلّ سحابه الممطر من حرِّ قيظ الحياة وجفافها ، وبمائه وزرعه فتسمن فتستمرّ دورة الحياة:
    "أمها بت عليّ الخمجان
    خريف الرّازّة (الضعيفة يأتى عليها الخريف فتسمن) ، عزِّينا"
    وإذا كان هذا وضعه مع الآخرين فما باله مع أبنته ورفاهيتها وتنعّمها ودلالها أورثتهم لابنتها فهى عندما تخرج فهى فى ذات نفسها زينة ، (تمرق زينة) ، دعك عن زينتها الأخرى (تبرق زينة) فهى من بهائها كالكوكب الدّرىّ ، وليس هناك أكمل من زينة العقل (وقارية وكاتبة تحمد سيدا .. ماخدة على البنيات الشرافة) ، وأَشْرَفَ الشيءُ: علا وارتفع أو البرنجى وتعنى الأولّ أو الأفضل ومنها السجائر السودانية البرنجى وقد وردت فى قصة الحاردلو عندما واعد حبيبته ولكن سرقه النوم فحضرت وأخذت عصاه فداعبه عدلان ود عبدالله وهما فى مجلس:
    "جـيب قـاف المطيـرق خـلّنا النتسـلى
    نتجادعبو فى مـجلـس أخوك عـبـدالله
    اضـحك وانبسط خلْ فـاطـرك اللّنـحلَّ
    مى مسروقة أصلهـا عـند بـرنـجى الحلَّه"

    والرسم (تمشى تهاتى وزينة .. بلا الربعة التحجِّل ، شاكية من شبكة كتافا .. وفوق الجيد .. على ضهر البوادى .. تغنى ما خاتية الزرافة .. بسيمها الودعة ، إلا تزيد لطافة) والطبع (كلامها رصين .. ملامها حنين .. مقدم زوقها قبّال الحصافة .. كلامها حنين .. كلامها يطمّن الهمباتى .. والج.لوبة متعارض كتافا).
    وقد قدّم الزوق قبل الحصافة ولكن هل عنى القدال ذوق ولكنه كتبها كما ننطقها فى السودان بالزاى مثل أغنية "سليم الزوق" وهى من تذوق الأشياء فهى لها ذوق فى اختيار ملبسها وزينتها وكلامها ولكنه لو قصد "زوق" لما أخطأ فالمزوّق هو المزيَّن به والحصافة لا تصح إلاّ لجَيِّدَ الرأْيِ ومُحْكَم العقل وفى هذا التقديم عين العقل فهى فتاة تغلب عليها العاطفة وإن كانت ذات رأى حكيم ولكن العامة تفضّل الذوق والخلق الحسن على غيره.

    و(خمج) كلمة عربية فصيحة تعنى الفساد وسوء الثناء وأصلها يمانى ، ولعلّ فى ذلك دليلٌ للمشتغلين بعلم اللغويات على أصل بعض قبائل السودان أو على الأقل احتكاكهم بأهل اليمن السعيد ، وفى لسان العرب (رجلٌ مُخمَّجُ الأخلاق: فاسدها ، ) ونقول ذلك فى الأطفال وأيضاً يستخدم فى أواسط السودان فى ضوءٍ موجبٍ للرجل طائىّ الطبع.
    "كبار الحلّة أبّاتا
    بكار الحلّة أمّاتا"
    الجميل مطلوب القرب ومرغوب وهو طبع بشرى معهود ، فنحن ننسب أنفسنا بالقربى أو النسب أو الصداقة لمن نرى أنّ فى معرفته أو معرفتها منفعة وزينة لنا بل ونسعى لها.

    "وبتمرق زينة
    تبرق زينة
    تمشى تهاتى وزينة
    بلا الربعة التحجِّل
    شاكية من شبكة كتافا"
    ما زال القدال يعرّف هذه "البنية" بريشة الفنان المقتدر ويرسم لنا أبعاد زينتها الشكلية والاجتماعية والسلوكية والعاطفية والعقلية والروحية.
    فهى تخرج فى كامل زينتها وتمشى كالأوزة تهاتى ، وهتا الشىء هتواً أى كسره وطأً برجليه ، وهى أيضاً بمعنى أخذ أو أعطى ، ولا يفوت على فطنة القارئ أخذ مجامع قلوب من يراها وعطية المتعة لمن شاهدها.
    فالأوزة ، يتقدمها صدرها كراز السفين ، ترفع قدماً وتضع الآخر بتؤدة ، ولمن له معرفة طبية فإن هذه المشية دليل خلل عصبى فى المخيخ ولا أظن أن القدال قد عنى ذلك برغم خلفيته الطبية ، غير أن الرزانة مطلوبة للفتاة والخفة مستهجنة ، وتبرق ألوانها الجذابة فى ضوء الشمس كزينة العروس ، ويأتى تأكيد هذه "المشية" عندما يواصل الوصف:
    "بلا الربعة التحجِّل
    شاكية من شبكة كتافا"
    فكأنّها كالصبية من البقر بعد ولادتها مباشرة ، فالربعة أول النتاج فى الربيع من إناث الأنعام ، ولأنها إذا مشت ارتبعت أو ربعت أى وسعت خطوها ، وكذلك مشى الأوزة ، ولكن القدال يضيف ضربة أخرى بفرشاه فيتمّ الصورة عندما يصف هذه الصغيرة الفتية بالرباع من البقر وهي التي أزالت أربعاً من ثناياها الأمامية وهي تمشى وكأنّها قيدت ، والحجل مشى المقيد أو المتبختر ، والأحجال هى الخلاخيل والقيود ، وقد عادت عادة لبس الحجول ، بعدما اختفت وعُدّت علامة تخلف ، وإن كانت قد اتخذت أشكالاً أخرى غير الفضة والذهب.
    وبلاغة الفتاة السودانية مُؤرخةٌ وهى تغنى للأفندى أن يأخذها معه أينما ذهب فى تنقلاته فى أرجاء الوطن ، حين كان للأفندى قيمة اجتماعية ومكانة مرموقة ، قبل أن تتضعضع الخدمة المدنية وتتقلص الطبقة الوسطى ، وعندما كان الوطن آمناً أينما ذهبوا ، وما يزال صوت أمير العود حسن عطية يشدو ويذكرنا بذلك الماضى ، جميلاً كان أم لم يكن فهو جزء من تاريخنا :
    "الحجل بالرجل يا الافندى سوقنى معاك".
    ويختتم القدال الوصف الشكلى مغرّداً :
    "شاكية من شبكة كتافا
    وفوق الجيد
    على ضهر البوادى
    تغنى ما خاتية الزرافة"
    فتكرار حرفى الشين والكاف يخلق موسيقى داخلية وجناساً لا يخل بنقله لبلاغة المعنى بل يزيده قوة وبيانا ، فهى تشتكى من طول وكثافة شعرها كالشبكة على أكتافها وعلى جيدها ، ولن تكون مخطئاً إذا شبهتها ، من طول عنقها ، وهى علامة حسن ، بالزرافة على ظهر البادية. والزرافة تتغنى بجيد المحبوبة لا العكس ولا ضير إن تغنت الزرافة.
    فهذه غنائية عذبة تستمد قيمها الجمالية من الذوق السائد فى ذلك الزمان ، ولربما اختلف التشبيه لو كانت القصيدة قد كتبت اليوم فمن المرجح أن يصف "بنيته" بالرشيقة الخفيفة الحركة ولكن لكل زمان مقال ومهما يكن فالقصيدة عليها "صلاة الزين ودقر يا عين".
    وهذا المنهج الذى اتّخذه القدال فى يفاعه إنّما اعتمد على البديهة الشعرية ، قبل اكتمال المعرفة بالمناهج الأخرى التى تتيسر للمبدع بعد احتكاكه بالمبدعين ، وقراءة المراجع ، وغنى التجربة ولكنّه لا يقلّ بصيرة عنه. فالمعروف علمياً أن مرحلة البديهة أو الفطرة، المعتمدة على المرجع الاجتماعى السابق والسائد وقتها ، لها نفس العمق والوضوح بمرحلة المعلّم ، وتقع بينهما مرحلتى أنصاف المتعلمين والخبراء.
    فالمعلّم من يدرى أنّه يدرى ويتفكّر أثناء وبعد العمل وما ينتجه مرئى بعينى البصيرة والبصر وقائم على ومدعوم بالحقائق والقرائن. أمّا نصف المتعلّم فهو الذى فقد بوصلة البديهة ولا يملك أدوات الخبير بعد ، بينما الخبير يمتلك أدواتٍ عدّة ويؤدى عملاً جيّداً ولكنّه عند الانتاج يعتمد على اللاّوعى أو ما قبل الوعى ، ولذا يظلّ حبيساً فى قوالب معينة يكررها بدون رؤية كاملة تمكنه من كسر الطوق ، والإبداع بوعىٍ كاملٍ مكتشفاً قمماً جديدةً وأعماقاً فريدةً تدهش من يراها والمثل لمثل هذا المبدع تجده فى بابلو نيرودا أو محمد عبدالحى حال المعلم.
    وارتباط القدال بمجتمعه وعيشه فيه واختلاطه به ينعكس فى تأثّره بهذا الوسط وتأثيره فيه. فاختيار مفرداتٍ ومواقف بعينها ، تعتمد على الواقع وكيفية التعبير فيه ، مثل شعر البادية المعروف بالدوبيت ، تؤكد ارتباط القدال بهذا المجتمع وتؤصّل لجذوره الاجتماعية والشعرية وتضعه فى خانة المبدع المتصل بأهله والمنتمى إليهم منذ بداياته ، حتى وإن كان ذلك فى قصيدة عاطفية. فالذى لا جذور له لا عراقة له ولا رؤيا. لذا فقد أفلح القدال فى تحويل الكلام السماعى إلى صورٍ مرئية ومعانٍ واضحة ومخفية. وعندما خلق المولى عزّ وجلّ السمع والبصر والفؤاد بهذا الترتيب لم يكن إلاّ تنبيهاً لنا أنّ من سمع ولم ير لم ولن يفهم. فالأفئدة هى المخ والقلب وكلاهما له منهج للبصر والعقل يقوم على التفكّر فى معانى الاستقبال السمعى والبصرى واللمسى والشمّى والتذوقى واستنتاج النتائج والعمل بها تفاعلاً مع المجتمع.
    وبهذا الحس المرهف ، والموهبة الفذة ، وتفتّح مداركه على الجانب الآخر من واقعه ، بعد أن سقطت ورقة التوت الرومانسية عن بصره وانفتحت أبواب بصيرته على واقعٍ آخر ، لم يجتهد كثيراً ليعبّر به فهو لم يكن أبداً مبدعاً فوقياً يكتب من وراء فاصل زجاجىّ ولكنّه كان يتقاسم اللقمة ، وعرق الكفاح والأفراح والأتراح مع أهله ولكنّه اكتشف لاحقاً أنّ العالم ليس حليوة فقط وإنما كلّ العالم حليوة ، ولذا فقد زادت بردته طولاً وعرضاً فطوى العالم تحتها يهبه نفس الدفء الإنسانى النابع من قلبه.
    فهو يكتب من وليس عن واقعه الذى ينتمى إليه ومن داخله وداخل رؤيته له ، لا كما فعل بعض المبدعون الأوائل فكتبوا عن الفتاة السودانية يصفون خدودها بحمرة المغيب وشفاهها بورق الورود وفى مثال شوقى وحافظ فى مصر أوضح مثال.
    ويتضح من منهجة مطابقته للشعر الشعبى ومغايرته له فى نفس اللحظة. فالشعر الشعبى اعتمد على الدوبيت فى البادية والحضر ، وإن غاير شعراء الحضر النمط قليلاً فجاءت قصائد ما يسمى بأغانى الحقيبة ، وإن كان الشعر قديماً فى شكله معتمداً على العمود والقافية والوصف الحسّى للفتاة التى لم يكن متاحاً رؤيتها ، ولكن المسرحيات الشعرية احتفظت بشكل الدوبيت مثل مسرحية با مسيكا وتاجوج والمحلّق فإبراهيم العبادى مثلاً ألّف مستخدماً الشكلين.
    ثم ظهرت ما يعرف بالقصيدة الحديثة ، التى اعتمدت على تعابير واضحة خفيفة تأخذ من واقع الأحداث ، بعدما اختلفت علاقة الفتيان بالفتيات وأصبحوا أكثر اختلاطاً وأصبحن أكثر تبرّجاً ونلن من الحرية فكان زمان التويست وتقليعات الشعر مثل "دردقنى فى النجيلة" والفساتين القصيرة ، ولكن نمط القصيدة لم يتغيّر كثيراً ، وإن كان مضمونها قد غاير ما قبله وهى أشبه تاريخياً بالموشحات الأندلسية عندما ظهر الترف وانتفت الحاجة ، ولكنّها ظلّت تكتب من طرف واحدٍ وهو طرف الشاعر الذى يلخّص نتاج تجربةٍ له بحبيبٍ له ولكنّنا لا نسمع الطرف الآخر وكانت معظم القصائد عن الهجر والبكاء وقلّت قصائد الفرح. وبرع فى هذا النوع من الشعر الأساتذة عبدالرحمن الريح وحسين بازرعة وحسن أبو العلا على سبيل المثال لا الحصر حتى وصول الأستاذ إسماعيل حسن ، الذى طور القصيدة السودانية عامّة والغنائية خاصّة فخطا بها خطوة إلى الأمام وركّز على البعدين الدرامى والاجتماعى دون الوصف الحسّى وبذلك كسر القالب المعهود المرتبط بما يعرف بحقيبة الفن. فانظر إلى قول إسماعيل حسن يصف "من الخارج" موقفاً درامياً بينه وبين حبيبته ، ولا يحدّثنا عن صفات هذه الحبيبة إلا وصفه لها بالطيبة مغفلاً عمداً هذا الطرق المعهود :
    "بعد إيه جيت تصالحنى بعد إيه؟
    بعد ما ودرت قلبى الكنت فيه
    جيت تشكى ليا ليه؟
    جيت تبكى ليا ليه؟"
    ثم يعرج إلى دراما ما حدث لها اجتماعياً:
    "ضيعوك .. ودّروك
    إنت ما بتعرف صليحك من عدوك
    استغلّوا الطيبة فى قلبك وبى اسم العواطف خدعوك
    حتى من كلمة حنانم وودادم حرموك
    الله ياخد ليك حقوقك ويجازى الظلموك".


    فهو ليس بنقلٍ للحوار الذى جرى بينه وبين محبوبه ولكنّه لوم له على التفريط فيه ، ومن ثمّ الرجوع إليه نادماً حيث لا تنفع الندامة. وكأنّ الشاعر يعزّى نفسه ويقتص لها من حبيب هجره وصدّق الآخرين ففيه نوع من التشفّى لما ذاقه من عذاب الهجر.
    وقد شاع فى ذلك الزمان أن الأستاذ إسماعيل حسن كتب عن قصة فتاةٍ حبلت سفاحاً بعد أن وعدها واحد من أثرياء القوم ما لم يستطع حبيبها أن يوفّره لها فهجرت حبيبها ولمّا قضى منها الثرى وطراً تركها فلجأت لحبيبها السابق ولكنّه تخلّى عنها أيضاً وحكى القصة للأستاذ إسماعيل حسن فتأثر وكتب عنها وشاع أيضاً أنّ الحبيب الهجور كان إسماعيل حسن وقد سألته يوماً عنها ، ونحن نتجوّل فى سوق أمدرمان وبمعيتنا الخال عبدالرحمن الأبنودى ومحمد عفيفى مطر ومحمد إبراهيم أبو سنّة ، فكان ردّه ضحكته الصافية المحبّبة ولمته ، بنـزق الشباب ، على ما أسميته "الإنهزامية والاستسلام" فى قصيدة المستحيل ، فانفعل وزجرنى قائلاً : "أسكت يا ولد يا شيوعى" ، ولم أعلم لى شيوعيةً تدثرنى من قبل ولا من بعد ولكن ، على ما أظن ، قصد "عادة أصدقائى اليساريين" بالتـزام جانب الثورة ورفض الاستسلام" ، رحمه الله وأحسن إليه .
    ثمّ يجىء زمان القدال وقد تشرّب الدوبيت وشاهد المسرحيات الشعرية ولا بد أنّه مثّلها وحفظ أغانى الحقبيتين القديمة والحديثة ، ولا يزال جيلنا يسمع صدى أغنية الأستاذ حمد الريح الشهيرة أطال الله عمره ومتّعه بالعافية:
    "إنتى كلّك زينة
    وعايمة كالوزينة
    ويحفظك مولاك"
    والتى عشقها الكل ، حتى أصحاب سيارات النقل جعلوا أبواق سياراتهم تحاكيها ، ولا زلت أذكر ، ونحن صغار نلعب "البلّى" أمام القرية فى عطلات الصيف ، الصوت المحبب "للبص الأحمر" أو "اللحمر" كما ينطقها أهلنا ، يعلن وصول أهلنا من "الخرتوم" ومعهم "حلاوة رغيف".
    وبالرغم من تأثر القدال بمجتمعه ، كما ذكرنا سابقاً ، فإنه لم يقلّده وإنما اقتبس منه وعجنه فى عجينة خاصة ، غير غافلين عن تطابق الوصفين بين أغنية الأستاذ حمد الريح والقدال ولم يلبث أن غنّى الأستاذ محمد وردى وا أسفاى عربون الصلح بينه وبين صديقه وشاعره إسماعيل حسن:
    "وا أسفاى
    وحاتكم إنتو وا أسفاى
    إذا ما شفت ناس سمحين
    يتاتو زى قدلة جنى الوزين"
    ولا أحسب أن القدال قد سمع بهذه القصيدة أو أن إسماعيل حسن قد سمع بقصيدة القدال وهو يصف حبيبته:
    "تمشى تهاتى وزينة
    بلا الربعة التحجِّل،
    شاكية من شبكة كتافا"
    فالتأتأة ، كما وصف إسماعيل حسن ، تعنى مشى الصبى الصغير ، وتغنّى الأمّهات أرجوزة للصغير فى وسط وشمال السودان تقول: "وليدنا تـاتـا .. اتنين تلاتة ، قدم الحمام ..زمن الفطام" ، بينما وصفها القدال بالمهاتاه ، والواضح أن المثالين يغلّبان الوصف الحسى للفتاة على كل شىء ، ولكن القدال طوّر القصيدة ومشى بها خطوتين للأمام ، أولاً بالتركيز على البعد الاجتماعى ، ولذا ابتدأ بالتعريف الاجتماعى لمحبوبته ولم يسمّها فهى مجرد "بنية" منسوبة لأبيها وأمها وجميع من فى القرية .
    ثم عرج على الوصف الحسّى بشكلٍ يخلق تفاعلاً بين هيئتها وحركتها وخلقها وفهمها ، مما يولّد حياة لا صورة جامدة ، ويتعدى بذلك الأبعاد الثلاثية للرسم مضمناً الرابع الحركى المسرحى أو السينمائى أيهما شئتم.
    ومن ثمّ أرفق الوصف بدرامية الحدث ، ولكنها درامية تخرجه من مجرد وصف إلى تعريف كامل يعتمد على تجاربه من واقعه ، كمشاهدة البقرة الوليدة ، وإضافة أبعادها الأخلاقية من طبعٍ جميلٍ ، وعقلٍ راجحٍ متفوّقاً بذلك على أستاذنا إسماعيل حسن ، رحمه الله وأحسن إليه. وقد اعتبر إسماعيل حسن أن القدال سيكون خليفته المنتظر ولكنه صار "الحوار الذى غلب شيخه". فضمون قصيدة القدال تماثل قصيدة صدفة ولكنّ ما تمّ فى لقاء القدال اختلف فى مناسبة اللقاء ومقدرة القدال على التصريح بحبّه وتأمين حبّها :
    "صدفة وأجمل صدفة أنا يوم لاقيتا
    أسـعد يـوم يومـي الحـيـيتا
    نـور عـينيا يـاما حبـيتا

    النظـرات بريئة وممزوجة بخـجل
    البسـمات تضوي زي نور الأمل
    وجهك بين مسايرك زي بدر اكتمل
    والشـامة في خديدك زي طعم القبل
    تسكر قلبي وتشعل حبي يشهد ربي أنا بهواك

    ما قادر أقولك عن حـبي الكـبير
    وصفو علي قاسي وعايش في الضمير
    قدر الكون دا كلو حبي واكبر بي كتير
    مالكني محـيرني شوف قلبي الأسـير
    أسألي قلبك يمكن يقدر يشرح حبي أنا محتار

    صدفة عيوني شافت ليلي الباكي نور
    يا أيام ربيعي عمري معاكي أزهـر
    فيها الطير يغني ومن ألحاني يسـكر
    عمري فراشة حولك وانت شبابك أخضر
    ياما بحبك وبعبد حبك علشان حبك روحي فداك"
    فالقدال ، الذى يصف موقفاً درامياً "من الداخل" بكل الحس المسرحى ، الذى يُريك ما وقع بكلّ تفاصيله الإنسانية من ردّ فعل طبيعى من صبيةٍ لاندفاع محبٍّ مصرحاً ومدافعاً عن عشقه ، ضارباً بالقيود والأعراف عرض الحائط ، كما يقولون ، ولا تملك إلا أن تضحك من براءة الموقف وعفويته وصدقه ، وهذا ما يميز القدال عن غيره منذ بداياته هذه.
    والقصيدة كلّها تعتمد على مشاهد فهو يبدأ بالمشهد الأول وهو تعريف فتاته الاجتماعى ويوضّح لنا "الخلفية للّوحة" ، حسب تسمية أهل الرسم والتلوين ، ومن ثمّ يعرج على وصفها الحسى وحركتها وطبعها وتحصيلها ، ويبدأ المشهد الثانى بانتهاء الحفل وتقديم البنات لدورهنّ حاملين الرتاين ، وهى مهمّة يقوم بها الشباب بعيداً عن رقابة الأهل باعتبار أن أخوانهن أو بنو عمومتهن سوف يقومون بهذا الدور ولكنّهم غرسوا فى نفوس الصبية معايير الشجاعة والعفة من خلال الأغانى الحماسية مثل:
    "أنا حلاّل رفيقه
    أنا الدابى إن رصد للزول بعيقه
    أنا فرّاج الرجال وكتين يضيقوا
    أنا المأمون على بنّوت فريقه"
    وليس هناك من أمان يطلب فى أكثر من هذا الموقف ، وهو ذكاء اجتماعى يعرفه من عاش فى القرى ، يسهّل اللقاء والبوح تمهيداً لما سيأتى ولا شكّ أنّ فيه بعض المخاطرة ولكنّه محاصر بنظراتٍ بعيدة ترقب ما يحدث ولا تسمح بغير الكلام أو ضمّة يدٍ بحرارة وهناك اتّفاق من غير تصريحٍ يُوزّع المحبين فى مجموعات متجانسة تمهّد لكلٍ مبتغاه. ويبدأ الموكب من دار الحفل والصبية يحملون الرتائن والعصى فى المقدّمة ، والصبيّات يتبعنهم متلاصقاتٍ غير بعيدات يتهامسن ويتضاحكن ويتقارصن ، وحمّى المغامرة واللحظة النادرة تشعلهن بالرغبة وتضفى عليهنّ جمالاً ناطق ، ورنّة الأسورة وحفيف الثياب وضوع العطور تحمله نسائم الفجر ، والقلوب واجفة والأيدى تتندّى بالعرق ويتراشق الطرفان بذكريات الحفل وفى هذا دعوة خفيّة للصبيات ليسرعن الخطو ويلحقن بالصبيان وقد وصفه القدّال أجمل وصف :
    "....وكان فى الحلّة
    يوم حنة عليّ الشاشوق
    مشينا نَقَدِّم البنوت على ضو الرتاين
    عيونهن هارجة (والهرج فى الحديث إذا أفضوا به فأكثروا)
    تنبح فى الفجر والليل قريب واقف يعاين
    (تشبيه هرج العيون بنبيح الكلاب يحمل معنى استمرار الهرج وهو دليل على علوّ الصوت والمثابرة كما تفعل الكلاب وأيضاً ربما يوحى بالواقع الماثل من نبح كلاب القرية فى الفجر وهى تراقب أشباحهم وهو استلاف من الواقع واستخدام مغاير لكلمة النبح كما نعرفها ومن لطائف اللغة تطلق كلمة نبح على صوت الظبية أيضاً)
    خدودهن واجّة (الأَجِيجُ: تَلَهُّبُ النار وصوتها وإضاءتها)
    زى جهر الكهارب الفى المداين
    (حتى الرتاين لا يشبه نورها نور هذه الخدود فإنّها تجهر كما تجهر الكهرباء فى المدن وهى جزء من تجربة القدّال حينما غادر فانوس حليوة المغذّى بالكيروسين لفانوس المدينة المغذّى بالأسلاك)
    ويستخدم القدال نظام "الفلاش باك" فى المشهد الثالث حينما يرجع لوصف ما دار فى الحفلة وهو وصف دقيقٌ ومكتمل للأشخاص وسلوكهم ودورهم الذى بدونه لا تكتمل البهجة ، فهى عرضٌ مسرحى الكلّ له دوره الذى لا يحيد عنه ، والناس يضحكون بنفس المتعة وليس هناك ملل ولا رغبة فى التغيير ، وأظن أن هنالك عبقرية هنا ، إذ كيف تغيير ما هو كامل؟ ، وكم ذكّرنى تكرار نفس الأدوار فى كل حفلٍ ، بمشاهدة الناس لمسرحية "مصيدة الفئران" عاماً بعد عام ، وبالطبع لمن شهد حفلات القرى تجارب مماثلة:
    "....وكان الليل
    ومن الحفلة ،
    إلا صداها (فى الذاكرة وهو صدى رؤية وليس صدى صوت)
    كان زغرودة ..
    كان غنّاى ... (لا يهم من هو المغنّى)
    رقيص الشامة بت حمدين
    (لاحظ أنّ الشامة هى الوحيدة التى عُرفت باسمها كاملاً ما عدا سالم ولد عتمان ، وراقصة القرية يتسلّل حتى الشيّب من القوم لرؤيتها)
    وعرضة حامد العولاق
    (كل قرية لها ما لا يؤبه له مثل الزين ، ولكن دوره رئيسى فى الأفراح والأتراح ، والعولاق من علق ، كالشىء العالق ، أى لا جذور له وقد تكون جذور عشيرة أو طبعٍ والمثل الأعلى فى القرآن : ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثّت من فوق الأرض ما لها من قرار)
    وشكلة عامر المسكين
    (لا بد وأن عامراً حظّه ضعيف فى الدنيا ولذا فليس له ما يحافظ عليه من كرامة ويبدو أنّ روح الكروم كان لها دورها وشكلة من مشكلة وهى المشتبه أو الملتبس أو المختلط من الأمور ونحن أدرى من نتيجة "الشكلة" فى الأعراس وما تؤدّى إليه من فوضى والتباس ).
    وخت الحنة لى يات حضور ضفرين
    (خت أصلها من حطّ وهى الوضع ، وهذه العادة فى حنّاء الرجال عند الختان والزواج لم أجد لها مثيلاً عند الشعوب الأخرى ، وهى تشمل كلّ من يحضر ليلة الحنّة وهى الطقس الأساسى فى تلك الليلة إذ تحضر الأمهات والأخوات "الصينية" وعليها "حُقٌّ" ، والحُقّة هى وعاءٌ من خشب ، فيه ذريرة عود الصندل المخلوط بالمحلب وحنّة معجونة مغروس فى وسطها شموع وبجانبها مبخر وأوانى عطور المحلبية والسرتية وأيضاً "الجرتق" وهو عبارة عن حريرة وخرزة زرقاء وسبحة السوميت).
    ونمّات العديل والزين
    (تغنى الأمهات والجدات "الليلة العديل والزين ، والليلة العديلة تقدمو وتبراهْ" وهو ما يعرف بالنم وهى كلمة عربية فصيحة فالنميمة هى الهَمس والحركة ، أو أى صوت وَتَرٍ أو بشرٍ يستروحه السامع ، والمعنى أن تكون العديلة دائماً من بين يديه ومن خلفه ، والعديل من عدل الشىء ، فهى أجمل وأحلى وأخلص دعاء ، وما رافق الاستواء والعدل شىء إلا زانه وليس هنالك من زينة أفضل من التقوى).
    "وشنّق ود سعد طاقيتو ،
    شان فى الحلة سوْ كنتين"
    (تشنيق الطاقية هو وضعها على الجبهة ، أقرب إلى الحاجبين ، تعلوها دليلاً على الفتّوة والثقة بالنفس وهى ، مشتقّة من الشَّـنَقُ وهو طولُ الرأْس كأَنما يُمَدُّ صُعُداً ، ويبدو أن ود سعد قد ارتفعت مكانته الاجتماعية بعدما صار من صغار التجار بعد أن "سوّى" أى امتلك حانوتاً، "الذى خلقك فسوَّاك فعدلك" ، واستوى أى استولى وظهر ، وهو يُعد صيداً طيباً للصبيات ، فتمعّن فى بلاغة القدال فى ربط صورة ظهور ود سعد وتعاليه على الكل فى الحفل وكلمة "سوْ")
    "وعيّط ود مجمّر زيـــن
    عشان الزينة رقصت زين
    وفى الشعقيبة
    كان بازمالو شبّالين"
    (يتضح تأثر القدال بالشعب المصرى ، فكلمة عيّط بمعنى بكى ليست مستخدمة فى السودان بكثرة ما عدا فى البطانة وغرب السودان بمعنى الصياح الشديد وأحيانا ، وهو أقل استخداماً ، بمعنى البكاء بصوت عالٍ ، ولربما كانت قراءته للأبنودى "صرصار الغيط نط فى صرصور الواد حسان ، حسان عيّط لأمّه" أو صلاح جاهين "إن عيط الواد وقال لك اشترى نعناع".
    ولاحظ طباق زيـــن بمعنى لمدّة طويلة وبحرارة من تأثره برقص زينة البنات الرتينة "الزين" ، أى الجميل ، وكانت قد وعدته بشّبالين ، وهو أن ترمى المرأة الراقص شعرها المضمّخ بالعطور على وجه الرجل ، وهو من إشبال ، أى تعطف على الرجل وأىّ عطفٍ أكثر من ذلك وهو المدلّه فى حبّها ، ولا بد أنّ ود مجمّر قد أجزل لها العطاء وقت "الشعقيبة " ، وهى عادة سودانية تتخذها الفتيات حجة لجمع المال من الرجال والعادة أصلاً ، قبل أن تتغيّر ، أن يطوّقن عنق الفتى وعنقهن بسبحة السوميت المصنوعة من خشب الأبنوس ، وهى مشتقّة من سوم بمعنى ، مساومة فتأمّل فى بلاغة أهلنا ، فتشعقبه ، أى تربطه أو تأسره ، ولربما تضع عطراً على رأسه أو تعطيه حلوى أو تمراً ، فيسعى ليستعيد حريّته منها بفدية ، ويبدو أنّ ود مجمّر دفع الفدية وأجزل لها العطاء واشترط أن تهبه "شبالين" بدلاً من العطر والحلوى لقاء إذعانه للأسر ، وفيما يبدو أنها رضيت فبزمت له بهما ، والبزم هو صريمة الأمر والصريمة هى العزيمة على الشيء وقَطْعُ الأمر).
    وبتتبّعنا لتطّور القصيدة نجد أن القدال انطلق من قاعدة راسخة أعمدتها ما سبق من شعر ، وأذن صاغية لمفردات واقعه ، وعين لاقطة لمشاهد الحياة ، وعقلٍ مميّزٍ فكّ به أسرار الماضى والحاضر وأغناه بالتجربة الذاتية فتسنّى له علمٌ تراكمى ، وبذا لم ينفِ السابق ولكنّه أضاف إليه ، واكتشف لغة جديدة وصوتاً جديداً تُسوّر له مساحة خاصّة فى المستقبل ، لها استقلالها وأصالتها وديمومتها وخصوصيتها وبرغم جيرتها للأسوار الأخرى فلها باب كتب عليه "هذا نمط محمد طه القدال".
    وقد يبدو للقارىء أنّ تأمّلى فى قصيدة القدال يغلب عليه المنهج اللغوى ، ولكنّها أداة اتّخذتها لإبانة شاعرية القدال باختياره لمفردات تتجاوز المعنى المباشر فتصير رموزاً فى حدّ ذاتها تنقل ما أراد توصيله بدقّةٍ عجيبة فيها من الإغراب ما يجعل قلبك يخفق وروحك تُبعث من مواتها وتحتفل معه بالحياة. فالموازنة التى تبنّاها بين اللغة والشاعرية تتشابك وتشدّ بعضها بعضاً تخلق النّص الإبداعى ، فالعمل المبدع يتجاوز اصطفاف الكلمات والمعانى والوزن والقافية والإيقاع وينفذ إلى كنه الإبداع من خلال التخييل. وليس مهماً أن يكون مضمون القصيدة مطابقاً أو مخالفاً للواقع ، بمعنى أنّ القدال قد كتب عن شىءٍ عاشه أو تخيّله أو بعضاً من هذا وذلك ، ولكن الأهم هى القدرة على الإمساك بكافة أطراف الشعرية وأدواتها من قدرة هائلة على التخييل وتصوير فنىٍّ مدهشٍ وتركيبٍ مدركٍ متماسكٍ لرموز الرسالة من مفرداتٍ ونظمٍ يجعل التذوّق الفنّى متعةً لا تُجارى ونافذةً للقارىء يرى من خلالها عالمه الغنى بالمعانى والإشارات ويستنبط منها عوالم أخرى تزيده غنىً وفائدة.
    فتجد فى شكل القصيدة غنائيةً يصلك صوت مؤلّفها تقوم على بناءٍ محكمٍ وتراكيب تفى بغرض الشعرية ودلالاتها وهى تراكيب متعاضّة لفظاً وصورة ومعنى تُنظّم مشاهدها فى خيط واحد يعرضها كالقلادة المبهرة بجواهرها المنتقاة والموزونة.
    فالفرق بين الكتابة النثرية الأدبية ، فى رأيى ، وكتابة الشعر الحقيقى هو أنّ الأخير يتجاوز الغاية الظاهرة إلى معانٍ أخرى تدفعك دفعاً للتأمّل والاستكشاف إلى ما لا نهاية مع اقتصادها فى الكلمات بلا إسهابٍ أو تهلهلٍ أو ترهّلٍ ، إذ لكلّ كلمة منتقاة رمزاً يحمل فى رحمه أكثر من جنين. إنّه المشعل الذى يهديك إلى حيث الجمال والحقيقة كما قال كيتس :
    "الجمال هو الحقيقة ، والحقيقة الجمال
    هذا كلّ ما ستعرفه على وجه البسيطة
    وهو كلّ ما تحتاج أن تنال" (الترجمة من عندى).
    فهل هناك من جمالٍ أكثر من تفتّح بصيرة القلب والشعور بلذته ، فما لم يحرّك فيك ساكناً فلا ينبغى أن يُعدّ شعراً وهو والجمال والحقيقة أعداء وقد قيل إنما سمّى الشاعر شاعرأ لأنّه يشعر بما لا يشعر به غيره وسنده فى ذلك دقّة علمٍ وفطنة شعرية ، لأنّ كلمة شعر مشتقة من (شعرت) وهى بمعنى فطنت وعلمت. فالشعر العظيم لا يأتى إلا من علمٍ عظيمٍ وهو إدراك كنه المراد وحقيقته. وهكذا وصفه الفاروق عمر بن الخطاب رضى الله عنه حين قال: "الشعرُ علم قوم لم يكن لهم علمٌ أعلمَ منه".
    وأنا من رأيى أنّ خاصية الشعر الأساسية هى التأثير فى الآخرين ولكن ذلك لن يحدث إلا بالتواصل ولذا فاللغة الشعرية هى مَركِب الرسالة الشعرية التى تنقلها للآخرين.
    "وسهرة وين .. سكرة وين
    وبَهرة وين ..
    وجهرة وين ..؟"
    وقبل أن ينتقل القدال إلى المشهد الأخير ، الذى ظلّ يهيئ له المستمع منذ رفع الستار ، يربطه بما قبله ويركّز على الحاضر ، وهو ما يعرف بالتّمعّن أو الوعى باللحظة الراهنة أو الحاضر ، وهى مرحلة يصلها من قضوا العمر يستكشفون ذواتهم فيصيبون الوعى بأنّ الماضى غير عائد والمستقبل ليس ملكهم وإنّما ما يملكون هو الآن. وكما قلنا من قبل فإنّ مرحلة المعلّم التى وصلها القدال فى هذه القصيدة إنّما هى نتاج البديهة وليس العلم والنتيجة فى الحالتين واحدة وإن اختلفت سبل تحصيل المعرفة.
    فالسهرة لم تنته بعد ويا لها من سهرة لا تماثل ، على الأقل فى خياله وفؤاده ، لأنّه يحسّ أنّ فرصته قد دنت للبوح ولا بد من أنّه علم أنّه فى نهاية الأمر سيختلى برتنتين إحداهما فى يده والأخرى فى قلبه وباله ، لأنّ دأب تقديم البنات أن يتناقص العدد عند وصولهن بيوتهنّ حتى يتبقىّ من تبقّى.
    وفى وصفه البديع تنويه على السهرة منذ بدايتها واستعراض لأحداثها ، والسكر لربما سكر اللحظة وليس سكر الخمرة كما قال العقّاد "وبى سكرٌ تملّكنى وأعجب كيف بى سكر ، رددت الخمر عن شفتى لعلّ جمالك الخمر" ، أو كما شدا مغنّينا الشعبى من كلمات والحان عمر البنا رحمه الله وأحسن إليه :"أنا ما بسكر من الخمر ولا من صوت القمرى لكين نظرات سيد عمرى تسكرنى وتصحينى وتحل أسرى " ، ولكنّه لربما سكر الرحيق أيضاً فالشباب لا يتورّعون عن ذلك.
    ثمّ تجده يذكّرنا بما يجرى فى نفسه : "وبهرة وين" وهو إحساس داخلى ينتج عن كلّ شىء جرى ويضيف : "وجهرة وين" (خدودهن واجّة زى جهر الكهارب الفى المداين) ينقلنا بها إلى اللحظة الراهنة رابطاً ما حدث بما سيحدث:
    "أقول آبنية :
    - ليش ما تهمى؟
    (لماذا لا تصبين ماء حبّ سحابك على شخصٍ يعانى ظمآن وتعب فى درب حبك ، والقدال اختار كلمة ليش البدوية على كلمة ليه المتمدنة وهو اختيار موفّق يتماشى مع الواقع الموصوف.
    وقد قال الشاعر يصف حالاً أشبه بحال القدال:
    "فى حشاي المشوق سحب لا تهـمي بإرضٍ تخاف لمع البروق ،
    وحشاي المشوق سحب من الريح بها الشوق صرخة من غريق").
    فوق زولاً مشلهت فوق دريبك
    لا النفس مجبود ..
    (يلهث من شدّة تعبه لا يجد فسحة للراحة ولعلّ مشلهت ، والتى هى بليغة فى الدارجة السودانية كانت أصلاً كلمة "مشتّت" والتى هى مشتقّة من الشَّتُّ وهو الافتراق والتَّفْريقُ وليس هنالك شخص أكثر مفارقة لذهنه ولراحته من المفارق المفرّق من محبوبه)
    ولا لحق الغزالة؟
    (ولكنّه ليس سريعاً كالغزال ليلحق بظبيته ، فهنا تركيب للمعنى)
    وقفتْ ..
    وانبهت رمَّاشها ..
    جدعت بالبسم رشَّاشها ..
    (كأنما الكلام شلّها فتسمّرت من مباغتته لها بالكلام فانبهتت رموش عينيها ، أى خفضتهما ، وهى مشتقّة من تبهت بمعنى: " تُحَيِّرُهم حين تَفْجأُهم بَغْتةً" وقال المولى عزّ وجلّ : "بل تأتيهم بغتة فتبهتهم" ، ثمّ ابتسمت خجلة مُحرجة فى حالة هلع ممّا لم تتوقّع ، ولكنّها تمنّته ، ولمّا ابتسمت رمته برصاص رشّاشها فأجهزت عليه وعلى ما تبقّى له من كرامة ، أو برشاش أو رذاذ مطرها المنعش كما يساق الماء إلى الأرض الجرز فتحييها ، والرش يستخدم للماء والدم وهو أول المطر الخفيف ، ولا أملك إلا أن استمتع بخيال القدال وهو يمسك بقرنين لمعنيين مختلفين وبينهما قرابة. فالرشاش يمكن أن يكون كلمع النور المنعكس من بياض أسنانها يحاكى البرق يبشّره بالغيث ، وهو استخدام مجازى لكلمة رشاش، وفى نفس الوقت يعنى رشاش مطر الحب ، إذ فى الابتسام دليل رضى. وهما يكن ففى الحالتين لم تتبقّ له مقاومة تذكر.
    وأكثر ما تحبّ المرأة فى الرجل شجاعته ، حتى عندما تخاف عليه ، وقد سجّل لنا هومر أو هوميروس فى الإلياذة موقف هكتر العظيم عنما استجدته زوجته أندروماش ألاّ يرمّلها وييتّم ابنه فقال ، ممّا جعل زوجته تأخذه فى حضنها المعطّر وهى تضحك من خلال دموعها ، برغم أنّه كان واثقاً من هزيمته واستعباد زوجته فى أثينا والحرب نفسها كانت من أجل امرأة :
    "أندروماش ..أنا أيضاً تلعب برأسى هذه الأفكار طول الوقت
    ولكن إذا أخفيت نفسى كالجبان وتجنّبت القتال
    فلن أحسّ بغير العار أمام أهل طروادة والنساء ، وهنّ يسحبن اذيالهن
    فلن يكون قلبى مع الخوف وقد دربت نفسى دائماً على أن أكون فارساً مجيداً
    وأن أكون فى الصفّ الأول محاولاً أن أكسب المجد لأبى ولنفسى)
    ويحضرنى ، عندما كنّا ندرس فى جامعة الخرطوم ولكنّنا كنّا نقضى معظم وقتنا فى جامعة القاهرة فرع الخرطوم لاشتهارها بحسانها ، كيف ثار الطلبة ثورة خفيّة عندما رأوا أجمل حسان جامعتهم مخطوبة لزميلٍ لهم ظنّوه دونها مكانةً شكلاً وأصلاً ونسوا أنّ أفضلهم لم يكن ليجرؤ على مجرّد الحديث معها ولكن الخطيب كان أشجعهم وصرّح بما شعر فكان له السبق عليهم وفات عليهم أنّ أجمل البنات إنسان يريد الإلفة والحب ولا يرضى بالوحدة أو يحتملها.
    - يالمهجوم ..
    يهجمك الله كان داير تسيلى الخلعة
    ( وهو نوع من التقريع الظريف تعاتبه على مداهمتها بتصريحه بدون سابق إنذارٍ فكأنّه هجوم لأنّه خلع قلبها بحديثه ، ولنا أن نتخيلّ خفقان قلبها ورعشة يديها ، وفى بامسيكا تقول ريّا لطه ود دكين: "صحيت مهجومة لا مفصل ولا في القايْمة" ، وفى لسان العرب المهجوم هو ما حُلَّتْ أَطْنابُه فانْضَمَّتْ سِقابُه أَي أَعْمِدتُه، وكذلك إِذا وَقَع).
    قالت والعيون ضحّاكة ..
    فى ضو الرتين بشَّاشة
    (هذا القول ينقلنا إلى مقام الموقف لتذكيرنا بمحيط الحدث وقد كان عتاب محب فرحٌ بما سمع لأن تواصلها معه من خلال حركات العيون التى هى ، كما يقولون ، نافذة الروح ، فهى ضحّاكة بطبعها ولكنّها أكثر ضحكاً لإظهارها البشاشة لأنها رمز للقبول ، وتواصل العيون أمر مثبت بقوله سبحانه وتعالى: "يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور" ، وفى القرآن الكريم أمثلة عديدة لهذا ، وعلم التواصل يؤكّد أن الكلام لا يؤدّى أكثر من 10% - 30% من التواصل والبقية التواصل غير الكلامى أو الجسدى: "وَلَوْ نَشَاء لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ" ، وكلنا يعرف قول شوقى :"وتعطّلت لغة الكلام وخاطبت عينى فى لغة الهوى عيناك ، وقال شاعرٌ آخر :
    "إن العيون لتبدى فى نواظرها ما فى القلوب من البغضاء والإحن"
    وأضاف غيره:
    "العين تبدى الذى فى قلب صاحبها من الشناءة أو حب إذا كانا
    فالعين تنطق والأفواه صامتة حـتى ترى من صميم القلب تبيانا").

    عاد من حينى جاتنى الحالة
    (بعد وصول الرسالة بالقبول أصابته لوثة الغرام كأنما التهمت طريدته الطعم وبعد ذلك يعتمد الأمر على حنكته وخبرته فى انتشالها والفوز بها فاحْتالَتْهم الشياطين أَي نَقَلَتْهم من حال إلى حال والقدال احتالته شياطين العشق والشعر فأين المهرب؟ ويقال حال فلان حسَنة وحسَنٌ، والواحدة حالة وحال الشيءُ نفسُه يَحُول حَوْلاً بمعنيين: يكون تَغَيُّراً، ويكون تحوّلاً).
    قُلتَلا:
    - لا لا
    وحات النعمة يا بنية البِريد ..
    فى الريدة ... ما بخبر فسالة.
    (حلف بأعزّ ما عنده ليثبت حسن نيته ويسألها كرم وعطاء المحب محتجّاً بحقيقة إنسانية معروفة ، فنال منها القبول عندما نظرت إليه وهى باسمة "حدرت باسمة" ، لتتأكّد من صدقه قبل أن تسلم قلبها له بدون مقاومة. ويستخدم القدال كلمة فسالة وهى من فسل بمعنى الشح وهو نوع من الحرب النفسية إذ لا يرضى أىّ إنسان ، عادة ، أن تلصق به أو بها صفة البخل والفسل عند العرب هو الرَّذْل النَّذْل الذي لا مُروءة له ولا جَلَدْ).

    هذه النقلة فى الشعر الغنائى لم تأت من فراغ ولكنّها أتت من موهبة عظيمة ترى الصورة شاملة بمنظارٍ واسع الحدقة وتدعونا لرؤية الكل من نافذة البعض ، وتحب أن تشارك الآخرين تجاربها وكل خفقة قلبٍ لها لتـزرع البهجة فى كلّ القلوب بدلاً من أن تستأثر بها ، وهو سبق للقدال لا بد من أن يؤرّخ له وإن تلاه نهجٌ مشابه. هذا هو البنيان المؤسس على ما قبله ويضيف له ما لم يسبق فكأنه هو وليس هو وذلك مغزى العبقرية أن نستنطق ونستخدم ما نعرف فإذا هو نبت جديد له هوية وحياة منفصلتين. وهو الفرق بين الأصالة والمعاصرة فالشاعر الأصيل لا يقلّد إذ فى شاعريته عظمة تدفعه دفعاً للتّفرّد بتفجير معانٍ طازجة كالخبز الحار له نكهة تدغدغ أنفك ، ويحرّك عصارة بطنك ، ويغذّى خلايا فمك بطعمٍ شهىٍّ وهو ينـزع للنهوض بالعمل المبدع وهو الذى يبعث فى اللغة حياة ويثريها.

    والمقلّد حاله كحال الخبز البائت فهو يتقاعس عن النهوض بالمعنى والتجربة وذلك لضعف موهبة أو تجربة أو علمٍ أو أدوات. ولكن ليس كل أصيلٍ معاصر ، وأنا أفضّل كلمة الأصيل على كلمة القديم وكلمة المعاصر على كلمة الحديث ، فلربما قديم غير أصيل ولربما حديث قديم غير معاصر ، ولربما قديم أصيل ومعاصر ما بقى الزمان غفل عنه أهل زمانه وانتبه إليه اللاحقون. والفرق بين الأصيل ، والمقلّد فاقد الموهبة الحقّة هو المقدرة على تجاوز العمومية وبناء الخصوصية بحيث يكون للمبدع طعم ولون خاص. والمعاصر هو الذى يستجيب لمتغيرات الزمن الخاص ويعبّر عنه من خلال وسط اجتماعى يستوعبه وينتقل فيه من البعد المحلّى للتجربة إلى البعد الإنسانى ، الذى هو الوعاء الاجتماعى للإنسانية جمعاء الذى يوحّدها برغم اختلافها ومن خلاله بالنظر إلى جوهر الأشياء ، والذى يقوم على الوعى بالأبعاد المحلية والزمانية والمكانية والتاريخية والكونية ، وبذا تكون هناك جدوى تقوم على أساس المصداقية وأصالة التجربة وهى بالطبع بالإضافة لأصالة المبدع.
    فالحدث ما هو إلاّ دعوة للكشف عن أحكامه وإدراك تفاعل أطرافه واستخلاص المعانى منه. وهو محاولة الانفلات من سطحية الواقع ومظاهر الأشياء للغوص فى أعماق الواقع لرؤية الأشياء كما هى فى جوهرها عن طريق الرؤيا الداخلية الشعورية والفكرية لتربط بين الفرد والجماعة محدّدة موقعه من الجماعة والكون، زماناً دائماً ومكاناً محتملاً ومفتّح الأبواب لطارقيها ، ربطاً ذا معنىً بعبقرية ملحوظة. هذا بالإضافة لوعى المبدع بأبعاد أدواته الجمالية والاجتماعية والشكلية والتاريخية والوعى بتفاعلها كما ترى خيوط النسيج مفردة ومجتمعة تصنع ثوباً بهيجاً إن أتقنت حياكته ومنفّراً إن كثرت ثقوبه.
    وفقاً لهذه المعانى فإنّنى أجد القدال أصيلاً ومعاصراً.
    حدرت باسمة ،
    قلتلا:
    - عاينى
    تسلم عينك ،
    إلاّ حقيقة مو ساهل كتالا
    حلفت ناضرة ،
    حالفابو الصباح الباش يلوِّن فى المشارق
    والنسايم الجاية من تالانا تالا :
    - حات أُمى البعزّها زى تراب حلّتنا
    ببقى حداك يالمريود
    واقول لى أهلنا ناس قدام
    وفى ها الحالة مى شينة القوالة.
    واساعل القمرة فى شانك
    واقولَّها :
    - هيلا يالقمرة ،
    وتانية وهيلا يالقمرة ،
    وتالتة وهيلا يالقمرة..
    دحين ساكن رويشات القليب ،
    فى الحلَّة ما رشَّ المقالة ؟
    وحات الفرحة فى ها الليل
    بشوفك فيك عزَّ ابواتى
    ضرعاتك خضر يالباهى
    ما دايرالى من غيرك كفالة.
    هذا الحوار الطلىّ الممتع يعطى الأنثى صوتاً خاصّاً مسموعاً لأوّل مرة لشخصيّة نعرفها ، وقد قُدِّمت لنا أصلاً وصورةً وسلوكاً وعقلاً بخلاف ما غنّى أستاذنا عبدالكريم الكابلى ، وعلى ما أظنّ أنّ الكلمات من شعر الأستاذ تاج السر الحسن ، عندما أعطى كلّ الرجال وكلّ النساء صوتاً واحداً يتحاورون به:
    " أي صوتٍ زار بالأمس خـيالي
    طـاف بالقلب وغـني للكمال
    وأذاع الطهـر في دنيا الجـمال
    وأشـاع النور في جوف الليالي

    إنّه صوتي أنا .. زاده العلم سنا
    إنه صوتي أنا .. ابنة النـور أنا
    أو تدري من أنا؟
    أنا أمّ اليـوم أسـبا ب الهـنا
    أنا من دنياكمو أحـلي المـنى"
    فالصوت عند القدال هو لصبيّة قويّة الشخصيّة ليست منهزمة وإنّما تعامل محبّها بندِّيةٍ تحسد عليها وبثقةٍ لا تبارى وهى تعرف من هى ولكنّها فى نفس اللحظة لا تنسى أنوثتها وردود الفعل الطبيعية لمن فى عمرها. ونلاحظ استخدام القدّال لأسلوب التصغير فى القصيدة مثل (بنيّة) ، (رويشات) ، (دريبك) ، (عوينات) ، (خديدها) ، (الصبيّن) وهو اسلوب لنقل إحساس رقيق بالشخص والموقف تضيف للموسيقى الداخلية شحنة إضافية وللمعنى إحساس الترفّق بالمحبوب.
    ويبدأ القدال وصفها "حدرت باسمة" ، وهو يلخّص تناقضاً سلوكياً ونفسيّاً إذا فهمنا كلمة حدرت بمعناها السودانى وهو أنّها "حدجته" لتبدى عداوة بينما الابتسام دليل محبّةٍ ، وقد كان بإمكانه أن يقول "نظرت باسمة" وهذا كان كفيلاً بحلّ الإشكال ، ولكن القدال لا يضع الكلمات جزافاً وليس لديه فضفضة لغوية ، بمعنى أنّه لا يشحن القصيدة بكلمات زائدة من أجل أن يستقيم الوزن أو القافية أو للتطريب أو للاستعراض ، كما يفعل البعض ، وهو ديدن نظمه ، ولكن لو رجعنا لردّة فعلها حينما باغتها بالكلام وتتبّعناها حتى وصفه لها بالحدر لأدركنا بلاغة لغوية ونفسيّة لا تنبغى إلا لشاعرٍ متمكّن لا تفوته شاردة ولا واردة يستقبل بوعىٍ كامل ما يدور فى نفسه وحوله:
    "وقفتْ ..
    وانبهت رمَّاشها .."
    نرى أنّ القدال لم يلحظ إغماض عينيها إلاّ إذا حنت رأسها حتى يرى جفنيها العلويين ، وهو الوضع الطبيعى لفتاة مباغتةٍ وخجلةٍ ولكنّها ، كما قلنا ، أبدت رضى :
    " جدعت بالبسم رشَّاشها .."
    ففى تلك الظلمة ، التى تضعضعت قليلاً تحت ضوء الرتاين ، بدت بروق بياض أسنانها وإلا فكيف له أن يرى ابتسامتها؟ ونرى دقة وصف القدال للتحوّل التدريجى لسلوك فتاته ، أو كما أراد له أن يتخيّلها ، أو لربما أنّه ، عندما كتب القصيدة لاحقاً ، "زيّف" ذكرى اللقاء وطلاه بلون البهجة والفرح لأنّ النتيجة كانت موجبة :
    " قالت والعيون ضحّاكة ..
    فى ضو الرتين بشَّاشة"
    فالضحك قد يكون طبيعة فى عينيها ولكنّ البشّاشة إسقاط لما يريد أن يحسبه الشاعر بمعنى أن القدال لم يكن محايداً فى حكمه على طبيعة العيون وإنما أملى عليه إحساسه بما يجب أو يأمل أن تكون عليه ، ولكن لا عليه فهو عاشق يرى فى جهنّمها جنّته. وفى وصفه الثانى ، بعد أن ألقى حجّته وحسب أنّه كسب القضية :
    "حدرت باسمة"
    والحدر فى لسان العرب الحطّ من أعلى إلى أسفل ، وأيضاً تعنى دمعت العين "حدرت العين بالدمع" ، والعين الحدرة أى العظيمة أو الواسعة الجاحظة أو الحسنة أو حادّة النظر أو مكتنـزة صلبة وبدرة بالنظر.
    فكلمة "حدرت" تحوى كلّ هذه المعانى فلربما دمعت فتاته فرحاً أو أنّه أضاف وصفاً جديداً لعينيها كالحسن أو لربما أنّه قصد وصف نظرتها إليه ، وهى مخفضة رأسها ،من أعلى إلى أسفل ، أو لربّما كانت هناك حدّة لشكّها فى نواياه ولكنّها كسرت هذه الحدّة بالابتسام تدعوه إلى زيادة المرافعة حتى تحكم على القضية ويبدو أنّ كلّ هذه التفاسير ممكنة وإن كنت أرجّح الأخير بناءً على رد فعله ، حال من أمسك بخطام محبوبته وإن كانت لا تقاوم فهى أيضاً لا تطاوع :
    " قلتلا:
    - عاينى
    تسلم عينك ،
    إلاّ حقيقة مو ساهل كتالا"
    أىّ انظرى لى بتمعّن ، فتأمّل دعوته لها أن ترفق به عند النظر ودعاءه لعينها بالسلامة ، لتنتقل من "الحدر" "للمعاينة" ، وهو حال من يريد وظيفة يتقاتل دونها خلقٌ كثر وعند المعاينة يتزيّا بأفضل ما عنده ، ويشذّب شعره وهندامه ، ويتعطّر ويستعرض ما يحبّب "اللجنة" فيه من مؤهل وحسن طبع وأخلاق ، ففى تلك الليلة فعل الشاعر كلّ ذلك ، فالأعراس معروفة عندنا كلجان المعاينة لنظفر بقلب المحبوب المرغوب ، وهذا يذكّرنى ما أنصح به زملاءنا من الأطباء الذين يقدمون لتكملة الدراسات العليا أنّ آخر المرغوب فى هذه المعاينة هو إظهار مقدار ما تحمله من العلم وأكثر المرغوب مقدار ما تحمله من الإنسانية والخلق الحسن وحكمة العجائز ، أى الاحتكام للفطرة ، أو كما نقول استفتاء القلب إن كنت لا تعلم ، وأخيراً ليس ما تقول ولكن الكيفية التى تقوله بها هى الأهم فكلّنا جهلة وناقصى خلق وعلم والفائز من جلّى بصيرته وعرف مقدار جهله قبل علمه فلو أنّهم علموا لما طلبوا علماً ولقنطوا فى ديارهم.
    ومن ردّ محبوبة القدال نعلم أنّها اقتنعت بحجّته وأنّها لا يمكن أن تقاتل حقيقة واضحة كوضوح الشمس ، وهى أدرى بحالها من غيرها ، أنّ المحب يبذل ولا يشح وأن الفلاح فى الاستسلام والعطاء "ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون".
    عند هذا المنحنى أريد أن ألفت النظر بدعوتى "لمعاينة" كيفية كتابة اللغة الدارجة وهو إشكال كرّس له القدال مقدمة كراسته ولذا كان تردّده فى إخراجها للقارئ وعالج ذلك بإلحاقها بتسجيل صوتى وهو مجهود زائد يحمد عليه وإن كان سبباً فى تأخير الطباعة. فالقدال أحياناً يكتب الكلمة كما تُنطق مثل:
    "كبار الحلة أباتا
    بكار الحلة أماتا"
    والمقصود "أبهاتها وأمّهاتها" ، ثم يقول : كلامها رصين ، ملامها حنين ، والمحرىّ أن تنطق كلاما وملاما ولكنّه يفضّل تعبير أهل البادية كما يرد فى الدوبيت ، وأيضاً ينطبق ذلك على كلمتى : رمَّاشَها ورشّاشَها والأولى أن تكتب بتسكين الشين الثانية وفتح الهاء إذا كانت ستنطق بطريقة الدوبيت أو تحذف الهاء ويظلّ الألف أو يحذف الألف وتسكّن الهاء. وذلك ينطبق على كلمات مثل طاقيتو هل تكتب هكذا أم تكتب طاقيتُهْ بضمّ التاء وتسكين الهاء
    وأظنّ أنّنا ينبغى أن نولى هذه المسألة اهتماماً خاصاً وندعو أصحاب العلم من أمثال البروفسير جعفر ميرغنى والدكتور شاع الدين والبروفسير عبدالله حمدنا الله والدكتور خالد محمد فرح ، وهذا ليس حصراً ولكن رمزاً ، للعمل سوياً حتى يكون لنا مرجع نتفق عليه فى كتابتنا للغتنا العامية.
    وانظر إلى ما تبدأ به حديثها وهو قسمٌ عميق المعنى:
    "حات أمّى البعزّها زى تراب حلّتنا"
    فى نفسٍ واحد تجمع بين أصلىّ وجودها ، أمَّها ووطنها ، وتحمّله ما تحمله لهما من محبّةٍ وتقديرٍ ، وإن قدّمت الأم على تراب الوطن فى القسم ، ولعلّ السبب هو طبيعة الشعور الإنسانى للتعلّق بالحياة والقربى أكثر من الجماد أو المفاهيم المجرّدة ، ومن أحنّ من الأم: فتأمّل قولىّ المصطفى فى الأم والوطن: "قال: من أحقّ النّاس بحسن صحابتى؟ قال أمّك" ، "والله إنّك أحبّ بلاد الله إلىّ ولولا أن أخرجنى أهلك منك ما خرجت" ولكنّها ، برغم ذلك ساوت بينهما فى مقدار الإحساس وفى نفس الوقت ، كى تزيدنا حيرة فلا ندرى أيهما أحبّ إليها ، قارنت حبّها لأمّها بحبّها لوطنها وفى هذه الحالة هو سبق زمانى والآخر سبق مكانى ، ولعلّهُ لعلّةِ أنّ أصل الخلق رحم الطين ومواصلة الخلق رحم الأم. وهذا البيت أطربنى معنىً وأتعبنى فهماً فرجعت لنفسى أستفتيها أيّهما أعزّ عندى؟ وما هو الأصل؟ ولا زلت أصارع السؤال: ما هى قيمة الأمومة بدون وطنٍ أو ما هى قيمة الوطن بدون أمٍّ؟ الأمّ شخصٌ نرى حدوده ، ونسمع صوته ، ونحسّ لمسه ، والوطن لا نفكّر فيه إلاّ إذا هُدِّدت حريتنا ، وأُهدرت كرامتنا ، وحينها نضحّى من أجله بأرواحنا وأهلنا ، فمنْ يسبق منْ قيمةً ومحبّةً؟.
    ولكن ما لفت انتباهى هو اختلاف نطق كلمة (وحات) بمعنى (وحياة) بينه وبينها فهو أضاف إليها حرف الواو كما هو المعهود ( وحات النعمة يا بنية البِريد ..)
    وحذفه عندما قالتها وهو أيضاً مألوف: "حات أمّى البعزّها زى تراب حلّتنا"
    وتنطق الكلمة هكذا (حات) عند الاستعجال أو إذا لم تتشرّب القائلة بالمدنية أو هى أرقّ فى فم الفتيات والنساء فى القرى لهنّ عادة حذف أو ضمّ بعض الحروف تبعاً للموقف فإن كنّ فى عجلةٍ من أمرهنّ ليثبتن أو ينفين شيئاً ينطقنها (حات) وإلا فتنطق (وحات) وهى تقال عند العزم على فعل مثلما كانت أمّى تلاحقنى بلعناتها مقسمة بحياة أهلها لإخبار أبى عند عودته من العمل عن شقاوتى أو تبيان الإيمان أو الثبات على مبدأ وانظر إلى دقّة القدال وهو يردّد قولها ، وهى فى حالة شعورية مغايرة للأولى :
    "وحات الفرحة فى ها الليل ، بشوفك فيك عزّ ابواتى ، ضرعاتك خضر يالباهى ، ما دايرالى من غيرك كفالة" ، فقسمها اختلف فى هذه المرّة ، فبدلاً عن القسم بأمّها ، التى قارنت معزّتها لها بالتى تحملها لوطنها ، حلفت "بالفرحة" ، وهى حالة شعورية فريدة لا تكرّر فى العمر كثيراً ، ولا أقول لا تكرّر أبداً مستحضراً قلب صديق عمرى عمر المبارك الذى ذاق تلك الحلاوة مراراً وتكراراً بواقع واحدة فاثنتان فى الإسبوع حتى وصفنا قلبه "بالفندق" وأكاد أقسم أنّه كان صادقاً فى شعوره فى كلّ تجربة ، وقد كنّا نعطى شريطاً لكلّ من ذاق مرارة الهجر ولكنّنا لم ندر بماذا ندعوه بع أن وصل لرتبة المشير فى غضون شهرٍ أو شهرين ، فمن جرّب الحبّ منّا لا بدّ وأنّهم ذاقوا طعم سعادة وفاق قلبين وتبادل العناق الروحى والعاطفى وما يخلّفه من فرحة لا تبارى.
    وقد ردّ إسماعيل حسن الكلمة لأصلها اللغوى حينما قال: "وحياة الآمال القلبى سقاها" ولا زلت أذكر كيف أنّ الكلمة وقعت وقعاً نشازاً فى أذنى ووددت لو أنّه قال (وحاة) ولكنّها البداوة وتأثيرها. ونلاحظ أنّ القدال احتوى المشهد كلّه قبل أن تجاوبه فى كلمات قليلة:
    "حلفت ناضرة ،
    حالفابو الصباح الباش يلوِّن فى المشارق
    والنسايم الجاية من تالانا تالا :"
    أقسمت ناضرة (ناذرة) والنذر يبذل لقضاء الغرض المرجو ولعلّها نذرت لشيخ معلومٍ بكراماته كشأن أهل القرى ، وكانت عمّتى هيف الجنان يرحمها الله ويحسن إليها عندما تصرُّ على شىء تقول : (اتحلّفت واتنضّرت لى الخليفة يوسف). والنذر علّته إتمام المرغوب فيه بشدّة.
    أو أنّها قد كستها النضرة ، وهو وصف حال ، كأنّها ثمرة ممتلئة ناضجة وقت القطاف وتعنى النضرة أيضاً الذهب. فلعلّ نضارها امتلاء الحبّ بالحياة والأمل أو لعلّه قصد أنّ سناها شعّ كنور الشمس الذهبى والصباح يلوّن المشارق بلونه الذهبى ، وكأن هناك انعكاس شمسين فى مرآة عينه ، ولكن المشهد يصوّر حالة احتفال نادر شارك فيها الكون بكلّ ما لديه ، فشمس الطبيعة أشرقت مثلما أشرق حبّيهما ، والنسائم رفرفت بيارقها فى تلك اللحظة التى انفلقت فيها حياة جديدة ، فالنسائم كائن كما وصف محمود درويش رحمه الله وأحسن إليه يصف هواء الجليل:
    "أمسك هذا الهواء الشهىّ ،
    هواء الجليل ، بكلتا يدىّ
    وأمضغه مثلما يمضغ الماعز الجبلىّ
    أعالى الشجيرات"
    أو كما قال شيخى محمد المكى إبراهيم:
    "تحسب أنها من أجله كانت ،
    وأن لأجلها خُلقا ،
    وأن عوالماً من آخرين تدبّ حولهما بلا أصوات".
    ولذا فقد أقسمت بهذه العوالم وأرفقت بقسمها نذراً مدركة مدى مشاركتها وكيف أنّ ديمومة حبهما مستمدّة من ديمومتها فاللحظة الحاضرة أغفلت الأمس والغد. وتالا من تولّى أو يتلو وهى بمعنى القرب من جهة وأيضاً بمعنى التتابع وهو معنى التلاوة ومن منّا لم يسمع "بالتوالى" ، ونرى القدال يستخدمها بالمعنيين فى سطر واحدٍ "من تالانا (من ناحيتنا) تالا (متتالية) وأهلنا يقولون "اتوالى لى غادى" ، وعلى أيّام التوالى وجّه محصّل الحافلة رجلاً ليفسح مكاناً لراكب آخر قائلاً "يا عم اتوالى لى غادى" ، فما كان من الرجل إلاّ واستشاط غضباً وقال صائحاً :"يا جنى أنا مع الشريف زين العابدين الهندى ما اتواليت ، دايرنى أتوالى ليك فى الباص".

    - حات أُمى البعزّها زى تراب حلّتنا
    ببقى حداك يالمريود
    واقول لى أهلنا ناس قدام
    وفى ها الحالة مى شينة القوالة.
    واساعل القمرة فى شانك
    واقولَّها :
    - هيلا يالقمرة ،
    وتانية وهيلا يالقمرة ،
    وتالتة وهيلا يالقمرة..
    دحين ساكن رويشات القليب ،
    فى الحلَّة ما رشَّ المقالة ؟
    وحات الفرحة فى ها الليل
    بشوفك فيك عزَّ ابواتى
    ضرعاتك خضر يالباهى
    ما دايرالى من غيرك كفالة".
    أقسمت بأعزّ ما لديها أن تظل (حداه) أى بجواره وفى لسان العرب حدا الشيءَ يَحْدُوه حَدْواً واحْتَدَاه: تبعه ، ووصفته بالمريود وهو المحبوب وهى مشتقة من أراد الشىء ولشيخى محمد المكى إبراهيم مقالة نشرت حديثاً يتحدّث فيها عن مريود شيخنا الطيب صالح عافاه وأبقاه الله ويردّ الكلمة إلى مظانها وأظنّ أن القدال هو السابق باستخدام هذه الكلمة فقصيدته كتبت فى عام 1971 بينما مريود تلت هذا التاريخ ولكنّه وصف شائع فى السودان الشمالى.
    واللطيف فى الأمر نيتها على إخبار أهلها "ناس قدّام" ، وللذين لا يعرفون القرى المتاخمة للنيل فهى تقسّم إلى "قدّام" ، وهى من مقدّمة القرية ، و"ورا" وهى كلمة وراء وتعنى مؤخّرة القرية. أو إلى "فوق" و"تحت" وهى بنفس المعنى. والسبب فى ذلك أن القبائل حينما تستقر فإنها تستحوذ على شاطىء النيل للزراعة وعلى مكانٍ سوى أو عالٍ للسكن بعيداً عن المزارع خوفاً من الحشرات والفيضان وتقليل رقعة الزراعة. وعندما تفد إليهم قبائل متأخرة تقتسم القرية فتكوّن الفرقان التى بدأت القرية فى أوسطها ويطلقون على من يسكن أعلاهم "ناس قدام" ومن يجاورون أدناهم "ناس ورا"، وهذا فى ظنّى والله أعلم. ولكنّها لم تقل "أهلى" وإنما قالت "أهلنا" ممّا يقترح القرابة بينهما ولذلك هان عليها إخبارهم وتبريرها أن مثل هذا القول لا ضير عليه فهو فى أمرٍ حلال "وفى هالحالة مى شينة القوالة"، وقد قال الإمام ابن الجوزى:
    "فعلى قدر ما عند الإنسان من التمام فى كمال الخَلْقِ والخُلْق ، يكون عمله" ، وقد أثبت لنا القدال ذلك من قبل عندما وصفها. وكلمة "مى" كما تقال فى البادية: "مى مسروقة أصلهـا عـند بـرنـجى الحلَّة" ، تقابلها كلمة "مو" عند أهل الشام وكلمة "مُشْ" عند المتمدّنين من أهل السودان الشمالى وأهل مصر. وقد استخدم القدال كلمة "قوالة" بدلاً عن "مقالة" التى استخدمها لاحقاً لنفس الغرض ولكن الفرق فى استقبال واستنتاج الناس فالحديث عنهما "قوالة" ، والقوالة تقال فى الخير والشر والقيل والقال فى الشرّ فقط والشخص القوّال هو الذى ينشر الكلام ولذا فقد نبّهت أن القوالة فى هذه المرّة خير وليست شرّاً، والحديث منهما "مقالة" أو كما قيل لكلّ مقام مقالا :
    "دحين ساكن رويشات القليب ،
    فى الحلَّة ما رشَّ المقالة ؟
    والقوالة فى العرف السودانى تعنى النميمة ، ولعلّها أدركت بحسّها الفطرى أنّ حصان الأمر سوف يجرّ معه عربة القيل والقال مهما احترزت ، ولذلك نبّهته بمداعبة لطيفة عندما طلب منها أن تقف حتى يقول فيها شعراً من الدوبيت ، من وجود العيون المراقبة ولك أن تتخيّل خلال هذه الواقعة صياح الديكة ، وثغاء الشياه ، ونهيق الحمير ، ونبيح الكلاب ،وصوت الأذان وحركة الناس بين مصلٍّ وسادرٍ لمعيشة:
    "وجاتنى النّهمة ، قُلْتَلا:
    - أقيفى داير ارميلى مرباعين
    وتبقى حَمالتى عند سيد الحمالة !!
    قالت والفجر فى خديدها :
    - يالممسوخ .. ويالمسخوت ..
    حدانا العين !!"
    إبداع القدال ، كما ذكرت ، يتكرّر فى استخدامه البلاغى الدقيق للكلمات لتوحى بالمعنى الكامل شعوريّاً حسب الحوّل فالشعر المعاصر انتقل من الوصف الحسى المباشر والتعبير عن الإحساس إلى الإيحاء بما وراء المعنى ولذا اختيار الكلمة ووضعها فى مكانها المناسب كالذى يضع لبنة فى بناء محكم لا تنبو عن مكانها وتوثّق وحدته العضوية بحيث لا ترى إلاّ البناء الكامل ولكنّك إذا فككته رؤية أو فعلاً انتبهت لأجزائه. فالقدال وصف ما حدث له ، حين أحسّ من ردّها بالموافقة المضمرة ، بالحالة:
    "عاد من حينى جاتنى الحالة"
    ولكنّه وصف حالته الشعورية ، حينما ضمن انحيازها الكامل له ، بالنهمة:
    "وجاتنى النهمة ، قلتلا:
    - اقيفى داير ارميلى مُرباعين"
    والنهمة هى بلوغُ الهِمَّة والشهوة في الشيء ولها أيضاً علاقة بالشهية فهو يقول أنّ شهيته انفتحت لقول الشعر ، فالمرباعين تعنى بيتين من الدوبيت ، وبلوغ الهمّة من العقل وبلوغ العاطفة من الشهوة ولو أنّه قال:
    "جاتنى الحالة" لكان قد رمى سهمه فى الظلام فأخطأ الهدف. "فالحالة" ليس معها استقرار نفسى أو عقلى ويغلب عليها الانفعال فهى كالمركب تتقاذفها الرياح يخشى قبطانها الغرق ، و"النهمة" حالة يعود فيها الاستقرار النفسى والتوازن ما بين العاطفة والفكر وإن كان للعاطفة اليد العليا ، بعد ضمان النجاة فيصفو الفكر ويبدأ الابداع. وعلوم الدماغ برهنت على أنّ منطقة الأفكار والعواطف تكمن فى قلب المخ ومنطقة التفكّر فى القشرة الأمامية له وهما يعملان بتضادٍ ، فعندما يكون قلب المخ فى حالة هياج يأتى الاندفاع فى العاطفة والفكر وتهمد منطقة التفكّر والعكس هو الصحيح. وأقرب مثال لذلك هو تشبيه منطقة قلب المخ بالفرس الجامح ومنطقة التفكّر بالفارس ممسكاً باللجام ، وهى منطقة القرارات ومقر العقل المكلّف. وشكل المنطقة الداخلية للمخ أقرب للضلع أو حدوة الحصان أيهما شئت وتسمّى المنطقة الحزامية أو الحدودية ، وهى أسمك عند المرأة منها عند الرجل ومنطقة القشرة أرقّ عند المرأة، ولذا يكثر الخصام بينهما وعدم التفاهم ، فالرجل يستخدم المنطق العقلى بينما تستخدم المرأة المنطق العاطفى وقد قال المولى عزّ وجل:
    "أومن ينشأ فى الحلية وهو فى الخصام غير مبين" ، وأظنّ والله أعلم ، أنّ المصطفى عنى هذا الضلع حين قال : "خلقت المرأة من ضلعٍ أعوج فإن أنت عدلته كسرته وإن تركته ظلّ كما هو فاستوصوا خيراً بالنساء" والمعنى أنّ العاطفة تغلب عندها على التفكّر وهو لحكمة تساعد المرأة على أداء دورها فى الحياة فمن أصبر على الرعاية وأقدر على الحنان والعطف من الأم؟ ويتّضح أنّ للرجل وفرة ونقصان كما للمرأة وهما يكملان بعضهما فهى قد خلقت منه. والكسر الذى عناه المصطفى هو الكسر النفسى فالنساء معرّضات للإكتآب والقلق بنسبة ثلاثة لرجل واحد ولذا فقد وصفهنّ المصطفى بالقوارير ، وهو الزجاج الرقيق ، ووصّى بالرفق بهنّ.
    والمسخ هو تحويل صورة إِلى صورة أَقبح منها؛ وفي التهذيب: تحويل خلْق إِلى صورة أُخرى مثل تحويل صورة الإنسان إلى قرد وللقرد فى شمال السودان ، إذ أنّه فى جنوبه وغربه وشرقه قد يكون مصدر ازعاج لكثرة عدده واعتياد الناس عليه فالمألوف لا يؤبه به.
    ولا أزال أذكر قرداً جلبه تاجر من جوبا لقريتنا وكيف كنّا نقضى الساعات الطوال تحت شجرة النيم الظليلة نرمى له بالفول السودانى ونضحك حين يقشرّه ، وغاية متعتنا كانت عندما يرى نفسه فى المرآة ويرمى بها فزعاً ، وكنّا نظنّ أنّه يرتعد من قبح وجهه ولكن لمّا أدركتنى المعرفة بمفهوم الذات المنفصلة عرفت السبب وكان فى منظر ابنتى ، وهى تتابع صورتها فى مرآة المتجر يميناً وشمالاً حتى تختفى ومن ثمّ تلتفّ حول المرآة لترى أين ذهبت البنت الصغيرة التى شاهدتها خير برهان على هذا المفهوم.
    ولذا فأهلنا فى الشمال يربطون هذا المعنى "القردى" بكلمتى ممسوخ ومسخوط. ولها أيضاً علاقة بالجن ولذلك يطلق نعت العفريت أو الممسوخ على نفس الشخص؛ وكلمة المسخوت من السخط بمعنى الكراهية للشيء وعدم الرّضا به وهما ، كما أشرنا ، يستخدمان فى السودان الشمالى بمعنى العتاب الرقيق للشخص المشاغب الجرىء الخفيف الظلّ الذى يُؤْلَف والذى يُقْدِم على فعل أو قول ما يختشى منه الناس أو المسكوت عنه ، مدثّراً له بثوب الفكاهة فلا يملكون إلاّ أن يعمّهم الفرح وهم يذكرون نوادره.
    "واساعل القمرة فى شانك
    واقولَّها :
    - هيلا يالقمرة ،
    وتانية وهيلا يالقمرة ،
    وتالتة وهيلا يالقمرة..
    دحين ساكن رويشات القليب ،
    فى الحلَّة ما رشَّ المقالة ؟"
    تواصل الرتينة كلامها بأنّها ستسأل القمر ، وقد أنّثتها كأنّها صديقة أو أمّ ترعاها وتحفظ سرّها ولعلّها كانت شاهدة على ما حدث ، عنه وشانك ليست عشانك أو علشانك كما يحلو للبعض أن ينطقها ولكنّها تعنى أصلها العربى "شأنك" بمعنى حالك وما صار عليك وما بدر منك ، ويجب التنبيه إلى الخطأ المطبعى فى التشكيل لشانك إذ كتبت بنون مكسورة ممّا يوحى أنّه هو المتحدّث ولكنها يجب أن تكون بنونٍ مفتوحة وبها يستقيم المعنى ، والتساؤل عن تشبيبه بها بقول الشعر والصورة الذهنية جميلة جمالاً لا يوصف فكأنّ حبيبها سيحمل سطلاً مليئاً بالغناء يرشّه أينتما حلّ كما ترش الماء تطرد حرّ السموم وتستدنى النّسم وفى عادة أهل الشمال أن يرشّ العرسان بعضهما باللبن دليلاً على بياض النيّة والفأل الحسن والحياة البيضاء الخالية من المنغّصات ولذا تغنى الأمهات:
    "يا عديلة يا بيضاءْ".

    وتؤكّد أنها ستسأل القمر أكثر من مرّة واستخدم القدال كلمة هيلا وهى للمناداة ولفت النظر والاحتفال وتستخدم فى مصر والشام أكثر من السودان ، إلا إذا أُتبعت بهوب مثل فرقة "الهيلا هوب" ، وقبيلة عتيبة تسمّى بعتيبة الهيلا وهى من هول وهو الشىء الكثير والمهول تعني.
    وتساؤلنا المعهود هو "هو لب لب" الذى استخدمه القدال ببراعة فى قصيدة حليوة :
    "يا قمحاتنا ... هو لب لبْ"
    ولعلّه تأثر بأهل الشام وفيروز تشجى الأسماع بأغنيتها:
    "هيلا يا واسع مركبك
    راجع بسمتك
    ليلة عبستك
    ليلة هيلا هيلا"
    وقد أطلقت عليه "ساكن رويشات القليب" ، وفى التصغير عذوبة تتماشى مع رقّة الرتينة ، وكلمة الرويش من ريش ، ومن رأى القلب من الداخل يجد فيه أعمدة تشدّ وثاق صمّاماته كأنّها ريش أجنحة ترفرف عند خفقانه ، فإقامته لصقاً لها ، كما وصفت ، كأنّه تعلّق بأستارها كما يتعلّق ضيف الرحمن بأستار الكعبة ، يأبى أن يزاح من مكانه ، وأليس ذلك طريفاً ومدهشاً فى نفس اللحظة إذ أنّ الكعبة أُقيمت على مثال عرش الرحمن الذى تطوف به الملائكة والذى وسع كرسيه السماوات والأرض ولم تسعه لضيقها. ويقول الحديث القدسىّ لم تسعنى السماوات والأرض ووسعنى قلب عبد مؤمن ، والمؤمن الحق من أحبّ مولاه لا خوفاً من ناره ولا طمعاً فى جنّته ولكن طمعاً فى لقياه والنظر إلى وجهه الكريم.
    "وحات الفرحة فى ها الليل
    بشوفك فيك عزّ ابواتى
    ضرعاتك خضر يالباهى
    ما دايرالى من غيرك كفالة.
    وجاتنى النهمة ، قلتلا:
    - اقيفى داير ارميلى مرباعين
    وتبقى حمالتى عند سيد الحمالة.
    قالت والفجر فى خديدها:
    - يالممسوخ .. ويالمسخوت ..
    حدانا العين !!
    بعد أن حصل على "وظيفة" حبيب أوحد فى مؤسسة حياتها وأعطته أفضل مكتب "قلبها" حدّثته بأسباب كسبه للوظيفة ، ألم نقل بأنّها معاينة ، وقالت أنّها ترى فيه أنفة وعزّة أبهاتها فكلّ فتاة معجبة بأبيها ولكنّها جمعت فلها أكثر من أبٍ تفخر به بشهادة القدال نفسه : "بنية لى سالم ولد عتمان وأمّها بت على الخمجان" ، وأيضاً بالسبب الذى جعلهم متميزين عن غيرهم : "ضرعاتك خضر يالباهى" ، والذراع الأخضر دليل النجاح كأنّه يحول كل ما يلمسه إلى ذهب أخضر ناضرٍ فهى تُطلق على الذين يتبعهم الرزق أينما حلّوا ولا يطاردونه أينما حلّ ، ولكنّها ايضاً ألصقت به وصف "باهى" ، وقد يكون بهاءً خَلْقيّاً أو خُلْقيّاً وكانت دعوة المصطفى عندما ينظر إلى المرآة : "الحمد لله الذى سوّى خَلْقى وزان منّى ما شان من غيرى ، اللهم كما حسّنت خَلْقى فحسّن خُلْقى" ، ومن التى تريد محبوباً يحتاج لعملية تجميل؟ وأنا أطرب عندما أسمع أصدقائى من المغرب العربى يحيّونك : "باهى؟" فيا لها من بلاغة.
    والبليغ فى الأمر أنّها قرنت صفات الطبع والقوة والطلعة وابتدأت بالطبع الذى ألحقته بآبائها ، وهم قد ضمنوا لها معيشة سمحة رغدة ، ثمّ أتبعته بالقدرة على الإعاشة بالتمعّن فى قوّة ذراعيه المنتجتين الخضراوين ثم ختمت بالطلعة وهنا نكتة طريفة ، كما يقول محدّثونا الأوائل ، فالبحوث فى جامعة قلاسقو أثبتت أنّ المرأة تختار الرجل حسب مرحلة دورتها الشهرية فإن كانت فى حالة الاستعداد للحمل أو إفراز البيض فهى تفضّل الرجل الذى يثبت مقدرته على إعاشتها وحمايها وتبحث فى وجهه عن معالم الرجولة وإن كانت فى فترة طمثها فضّلت بهىّ الطلعة ، دقيق الملامح على غليظها والسبب إحساسها بالضعف وتزعزع ثقتها بنفسها فهى لا تريد إلاّ رجلاً رحيماً عطوفاً يشعرها بقيمتها وبحبّه لها تأنس له حتى استرداد عافيتها.
    فكم من بهىٍّ اعتمد على وسامته وقد ظنّ أنّه ضمن حبيبته ويأتى قمىء الطلعة يخطفها منه بماله وعتاده ولا يفهم كيف أنّها خانته وتعتذر هى بإصرار أهلها ويلعن الزمن فنصيحة منّى إن كنت ذا مال بلا جمالٍ فاسأل أختك عن مرحلة دورة من أرادها قلبك قبل أن تقدم على خطبتها والعكس هو الصحيح لمن حاز الجمال وطفق يندب حظّه ، ولعلّ ابن الملوّح لو عرف بهذه الحقيقة لما كنّا نستمتع بأشعاره فالمجد للجهل أحياناً.
    ومن كلّ هذا نستشفّ أن محبوبة القدال كانت فى حالة استقبال ولذا فقد انفتحت كلّ مسامها وأعلنت أنّها لا تريد كفالة من غيره ، وحماها الله إن كانت مثل كفالة أخوتنا فى الخليج ، فنرى تأكيدها على سبب اختياره باختيار كلمة الكفالة وتنويهها على ما تتوقّعه منه أولاً وهو العمل قبل الغزل :
    "بعد ما تسدر الضحوية
    خت الفاس على كتفك
    وبوبح غادى نِمْ فوق البعجبك زين .."
    فهو بذلك سيكفيها عن آبائها والاعتماد عليهم ويقرّ عينها فلا تنظر لآخر ، وما إظهار النعمة عند النساء إلاّ لإثبات مقدرة الرجل والفخر باهتمامه بها ومعزّته لها.
    والسادر هو الذي لا يَهْتَمُّ لشيء ولا يُبالي ما صَنَع ولكنّنا نستخدمها بمعنى ذهب أو غادر ونقول:
    "الحضر حضر والما حضر المال سدر". أكدّ على كلامها ، وللمرّة الثانية استخدم الطباق فى كلمة زين بمعنى كثيراً وبعنى الموافقة:
    "قلتلا :
    - زين.
    داك الحين ..
    بشوفك يالرتينة مع الشمس بتلالى
    منّاك للسحاب
    الكابى فوق حلتنا
    كان عامل ضلاله"
    ثمّ لأوّل مرّة يناديها باسمها وهو دليل الإلفة وكما يقول صديقى سامى عبدالقوى فى مصر الحبيبة ، وأنا أفضّل أن أصفها بالحبيبة لا بالشقيقة فكم من شقيقة مكروهة ، وهو يمزح مع زوجته:
    "دا انتى أخدتّى علىَّ خالص باقيلك (بائيلك) تندَهيلى باسمى" أو يقول أولاد جون ، كما تقول أختى أم سلمة محمد أحمد ، فى بلاد الفرنجة عندما يخطرونك باكتمال جسر المودّة:
    "من الممكن أن تنادينى باسمى الأول".
    وقرن ذلك بالشمس ، إذ أنّه لن يرى شمساً غيرها بعد تلك الليلة ، وأكّد أنّها ستلألأ أكثر من الشمس التى تغطيها السحب وقد وصّف ظلّ السحاب كالدخان الذى ينهدل على القرية والكابي هو التراب الذي لا يستقر على وجه الأَرض ، وقد كَبَّى ثوبه أَي بَخَّره ، وتَكَبَّت المرأَة على المِجمر أى أَكَبَّت عليه بثوبها فانظر إلى جمال الاستعارة والوصف الموحى. وواصل التعبير عن حالته الشعورية المستقبلية برؤيته لها فى كلّ شىء حتى فى عيون الفتيان التى تشع بحبّها وحب بلدها وتسير كالقناديل الوهّاجة برغم معاناتهم فالعشق وقودهم الذى لا يفنى ، وتأمّل الجناس فى :
    "العشق لصّف ضياهم
    والنهار وصّف خطاهم"
    وهنا كما يقال ضربة معلّم حينما مزج الخاص بالعام ، فهو برغم لحظة بعثه من مواته القديم لحياة جديدة ثرّة سيّارة التيّار لم ينس الهمّ العام فاهتمامه بتعاسة أترابه ، وزراعتهم للصبر على ظهر الأماكن الممتدّة الشاغرة ، دليلاً على كثرته وديمومته ، ليستعينوا به على شقاوة حالهم القاسية ، كمثل الكتف الذى استغلظ جلده من كثرة الحمل الثقيل ، تعنى رهافة فى الحس وكرم نفسٍ يتعدّاه ويعمّ غيره فحبيبته لم تكذب أو تبالغ حين قالت له : "بشوف فيك عزّ أبواتى" ونحن نعلم أنّ جدّها (عليّ الخمجان خريف الرّازّة ، عزّينا) ، ولم يكن ليلومه أحد على الاستمتاع وحده بهذه اللحظة :
    "واشوفك فى عوينات الصبيّن ...
    العشق لصَّف ضياهم ..
    والنّهار وصَّف خطاهم
    والصبر ، زارعنو فوق ضهر البيادر ،
    فوق كتافين السقالة."
    ويواصل فى مزجه للخاص بالعام حين يقول:
    "أريد ريدك سماح أهلى
    واريد ريدك كفاح أهلى"
    فهذا الوعى المبكّر بما حوله جعل من القدال الإنسان والشاعر العظيم الذى هو الآن. فالشعر العظيم يرى من خارج الصندوق وتتّسع رؤيته باتّساع رؤيا المبدع. ونلاحظ مرّة أخرى استخدامه للجناس فى كلمتى (سماح ، والسماح هو الجود) و (كفاح) لينتج غنائية عذبة ينتقل بها بسهولة ويسر بين همّه الخاص والعام فلا تدرى أيّهما أحبّ إليه مثلما فعلت حين جمعت بين معزّتها لأمّها وتراب وطنها. هذه معانى تريد تأمّلاً أكثر أقدر به الفلاسفة.
    وهذه الأوصاف هى مبالغات شعرية وشعورية محبّبة فى الشعر تعطيه قيمة أسلوبية إضافية وهى من دعائم الشعر الجيّد. وإذا تمعّنا فى القصيدة فسنجد الكثير من النص يحفل بصيغة المبالغة مثل بداية القصيدة حين وصفها ، كأنّها لا نقيصة لها ولكنّها عين المحب ترى فى كلّ عيبٍ كمالاً ، وأيضاً مثل: "عيونهن هارجة" ، "خدودهن واجّة" ، "زى جهر الكهارب الفى المداين" ، "جدعت بالبسم رشّاشها" وهكذا.
    "واريد مهواك
    واريد انسانك الجوّاك
    اريدك والله زى آخر الحتالة"
    هنا ينتقل القدال للمفاهيم العامّة مثل حبّه لحبّه لها وحبّه للإنسان الذى فى داخلها وهو ارتفاع بالمعنى وتجريد له من المعانى الملموسة الحسيّة. ونحن نقول (جُوّه) بمعنى الداخل وأظنّها مشتقة من جوى وهو الهَوَى الباطن. ثمّ يعطيها فكرة عمّا قصد بإرجاعه للتجريد مرّة أخرى للملموس والتجربة المحسوسة وهو الأسلوب القرآنى فى تقريب المعانى بضرب الأمثال: "ويضرب الله الأمثال للناس لعلّهم يتفكّرون" والتفكّر هو تجريد المعنى واستنباطه من التجربة بتقريبها للأذهان من خلال ما نعرف ونشاهد ، ولذا يصف حبّها له كحبّ الوالد لآخر نسله وهى معلومة معروفة فى المجتمع ، والحتل يدلُّ على القِلَّة والصِّغر وهذا الوصف من العبقرية السودانية الشعبية وهو مستمدٌ من الوصف لما يتبقّى فى قاع الكوب أو الإناء من المواد مثل بقايا ورق الشاهى.
    وهذا يذكّرنى بأخى الراحل أحمد محمد الطيب حينما كان يلاعب أصغر أبنائه فأخذت محبّته بتلابيبه فنظر إلى أمّه قائلاً: "هسّه يا أمّى بالله زمان كنتى بتريدينى زى ريدتى لى ولدى دا" ، فكان ردّها : "يا ولدى لى هسّه بريدك" ، رحمهما الله وأحسن إليهما.
    ثمّ تنحو القصيدة فى نهايتها منحىً غنائياً صرفاً وكأنّها احتفال لا نهائى وكأنّه يغادر خشبة المسرح قبل إسدال الستار معلناً مصير المستقبل وما ينوى فعله وفى نفس اللحظة يطلب منها مبادلة الفعل والعون معطياً لها قيمة وفعلاً موجباً محوّلاً إيّاها من مستقبلة فقط إلى مشاركة وهذا يلخّص نظرة القدال المتقدّمة لدور المرأة كشريكة معطاءة وليست سالبة فالحياة تبنيها الشراكات المتساوية الحقوق والواجبات:
    "وادوبيلك .. .. وادوبيلك
    أشيلك غُنوة للسمحات ..
    انمِّك فى تراتيلى
    وادوبيلك
    وكُل ما العتمة تنـزل سابلة ...
    أنسى عناى
    أتاوق لى قناديلك .. وادوبيلك
    واشد حيلى ... وادوبيلك
    إذا مغناى
    ببرِّد فى الحشا صبرك
    يرجِّع لى تهاليلى ..
    بدوبيلك ..
    وادوبيلك
    ولو الشوق عرف بكّاك
    أطرى غناى ..
    أطْرى غُناى .....
    عليك العزّة يالمريودة .. دوبيلى
    وعليك العزة يالمريودة ...
    دوبيلى".
    وقد حدّد الداء وعلاجه لأعراض العشق وهما شتيتان حتى يتلاقيا ، والوقاية خير من العلاج ، فقال كلّما أظلمت عليه نفسه وضاقت به الدنيا بنـزول العتمة سابلة ، والشىء السابل هو الذى يهطل غزيراً ، لجأ لنورها ، وهى كقوله تعالى:
    "حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم" ، ووصفه للضيق النفسى بالعتمة بليغ لأنّ الضيق دليل الظلمة والنور قرين الانشراح ألم تسمع قول المولى عزّ وجلّ:
    "فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيّقاً حرجاً كأنّما يصعّد فى السماء" وقرن المولى عزّ وجلّ شرح الصدر بالنور فقال:
    "أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه" ، ولذا فقد نوّه القدال على أنّ علاجه سيكون فى استعانته بنور قناديلها حتى ترجع قواه ويواصل المسيرة والفرنجة يقولون عند اليأس التام: "لا أرى ضوءاً فى آخر النفق" .
    ويعرّف أصدقائى هذا الأسلوب "بشحن البطارية" ، ولى صديق كان كلّما ضاق به الحال يذهب لخطيبته ، على حسب تعبيره ، (ليشحن بطاريته الفارغة) ، بعد أن أصبحت طاقتى الكهربائيّة غير كافية له "ومش قدر المقام" ، ولكنّه بعد انتهاء العسل لجأ للمحطة الحرارية القديمة.
    وايضاً قال لها أن تتّخذ مغناه بلسماً يشفى ويبرّد حرارة جوفها إذا قلّ صبرها عن عدم رؤيته فبكت من الشوق إليه ، والحَشَى هو ما دُون الحِجابِ مما في البَطْن ، وأطرى أى تذكّرى غنائى وشعرى فيك و طرا تعنى فى لسان العرب أَتى من مكانٍ بعيدٍ والتذكّر لا يكون إلاّ بردّ شىءٍ بعيد. وأخبرها أنّه إذا برد حرّ حشاها فسترتد إليه سعادته على أنّه نجح فى شفائها وليس هناك أكثر ألماً من محبٍّ يرى شقاء حبيبه ويشعر بالعجز عن مساعدته.
    ويستحلفها بها أن تغنّى له فترعاه بكلماتها وفى فؤادها ويردّد الطلب كأنّه صدى لا نهائى يشمل حاضره ومستقبله حتى الفراق الأكيد. ولقد وددت لو أنّه ختمها بتأكيدها بالاستجابة لطلبه وأحسست فى النهاية حوَلٌ ولكنّه حَوَلٌ عذب كمثل قول شيخى محمد المكّى إبراهيم:
    "لضيفينا عذوبة دميةٍ حولاء" ، ولعلّ القدال أخذته صولة الرجولة وارتدّ لدور الحامى الفاعل. وتركيز القدال على "الدوباى" ينطلق من أنّ الشعر هو أصل الحضارة وأوّل ما ألّف الإنسان كان شعراً وملحمتى هوميروس الإلياذة وأوديسّة كانتا شعراً بلغة يونانية دارجية كانت تتلى على تجمّعات الناس وكنت وما زلت أعتقد أنّ القدّال سيكون أقدر الناس بكتابة الملحمة فى السودان مثلما فعل الخال عبدالرحمن الأبنودى فى ملحمة أحمد سماعين والتى يعتبرها وأعتبرها أفضل أعماله. فهى عن أشخاص عاشوا معه وكانوا جزءاً من حياته فجعلهم أبطالاً مخلّدين مثلما فعل هوميروس وقد أخبرنى الخال الأبنودى أنّه عندما ذهب للبلد بعد خروجه من السجن ونشره للملحمة كان النّاس فى سعادة بالغة وكأنّهم طالوا من الفخر وكانوا يتندّرون على من لم يذكر ويعيّرونه قائلين: "إنت ما جاش اسمك فى الكتاب". وقد كانت وما زالت نيّة شيخنا الطيب صالح ، عافاه الله وأبقاه ، أن يكتب إلياذة أو إليادة سودانية على حسب قوله: "إن ثبات قرية ود حامد كمسرح دائم للأحداث تفسره رغبتى في صنع إلياذة منذ بدأت أكتب. حاولت أن اصنع ميثولوجيا أقدم فيها شخصيات فلاحين بسطاء في قرية سودانية وكأنهم شخصيات ملحمية في الالياذة. حاولت أن أصنع الياذة على طريقتي. إن ابطال الياذة هوميروس مستوحون من الواقع اليوناني العادي وأهل ود حامد مثلهم يستحقون الياذة لماذا لا؟".
    والقدال فى هذه القصيدة برهن على مقدرته الملحميّة فهذه القصيدة تكسر تعاريف الشعر المعهود فلو طبّقنا عليها مواصفات وشروط الملحمة لكانت "كبسولة" ملحمية فهى لها (زمكان) الملحمة بشخوصها ودراميتها وأحداثها وثيمتها ولو أنّا قلنا أنّها من زمرة القصّة القصيرة لكانت من أميز وأجمل القصص ولو اعتبرناها مسرحية لما أخطأنا القول وهى بمثابة "مسرحة للشعر" ، ولا أذكر أىّ عملٍ مشابه من قبل قدّم فيه الشاعر ، من خلال عملٍ واحدٍ محكمٍ ، تسوده وحدة عضويّة وتسرى فيه حياة صاخبة وتعبّر عنه لغة حيّة موحية ذات إشارات ودلالات وسردية عالية، وصفاً للشخصيات وسلوكهم وللمكان والزمان والمواقف والحوار ، كما فعل القدال فى هذا العمل. وأنا أفضّل أن يكون العمل باللغة الدارجة حتى يصل المعنى لشريحة أكبر من الناس فينتقلون نقلة نوعية ودور الراوى وربّابته فى المقاهى المصرية شحنت أذهان الأطفال بالملاحم وثبّتت أوتاد الأدب فى فؤادهم ولذلك أظنّ أنّهم سبقوا العرب فى الأدب لهذا السّبب. ولا أظنّ أنّ شعبنا مستعد لاستقبال عمل ملحمىٍّ باللغة الفصحى وفى انتشار مسرحيات تاجوج والمحلّق وبامسيكا وخراب سوبا أكبر دليل. وهذا يذكّرنى بملحة طريفة حكاها لى أخى النطاسىّ البارع دكتور هشام حمدالله عن واحد من طلبة جامعة السودان الأفارقة الذين يدرسون اللغة العربية لغير الناطقين بها ، بعد أن ركب الحافلة وأعطى المحصّل مبلغاً من المال ولم يرد له الباقى وعندما اقتربت محطّته نادى المحصّل وقال له بلغة عربية سليمة:
    "عندما ركبت فى الحافلة أعطيتك مبلغ عشرة آلاف جنيه ولم تعطنى الباقى" ، فردّ عليه المحصّل وهو فاغر فاه دهشةً ، كما يقولون ، "صدق الله العظيم".

    ومن أجل أن نقيس قيمة عمل القدال الإبداعى فى استخدام اللغة كأداة موحية أو معبّرة أو مقرّرة يجب أن نبدأ بتعريف المفاهيم المستخدمة فى العمل المبدع. فهنالك أربعة مراتب للفهم ، حسب تقديرى ، فهو قد يكون تقريريّاً مثل الأمر الواضح الذى لا يقبل التأويل:
    "قم للمعلّم وفّه التبجيلا"
    "أو تفسيرياً وهو ما يفهم من مقارنة الشىء بالشىء مثل مقارنة المعلّم بالرسول :
    "كاد المعلّم أن يكون رسولاً" فنحن نفهم سبب الأمر بالوقوف والتبجيل لأنّ المعلّم يشابه الرسل فى نشر المعرفة وتبليغ الرسالة ونكران الذات.
    والتقرير والتفسير لا يحتاج إلى أكثر من فهم اللغة وطبيعة الشىء الموصوف وهكذا كان معظم الشعر فى العصور السابقة بل كان تضمين المعنى يعدّ عيباً بينما الآن يعدّ ميزة. فالغوص لاستخراج لآلىء المعنى لا يستعصى على الكثيرين.
    أو قد يكون استنباطيّاً وهو ما يستنبط من حقيقتين والناتج يكون مختلفاً ولكنّه غير شديد الغرابة:
    "الله يا خلاصيّة
    يا حانة مفروشة بالرمل"
    فنحن نحتاج للتحليل لاستنباط ما عناه الشعر باستخدام لغة موحية ورمزيّة بحيث تختلف التفاسير والمعانى المستنبطة ففهى لهذا البيت من قصيدة شيخى محمد المكى إبراهيم هو أنّ الخلاصية المذكورة كانت نتاج اختلاط بين الزنج والعرب ورمز للزنج بالحانة وهم أهل طرب يحبّون الراح ورمز للعرب بالرمل أو أنّه رمز للزنج بالحانة وهى مؤنّثة فكأنّها الرحم وللعرب بالرمل وهو مذكّر وكأنّه المنى ومن تداخل الإثنين واختلاطهما نتج اللقاح ووُلد شعب شمال السودان الخلاسى الذين رمز لهم بالخلاسية المملوءة الساقين أطفالاً خلاسيين أو يمكنك أن تقول أنّ الحانة ترمز لثبات الزنج كما الغابات والرمل يرمز للتنقّل وبذا يكون كالبدو.
    والمولى عزّ وجلّ يقول فى الاستنباط :
    "وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُ"
    فحدّد أنّ الاستنباط أصعب ويحتاج إلى درجة من العلم أكبر من مجرّد فهم معانى الكلمات والطبيعة وإنّما يحتاج لأدوات أخرى مثل القياس.

    أو قد يكون الفهم تأويليّاً وهو ما ينتج من مجموعة تفاعل أفكار لا تقلّ عن ثلاثة وتؤدّى إلى جديد غير متوقّع لم يحدث من قبل وشديد الغرابة يفتح مجالاً للفهم وللتقدّم والابتكار لم يسبق من قبل مثل نظرية النسبية أو كما قال صديقى وأستاذى محمد عفيفى مطر :
    "نداءات على الجدران لم تقشّرها الأظافر ولم يغسلها المطر
    اختبىء يا قطاراً يهرول فى الحلم ،
    صوتك يخلع ريش النشاز الملون ، يسقط بين
    الصدى والصدى ، وتصنفره شفرات الأظافر ،
    يدخل أوركسترا الأسر"
    ويقول المولى عزّ وجلّ فى التأويل:
    "وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون فى العلم"
    فهذه مرحلة خصوصية قد لا يعلمها إلاّ الله أو من أعطاه من علمه اللدنّى ، والرسوخ فى العلم تعادل مرتبة (المعلّم) التى تحدّثنا عنها وعلم الاستنباط هى مرتبة (الخبير) ، ولنا فى قصّة سيدنا موسى مع الرجل الصالح خير عبرة للفرق بين الخبير والراسخ فى العلم.
    فالأسلوب والمضمون عند القدال كانا حذو النّعل بالنّعل وهو استخدم المفاهيم الثلاثة الأولى ونأى عن التأويل ممّا أعطى القصيدة مجالاً لتصل للناس وتمتعهم حسب درجة فهمهم. ولكن اختياره للكلمات جعل نفس البيت يحمل الثلاثة أوجه فى نفس اللحظة ،
    فوصفه لمحبوبته يبدو تقريراً:
    "بنية لى سالم ولد عتمان
    وأمّها بت على الخمجان"
    ولكنّك إذا تمعّنت فى معانى الكلمات فستجد أكثر من معنى للتعريف وذلك بوصف جدّها وإهمال اسمها وتسمية أباها تنتقل تلقائياً للتفسير وتنتفى صفة الخطابة المباشرة ، وإذا أضفت بقية التعريف:
    "خريف الرّازّة ، عزّينا"
    تجد نفسك تستنبط أكثر من معنى وتنتهى الشكلية السطحية للنّص ، كمثل وصفه للرّازّة أهو رمز لضعاف القرية؟ وهل الخريف يمكن أن يكون له نفس الوقع فى بلد مثل بريطانيا لو كان الشاعر بريطانيّاً؟ ، ولمّا كنت أسمع أغنية الصديق المبدع المقيم فى قلبى دائماً عثمان حسين ، رحمه الله وأحسن إليه ، والتى كتبها الأستاذ صلاح أحمد محمّد صالح فى لندن (يا ليالى المصيف قولى لخلّنا ، أوراق الخريف حامت حولنا) كان المعنى يعمى علىّ وكان فهمى للخريف أنّه مدعاة للبهجة والاخضرار حتى قدمت إلى بريطانيا وجرّبت الخريف فوجدته كالفتاة التى نفق حسنها وتساقطت أسنانها وزادت لمرارة الغربة اكتآباً ذكّرنى بالخريف الذى عشقته فعلمت ما قصد.
    فالوحدة العضوية بين كلمات وفضاء القصيدة تعطيها أكثر من أفق كما ينكسر الضوء على قطعة الماس فيتلوّن والضوء هو الضوء والماس هو الماس ولكن اجتماعهما أوجد أكثر منهما ، وهو نتيجة للتفاعل ، فصارت كلّ كلمة تحمل رؤية لعالمى القدال الخارجى والداخلى ورؤية علوية تنتج من تفاعل العالمين تتعدّاه إلى التخوم الإنسانية الكبرى ونجد صوراً ذهنية نتجت من قدرته التخييلية وكلماته المعبّرة والموحية فيأخذ كل إنسان منها على قدر ماعونه. وهذا ما يميّز عمل القدال أنّه عمل غير متقاعس بل ينـزع للنهوض بالمعنى والرؤية والحكمة وهو ما يفرّق العمل العظيم الحى من العمل الناقص أو الميت.
    فالمبدع الذى يحمل وعياً كاملاً وهويّة ذاتية لا لبس فيها ولا دخن وإرادة غير مرتهنة لغير موهبته متفرّدة عمّن سبقها ولحقها يكون إنتاجه طفلاً شرعيّاً لا لقيطاً ينتمى لغيره متطابقاً مع نفسه بأبعاد وأهداف معرفية وتنويرية متّصلا بموروثه ومتميزاً عن رصفائه نامياً نموّاً طبيعياً وصحيّاً مجانباً للغموض المبهم ومتصالحاً مع الرمز الدّال الذى يحمل مفاتيح عوالم الروؤيا والدهشة ولكنّه ليس كالمومس التى تهب نفسها للكلّ وإنّما كالكريمة التى لا تنال إلا باقتحام العقبات.
    وفى ختام هذا المقال أودّ أن أنوّه للأكاديميين المنهج الذى اتبعته وهم وهنّ لن يجدونه أو يجدنه فى قراطيسهم أو قراطيسهنّ والسبب لأنّنى لا أفهم فى معايير المناهج ولا هذا مجال اختصاصى وأنا أتجنّب الأعمال الأكاديمية لجفافها وعدم نزولها للعامّة. وقد يبدو من المقال أنّنى اتّخذت منهجاً تفكيكيّاً ولكن ذلك غير صحيح ، فالتفكيكية هى تعرية للنص وتقويضه بأن تبحث داخله عما لم يقله أو المسكوت عنه ومهاجمة الصرح الداخلى الشكلى أو المعنوى ، ومن يتأمّل يجد مدى حبّى للنّص وهو يبعدنى عن الموضوعيّة العلميّة. ولكنّنى سلكت مسلكى فى التفكير واستخدمت أدوات من معايير منهجية مختلفة مثل اللغوية والتحليلية والجدلية بطريقة تكاملية استكشافيّة يحكمها النّص ولا تحكمه.
    وأخيراً فمن وجد فيها متعة ومنفعة فهو المطلوب ولا ينسانا من صالح دعائه ومن وجد فيها ثقلاً فليصفح عنّا وأيضاً لا ينسانا من صالح دعائه سبحان الذى لا ينسانا ولا ينساكم.

    د. عبدالمنعم عبدالباقى على
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de