دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
مولد موهبة روائية كبيرة .... الطريق إلى المدن المستحيلة فتح جديد للرواية
|
مولد موهبة روائية كبيرة
( الطريق إلى المدن المستحيلة ) فتح جديد للرواية السودانية عبد المنعم عجب الفيا
عندما قرأت كلمات الإطراء التي كتبها الروائي المصري المتميز صنع الله إبراهيم على غلاف رواية ابكر آدم إسماعيل " الطريق إلى المدن المستحيلة " ظننت أول الأمر أنها لا تعدو أن تخرج عن عبارات المجاملة والتشجيع التي يتفضل بها عادة كبار الكتاب على الناشئة . فقد خبرت ابكر إسماعيل شاعرا ولم أخبره قاصا . ولعل قصيدته " الوتر السادس " التي وجدت إعجابا من عشاق الشعر المتمرد هي الأكثر شهرة بين أشعاره . فقد أعاد فيها قراءة سير رموز وأبطال الثورات الوطنية السودانية بالمقلوب . وذلك في محاولة ساخرة لنزع هالة التقديس عن الماضي وإفساح المجال للنظر إليه نظرة موضوعية .
ولكن عند الفراغ من قراءة الرواية تبين لي أن صنع الله إبراهيم لم يقل إلا الحق وأن الكلمات التي وصف بها هذه الرواية الصاعقة جاءت في محلها تماما حيث يقول : " رواية فاتنة ، تقدم المشهد السوداني المعاصر برؤية ساخرة وتضع كاتبها في موقع الصدارة من خارطة الإبداع العربي " .
لا أزعم إنني قرأت كل الإنتاج الروائي السوداني بعد الطيب صالح ولكنني في حدود ما قرأت أقول أنه بعد روايات الطيب صالح وباستثناء رواية " طائر الشؤم " لفرانسيس دينق ، بالرغم من الصمت وسوء الفهم الذي قوبلت به من النقاد ، أقول إنني لم أقرأ رواية سودانية في مستوى رواية " الطريق إلى المدن المستحيلة " . ربما يكون في هذا الرأي شي من المبالغة وربما يرى فيه البعض إجحاف بحق أصوات روائية أخرى يرون فيها بعض التميز مثل أمير تاج السر وأحمد حمد الملك وطارق الطيب وبثينة خضر وآخرين . ولكن على أية حال هذا ما أحسه كقارئ وكناقد .
المشكلة إن بعض كتاب الرواية عندنا لا يتعدى مفهوم الكتابة الروائية عندهم ، سرد وقصص لوقائع وأحداث بلا أدنى رؤية فلسفية أو فنية تقف وراء السرد وتوجهه وبلغة نمطية تكاد تصلح لقول كل شئ وتخلو من أية بصمة أسلوبية خاصة تميز كاتبها . والبعض الآخر من الكتاب انجرف وراء بريق إطروحات الحداثة فانحصر مفهوم الرواية عنده في نفى العناصر التقليدية لفن القص والمراهنة فقط على ما يسمى بشعرية القص وتفجير إمكانيات اللغة واللعب الحر بالزمن الروائي دونما ضابط أو ضرورة فنية لذلك . والنتيجة الطبيعية أن يفشل كلا الفريقين في استقطاب القارئ المتذوق والمتعطش لهذا الفن الصعب المراس .
أما ابكر آدم إسماعيل فلم يرهن فنه لشكل روائي مسبق ، بل ترك موهبته على سجيتها فجاءت روائية جامعة لكل مزايا الفن الروائي الأصيل والحديث . أكثر من ذلك أن لأبكر ما يقوله ويعرف كيف يقوله وهذا هو الأهم . ولعل اللغة من أهم ما يميز " الطريق إلى المدن المستحيلة " فاللغة هنا ليست مجرد وسيلة جمالية للتعبير ونقل الحدث وليست غاية في حد ذاتها بل هي جزء لا يتجزأ من الحدث نفسه . وهي من فرط حيويتها وحرارتها وواقعيتها كأنها تتخلق مـع الحدث . فالسياق هو ما يحدد طبيعة هذه اللغة . فهي تنغرس في لحم الواقع الحي إلى درجة خدش الحياء العام والاصطدام بالمقدس وتارات أخرى ، عندما يقتضي السياق ذلك ، تصفو وترق لتحلق بك في سماوات من الخيال الشعري الرصين ولقد أظهر الكاتب قدرة فائقة في إدارة الحوار واستنطاق الشخصيات باللغة التي تعبر عنها تماما والقدرة على خلق المفارقات والمشاهد الطريفة الساخرة التي تنتزع منك الضحك انتزاعا .
وما يميز هذه الرواية أيضا أنها كتبت بنفس روائي واحد . فأنت منذ أن تبدأ في القراءة تستغرقك تفاصيل الرواية وأحداثها حتى النهاية دونما أن تحس بأي فتور أو ضعف في القص . فالبناء الدرامي مشدود ومتماسك وإيقاع الأحداث منتظم ومنضبط تمسك فيه الأحداث بعضها رقاب بعض دونما افتعال أو تكلف . وباختصار تجد نفسك أمام فنان عارف بفنه واثق بموهبته ، حساب لكل شئ حسابه .
ولكن رغم كل هذا الكلام لابد أن أقر بأنني ما قصدت بذلك إلى تقديم دراسة نقدية لهذه الرواية بقدر ما قصدت إلى التنويه بهذه الرواية وقول كلمة في حق هذه الموهبة الروائية التي اعتبرها إضافة نوعية وفتحا روائيا جديدا في عالم الرواية السودانية . وإذا جاز لي أن أتطرق إلى مضمون الرواية فأقول أنني لا أميل إلى الحكم على العمل الروائي من خلال المضمون الذي يتناوله لأن المضمون مهما كان نبيلا لا يمكن أن يخلق عملا روائيا ناجحا . كما أن عزل المضمون والحكم عليه مجردا من السياق الروائي فيه ضرر بليغ بخصوصية العمل الروائي – ولكن إذا كان لابد من إعطاء فكرة عامة عن مضمون الرواية مع الأخذ في الاعتبار هذه المحاذير فأقول ، إن الرواية تشتغل على خلفية التغييرات الاجتماعية التي طرأت على المجتمع السوداني في الربع الأخير من القرن العشرين وتحديدا من قيام انقلاب مايو 1969م وحتى قيام حكم الإنقاذ في 1989م وذلك في أسلوب فني ساخر بعيدا عن لغة الخطاب السياسي المباشر ومن خلال تتبع سيرة حياة ( جو ) بطل الرواية . وأسمه الأصلي ( جومو ) سماه به خاله
عبد الرحمن النور أحد الطليعة المثقفة تيمنا بالمناضل والزعيم الكيني جومو كينياتا فتحول بقدرة قادر إلى ( جو ) علـى لسـان زملائـه في المدرسة وإلـى ( جدو ) على لسان أمه بنت النور . دخل ( جو ) المدرسة مع مجي ( مايو ) وبداية السلم التعليمي الجديد الذي قام على أنقاض مناهج معهد بخت الرضا . ولكنه قطع دراسته من المرحلة المتوسطة وقادته دروب الحياة إلى ( المدينة ) حيث اشتغل عامل يومية بالمباني وهناك جمعته الصدف بالمعلم ( ديكور ) خريج كلية الفنون الجميلة فأتقن صنعة البناء على يديه وشجعه على مواصلة تعليمه ( بالكمبوني ) والاهتمام بموهبته في الكتابة والتأليف المسرحي التي يدفع ( جو ) فيما بعد حريته ثمنا لها . وباختصار يمكن القول أن ( جو ) يمثل نموذجا للفنان المتجرد والمخلص لفنه وضميره وقيمه في مجتمع فقير محافظ والواقع في ذات الوقت بين أكثر من نار . فهو من جهة يرزح تحت وطأة الفقر والفاقة ومن جهة محاصر بانتهازية الذين يوظفون أمور الثقافة والفكر والدين لخدمة أغراضهم الشخصية الضيقة . ومن جهة ثالثة مطارد من السلطة السياسية . ولكن ذلك لا يعنى أن نصف الرواية بأنها رواية سياسية إلا بقدر ما تكون السياسة حاضرة في حياتنا اليومية العادية والتي تشكل السياسة مظهرا من مظاهرها المتشابكة .
وكما سبقت الإشارة إلى أن الحديث عن مضمون العمل الأدبي خارج سياق وبنية العمل نفسه فيه إخلال كبير بماهية وطبيعة العمل الأدبي فأنني سوف أورد هنا بعض المشاهد من الرواية لابراز بعض الخصائص الأسلوبية المتميزة التي تكشف عن موهبة ابكر آدم إسماعيل في الكتابة الروائية .
* * *
كون رفاق ( جو ) الذين دخلـوا الجامعـة فرقـة مسرحية سموها جماعة ( الرصيف ) وسرعان ما أنضم إليهم جو ، وبعد أول عرض ضربت شهرتهم الآفاق .. وقد كتب جو مسرحية ( زوار الليل ) التي استقاها من مأساة أستاذ عساكر وصادفت هوى لدى الطلبة وملكت الحقيقة لبعض الجماهير . لكن أخطر ما كتبه جو في تلك الأيام هي مسرحية " البرنسيسة " التي تبدأ بمشهد مثير إذ تزاح الستارة فتدخل البرنسيسة بصحبة كلابها وتمشي بكعبها العالي على السلالم المفروشة بأيدي الخدم والحشم وفي وسط المسرح تجلس على ظهور آخرين ، فيأتي لها آخرون بسلة الموز تقشره ، تأكله وترمي بقشره ليتشجر حوله الجميع . ثارت جدالات طويلة حول هوية هذه البرنسيسة ا فقد أولها كل على هواه . قال اليمينيون أنها ( الطاغوت ) ا وقال : الوسطيون أنها السلطة ا أما اليساريون
فاختلفوا فيما إذا كانت هي ( الرأسمالية ) أم ( البرجوازية ) أما الخبثاء فقالوا : أنها شكش آخر زمن ا
* * *
.. لم يكتف العالم بمؤامراته التقليدية . في أحد الصباحات أدار مؤشر الراديو فإذا به يسمع المارشات العسكرية ا قال جو لنفسه : إنهم هم .. لم تمضي ليلتان كما مضت على أستاذ عساكر إلا وجاء زوار الليل فقبضوا عليه ، هشموا الصور ، صادروا الكتب . بعد عامين من الحبس وجد نفسه في فسحة وراء ضواحي امدرمان ا بعد أن ألقى به كما تلقى النفايات . قال له الحارس الذي فك العصابة من عينيه : انتو خلاص انتهيتوا .. بقيتو كوشة .. تاني ما ليكم لازمة ا بعد خروجه عاد جو لمدينته . عند وصولـه ، أول خبـر سـمعه هو أن أستاذ عبد الجليل – مدرس التربية الاسلامية – قد عين محافظا للمدينة وضواحيها وأن أول عمل قام به هو هدم مسرح المدينة الكبير وتحويلـه إلـى ( بورصة محاصيل ) ، صعق جو من الخبر لأنه كان يتوقع أن يتم تحويل المسرح إلى مسجد ا
* * *
قرر جو الاستقرار في بلدته وفتح دكانا لأعمال النجارة والديكور وأدوات الزينة .
" وفي تلك الأيام كتب جو مسرحية " الطريق إلى المدن المستحيلة " التي تحكي عن قافلة من الناس ضربت أرضهم المصائب – وخرجوا باتجاه مدن على ضفاف انهار سمعوا بها في أخبار الزمان ، وفي الليل الطويل وجدوا جبلا عظيما سد عليهم الطريق فاختلفوا ا بعضهم آثر الذل والمسكنة والبقاء تحت رحمة هوام الجبل ، وآخرون من الشبان المتهورون قرروا المضي قدما وتسلق الجبل . كان هناك شيخ كبير ، يحمل حفيده على كتفه قد قرر مواصلة الطريق .. وكلما ظهرت صخرة كأداء .. حفيده ، واتكأ على عصاه وحنى كتفه قائلا للشبان :
- هيا ضعوا أرجلكم على كتفي واصعدوا وأسرعوا ثم ينتظر حتى يمر ( نيزك ) فيحترق ويضئ وفي لمح البصر يضع الجد علامة في المكان ، فيسأله حفيده : لماذا تفعل ذلك يا جدي ا فيرد : - عندما يجئ الذين بعدنا ، فلن يضلوا الطريق ا
ويحمل حفيده ويواصل . وفي آخر المشهد تشرق الشمس ويجدان نفسيهما في المنحدر الآخر ، فيتوقف الجد ليستنشق عبير الشمس . وينطط حفيده على كتفه ويصيح :
- أنظر يا جدي أنها المدينة اا أنظر بيوتها الجميلة ا أنظر النهر ا ياه ا يا جدي .. أنا سأذهب إلى هناك وألعب بالطين .. أنظر أسراب الطيور كم هي جميلة اا
ولكن الجد في تلك اللحظة كان قد مات واقفا وهو متكئ على عصاه ااا "
* * *
وبهذا المشهد الدرامي الذي ليس في حاجة إلى تعليق تنتهي رواية " الطريق إلى المدن المستحيلة " . ولنا عودة إذا لم تصرفنا صوارف الدهر .
ــــــــــــــــــــــــ
* نشرت قبل نحو عامين بالصحف السودانية .
عبد المنعم عجب الفيا
|
|
|
|
|
|
|
|
|