دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
حركة سياسية جديدة لماذا!! من وثائق حق لهذا لا يمكن اصلاح الحزب الطائفي
|
سلام جميعا الان و البلاد تمر بمفترق طرق يطرح هذا السؤال نفسه بالحاح، الوثيقة التالية توضح بعض مظاهر الازمة و كيفية الخروج منها و ما هي الاسباب الموضوعية التي تستدعي قيام حركات سياسية جديدة حتى تطرح قضايا التغيير بصورة فعالة و تجمع حول برامجها جماهير شعبنا الحائرة بين الخيارات المحدودة الوثيقة من حيث كتابتها ليست بالحديثة لكن التساؤلات الورادة فيها و تحليلها للواقع لا يزال مواكبا. امجد ابراهيم
بـروز حــركة ســياســية ســـودانية جــديدة
الضـرورة الوطـنية ... الفرص المتـاحة ... المصـاعب والعقبات ...
ظلت قضية بروز حركة سياسية سودانية جديدة، تطل فى الأفق منذ فترة ليست بالقصيرة، ولكنها فى الأعوام القليلة الماضية "ملأت الدنيا وشغلت الناس". ولأن الكثيرين من الساسة والمثقفين والمهنيين كانوا يستشعرون ضرورة إنشاء حركة جديدة، أو حزب جديد، فقد نشأت بعد الانتفاضة أحزاب يقول البعض أنها بلغت أربعين حزباً. ولكن أيّاً منها لم يستطع أن يكون ذلك "الحزب" المنتظر. أى أن أياً منها لم ينجح فى استقطاب الأغلبية الرافضة للأحزاب القديمة، والغاضبة على ما أصاب البلاد على أيدي تلك الأحزاب، والمشيحة بوجهها عن الديمقراطية ومؤسساتها لهذا السبب، والممهدة برفضها وغضبها وسلبيتها وصمتها، الأرض للمغامرين العسكريين الذين يشرعون فى تحضير انقلابهم الجديد بمجرد دحر انقلابهم السابق، وينجحون فى استعادة السلطة قبل أن يمتد بساط الديمقراطية وقبل أن يقام سراد قها. لم ينجح أى من هذه الأحزاب فى استقطاب هذه الجماهير التى نشأ من أجل استقطابها، بل صار كل منها مجموعة صغيرة لا تملأ جمعيتها العمومية صحن دار واحدة من دورها، أو منزل واحد من منازل أصحابها. وتزاحمت هذه الأحزاب على القضايا والشعارات والأسماء والرايات، حتى لم تبق قضية أو شعار أو اسم أو راية إلا وله حزب قائم بذاته، إن لم يكن له أكثر من حزب. ونتج عن ذلك أن كل حزب منها قد شارك بنصيب صغير فى هزيمة الهدف الذى أنشئ من أجله، وهو تمثيل الأغلبية الرافضة أو الصامتة، ولكن هذه الهزائم الصغيرة، الصادرة عن كثيرين، أصبحت هزيمة ماحقة ابتلعتهم جميعاً وجللت سماءهم بالسواد. إن من يلم بأطراف هذه الصورة، ويستوعب دروس هذا الواقع، سيكف لا محالة عن التفكير فى إنشاء حزب جديد أو حركة جديدة، لأن ذلك لن يقود إلا لتوسيع الحفرة التى ستصبح قبراً للجميع. -2- الصورة التى حددنا بعض معالمها فى الأسطر السابقة لا يوافق عليها فقط أعداء الدعوة لإنشاء حزب جديد، بل يوافق عليها كذلك بعض الذين شاركوا فى إنشاء بعض تلك الأحزاب وأصابهم اليأس والقنوط لأن سهامهم طاشت، وأهدافهم ظلت بعيدة كالسراب. وإذا كانت هذه الصورة صحيحة، أى إذا كانت تمثل كل الحقيقة وليس نصفها، لكفّ كل عاقل عن الدعوة لقيام حزب جديد. ولكن رهطاً من الناس، ممن لا يستطيع أحد أن يتهمهم بضعف فى الرأي أو أفن فى الحجى، ظل مع ذلك يدعو، وبإصرار يزداد كل يوم، إلى نشؤ تلك الحركة وذلك الحزب! فما سر هذا البعث المتواتر لفكرة تهزم نفسها، وأين يوجد النبع السري الذى يغذيها ويرفدها بالحياة؟ سؤال يبحث عن إجابة. وتبحث عن إجابة كذلك أسئلة كثيرة انطلقت من مواقع عديدة، موجهة إلى أصحاب الدعوة الجديدة، بعضها بغرض الفهم والوضوح، وبعضها بغرض الهزء والسخرية، وبعضها بغرض الإحراج والإفحام. ولن تخرج هذه الدعوة عن مداراتها الصغيرة المضطربة إلا بالردود المقنعة على الأسئلة التى تطلق نحوها كالسهام، وتستطيع فى ثنايا هذا التراشق أن تكسب إلى صفها أقساماً مؤثرة من أولئك الذين بادروها بالعداء. هكذا تكسب أرضاً جديدة، وتثبت أقدامها فى الثرى، لتتمكن من الانطلاق لارتياد أفق جديد. إن اللحظات التاريخية، التى تضارع أعظم أعمال الدراما، فى صيرورة الحركات الجديدة، هى تلك اللحظات التى تكسب فيها إلى صفها بعض أبرز أعدائها.وباعتبار كاتب هذه السطور أحد الداعين إلى قيام الحركة الجديدة، فإنه يقدم فى ثنايا هذا المقال مساهمة متواضعة فى الرد على ما يعتبره أهم الأسئلة التى وجهت إلى القائمين على أمر هذه الدعوة.
-3- والأسئلة التى سندلي فيها بدلونا هى التالية: 1. ماهى جدوى إنشاء حزب جديد، والساحة السياسية السودانية، على ماهى عليه من التشبع بالأحزاب؟ 2. لماذا لا ينصرف الجهد إلى إصلاح الأحزاب القائمة، فتؤمها الجماهير المعرضة عنها الآن، بُعيد إصلاحها، خاصة وأن أية تجربة ديمقراطية ناضجة تتبلور فى نهاية المطاف فى حزبين رئيسيين أو ثلاثة؟ 3. هل يمكن إنشاء حزب جديد فى الغربة، بعيداً عن الوطن والشعب، وبمعزل عن تربة وطنية تحتضنه وتنميه؟ وإذا كانت الأحزاب الجديدة التى سبقته، وهى التى أنشئت داخل الوطن، وفى فوران الانتفاضة، لم تنجح فى بلوغ أهدافها، فكيف ينجح هو فيما فشلت فيه وهو الذى ينشأ فى الخارج وفى أجواء هزيمة وطنية ولا مبالاة جماهيرية؟ 4. ماهى على وجه التحديد ماهية تلك القوى التى يزعم الداعون إلى الحزب الجديد انهم بصدد تمثيلها؟ ما هى هذه ““القوى الحديثة”” التى كلما كثر الحديث عنها زاد الغموض الذى يحتويها؟
أسئلة حيوية تتطلب إجابة جادة واضحة، ونأمل أن تفتح الباب لحوار خصب، يتمخض عنه تفاهم حقيقي ورؤية جديدة، ويخرج منه المتحاورون وهم أكثر مقدرة على الإحاطة بمشكلاتهم وحلولها. هذا هو الأمل والرجاء الذى يشحذ الفكر ويحرك القلم، ويدفع المرء إلى الخروج من الجُب السوداني العميق الذى يبتلع الأسئلة ولا يجود بالإجابات، ويزورُّ عن الحوار الصحيح الذى يتصدى لنقاط القوة فى حجة خصمه، ولا يتصيد نقاط الضعف وزلات اللسان، ولا يبحث فى جسد أخيل البطولى عن كعبه بالذات ! -4- لماذا حركة جديدة ؟ لماذا حزب جديد ؟ الحقيقة التى لا مراء فيها أن بلادنا ظلت مسرحاً لأزمة وطنية شاملة أمسكت بتلابيبها منذ الاستقلال قبل أربعين عاماً، وتفاقمت حتى صارت كارثة وطنية ومأساة إنسانية. إقتصادياً: صارت البلاد الحبلى بالوعود صبيحة الاستقلال، من أفقر البلاد قاطبة، وتفاقمت أزمتها الاقتصادية حتى آلت إلى وضع تعجز عن وصفه المصطلحات العلمية، أو حتى الصور البلاغية الممعنة فى الخيال، وبدلاً عن الوفرة النسبية التى بدأنا بها استقلالنا الوطني أصبح سؤ التغذية والمجاعة نصيب الملايين من أبناء شعبنا. وتدهورت مائدتنا السودانية، التى كانت من أغنى الموائد فى إفريقيا، بل أغنى الموائد العربية، بعد المائدة اللبنانية، على حد قول البروفيسور محمد هاشم عوض، فصارت أفقر الموائد على الإطلاق، وصار المتوفر من الطعام لملايين السودانيين أفقر محتوى غذائياً، وأبشع منظراً، مما كانوا فى السابق يقدمونه لكلابهم وقططهم ! سياسياً: تنافرت أقاليم وقوميات شعبنا حتى صارت الحرب هى لغة البلاد الرسمية، وانهارت مقومات نظامنا السياسي حتى صارت الدكتاتورية والطغيان قدراً ممسكاً برقابنا لا نجد منه ملاذاً، ولا نملك منه فكاكاً، وصار الاضطراب السياسي، والانتفاضات المجهضة، والوعود المغدورة، والبرامج التى لا تنفذ، والإئتلافات التى لا تقوم إلا لتفض، والدوران الجهنمي فى الدوائر المفرغة، هو الحصاد المر لكدحنا المتصل. وتقف بلادنا الآن على حافة التفتت وشعبنا على حافة الزوال. إجتماعياً: تأمل صورة الإنسان السوداني عشية الاستقلال، تأمل سمته وهندامه وإشراقه، وقارن ذلك بما هو عليه اليوم فى كل ربوع السودان ! تأمل عاداته وعلاقاته، فى حياته العادية، وفى أفراحه وأتراحه، وفى ساعات فراغه، وقارنه بإنسان اليوم ! إرجع بالذاكرة إلى الحياة الثقافية فى الخمسينات والستينات، شعراً، وأدباً، ومسرحاً، وسينما، وقارنها بالحياة الثقافية الآن ! إفعل ذلك، والفرق الذى تجده هو الثمن الإنساني الفادح الذى دفعناه لأربعين عاماً من التيه فى الصحراء. لقد اخترنا صورة مجملة، لما نسميه أزمتنا الوطنية، لأن التفاصيل معلومة للجميع، ويستطيع أغلب السودانيين أن يرسموا صورة أكثر صدقاً مما فعلنا. فمن المسئول عن كل ذلك؟ الطبيعة؟ الإمبريالية العالمية؟ التقسيم الدولي للعمل؟ علاقات الشمال والجنوب؟ إذا كان الأمر كذلك فلماذا نهضت دول شبيهة لنا فى كل القارات، مع أن الطبيعة لم تكن رحيمة، ولا الإمبريالية ولا التقسيم الدولي للعمل، ولا علاقات الشمال والجنوب؟ الإجابة التى لا مهرب منها ولا مفر هى أن أولئك الذين حكموا بلادنا منذ الاستقلال وحتى اليوم مسئولون عما آلت إليه أحوالنا، مسئولية لا يلغيها تفاوت أقدارها بين المشاركين فيها. فالتدهور الاقتصادي، والتفتت السياسي والحرب، والانحدار الاجتماعي ظواهر ممتدة ومتواصلة منذ الاستقلال وحتى الآن. صحيح أن الخط البياني ينحدر إنحداراً حاداً فى بعض المواضع، وتقل حدته فى مواضع أخرى، ولكن الاتجاه العام ظل هو هو، أى السقوط من الجبل والوقوع فى الهاوية. والذين حكموا السودان إما كانوا أحزاباً سياسية، أو حكاماً عسكريين، أو خليطاً بين هذا وذاك. وقد اشتركوا جميعاً فى النظر إلى الحكم كموضع يسمح لهم باقتسام القدر القليل من الثروة المحققة، بدلاً من الاتجاه إلى تنميتها وخلق الثروة الجديدة، وأخذ نصيبهم المشروع، المحدد والمتفق عليه، من هذه الثروة الجديدة. وحتى إذا كان السودان أغنى بلاد الأرض وتضافر حكامه عليه كما تتضافر الفوارس على الفريسة لنفدت ثروته وانهارت دعائمه كوطن. وإذا نظرنا إلى أى وطن حقق نهضة، قديماً أو حديثاً، لما وجدنا حكامه مشغولين باقتسام الثروة القائمة، بقدر ما هم مهمومون بخلق الثروة الجديدة. وليس لدينا حالياً أية معطيات مهما ضؤل شأنها، تسمح لنا بالاستنتاج أن حكام اليوم أو الغد قد غيّروا أدنى تغيير استراتيجيتهم تلك، استراتيجية الجوارح الكاسرة التى لا تبقى ولا تذر. بل إن الدلائل تشير إلى أن حكام اليوم قد حوَّلوا الفساد إلى قانون. أى أن الأعمال الفاسدة التى كان أصحابها يحاولون إخفاءها عن الرقابة القانونية، أو يستفيدون من ثغرات القانون لممارستها، قد صارت أعمالاً قانونية مبرئة للذمة، يتفاخر بها أصحابها بعد أن تحرروا تماماً من الحياء ومن الشعور الغامض بالذنب الذى كان ينتاب أسلافهم. ونحن لا تنتابنا الأوهام بأن مفسدي اليوم قد هبطوا من السماء، بل جاءوا من أصلاب مفسدي الأمس. وأغراهم أن أسلافهم قد استطاعوا الإفلات من أى عقاب فى كل مرة وقعوا فيها تحت طائلة القانون. بل انهم فى أغلب الحالات قد كوفئوا على فسادهم بأوسمة من الوجاهة الاجتماعية. وإذا قلنا أن حكام الغد هم معارضة اليوم، فما الذى يحملنا على الاعتقاد بأنهم قد غيَّروا ما بأنفسهم؟ وانهم عندما يستولون على السلطة غداً سيتحلون بعدل عمر بن الخطاب؟ إن لدينا إعتقاداً قوياً بأن ملايين الدولارات قد جمعت، من الأفراد والدول، منذ بداية الانقلاب وخلال سنواته الست، وما تزال تجمع، باسم المعارضة فى الداخل والخارج، وباسم أسر الشهداء والمشردين، وباسم المعتقلين والمفصولين، وباسم مشاريع كبيرة لم ير أىٌّ منها النور بعد. نعتقد بأن الملايين قد جمعت، ويشاركنا هذا الاعتقاد آلاف الناس، داخل البلاد وخارجها، ولكن الذين أخذوا هذه الأموال لم يعترفوا بها لآي هيئة من هيئات الأحزاب التى ينتمون إليها، ولم يقدموا لأية جهة، بما فى ذلك المانحين، حساباً للمصارف التى صرفت فيها هذه الأموال. بل انهم اتخذوها وسائل للضغط والابتزاز، وللإخضاع وفرض الهيمنة، ولترسيخ قيادتهم فى مواجهة قاعدة ترفضهم وتكرههم، ولكنها لا تجد مسارب لرفضها وكراهيتها سوى مجالس النميمة وزفرات الخيبة والألم. لقد استخدموا هذه الأموال كمغسلة سياسية تخلصوا فيها من كل أدرانهم، وطلعوا على الناس محاطين بهالات من الضياء والبهاء تخطف الأبصار، ولم يفتهم أن يفخروا بمواهبهم، مثلهم مثل رصفائهم القابضين على أزمة الحكم بالداخل ! لقد حلبوا بقرة المعارضة فاكتشف بعضهم - والفرح يهز أعطافه - أنها أغزر درّاً من بقرة السلطة. فما الذى يحملنا على الاعتقاد بأن هؤلاء عندما يعودون إلى السلطة غداً لن يستمروا فى الممارسات نفسها التى صارت بالنسبة إليهم أسلوباً للحياة !! ومنعاً لأي سؤ فهم لا بد أن نركز على الحقيقة التالية: لقد تحدثنا عن الحكام المدنيين والعسكريين باعتبارهم شركاء فى هذا التدهور المتعدد الوجوه الذى حاق ببلادنا، وذلك لأننا نعتقد انهم جميعاً يشتركون فى مفهوم واحد للحكم هو المفهوم الجبائى، الغنائمى، الانقضاضي، مع توسلهم إليه بوسائل مختلفة تماماً، هى الدكتاتورية فى حالة الحكام العسكريين، "والديمقراطية" فى حالة الحكام المدنيين. أى أن "مخطوبتهم" المشتركة التى يتدلهون فى عشقها، هى السلطة، يتوسل إليها هؤلاء بالدبابات ويقتحمون عليها القلاع والقصور، ويتوسل إليها أولئك بأصوات أتباعهم الموروثة كابراً عن كابر، ويتمسك كل واحد منهم بوسائله لأنه لا يملك غيرها. هذا الاختلاف فى "الوسائل" هو فى الواقع إختلاف ضخم جداً، لأن الاستيلاء على السلطة بالقوة العسكرية أمر غير مشروع ويجب مقاومته بالقوة، بينما الاستيلاء على الحكم بالديمقراطية أمر مشروع تماماً مهما كانت النقائص التى ينطوي عليها. الحديث عن مسئولية الحكام العسكريين والمدنيين عما آل إليه أمر البلاد، يجب ألا يطمس هذا الفرق الجوهري، ويجب ألا يغرينا، كما أغرى البعض فيما مضى، إلى ازدراء الديمقراطية باعتبارها “هياكل فارغة” لا تسمن ولا تغنى من جوع. فبينما تملك الديمقراطية إمكانية التطور، تملك الدكتاتورية إمكانية واحدة هى إمكانية الانحطاط. ولكن الديمقراطية لا تتطور إذا تعامل معها الناس باعتبارها “وسيلة فقط” للاستيلاء على السلطة. الاستيلاء على السلطة عن الطريق الديمقراطي أمر مشروع، ولكن الديمقراطية تعنى شيئاً أكثر بكثير من الاستيلاء على السلطة. إنها أسلوب متكامل للحياة. إنها، فى نفس الوقت، غاية ووسيلة. والذين يتعاملون معها "كوسيلة فقط" سيدمرونها دون ريب. فالأحزاب جميعاً تتقدم إلى الناس بمشروع "عقد سياسي" هو برنامجها الذى يتعلق فى جميع الحالات بتنمية الثروة، وتعمير البلاد، وتشييد النهضة، ورفع الناس جميعاً، مؤيدين ومعارضين، إلى وضع أفضل مما كانوا عليه لحظة الإدلاء بأصواتهم. ومن هذه الأحزاب من يصل إلى السلطة ومنهم من يفشل فى ذلك. إذا كانت هذه الأحزاب تتعامل مع الديمقراطية "كوسيلة فقط" فإن الذى يصل إلى سدة الحكم منها سينسى برنامجه تماماً وينصرف إلى غايته الحقيقية وهى جمع الغنائم وجباية الضرائب والتقلب فى النعمة. وسيعمل بكل الوسائل على ركل السلم الذى أوصله إلى هناك حتى لا يصعد عليه آخرون. أما الذين فشلوا فى الفوز بالحكم، أى ثبت لهم أن الديمقراطية ليست هى الوسيلة المناسبة، فسيبحثون لهم عن وسيلة أخرى. وهذا هو بالضبط ما ظل يحدث فى بلادنا منذ الاستقلال وحتى اليوم. إن الإجماع على قبول الديمقراطية من جميع هذه القوى ناتج فى نظرنا من كونها تعتقد جميعاً أن الديمقراطية وسيلة ملائمة للوصول إلى الحكم، ليس أكثر ولا أقل. وخاصة أولئك الذين يعتقدون إعتقاداً جازماً أنهم لم يولدوا إلا ليحكموا ! فهل يمكن أن يتخيل نفسه فى موضع المعارضة من يبلغ سن الترشيح اليوم فتخلى له دائرة غداً، ويدخل البرلمان اليوم فيصير غداً رئيساً للوزراء؟ ولأن الديمقراطية أسلوب متكامل للحياة، فهى لا تنحصر فى مؤسسات الحكم وحدها، بل تمتد إلى إستقلال القضاء، وحرية الصحافة وحقوق الإنسان، والحريات المدنية، وغيرها. والذى يتعامل مع الديمقراطية كوسيلة فقط للوصول إلى السلطة لن يتورع عن الفتك بأىٍّ من هذه المؤسسات والحقوق إذا حالت دونه ودون غايته الأصلية. وإن تاريخنا السياسي الحديث لعامرٌ بالأمثلة الحية والشواهد البليغة على ما نقول. وتفادياً لسرد أحداث أطنب الناس فى سردها إلى درجة الإملال نحيل القارئ فقط إلى تأمل الأحداث التى انتهت بلجؤ عبد الله خليل إلى تسليم السلطة إلى الجيش عام 1958، وتأمل حلقات المسلسل الذى بدأ بحل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من الجمعية التأسيسية وانتهى باستيلاء النميرى على السلطة، ثم الصورة المضطربة المتماوجة التى أعقبت الانتفاضة وانتهت بتسلم الجبهة الإسلامية للحكم. فى كل هذه اللحظات "التاريخية" فى حياة شعبنا عوملت الديمقراطية كوسيلة فقط، وعوملت السلطة كغاية يصح فى الوصول إليها إتباع كل الوسائل. ما نود أن نخلص إليه من كل ذلك هو غياب قوة وطنية يمكنها أن تضطلع بما نسميه "مشروع النهضة الوطنية الشاملة" الذى لا تقوم لبلادنا بدونه قائمة، والذين يتعاملون مع الحكم كموقع للانقضاض على المجتمع، وكترخيص لاقتسام الثروة فيما بينهم، وهى لم يبق منها شئ على كل حال !، لن ينهضوا بمثل ذلك المشروع. وغياب هذه القوة التى تضطلع بتحقيق مشروع للنهضة الوطنية الشاملة هو الأساس الذى تقوم عليه الدعوة لحركة جديدة وحزب جديد، وهو النبع السرى الذى يرفدها بالحياة، وهو الضرورة الوطنية التى تؤدى إلى إعادة بعثها فى كل مرة يتخيل فيها البعض أنها قد قبرت إلى الأبد.
-5-
يقول المعارضون لنشؤ حركة جديدة وحزب جديد: يمكن أن نتفق معكم تماماً حول قصور الأحزاب القائمة، بل يمكن أن نورد لكم أمثلة لا تعرفونها حول ذلك القصور، ولكن ما الذى يمنعكم من العمل لإصلاحها من الداخل، خاصة وأن القاعدة الرافضة لذلك القصور، وتلك النقائص، تتسع كل يوم وتزداد ؟ ويستند هؤلاء إلى أن هذه الأحزاب رغم كل نقائصها قد حققت إنجازات وطنية ضخمة على رأسها الاستقلال. وأنها إذا شاركت فى إضاعة الديمقراطية فقد شاركت كذلك فى إستردادها، وأنها بما حققت قد صارت قريبة من وجدان السودانيين الذين تدفعهم فطرتهم النبيلة إلى ذكر الحسنة ونسيان السيئة. ويقولون أن ترميم البيت القائم أسهل ألف مرة من تشييد بيت جديد، فضلاً عن أن الدعوة للترميم تفوز دائماً بتأييد أوسع من الدعوة إلى تشييد بناء جديد، وهذه مسألة واضحة لا تحتاج إلى بيان. وبدءاً نعبِّر عن إقتناعنا بقضيتين: الأولى: هى أن إصلاح الأحزاب شرط ضروري لنجاح التجربة الديمقراطية فى السودان. والثانية: هى أن إصلاح هذه الأحزاب من داخلها غير ممكن، وإذا كانت هناك فرصة لإصلاحها، فإنها لا تأتى إلا من خارجها. إصلاح الأحزاب شرط ضروري لنجاح التجربة الديمقراطية لأن هذه الأحزاب يجب أن تحقق الديمقراطية داخلها ثم تجود بها بعد ذلك على المجتمع، ففاقد الشيء لا يعطيه. والبناء الديمقراطي لا يقوم إلا على عمد من الديمقراطية الراسخة. وإصلاح الأحزاب ضروري لأنها جميعاً مطالبة بتغيير جذري فى مفهومها للسلطة وللحكم وللشعب وللوطن، ومطالبة بأن تتبنى مفهوماً جديداً للنهضة، للسودان الجديد، وأن تنمو بعيداً عن إرثها الثقيل، إرث سؤ التدبير السياسي. ولا نعلم أحداً من قادة تلك الأحزاب أو أتباعها يعارض الدعوة للإصلاح، اللهم إلا من لا يؤبه له من عبدة الشموس الغاربة ! ولكن لكلٍ منهم مفهومه للإصلاح، وأسبابه للدعوة إليه. ومع كل ذلك فإننا نعتقد جازمين أن إصلاح هذه الأحزاب لا يتم إبتداءً ولا أساساً، من داخلها. إن العاهة الأساسية التى تعانى منها هذه الأحزاب هى وجود بنية قيادية يستحيل إختراقها تتكون من الزعامة الطائفية ومن المركزية الصارمة التى تسمح لها باتخاذ جميع القرارات الهامة حول جميع القضايا الأساسية بينما تحوِّل الممارسات ذات المظهر الديمقراطي، من مؤتمرات وانتخابات وهيئات، إلى مجرد ديكور خارجي، غير جذاب عموماً، تغطى به استحواذها على كل شئ. إن خضوع المؤسسات الحديثة، لهيمنة المؤسسة الطائفية، وخضوع القوى الحديثة لهيمنة الزعامة الطائفية هى قصة طويلة فى التاريخ السوداني الحديث. ولكنها على ما نعتقد بدأت بالتنازل التاريخي الذى قدمه الخريجون بقبول الرعاية الطائفية، والعون المادي الطائفي، ثم الاستفادة من القاعدة الشعبية الطائفية، مما مكَّن تلك المؤسسة من الزحف الوئيد نحو مواقعهم حتى تم إخضاعها بالكامل. وتمثل فصولاً بارزة فى كتاب النصر الطائفي تلك الهزائم التى حاقت بأبرز السياسيين السودانيين الذين حاولوا مقاومة الزحف الطائفي على الأحزاب السياسية، وإبقاء المؤسسة الطائفية فى حدود تفويضها الديني الاختياري. إن تاريخ الحزب الوطني الاتحادي (والاتحاد الديمقراطي) هو تاريخ الصراع بين التيار الديمقراطي الحديث والزعامة الطائفية الختمية، وقد مرَّ هذا الصراع بمراحل عديدة، ليس من أغراضنا حالياً أن نؤرخ لها، ولكنه وصل فى نهاية المطاف إلى فرض زعامة أسرة الميرغنى على الحزب بإستيلائها على زعامته وعلى رئاسة الدولة بعد الانتفاضة عام 1985، ثم بتنصيب أبرز أعضاء الأسرة "كقيادة عليا" للحزب فى مؤتمره فى مارس الماضي فى القاهرة. أما فى حزب الأمة فقد انتهى أمر الأستاذ الصادق المهدى الذى دعا فى منتصف الستينات إلى فصل الإمامة عن الزعامة، إلى جمعهما معاً فى شخصه الكريم. ولنكن واضحين تماماً حول بعض الأشياء. إننا أبعد ما نكون عن الصدور عن عداء لطائفة الختمية أو الأنصار، وأبعد ما نكون عن الانطلاق من إنتقاص من قدر أو تقليل من دور، أو طعن فى شخص السيدين الميرغنى أو المهدى، هذا ما لا يطرأ لنا أبداً؛ بل أننا نكنُّ لهما معاً إحتراماً شخصياً كبيراً ووافراً. ما ننادى به ونصر عليه هو أن الطائفة ليست كياناً سياسياً، ليست حزباً من الأحزاب، ولا تقوم العلاقات داخلها على عقد سياسى أو برنامج مجاز أو مؤتمر وانتخابات. إنها رابطة روحية بين المريدين و"سيدهم" تقوم على الاعتقادات بكرامات وبركات اختص الله بها هؤلاء الأسياد دون عباده الآخرين، ويشعر المريدون بديْن روحي كبير يجعلهم يضعون هؤلاء الأسياد موضع القداسة، ويقبلون أوامرهم، ويجتنبون نواهيهم بإعتبار ذلك أمراً دينياً. ونحن لسنا هنا فى موضع الرفض أو القبول لهذه الظاهرة. لسنا فى موضع إصدار حكم عليها. فحرية الاعتقاد الطائفي حق آنساني مكفول للجميع. ولا يقلل من قيمة هذا الحق بالنسبة لنا أننا لا نرغب شخصياً فى استخدامه ! هذا ليس هو الموضوع. الموضوع هو أن العلاقة الطائفية يجب أن تبقى بمنأى عن السياسة والدولة وأن تمارس فى إطارها الخاص. إن نفس المنطق الذى يجعلنا ننادى بفصل الدين عن الدولة والسياسة، هو الذى يدعونا إلى فصل الطائفة عن الحزب، لآن العلاقات الطائفية عندما تسود داخل أى حزب سياسي أو على نطاق الدولة فان إختلالاً جوهرياً سيحدث على مستوى هذه المؤسسات جميعاً. فالزعيم الطائفي عندما يصير رئيساً للحزب تتحول العلاقات الحزبية مباشرة إلى علاقات طائفية ويتحول أتباع الحزب جميعاً إلى مريدين، وعلى رأس هؤلاء القادة السياسيون الذين لم يكونوا أصلاً ينتمون إلى الطائفة ولكنهم يطمحون فى الاستمرار فى القيادة السياسية من خلال القربى مع زعيم الطائفة الذى صار رئيساً للحزب. وهذه الظاهرة ينبغى ألاّ تصير موضع أخذ وجذب لأنها واضحة ومنطقية. فالزعيم الطائفي يأتى بالمؤسسة الطائفية كلها، بطقوسها ورموزها وشفرتها السلوكية ليضعها فى قلب المؤسسة الحزبية. وهو يسند أرفع المناصب وأكثرها حساسية، وهذا أمر طبيعي فى مؤسسته الأولى، إلى أولئك الذين يثق فيهم ثقة، إن لم تكن مطلقة، فهى أكبر قدراً من ثقته فى جميع الآخرين. وهؤلاء بطبيعة الحال هم أتباعه الطائفيون. وما دامت ثقة الزعيم هى السلم إلى أرفع المناصب، فإن أكثر السياسيين طموحاً "وعقلانية" سيسعون بكل الوسائل إلى نيلها بأن "يسلكوا" فى الطريقة ويتفوقوا فى ذلك على أقرانهم. أما أولئك الذين تمنعهم طبيعتهم أو ثقافتهم أو تمسكهم بمبادئ المساواة الإنسانية، عن تبنى السلوك الطائفي فمصيرهم إما الإبعاد أو الترويض. وإذا كان تقريب أهل "الثقة" على أهل "الكفاءة" شيمة اتصف بها القادة العسكريون الذين صاروا حكاماً، فكيف لا يتصف بها الزعيم الطائفي ورؤيته إلى الحياة كلها، بل وجوده ذاته، قائم على الثقة والتصديق والتسليم، ومؤسسته الطائفية أكثر تماسكاً من الجيش لأنها قائمة على ولاء روحي غير مشروط ؟. إن قيام أى مؤسسة على ولائين يؤدى فى نهاية المطاف، ومهما طالت الفترات الوسيطة، إلى سيطرة أولئك الذين يجمعون بين الولائين، على هذه المؤسسة فى مواجهة أصحاب الولاء الواحد. وفى حالتنا هذه فإن الذين يجمعون بين الولاءين الطائفي والسياسي سيسيطرون على الحزب. ويتساوى فى ذلك الحزب الطائفي، مع الحزب العقائدي الذى يسعى إلى تحقيق غايات بعيدة يتوسل إليها "بمراحل" وسيطة يدعو إليها بعض الذين يؤمنون بهذه المراحل الوسيطة ولكنهم لا يؤمنون بالغايات البعيدة، فيحملونه على ظهورهم عبر هذه المراحل ولا يعلمون أنهم ظلوا يسخرون حياتهم لخدمة أهداف لا يؤمنون بها إلا عندما يلفظهم الحزب على تخوم المرحلة الجديدة التى يبحث لها عن حلفاء غيرهم ! وهذا ما سنعالجه لاحقاً. ستصير الطائفة إذن، بكل عبقها الروحي، وبنسيجها "الأكثر تماسكاً من الماء" إذا استعرنا قول أدونيس، وبمصالحها المادية، هى قلب الحزب النابض، وعقله المفكر ومصدره للإلهام والرؤية، ووسيلته للوصول إلى "الأسرار" التى تخفق أحدث الأجهزة التقنية فى الوصول إليها، ولكن الزعيم يصل إليها بمنتهى السهولة فى لحظات صفائه وتساميه ! أى ستصير الطائفة هى "الحزب الطليعي" داخل الحزب المرحلي، وإن كانت المراحل هنا هى مراحل "ثقة وعرفان" أكثر منها مراحل تاريخية، ولكنها وباستمرارية المؤسسة الطائفية وفق آليات تناسخها المعروفة تصبح كذلك مراحل تاريخية. إننا نعلم أن البعض ربما لا يوافقنا الرأي فيما سقناه، ولكننا نعلم أيضاً أن موقفنا تدعمه، بالإضافة إلى المنطق، الشواهد التاريخية. إن العلاقة الطائفية علاقة غير ديمقراطية أساساً، ولكن الطائفة فى نفس الوقت ليست مؤسسة ديكتاتورية بالمعنى الواضح للديكتاتورية. فهى تشترك مع المؤسسات الديمقراطية فى كونها قائمة على الاختيار الحر، فالمريد غير مجبر إطلاقاً على الإنتماء إلى هذه الطائفة أو تلك، وهو حر فى التخلى عنها فى أى وقت، على الأقل من الناحية النظرية. ولكنها تشترك مع المؤسسات الديكتاتورية فى كون الزعيم حر، إزاء أتباعه، حرية تكاد تكون مطلقة، يقلبهم كيف شاء، ويفعل بهم ما يشاء، ويتخذ من القرارات ما يراه مناسباً دون الشعور بأنه يخرج على قاعدة من القواعد، أو يخرق عرفاً من الأعراف. إن الطائفة هى الدخول الطوعي فى علاقة ديكتاتورية، تلبية لحاجات روحية لا تلبيها أية مؤسسة ديمقراطية. إنها علاقة أبوية مثالية، قائمة على التسليم المطلق، ولا يعرف العواطف والأشواق التى تفجرها إلا من يكابد هذه الأشواق والعواطف: أى المريد. وبذلك فالعلاقة الطائفية علاقة غير قابلة للتغيير، لا من الداخل ولا من الخارج !؛ لأنها، ببساطة، هكذا، وهذا جزء من تعريفها وطبيعتها. وما هكذا الحزب السياسي الذى يمكن أن يختاره المرء من بين جميع الأحزاب ويسعى فى نفس الوقت إلى تغييره من الداخل وفق رؤية تقبل جل منطلقاته الأساسية أو بعضها ولكنها ترى ضرورة إجراء إصلاحات جوهرية إما على بعض هذه المنطلقات الأساسية، أو على أولويات البرنامج ونقاط التركيز، أو على منهج القيادة أو أشخاصها. وهذا كله مستحيل فى المؤسسة الطائفية. هل يمكن بالفعل إزاحة الزعيم الطائفي الذى صار زعيماً للحزب بالوسائل الديمقراطية؟ هل يمكن تحدى زعامته بأى حال من الأحوال على نفس الصعيد؟ بل هل يمكن مخاطبته، مجرد المخاطبة، دون الخضوع إليه، والإنحناء أمامه، إن لم يكن تقبيل يديه وغض البصر عندما تتلاقى العيون؟. يهزأ بنا من يدعو إلى أن نصلح من الداخل حزباً يرأسه زعيم طائفي وتقوده طائفة. ونهزأ بأنفسنا إن صدقنا هذه الدعوة وتصرفنا على أساسها. وهذا أمر يعرفه، أكثر منا، أولئك الذين توجهوا إلى الأحزاب الطائفية بغرض تغييرها من الداخل. لقد همُّوا بدخول دار الحزب، فوجدوا أنفسهم فى سرادق الطائفة، فتغيَّر بعضهم وصار جزءاً من الطائفة مجذوباً بأريجها الروحي وعطاياها المادية، ولُفظ بعضهم الآخر لأنه اصطدم بالكتلة الصماء التى تُحطِّم دون رحمة كل من يصطدم بها وتُكشِّر له عن أنياب شبيهة بالحراب، إن لم تكن حراباً بالفعل !. منطلقين من التحليل السابق، نحاول أن نجمل الأسباب التى تحملنا على القول بأن إصلاح الحزب الطائفي من الداخل غير ممكن: 1. عندما يصبح زعيم الطائفة رئيساً للحزب فمعنى ذلك أن آليات تنصيب رئيس الحزب تتم فى الطائفة وليس فى الحزب. أى تتم خارجه، ولا يملك هو سوى أن "يبارك" رئاسة الزعيم. ومن نافلة القول أن آليات تنصيب زعيم الطائفة ليس لها علاقة، لا من قريب ولا من بعيد، بالإجراءات الديمقراطية وأساليب المنافسة المفتوحة. فهى محصورة قطعاً فى أسرة واحدة، وهى داخل هذه الأسرة تخضع لقواعد محددة يصعب الخروج عليها. وبذلك فإن رئاسة حزب الأمة لن تكون إلا لزعيم طائفة الأنصار، الذى لن يكون إلا من أسرة المهدى. ورئيس الاتحادي الديمقراطي لن يكون إلا زعيم الختمية الذى لن يكون إلا من أسرة الميرغنى. 2. يترتب على ما سبق أن المنافسة على قيادة الحزب، وهى الشرط الجوهري للديمقراطية والإصلاح والتحديد، تصبح مستحيلة. والممارسة العملية تغنينا عن كل حجاج أو لجاج، إذ لم يظهر مرشح منافس للأستاذ الصادق المهدى على رئاسة حزب الأمة، منذ الستينات، ولم يظهر مرشح منافس للأستاذ محمد عثمان الميرغنى على رئاسة الاتحادي منذ توليه لزعامة الحزب قبل عشر سنوات. 3. فرض الزعامة الطائفية على الحزب السياسي يصاحبه بالضرورة نقل العلاقات الطائفية إلى الحزب وإلى الحياة السياسية بصورة عامة، ويؤدى إلى إحلال أهل الثقة محل أهل الكفاءة، فى نفس الوقت الذى يحوَّل كل نقد أو إعتراض إلى صفاقة وخروج على الأدب. هل الفتى الذى كانه الأستاذ الصادق المهدى عام 1966، كان مؤهلاً بالفعل ليكون رئيساً للوزراء ؟ وهل كان الأستاذ أحمد الميرغنى مؤهلاً بالفعل ليكون رئيساً للدولة ؟ وهل العلاقات التى أتت بكليهما إلى ذينك الموقعين، كانت علاقات ديمقراطية ؟ ومع ذلك، من كان يجرؤ أن يقول أن البغلة فى الإبريق؟ إن لوازم الأدب ومقتضيات اللياقة كانت تقتضى الصمت من قبل كل الحركة السياسية. كانت تدفع الناس دفعاً لأن يغطوا إحساسهم بالامتعاض والغضب، وأن يدفنوا الإحراج الوطني الذى كانوا يشعرون به تحت قناع محكم من التهذيب الشديد. وذلك لأن الفعل السياسي المحض، المتمثل فى الاعتراض على ممارسة خاطئة وضعت رجلاً من الرجال فى غير موضعه، بدت وكأنها خرق فظ لقواعد فى السلوك، هى على وجه التحديد قواعد السلوك الطائفي، التى تجعل النقد خروجاً على قواعد التهذيب عندما يتعلق بأشخاص محددين وأسر بعينها. ولنُشِر بصورة عابرة إلى أن الذين اعترضوا على رئاسة الصادق المهدى للوزارة فى تلك السن المبكرة لم يفعلوا ذلك إلا من تحت مظلة الطائفية نفسها. وأن الذين اعترضوا على رئاسة أحمد الميرغنى لم يفعلوا ذلك إلا فى مجالس الأنس التى يحاول الناس فيها أن يثأروا لأنفسهم، بالهزء والسخرية والدعابة الجارحة، من أوضاع لا يستطيعون مواجهتها بصورة علنية وفى وضح النهار. إننا نكن إحتراماً شخصياً كبيراً للسيدين المهدى والميرغنى، ولكننا لا نرى أن هذا يمنعنا من نقد العلاقات التى يضطلعان بدور حاملها البشرى. 4. المؤسسات الحزبية تتحول إلى مجرد ديكور فى ظل الزعامة الطائفية إذ تنفرد هذه الزعامة باتخاذ كل القرارات ذات الأهمية الوطنية الحاسمة، كما أنها تمسك بيدين حازمتين على كل آلية الأداء الحزبي. ويساعد الزعامة الطائفية فى ممارسة دورها هذا نفوذها الروحي، ومنعتها الاقتصادية، وانفرادها بولاء التكوينات شبه العسكرية التى توجد لدى كل طائفة. ولذلك فإن الداخلين إلى الأحزاب الطائفية بغرض إصلاحها، غالباً ما يتم "إصلاحهم" هم، وذلك بإعادة صياغتهم طائفياً مما يلحق هزيمة داخلية ماحقة بهدفهم الأصلي. كما أن وجود الساسة الطموحين، طموحاً شخصياً، حتى نتفادى استخدام أية ألفاظ أخرى، سيؤدى إلى توطيد أقدام الزعيم الطائفي بصورة متزايدة، ويضيف إلى سنده الطائفي سنداً سياسياً صرفاً. 5. إصلاح الحزب الطائفي من الداخل، إذا كان الإصلاح يعنى تغييراً جذرياً فى رؤية الحزب ومشروعه الوطني، وإعادة صياغة جذرية وفق مبادئ الديمقراطية لبنيته الداخلية، حرث فى الماء، وبناء على الرمل، وكتابة فى الهواء. إنه جهد ضائع وإهدار للطاقات الإنسانية التى يحسن بمن يملكونها أن يوجهوها توجيهاً أكثر رشداً.
|
|
|
|
|
|
|
|
|