|
عودة الأموات.. قصة كمال الجزولي مع الجدة وردة.. وقصص من جيمس فان برااغ..
|
من روزنامة الأستاذ كمال الجزولي توقفت عند هذه القصة.. سأعود بالمزيد عندما يسمح الوقت عن جيمس فان برااغ وقصة اتصاله بأرواح الموتى..
الجمعة: (النهود) ، شتاء 1952م. كان قد مضى أكثر من عام على ارتحالنا من أم درمان إليها ، حيث نقل والدنا ، عليه رحمة الله ، مساعداً طبياً بمستشفاها ، ولمَّا نكن ، أنا أو شقيقتي الأصغر ، قد بلغنا ، بعد ، سنَّ المدرسة. كنا نقيم في حيٍّ مترابط العلائق ، أغلب سكانه موظفون وتجار ماشية ومحاصيل. كان بيتنا فسيحاً ، تنتصب في باحته شجرة هجليج وشجيرات ورد وليمون وحناء ، ويطلُّ على شارع رملي واسع ، ليس نادراً ما تعبره أسراب النعام ، منطلقة ، وتغمره ، في الخريف ، مياه السيول تتحدَّر من وديان بعيدة ، حاملة كلَّ ما يخطر أو لا يخطر على البال من أوان منزليَّة ، وحطب حريق ، وأثاثات محليَّة الصنع ، وحصائر سعف ووبر ، وبقايا حيوانات نافقة. في الجوار ، على بعد بيتين ، كانت تسكن (الجدَّة وردة). خمسينيَّة ، شديدة البدانة ، مربوعة القامة ، فاحمة اللون ، هائلة العجيزة ، فارهة الصدر ، قصيرة الشعر ، فطساء الأنف ، عالية الجبين ، محمرَّة العينين ، غليظة الشفتين ، قليلة الكلام ، غامضة الابتسام. وكانت لها أمَّة من البنين والبنات والأحفاد والحفيدات ، كما كان لها مُراح من الأبقار مكتنزة الضروع في زريبة بيتها ، حيث كنا نتزاحم ، نحن أطفال الحيِّ ، حولها ، في الصباحات الباكرة ، تبيعنا اللبن الطازج واللقيمات الساخنة ، وهي مضطجعة على عنقريبها القصير ، وثوبها حاسر عن شعرها الفلفليِّ الوديك ، وجسدها الصقيل الدهين ، صامتة ، كتمثال أبنوسيٍّ مهيب ، لا تكاد تندُّ عنها نأمة تذمُّر من ضجيجنا وعجيجنا يطغى حتى على صوت المذياع الخشبيِّ الضخم المفتوح على آخره في نافذة غرفة قريبة ، يبث القرآن بتلاوة الشيخ عوض عمر ، ونشرة الأخبار بصوت محمد صالح فهمي ، وأغنيات الكاشف والتاج وعبد الحميد يوسف وأحمد المصطفى وحسن عطيَّة وغيرهم. كانت حياة الناس في الحيِّ ، كبارهم وصغارهم ، تمضي هادئة وادعة ، حتى أيقظنا ، ذات فجر ، عويل ترتعد له الفرائص ، يتعالى من ناحية بيت (الجدَّة وردة) ، وسمعنا والدتنا ، رحمة الله عليها ، تحادث جاراتها من فوق حائطنا الشرقيِّ القصير: ـ "بَسْ .. جو يصحُّوها لقوها ميتة .. أضان الحامل طرشة"! ـ "خشم البيت فاتِح .. وهبوبو تكاتِح"! ثمَّ ما لبثت أصواتهن أن انخفضت ، بغتة ، بهمس لم نستبنه ، لحظتها ، تماماً ، سوى أننا التقطنا من بين ثنيَّاته ، لأوَّل مرَّة ، عبارة (تَرَبْ البنَيَّة)! ................................ ................................ بكى أهل الحيِّ (الجدَّة وردة). وبكيناها ، نحن الصغار ، ربَّما أكثر مِمَّا بكاها الكبار. ومشينا معهم خلف جنازتها صوب المقابر ، حيث تزاحمنا تحت سيقانهم ، كسرب جراء ، نحدِّق ، بأعين واجفة ، في مشهد تمديدها بجوف اللحد ، ورصَّ القوالب الطينيَّة فوق فتحته ، وإهالة التراب بالواسوق حتى صارت الحفرة تلة مستطيلة وضعوا حجرين كبيرين في موضعي الرأس والقدمين منها ، وقرأوا الفاتحة مرَّة ، والاخلاص اثنتي عشر مرَّة ، ثم انقلبوا عائدين ، ونحن من ورائهم نتراكض كأفراخ قطا يلفحها اليُتم والبرد ، وقد رسمت الدموع مجاريها اللزجة على غبشة وجوهنا الشتائيَّة ، وسالت بها أنوفنا الطفلة مدرارة! ................................ ................................ إنقضى مأتم الرجال بأيَّامه الثلاثة. أمَّا مأتم النساء فقد اتصل لفترة أطول. لكنَّ الحزن تلاشى في نفوسنا ، نحن الصغار ، بأسرع مِمَّا تلاشى في نفوس الكبار! وهكذا صار مأتم النساء في بيت (الجدَّة وردة) مرتعاً للقاءاتنا ومشاغباتنا وألعابنا ومرحنا! نقصده ، خلف أمهاتنا ، في الصباحات ، ونعود منه معهنَّ لدى اقتراب عودة الآباء في الظهيرات ، ثم نعاود الركض خلفهنَّ إليه مطالع العصاري ، ولا نقفل راجعين إلا عند عودتهنَّ بعد صلاة العشاء. وكانت بعض النسوة غير المتزوِّجات يبتن مع بنات المرحومة لمؤازرتهنَّ أغلب الليالي. أمرٌ واحدٌ كان يفسد علينا متعة ذلك التغيير الكبير الذي كسر به مأتم المرحومة روتين طفولتنا: الهمس الغامض الذي تتخلله عبارة (تَرَبْ البنَيَّة) ، والذي ما تكاد تنفرد امرأتان في ركن إلا وتستغرقان فيه ، غير آبهتين لوجودنا على مقربة نسترق السمع ، وقد تزيدان شيئاً تلتقطه آذاننا أيضاً عن رائحة حنوط ، وخنخنة صوت ، وخشخشة كفن! وكنا نلاحظ أن بنات المرحومة يراقبن ذلك ، من بعيد ، بقلق وتوتر واضحين! وكان أكثر ما يؤرِّق ليلاتنا ، أيامها ، ويقضُّ مضاجعنا ، محاولاتنا ، بأقصى ما أوتينا من أخيلة غضَّة ، افتضاض سرِّ ذلك الهمس الغامض! لكنَّ الارهاق سرعان ما كان يحملنا على موجة أثيريَّة من النعاس ، فالنوم ، ليتماهى الوعي باللاوعي ، حتى جاءت ليلة ليلاء! ................................ ................................ عدنا مرهقين مغبَّرين ، كما العادة ، بعد يوم حافل باللعب والمرح في (بيت البكا). إستحممنا ، وتعشينا. لكن ، ما كدنا نهجع للنوم حتى شقت السكون ، بغتة ، من جهة بيت الجدَّة وردة ، صرخات نسائيَّة مذعورة ، متداخلة ، اقشعرَّت لها أبداننا! وسمعنا همهمات رجاليَّة ، وأوان معدنيَّة تتساقط ، وأوان زجاجيَّة تتكسَّر ، وأقدام تتراكض في الشارع ، وأجساد تتقافز من فوق الحوائط الفاصلة بين البيوت! ثم ما لبثنا أن سمعنا إبن المرحومة الكبير الذي كان جاء لحضور مأتمها من الخرطوم ، حيث يعمل هناك سائقاً في شركة النور ، يصيح بصوت مخمور: ـ "يللللا من هنا ، يحرق د .. كم ، حريم مطاليش. تاني علي الطلاق اشوف واحدة فيكم في البيت ده إلا كان اكسِر ليها كراعها"! ................................ ................................ خلال الأيام التالية التقطت آذاننا ، عن حقيقة ما جرى تلك الليلة ، حكايات ، وإن كانت ما تزال مشوبة بالكثير من الغموض ، إلا أنها ألهبت خيالنا بما يسدُّ الفراغات ويستكمل النقص! فكنا نقضي سحائب نهاراتنا تحت الهجليجات ، نفكِّك ونعيد تركيب الوقائع بقدر ما تسعفنا مواهبنا وأخيلتنا الخصيبة! ومع تيقننا من أننا نكذب ونختلق ، فقد كنا نجد لذة عجيبة في الاندماج في تلفيقاتنا تلك ، حدَّ أن نتلفت وجلاً ، ونرتعد فرَقاً ، ويترقرق الدمع في مآقينا من شدَّة الخوف! وضعت تلك الحادثة ، على أيَّة حال ، نهاية لمأتم الجدة وردة ، مثلما وضعت بداية لترقب عودتها ، في أيَّة لحظة! هكذا انحسرت الأرجل عن بيت البكا ، وأغلق أهله بابهم عليهم ، لا يستقبلون أحداً ولا يزورون أحداً. حتى أطفالهم ما عادوا يلعبون معنا. ومن يومها لم يعد الحيُّ ، أبداً ، سيرته الأولى! ................................ ................................ بعد نحو من شهرين ، وذات (يوم سوق) ، حملت سلة صغيرة من السعف الملوَّن المضفور كانت أهدتني إيَّاها جدتي لأمِّي التي كانت جاءت من ام درمان تزورنا ، وركضت أشق الزحام ، يتبعني حمل صغير كنت أربِّيه ، قاصداً ركن بيع النَّبَق الذهبيِّ اليانع. كانت عيناي مشغولتين بالبحث عن أجود الأكوام ، وإذ وجدته ، بَرَكتُ أمامه ، ومدَدتُ يدي إلى البائعة بالسَّلة ، وبقطعة العملة المعدنيَّة من فئة الفِريني (قرشين) ، بينما عيناي مغروستان في بريق الذهب: ـ "أديني يا حَبُّوبَة"! ـ "أنطيك بي كم"؟! وقبل أن أنطق "بي تعريفة" ، إنتبهت إلى خنخنة الصوت ، مثلما انتبهت ، في ذات اللحظة أيضاً ، إلى رائحة الحنوط! وكما في مشهد سينمائيٍّ يُعرض بالاسلوب البطئ ، رحت أرفع رأسي ، وكلُّ بوصة في جسدي قد نَمِلتْ واقشعرَّت ، حتى إذا ما استقرَّت عيناي على الابنوسيَّة الخمسينيَّة المهيبة ، شديدة البدانة ، مربوعة القامة ، فاحمة اللون ، هائلة العجيزة ، فارهة الصدر ، قصيرة الشعر ، فطساء الأنف ، عالية الجبين ، محمرَّة العينين ، غليظة الشفتين ، غامضة الابتسام ، مضطجعة على عنقريبها القصير ، وكفنها يخشخش حاسراً عن شعرها الفلفليِّ الوديك ، وجسدها الصقيل الدهين ، أطلقت صرخة مفزوعة ارتجَّت لها أركان السُّوق ، ولم أعد أعي ، من أمري ، شيئاً! ................................ ................................ يبدو أنني لزمت سرير المستشفى عدَّة أيام. أدركت ذلك من ثرثرات جاراتنا في العنبر ، وأنا أستفيق تحت الغطاء ببطء ، مثلما فهمت أنني ، عندما وقعت عيناي عليها ، صرخت باسمها حتى كدت أمزِّق صدري ، ثمَّ سقطت مغشياً عليَّ. تجمَّع الناس حولي ، وعرفني حلاق من أصدقاء والدي ، فركض بي إليه في المستشفى ، حيث أسعفت ولزمت السرير. غير أن أكثر ما شدَّ انتباهي ، وحيَّرني ، ما قيل عن أن من كانوا في الموقع ، بما فيهم الحلاق نفسه ، أقسَموا على أنه لم تكن ثمة أبنوسيَّة خمسينيَّة ولا يحزنون ، بل محض إعرابيَّة بائسة اعتادت أن تأتي كلَّ يوم سوق لتبيع النبق واللالوب ، وأنها ، لمَّا رأت ما حدث لي ، فزعت ، وفرَّت بجلدها ، تاركة بضاعتها المتواضعة ونقودها القليلة! مع ذلك ، أضاف الجيران تلك الحادثة تِرْسَاً صغيراً في عجلة حكايتهم التي لم تكفَّ ، يوماً ، عن الدوران ، حول عودة الجدَّة وردة! ................................ ................................ وبعد ، أهذا (واقع أسطوريٌّ) أم محض (أسطرة للواقع)؟! و .. أفلا يكون (الواقع) ، أحياناً ، أكثر (واقعيَّة) من أن يُصدَّق؟! ولو لم يكن موت المرحومة قد أحيط بكلِّ ذلك الهمس الغامض ، فهل كان ثمَّة ما سيتبقى منه ليستحق أن يُروى؟! خذ عندك ، وعلى سبيل المثال فقط: يهمس الحلاق في أذنك ، وهو يحيط عنقك وصدرك بفوطته ، أن جعفر نميري قد قام (بعَّاتيَّاً)! ثم تطالع ، في الصحف الصفراء ، أو تقرأ ، في الملصقات على الجسور ، أن "مايو الانجاز .. مايو الاعجاز"! فأيُّ القولين أقرب إلى (الحقيقة) ، هنا ، وأيُّهما أشبه بـ (الوهم)؟! لقد كشف ماركيز ، في معرض تعليقه على روايته العظيمة (مائة عام من العزلة) ، القصَّة الحقيقيَّة لشخصيَّة العذراء باهرة الجمال ريموندس ، فإذا هي مجرَّد فتاة طائشة هربت مع عشيقها! لكنَّ أسرتها ، لأجل أن تغطي على عارها ، صوَّرت أمر اختفائها المفاجئ كما لو كان أحدهم قد رآها وهي تصعد ، بغتة ، إلى السماء ، بينما كانت تطوي ملاءات السرائر في الحديقة! واعترف ماركيز بأنه فضَّل هذه الرواية (المختلقة) على تلك القصَّة (الحقيقيَّة) ، فعشرات الفتيات يهربن ، كلَّ يوم ، مع عشاقهنَّ ، على حين لا تصعد ، كلَّ يوم ، عذراء جميلة إلى السماء ، بغتة ، وهي تطوي الملاءات في الحديقة!
|
|
|
|
|
|