كتاب : (خارج النص) لعبد الكريم كاصد ..حوار في الشعر والحداثة ، وذكريات جيلي عبد الرحمن

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-19-2024, 11:07 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثالث للعام 2007م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
09-03-2007, 08:09 PM

محمد جميل أحمد
<aمحمد جميل أحمد
تاريخ التسجيل: 03-21-2007
مجموع المشاركات: 1022

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
sssss
كتاب : (خارج النص) لعبد الكريم كاصد ..حوار في الشعر والحداثة ، وذكريات جيلي عبد الرحمن



    إضاءة

    هذا الكتاب : (عبد الكريم كاصد ... الشاعر خارج النص ) صدر أخيرا في طبعته الأولى بالمغرب قبل أسابيع ؛ هو حوار مطول مع الشاعر العراقي الكبير عبد الكريم كاصد . حوار ليس كالحوارات المسلوقة في الصحافة العربية ، التي تجرى في نصف صفحة لمناقشة مفكر كبير أو شاعر كبير وتنتهي قبل أن يشرح ذلك الشاعر جملة واحدة مفيدة.
    هذا الكتاب حوار طويل ومكثف عن الشعر ، والمعرفة ، والحداثة ، والفكر ، والفلسفة ، من خلال سيرة إبداعية لشاعر انخرط مبكرا في الحداثة الشعرية وساهم في التأسيس لذائقة شعرية جديدة لأكثر من أربعين عاما ، وعاصر العديد من رموز الشعرية العربية الكبار في العديد من البلدان العربية التي عاش فيها ضمن حركة المنفى لمثقفي اليسار العراقي الذين تشردوا في البلدان العربية ، وأخيرا في أوربا من أمثال شاعرنا (كاصد) والشاعر الكبير سعدي يوسف ، والشاعر مظفر النواب وغيرهم . .. وفي هذا الكتاب آراء عميقة عن الشعر ومعناه ، ورصد معرفي لصيرورة الحداثة الشعرية العربية ، وأزمة الثقافة العربية ومأزقها في نفس الوقت ، وتوصيف لضياع المعنى في الواقع الثقافي العربي ، وخضوعه لإعلام ريعي متخلف تابع لأباطرة (البترودولار) . وكذلك هناك ذكريات عن شعراء زاملهم الشاعر من أمثال شاعرنا الكبير (جيلي عبد الرحمن) في اليمن الجنوبي .
    كما يحفل الكتاب بنظرات ثاقبة في قضايا ترجمة الشعر الأوربي ، وموضوعة التراث والعلاقة الجدلية بين (بنوة التراث ، وتبنيه) بحسب مقولة (إدوارد سعيد) النقدية وغير ذلك من أسئلة الإبداع والحداثة .
    والمحاوِر في هذا الكتاب هو الشاعر والمترجم المغربي (عبد القادر الجموسي)الذي ترجم (المهابهاراتا) ـ أوديسة الهند ـ وكتاب (الأمير) لميكيافللي و (رباعيات) لـ(ت . س . اليوت) وغيرها
    هذا الكتاب هو بالفعل سياحة ممتعة وعميقة مع صاحب (سراباد) و(وردة البيكاجي) الشاعر العراقي الكبير عبد الكريم كاصد الذي أنجز ترجمات عربية مرموقة لشعراء أوربيين كبار كبار مثل دواوين : (كلمات) لجاك بريفير ، و (أناباذ) لـ(سان جون بيرس) و (قصاصات)
    لـ(يانيس ريتسوس) وغيرها .
    الجدير بالذكر أن الملحق الثقافي المعروف باسم (المنتدى الثقافي) لصحيفة الشرق الأوسط العدد 10466 بتاريخ 25/7/2007نشر مقالا للناقد العراقي (ياسين النصير) عن هذا الكتاب الجديد والفريد من نوعه في المكتبة العربية . ولا يشبهه في ذلك إلا كتاب (حين يقع الغريب على نفسه) الذي كان حوارا مطولا في حلقات بصحيفة الحياة اللندنية أجراه الناقد اللبناني (عبده وازن) مع الشاعر الفلسطيني الكبير (محمود درويش) ...
    ونحن ننشر الكتاب هنا بإذن شخصي من الشاعر الذي سيتابع حلقات نشر الكتاب في هذا البوست ـ وسيرد على تعليقات المتداخلين إذا لزم الأمر عبر هذا البوست ـ بهدف تيسير هذه المادة المعرفية والثقافية والإبداعية النادرة في هذا الكتاب بين يدي الشعراء والنقاد السودانيين والمهتمين بالثقافة الجادة وقضايا الإبداع والحداثة ، من أعضاء هذا المنبر ومن القراء . لا سيما أن في الكتاب حديث عن شاعر سوداني جميل هو الشاعر جيلي عبد الرحمن الذي عاش مع الشاعر باليمن الجنوبي الجدير بالذكر أن الشاعر الكبير عبد الكريم كاصد كان صديقا حميما وزميلا كريما للراحل الكبير الدكتور (أسامة النور) حين كانا زميلين بمجلة (الثقافة الجديدة) باليمن الجنوبي أوائل الثمانينات من القرن الماضي ، ولم يكن الشاعر على علم بوفاة الراحل المقيم إلا حين أخبرته بذلك ففجع بالخبر متأثرا بتلك الصداقة ثم نعى شاعرنا كاصد (الدكتور أسامة النور) بكلمة في مؤتمر الشعراء والكتاب العراقيين في برلين قبل أسبوع ..

    فإلى الفصل الأول من الكتاب .
    محمد جميل أحمد
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    (عدل بواسطة محمد جميل أحمد on 09-03-2007, 08:34 PM)
    (عدل بواسطة محمد جميل أحمد on 09-03-2007, 08:50 PM)
    (عدل بواسطة محمد جميل أحمد on 09-03-2007, 08:55 PM)

                  

09-03-2007, 08:24 PM

محمد جميل أحمد
<aمحمد جميل أحمد
تاريخ التسجيل: 03-21-2007
مجموع المشاركات: 1022

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: كتاب : (خارج النص) لعبد الكريم كاصد ..حوار في الشعر والحداثة ، وذكريات جيلي عبد الرحمن (Re: محمد جميل أحمد)

    إضاءة:

    "كن شاعرا في كل ما تفعله، مهما يكن بسيطا و قليل الشأن. كن شاعرا خارج النص قبل أن تكون شاعرا فيه. كن شاعرا في مأكلك و مشربك و سلوكك و حبك و ذهابك و إيابك و نومك. كن شاعرا على الدوام". فرناندو بيسوا

    "أنا لست الشخص ذاته في كل تجربة..كل تجربة خلق لي و اكتشاف لم أفكر به من قبل. و الا ما فائدة عمل لا يبعث المتعة و الفرح... كل قصيدة هي فرح غامر..تجل لواقع جديد..لروح جديدة. الشعر فرح مطلق حتى لو كان حدادا..". عبد الكريم كاصد

    مقـد مــــة

    سيرة الشاعر عبد الكريم كاصد:

    ابتدأ الشاعر العربي عبد الكريم كاصد نشر قصائده الأولى منذ أواخر ستينيات القرن العشرين المنصرم. و صدرت أولى مجموعاته الشعرية الحقائب سنة 1975، لتليها النقر على أبواب الطفولة (1978)، الشاهدة (1981)، وردة البيكاجي (1983)، نزهة الآلام (1991)، سراباد (1997)، دقات لا يبلغها الضوء (1998)، قفا نبك (2002)، و زهيريات (2005).

    ولد عبد الكريم كاصد في مدينة البصرة (العراق) سنة 1946. و حصل على ليسانس في الفلسفة من جامعة دمشق عام 1967، و ماجستير في الترجمة من جامعة وستمنستر بلندن1993، ثم بكالوريوس في الأدب الانجليزي من جامعة نورث لندن سنة 1995.

    زاول التعليم كمدرس للغة العربية و علم النفس. كما اشتغل في الصحافة كمحرر ثقافي في مجلة "الثقافة اليمنية". غادر العراق هربا من ملاحقة السلطة له و للعديد من المثقفين العراقيين. عاش حياة ترحال و منفى أخذته عبر العديد من البلدان العربية و الأوروبية كاليمن و الجزائر وسوريا و لبنان و فرنسا و روسيا لتحط به الرحال بالمملكة المتحدة منذ أواخر التسعينات. يقيم حاليا بمدينة لندن مع طفليه زياد و سارة بعد رحيل زوجته حذام عام 2002.

    ترجم الشاعر العديد من الدواوين الشعرية: كلمات لجاك بريفير (1981)، أناباز لسان جون بيرس(1987)، قصاصات ليانيس ريتسوس(1987)، ثم نكهة الجبل للشاعر الياباني سانتيوكا تانيدا (2006).

    ألف عبد الكريم كاصد في القصة كما في المسرح حيث صدرت له المجموعة القصصية المجانين لا يتعبون (2004)، و عرضت له مسرحية شعرية بعنوان حكاية جندي في مسرح أولد فيك (Old Vic) الشهير بلندن خلال عام 2006. كما أنجز عملا تحقيقيا للأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي مصطفى عبد الله الذي عاش بمدينة القنيطرة بالمغرب.

    ترجمت قصائده إلى اللغات الفرنسية و الإنجليزية و الدانماركية، كما وردت سيرته في معظم أنتولوجيات الشعر العربي خصوصا في "معجم الكتاب المعاصرين" و "معجم البابطين" و"أنتولوجيا الأدب العربي المهجري المعاصر" للدكتور لطفي حداد و من قبلها "أنتولوجيا الشعر العربي" لسلمى خضراء الجيوسي.
    شارك في منتديات شعرية دولية بألمانيا و السويد و الدانمارك وبريطانيا. كما نشرت أعماله و ما تزال تنشر في أهم الدوريات و المجلات الأدبية والشعرية، أبرزها عربيا مجلة "الكرمل" التي يشرف عليها الشاعر العربي الكبير محمود درويش.

    و اعترافا بعطائه الشعري المتواصل أقيمت دورة مهرجان المربد بالعراق باسمه سنة 2006. له قيد الطبع عمل سردي رحلي موسوم باتجاه الجنوب...شمالا، و مجموعة شعرية جديدة تحت عنوان "هجاء الحجر".

    هـذا الحــوار:

    في هذا الحوار الشامل و العميق، يفتح عبد الكريم كاصد بوابات محفله الشعري على مصراعيها ليلج بقارئه عوالم الذاكرة و الحلم و تناقضات الواقع و موقف المثقف منه. و بأريحية الشعراء المعهودة، و المفتقدة في آن، يكشف لنا عبد الكريم صنعة الشعر الخفية حتى ليجد فيه القارئ، و هو المحاور الافتراضي بامتياز، أسلوب الشاعر وطرائق اشتغاله على اللغة و المخيلة و كيفيات استلهامه للتراث الشعري الإنساني. كما يعرج الشاعر بنا إلى مختبره الفني حيث يقدم كشوفات وإفاضات مركزة لمعمارية قصائده ودواوينه وبلاغة عناوينها و رهافة صورها واستعاراتها وبلاغتها.
    لقد أبدى الشاعر عبد الكريم كاصد وعيا حقيقيا بحرفته و بصنعة قصيدته مؤكدا مرة أخرى على أن الشعر ليس رطانة لغوية مجوفة، و إنما هو إبداع معزز بفكر منفتح و أسلوب حياة حامل لموقف من الشعر و من العالم معا.
    العالم الشعري لدى عبد الكريم كاصد ليس نصا مغلقا، و إنما هو بناء مشرع على الحياة، وليس بنية مسيجة بمسوح اللغز العصي على الافتضاض، و إنما هو نص مفتوح على الحياة واللغة و الجمال و الفكر والإنسان في شرطه الوجودي الشامل.
    في هذا الحوار يصر الشاعر على مساءلة تجربته قبل كل شيء و محاورة غيره من الشعراء و النقاد و المثقفين حتى لا يكون خطابه مونولوغا منفردا. لذلك تراه يفتح مساحات للتأمل الذاتي و التواصل مع تجارب شعرية كبيرة في مشهدنا العربي و العالمي، كتجربة محمود درويش و أدونيس و السياب و إليوت و ممدوح عدوان و سان جون بيرس و رامبو و ريتسوس و سعدي يوسف و كاظم جهاد و إدوارد سعيد و محمد الجواهري و ناظم حكمت و مصطفى عبد الله وسوزان برنار و محمد الماغوط و عبد الوهاب البياتي والبريكان وغارسيا لوركا.


    طبيعة الحوار:

    الحوار الذي أقدمه مع الشاعر عبد الكريم كاصد ليس حوارا صحفيا يقتنص الحدث ويبتهل اللحظة السانحة. وإنما أريد له أن يكون حوار عمق عن الشعر و الفكر و الحياة.
    و من خصائص هذا النوع من الحوار المعمق (The Depth Interview)* انخراط المتحاورين في سيرورة مكثفة من الأخذ و العطاء و النقاش المتبادل من أجل استكناه آراء ومواقف و وجهات نظر الشاعر أو المفكر عموما. كما تكون العلاقة بين الطرفين على درجة عالية من الثقة المتبادلة بنحو يجعل فضول المحاور المتطلع يتجاوز عتبة الأسئلة الجاهزة و يشتبك مع عوالم محاوره في مسعى للنفاذ إلى عالمه الأكثر خصوصية أو مختبره الشعري، إذا جاز التعبير، لاكتشاف الشاعر داخل الإنسان و الإنسان داخل الشاعر.
    و من الجهة الأخرى، فإن درجة التلقي، من موقع الشاعر/المفكر، تكون على مستوى عال من التجاوب بحيث يساهم المستجوب (بفتح الواو) في دينامية العملية الحوارية بطرح أسئلة على السائل نفسه بحثا عن تدقيقات و إفاضات متسعة كنوع من المشاركة في إدارة دفة الحوار و بناء جسور التفاهم و صياغة المعنى المشترك.

    و الحقيقة أنني وجدت لدى الشاعر عبد الكريم كاصد من نبل إنساني و انفتاح على الوجود ما شجعني على أن أتجاسر على اقتراح إنجاز هذا الحوار رقم قصر مدة تعارفنا في مدينة المفارقات المستعصية لندن. هذا التعارف الذي ابتدأ بسيطا ليتطور و ينفتح على عوالم صداقة خصبة، إنسانية و فكرية، على قدر كبير من الرحابة و الود والعطاء.

    لماذا الشاعر عبد الكريم كاصد؟

    لعبد الكريم كاصد شخصية عابرة للزمن. لقد واكب هذا الشاعر العراقي تجربة الشعر العربي، إبداعا و متابعة، ما ينيف على أربعة عقود من الزمن، لربما كانت هي الزمن الموضوعي لولادة أسئلة الحداثة الشعرية العربية، مما يمنحه موقعا مميزا لتقديم قراءة شاملة و عاشقة لتجربة الشعر العربي المعاصر.
    هذا ناهيك عن ما يتمتع به الشاعر عبد الكريم كاصد من شغف كبير بالمعرفة و حب للغات وقراءة صاغية ومتأملة للفلسفة و الأدب و علم النفس و فن الترجمة. أضف إلى ذلك رصيد الشاعر من العلاقات الإنسانية والأدبية الممتدة عبر أجيال متعاقبة و متسعة، و استعداداً تلقائياً وعنيداً للمحاورة و الإصغاء إلى الآخر و إن كان مختلفا.
    ما كنت أتوخاه من هذا الحوار هو الدخول إلى المختبر الشعري للشاعر و استجلاء رؤيته للعالم، ومن ثمة فتح مساحة تأمل للذات الشاعرة و مساءلة علاقاتها الجمالية مع الأمكنة و اللغة والذاكرة و الحلم و النماذج الأولى. ومن خلال كل ذلك وضع الشاعر في موقع المتأمل و الناقد لتجربته الشعرية و الحياتية على ضوء تطور أساليبه التعبيرية ومسعاه المتواصل لتجاوز الذات والبحث عن لغة أخرى، و هو ما يصطلح عليه عبد الكريم كاصد ب"نفي الشعر للشعر".
    إن تحقيق كل هذه الرهانات لإنجاز حوار فكري اقتضى توفير مساحة من الزمن متسعة وقادرة على احتضان زخم الرهانات المطروحة، الأمر الذي أدى إلى عقد لقاءات متعددة مواكبة لسيرورة الحوار الرئيسي، حملتني إلى قراءة جل أعمال الشاعر و تفحص حواراته القديمة والجديدة، و كذا الاطلاع على الدراسات العديدة التي تناولت أعماله الشعرية والسردية على حد سواء.و الحقيقة أنني لم أكن أعلم أنه لكي تحاور شاعرا كبيرا من عيار عبد الكريم كاصد يجب عليك أن تقرأ لا كتبا و إنما مكتبة بكاملها.

    عبد القادر الجموسي

    -----------------------------------------------------------------------------------------
    * بخصوص هذا النوع من الحوارات، انظر:
    - Fred Massarik, The Interviewing process re-examined, pages201 - 206, in Human Inquiry, A Source Book of New Paradigm Research, Edited by Peter Reason, John Rowan, John Wiley & Sons,1991.

    - Sarah Anne Johnson, The Art of the Author Interview, University Press of New England, Hanover and London, 2005.





















    الفصل الأول:

    أبـــواب الطفـولــة
















    ابن الرافدين/ الشعر و الذاكرة:

    * الشاعر عبد الكريم كاصد، أود أن نبتدئ من البداية. و بداية كل شيء طفولته. و ما الشعر في جوهره سوى طفولة مستعادة. ماذا لو حاولنا معا استجلاء طبيعة العلاقة بين عبد الكريم الطفل والشاعر؟ كيف عاش طفولته و ما هي أهم الروافد التي صاغت ذاته المرهفة و أثرت في حساسيته الشعرية؟

    ** قبل فترة كتبت قصيدة ذات فكرة تبدو غريبة نوعاً ما عن حياة هي ليست غير حلم أو ذكرى رجلٍ ميت تتداخل فيها الأزمنة فلا ماضٍ هناك ولا حاضر ولا مستقبل، بل أزمنة تتداخل. غير أن القصيدة لا تتعامل مع هذه الفكرة في تجردها بل في تجسدها الواقعي الملموس وفي التفاصيل التي تقربها من الواقع لا الحلم الذي تتحدث عنه، من الإنسان الحيّ لا الميت الذي يتذكّر. القصيدة هي:

    فكرة بغيضة

    أحياناً
    تراودني فكرة
    كم أحاول أخفاءها
    فكرة بغيضة
    ماكرة
    هي أنني رجلٌ ميْت
    يتذكر أيامه الغابرة
    دون أن يعرف إن كانت هذه
    ماضيةً
    أم حاضرةً
    أم آتيةً
    وقد تداخلت الأيام
    فهو الطفل في كهولته
    والكهل في طفولته
    والشيخ في حاضره
    ولايدري
    إن كان الناس يظنونهُ
    طفلاً
    أم شيخاً
    أم كهلاً
    يسأل مرآته أحياناً :
    كيف يرتّب أيامَهُ
    بل كيف يرتّب وجهَهُ
    في فوضى هذي الأيام
    ذات الأبواب الألف

    المشرعة على أبوابٍ ألف
    المشرعة على ..
    أبوابٍ
    أدخلها
    أولها أم آخرها
    هذا البابُ المخلوعُ المائل؟

    أبوابٌ
    يدخلها رجلٌ ميْت

    * هل في هذه القصيدة إجابة ما؟ لا أدري ولكنني أستطيع أن أقول أن ما يتراءى لي طفولة هناك لم يزل حاضراً هنا، وما أراه شيخوخة الآن لم تكن طفولتي بمنأىً عنه. لم تكن الطفولة وهماً أو سعادةً محضاً بل كثيراً ما أطلت بملامح أخرى.. ملامح لم يدركها الطفل آنذاك.

    ** حقّاً إنني ما زلت حتى الآن لا أعرف كيف أرتب أيامي أو كيف أرتب وجهي، مثلما لا أعرف كيف يظنني الناس: طفلاً أم شيخاً أم كهلاً؟ و لعلّ الشيء الوحيد الذي أعرفه أنني أمام أبوابٍ شتّى وأنني ما أزال مشروعاً للمغامرة خلف الأبواب.. وأنني ما زلت الطفل الذي يطلّ بين فترة وأخرى، وأن الكهولة ليست مؤجلة، أو تالية، وأن الشعر حاضر في هذه التحولات يقبس منها ناره أبداً، ولعلّ في هذه النار ما يقيني برد العالم الذي يحوطني، والزمن الذي يخترقني . لذا أعتقد أنني ما زلت بعيداً عن أية صياغةٍ ناجزة، وأن روافدي لم تنضب أو تنقطع بعد، وأن بعضها لم يزل يحفر عميقاً في شعري. هل يمكن أن أقول أن ألف ليلة وليلة التي رواها لي خالي موزان كاملة أكملت فعلها فيّ أو في شعري؟ هل أستطيع أن أغادر طفولتي وكأنها مدينة مررت بها في قطار عابر؟ هل انتهى رافد الشعراء الذين أثّروا فيّ: طاغور، المتنبي، لوركا، نيرودا، ناظم حكمت، إليوت، عزرا باوند، فروست، السياب.. وغيرهم؟ أم أنني ما زلت أرى في هؤلاء رافدي الذي لا ينضب؟

    نعم .. ثمة بشر عاشرتهم وأحداث أثّرت فيّ وكتبتُ عنها وما زلت أستعيد بعضها وأكتب عنها وكأن الشعر والطفولة توأمان يلتقيان مهما ابتعدا. سيظل الشعر مهما نأيتُ به طائفاً يراوح عند حدود الطفولة ليدخلها في لحظة ما.. لحظة سعيدة قد تختلط بالحزن ولكنها لحظة فرحٍ بلا شكّ.

    *الطفل أب الإنسان، يقول الشاعر وودزوورث. على ضوء هذه المقولة، إلى أي حد تمثل الطفولة خزينا لتجارب و أحاسيس ملهمة للإبداع الشعري عموما؟

    **نعم قد يكون الطفل أب الإنسان وقد يكون الرجل أو الإنسان ابناً للطفل. أقول في قصيدة لي بعنوان الشاهدة مخاطباً أبي:

    وكنتَ لي الصغير تعاشر الجيران

    كما أقول في قصيدة أخرى:

    قلت لأبي وقد جاءني زاحفاً من قبره
    "آه .. يا طفلي العزيز !".

    وفي الحالتين يحضر الشعر. الطفولة كما قلت ليست مرحلة حسب، بل هي علامة الإنسان وجوهر الشعر في أية مرحلة كانت. وحين تغادر الطفولة الإنسان يغادره الشعر أيضاً. وحين نتحدّث عن الطفولة بصفتها مرحلة ما، فهي بالفعل خزين من التجارب والأحاسيس والدليل على ذلك هو استمرارها نسغاً لا في الشعر وحده وإنما في الحياة أيضاً حتى يمكنني أن أقول: إنني طفولتي .

    أشعر أحياناً أن طفولتي كالوجود لدى هيغل الذي يحتوي على تفتحه القادم الكامن فيه. ألم تنطو طفولتنا على الكثير من قسماتنا القادمة؟ ألا تحتوي قسماتنا الحالية طفولة ما.. حتّى لو كانت مندثرة لدى البعض؟ هل الشعر وسيلة لإحياء ما اندثر لدى الشاعر أو القارئ.. أو في طريقه إلى الاندثار؟ هل الكتابة، والشعر خصوصاً، وجود ينطوي على حياته القادمة كما لدى هيغل الذي اكتشف في الخلو (مقولة الوجود الفارغ) كامل الامتلاء؟


    * قلت في مقام آخر: "ما زال في داخلي ذلك الطفل يرافقني و يقودني إلى ممالك أبعد". ماذا منحتك طفولتك من صور شعرية و رؤية بدائية للعالم من خلال صلاتك بشخوص المرحلة وأمكنتها والنماذج الأولى واللغة الأم؟

    ** في طفولتنا كنا ما إن نغادر البيت حتى نجد أنفسنا منزلقين على خشبة مسرح مهيئين لجميع الأدوار. لم يكن أحدنا ينتظر دوره. كانت الأدوار حاضرة تنتظرنا فرساناً و مغامرين. كلّ الشوارع يمكن أن تكون مسرحاً.. الصغيرة منها والكبيرة، الظاهرة والخفية، وفي الخفية كنا نقوم بأدوار الحرّاس لتحذير أخوةٍ لنا كبار، يلعبون الورق، عند مداهمة الآباء.
    ذات يومٍ - أذكر- اجتمع اللاعبون في مكان يعلوه وكر زنابير. لا أدري كيف اهتاج هذا الوكر لتخرج منه الزنابير جيوشاً تتعقبنا وقد تطايرت أوراق اللعب ومعها بعض أوراق نقدية لاتستحق كلّ هذه المغامرة التي أورثتنا انتفاخات مضحكة في وجوهنا في اليوم التالي. لم يك ثمة إطار للطفولة، أو قواعد صارمة أو مراتب بل حياة مسفوحة.. مفتوحة الأبواب على خارج أليف وغرائبي في آن واحد. لم تكن طفولتي تبحث عن مغامراتها وإنما تجدها في ما هو مألوف في الواقع. كان شعري فيما بعد وجهاً آخر لطفولتي. هل الطفولة والشعر صنوان؟

    أتساءل أحياناً لماذا الطفل هناك حتى في الأحداث الضخمة كالحرب .. لماذا الطفل ، مثلاً، في ملحمة الماهابهاراتا التي اطلعتُ على ترجمتك الجميلة لها؟ ماذا يفعل الطفل هناك وسط كلّ هذه الأحداث التي وجد نفسه في خضمها فجأةً؟ كيف يصبح الواقع مخيلة عند الطفل والمخيلة واقعاً عند الشاعر فيما بعد؟
    وحين أتذكر طفل الملحمة أتذكر أيضاً طفل الحياة الآخر الجميل الباسم التي تروي عنه الملحمة إنه كان واقفاً تحت شجرة حين قدم إليه الشيخ الناجي الوحيد بعد أن استحال العالم مستنقعاً هائلاً، فناداه وطلب منه أن يدخل جسده ليستريح ، فهاله أن يرى العالم من جديد حيّاً بأنهاره ومدنه وناسه وسمائه التي لا تنتهي.


    لعل أغرب ما اكتشفه الطفل فيما بعد هو أن الشرّ لم يكن بعيداً عنه، ولم يكن بتلك القسمات الشريرة التي كان يظنها؛ فهو يبتسم له أحياناً. كان يعرف شريرين وادعين وطيبين أشراراً، وكان يرى الرقة في من يتوهمهم الآخرون أفظاظاً. كانت عيناه تتسعان على المشهد بل إنه كان، ويا للغرابة!، يرى الفضيلة حتّى في ما هو رذيلة. أتذكر العاهرات وهنّ يهبطن في جولةٍ (تذكرني بمواكب المومسات التي تحدث عنهنّ أندريه جيد في كتابه "حين تموت البذرة") أيام الأعياد في مدينة بسكرة الجزائرية الشبيهة بالبصرة بنخيلها وبيوتها ووداعتها.

    كنت أتطلع إليهنّ فأراهن أليفات يشبهن نساءنا إلاّ بضعة أصباغ أفتقدها في وجوه بعضهنّ أحياناً، وحتّى عندما يتشاجرن مع الباعة وتعلو أصواتهن، أسمعهنّ يتحدّثن عن شرفهنّ الباقي أو المفقود... لا أدري فتصيبني الدهشة، بل أن لبعضهنّ أطفالاً يجلبنهم معهنّ إلى السوق ولاتنتهي جولتهنّ إلاّ عند حدود سوق البزّازين الذي انتقل إليه محلّ والدي بعد أن كان في بداية السوق فيصلن إليه كغزالات نافرات من سربٍ عائد. لن أنسى دموعهنّ بعد إغلاق المبغى، وهنّ يودّعن الآتين ويعرضن أثاثهنّ للبيع، ويرحلن بلا أثرٍ سوى البصمات التي خلّفتها أيدي السكارى والمتعبين على أجسادهنّ.

    كانت هذه الأضداد تتزاحم كلّما تقدّم الطفل خطوةً لتصبح أضداداً جديّة لم يكن يتوهم يوماً أنه سيجد تركيبها ، في مادّة أو مثال، ولكنه كان يجد إنسانيته حين يلتقي بالبشر ولا يرى اجتماعهم شرّاً، وهذا لا يعني أن تجمعهم خير بالضرورة فما أكثر الشرور التي ارتكبتها الجماعات. لم يكن الشرّ هناك بل هنا أيضاً متألقاً مثيراً في ابطالٍ يبعثون على المتعة في مغامراتهم التي لا يُنقص منها حتى الشرّ.

    مرّةً فوجئ الطفل بواحدٍ من "الأشرار" تتعقبه الشرطة بتهمة قتل مفوّضٍ شرير فاضطر إلى الالتجاء إلى بيتنا وقد أثخنته الطعنات ، فآويناه أياماً خرج بعدها وقد شفي من جراحه الفاغرة. كلّما تذكرت هذا الرجل المذبوح استغرب كيف عاد إلى الحياة بقماشات نظيفة فقط وماء حار ومراهم عاديّة. و يا للغرابة حين التقيت هذا الرجل فيما بعد وكأنني لم أعرفه من قبل أو لم نعش حدثاً ما.. رجل قاتل وعائلة طيبة هكذا يلتقي الشر بالخير ويختلطان في لعبة شريرة أو طيبة.. لا أدري.

    حتّى الموت كان لدينا لعبة نحن الأطفال. نتطلع إليه من شقوق الحيطان القصب المعدّة لغسل الموتى ونصحبه حتى الجادّة العالية حيث ترتفع البيارق وتنطلق أصوات البنادق ويتقدم الميت في تابوته غامضاً في رحلته الأبدية إلى البعيد، على سقف سيّارة بينما يردح البعض بالهوسات التي يردّدها الآخرون. احتفالات وطقوسٌ تتكرر وسط دهشتنا الدائمة وحركتنا الدؤوبة حين تشب المواقد وتعلّق الخرفان وتُهدى لنا بعض أجزائها اللذيذة، نحملها إلى أمهاتنا ليشوينها على الجمر وقد أقعينا جوارهن.

    عالم طفوليّ.. يمتزج فيه كلّ شئ.. البشر والآلهة، السماء و الأرض، الأموات والأحياء، الحجر والماء، وتهبط النجوم في سلةٍ إلى الطفل:

    النقوش الجميلة في الخصر،
    (ترفع أثوابهنّ الصبيّات)
    إغماضة الشمس فوق الحظيرة،
    (تعبق رائحةٌ)


    صيحة الغاق،
    (ترحل بعض الحضائن في النهر)
    إطلالة الليل فوق السطوح الخفيضة،
    (تهبط في سلّةٍ نجمة)
    وتنام.
    (صيف) من ديوان (النقر على أبواب الطفولة)


    النقر على أبواب الطفولة:

    * يمتح ديوانك الموسوم "النقر على أبواب الطفولة" مادته الشعرية من تجارب الطفولة. و هو يضم قصائد يتراوح تاريخ كتابتها بين سنة 1968 و 1976، وهي بذلك تتقاطع مع القصائد المنشورة في المجموعة الأولى "الحقائب" الموقعة بتاريخ 1975. يفهم من هذا أن قصائد "النقر" كتبت على مدى ثماني سنوات، و هي فترة تخللتها، بلا شك، أحداث و أسفار و رهانات و اختيارات فكرية و جمالية متعددة. ما البواعث الذاتية و الموضوعية التي حفزت على نشر ديوان عن الطفولة بشكل خاص؟ و ما هي اللحظة التي بدا فيها "نداء الطفولة" ضاغطا و ملحا مما حدا بك إلى انتقاء و تصور نصوص هذه المرحلة وفق منظور موحد، أي في شكل ديوان متكامل؟

    ** أغلب قصائد المجموعة كتبت في سنتي 75-76 باستثناء قصيدتين هما (حكاية متعبة للأطفال) و(مرثية) اللتين كتبتا سنة 1968، لذا فهي لاحقة لمجموعة (الحقائب)، كتبتها بعد عودتي من غربةٍ دامت ثلاث سنوات متواصلة في الجزائر. باعثها هو ما استشهدتَ به من إضاءة كانت إذا صحّ التعبير تطهيراً، ونجاةً، وابتعاداً عن واقع، لأعود إليه وقد انفتح على ماضٍ أردته مستقبلاً أيضاً لطفولة أراها أمامي تختنق بشعارات ودعاوى كأنّ الحياة ليس لها سوى بعدٍ واحد هو البعد السياسيّ في أدنى أشكاله: ضجيج إعلامٍ، ومسيرات كبرى، وتظاهر بتحالفات كاذبة، وتعداد مآثر لسلطة بعيدةٍ عن الناس حتى في توفير أبسط احتياجاتهم. يقابل ذلك دعوات نقاد وكتاب وصحف لتكريس أدبٍ لا همّ له سوى مديح هذا الواقع الفظ وانجازاته الباعثة على السخرية في صغرها المضخم في الإعلام.

    كان ديوان "النقر" إنقاذا لي .. تطهيراً وملاذاً لجأت إليه لأصغي إلى أعمق ما في داخلي من حنين لأمكنة وأناس غابرين عادوا ظلالاً، فأردتهم أحياء، كأنّني أريد أن أقيم عالمي الذي هو نقيض العالم القائم/ حيوات وأمكنة وأصداء و بشر قادمون بملامح غائمة تتضح شيئاً فشيئاً: كامل الطفل الذي اخضرت لحيته، أفعى البيت الخارجة من ظلام الحائط المشقوق لتهزّ الطفل، الحمال الذي يتقدّم ملكاً خشبيّ الجنحين وقد كنسنا نحن الأطفال، أمامه الطريق، لئلاّ تنغرس قدماه بالحصى، لشدّة ما يحمله من ثقل، حمزية الراقصة الغجرية بثوبها الموسلين.. النيران المشبوبة لرقص العميان، المرأة الهاربة التي يتأبطها ذئب، النساء اللواتي يجمعن الملح فتلاحقهن الشرطة، لأن هناك من يحتكر الملح، البغايا الباكيات وقد أغلق المبغى، وسط سباب القوّادين وضحكات العابرين، عمال الجراديغ (مكابس التمور) وهم يقلبون الصناديق طبولاً للسهر في الليل، النوتيّ الذي بلغ السبعين ولم ير المدينة..عالم ينفتح على ظلمة في السراديب أو ضياء شمس، وبين الظلمة والضوء يتراءون بشراً وأشباحاً في آنٍ واحد، أشراراً وطيبين بشرورٍ صغيرة، هامشيين وأبطالاً، وبين الهامش والبطولة ينتقلون مثلما ينتقل البشر بين الظلمة والضوء...

    كان هذا الحشد يجتاز كلّ صباح الطريق إلى المدينة موكباً تخترقه العربات التي تجرها الخيول وروثها الذي يملأ الطريق. كنا أطفالاً نندسّ بينهم في طريقنا إلى المدرسة.. حمالين وعمالا وبائعات ملح يفضلون السير على الأقدام على ركوب العربات.. سمّهِ كرنفالاً صباحياً تتخلله المسيرات الصامتة والضاجة لأناس يعرفون بعضهم بعضاً، وحين يصلون إلى المدينة نراهم يتخذون أماكنهم هناك وكأنهم نبتوا فيها أو كأنهم شخوص في مسرح واسع، ولعلّ أطرف ما في هذا المشهد هو جلوسهم الواثق في المقهى الرئيسيّ الذي يطلّ على قلب المدينة الضاج بالناس وحركة سير السيارات، وهم يدخنون النارجيلات باطمئنان الكائن الأبديّ الذي لا تشغله دنياه وهو الخائض فيها حتى الرقبة.

    حين نراهم نحن الأطفال يتملكنا شعور واحد: المدينة بيت. تدهشنا رقتهم في المدينة وحنوهم وسخاؤهم وحين كنت أقرأ لأبي "ألف ليلة وليلة" جالسين أمام محله الكائن في سوق البزّازين ، يترك هؤلاء محلاتهم ليتحلقوا حولي مبهورين متثاقلين حين يلمحون قدوم الزبائن.

    لقد أسرّني بعض القراء وبعض الأصدقاء من الشعراء إنهم حين هربوا من العراق لم يحملوا معهم غير هذا الديوان وكتابين عزيزين أو ثلاثة من بينها أيضا كتاب "المملكة السوداء" لصديقي العزيز وابن مدينتي محمد خضير. وحين ذهبت إلى العراق هذه السنة والسنة الماضية لحضور مهرجان المربد فاجأني الكثيرون بحبهم الكبير لهذا الديوان الصغير البسيط في أشكاله التي تكاد تكون مفتوحة حتى أمام عيون الأطفال.


    * في ديوان "النقر على أبواب الطفولة" اشتغال على صور الذاكرة بطريقة تستحضر الأحداث كما لو أنها ما زالت تحتفظ بطراوتها و عنفوانها و حسيتها الأولى، كيف استطعت الحفاظ على هذه المسافة الجمالية الحميمة رغم توالي السنين و اطراد الوعي.

    ** القصائد في هذه المجموعة هي وقائع حياتية حدثت بالفعل لطفل، ولكن ما يثير تساؤلي وتساؤلك ربّما هو كيف فاضت هذه الوقائع بالخيال حتى غدت وكأنها أحداث من صنع الشعر.

    في الطفولة كان الخارج يمتد إلى بيت الطفل، وحين كبر الطفل ألفى بيته وهو يمتد إلى الخارج ، ثم فقد الاثنين معا فيما بعد ليستعيدهما بين فترة وأخرى في لقاء عابر أو حادثة أو وهم أو حب أو حنان أبٍ صار أمّاً أيضاً.. أو صداقة ممجّداً الحياة مدركاً أن بهجتها هي التي تغري الوحوش بالافتراس أيّاً كانت هذه الوحوش سلطةً أو احتلالاً أو منفىً. لا يزال الخارج بالنسبة إليّ متعة وحين أبتهج لا أغلق أبوابي أبداً على الطفل بل أفتحها واسعةً رحبةً.. بلا انتهاء . أليس في هذا الفعل جوهر الشعر وحضوره الدائم وقدرته على استحضار ما يبدو أنه اختفى إلى الأبد. لا أحبّ النفس راكدة حزينة في الشعر، وأحبها مفتوحة على العالم حتى وهي في أوج مأساتها. لانّ في حضور العالم والتماع أشيائه يصبح حتى الحزن فرحاً مضيئاً بالشعر.

    أتذكر أنني في طفولتي كنت أضيق بالوحدة وأكره وقت القيلولة في الظهيرة حين ينام الأهل، وما زلت أشعر أن الوحدة، إن لم يحضر الآخر في كتابٍ أو ذاكرةٍ، ليست أقلّ وحشة من وحدة الطفل في الظهيرة.


    *في رثائك للأب، رسمت صورة شجية حيث قلت: "رأيت فيه طفولتي التي مضت و التي فقدت أعز شهودها". هلا حدثتنا عن علاقتك بالأب علنا نقتبس منها ملامح الشاعر المبكرة من جهة، وفضائل الإنسان العراقي البسيط من جهة ثانية؟

    ** كتبت عن أبي قصائد عديدة: الشاهدة، حكايات عن أبي، وقصائد أخرى، وإشارات في قصائد هنا وهناك، احتوت على الكثير من المشاهد واللقطات والتفاصيل عن سيرته الحافلة بالأحداث، والتي تتسم بغرائبية هي غرائبية الرجل البسيط في عالم لم يعد بسيطا. قلت عنه مرّة إنه أرحب من ثقافتي، وأكثر صدقاً من حماستي، وأعمق دراية ومعرفة بالناس وأهمّ من ذلك أكثر تسامحاً وإحساساً بالعدل. في طفولتي رأني مرّة وأنا أرقب الميزان بحرص فهمس في أذني أن أتساهل مع الناس، ولا أكون شديداً حتى في الميزان.

    كان بيتنا مكاناً للوافدين: أرامل، ويتامى، وفلاحون فقراء يأتون بسلال الرطب في أوقات معينة من السنة ليقيموا عندنا ليلة أو ليلتين فيهبهم والدي أضعافاً مضاعفة، لا لأنهم فلاحون فقراء يأتون من القرى النائية القريبة من البحر وإنما لأنهم أصدقاؤه يأنس لهم ويأنسون إليه، من طوائف شتّى ولعلّ آثر أصدقائه ليس من طائفته، ولعمق هذه الآصرة توارثنا هذه الصداقة القديمة النادرة، مثلما نتوارث شيئاً عزيزاً.

    أتذكر مرّة أنه أنزل قارئاً من على المنبر أمام الناس لأنه أشار إلى بعض الصحابة بما يسئ إليهم، وبنبرة طائفية مقيتة. ومرّةً ذهب ليجلب رفات خالي موزان من مدينته البحرية في أقصى البصرة: الفاو، وحين عاد بجنازته وكنّا في انتظاره وقد أقمنا السرادق لمجلس العزاء فوجئنا بسيّارة قادمة وهي تحمل جنازتين، فظننا الجنازة الأخرى أبي، غير أننا حين رأيناه يتقدم منّا سألناه عن الجنازة الأخرى، فقال إنه صادفها في الطريق ولم يكن في وسع عائلة الميت الفقيرة إيصال الجنازة إلى النجف فتعهد والدي بإيصالها مع جنازة خالي.

    ولعلّ الغرابة رافقته منذ نشأته إذ يروي لي أحد أفراد عائلتي.. من؟ هل هو أبي نفسه؟ أن جدّي حين اكتشف عروسه شديدة السمرة عافتها نفسه وطلب منها ومن أمها التي رافقتها إليه أن يغادرا في الفجر إلى أهلهما، وحين التقاها بعد فترة طويلة هي وأمها أيضاً في سوقٍ للأغنام ولم تزل في ذمته استعادها من أمها و بنى عليها مثلما يُقال فكان أبي.. كم يبدو هؤلاء البسطاء غريبين أحياناً!

    ولعل مجلس العزاء الذي أقمناه له إثر وفاته هو الخاتمة التي كانت المشهد الأخير لما مرّّ من مشاهد غائبة اجتمعت عبر شهود حضروا: رجال يقفون وسط المعزين ينتحبون ، سجناء سياسيون كفلهم أبي وقد تبرأت منهم حتى عوائلهم.. وجوه لم نرها من قبل وهي تجيء صامتة وتذهب صامتة وقد علاها الحزن.

    من أين لمثل هذا الرجل البسيط كلّ هذا التأثير؟ ومن أين له كلّ هذه المعرفة بالحياة والناس؟ لا أزال أتذكر ذلك القارب الصغير المزيّن بالوسائد المنقوشة وهو يحملنا، أنا وأبي، من دكّة على نهر أبي الخصيب إلى فضاء شطّ العرب الشاسع حيث يلوح عند التقائهما مخفرٌ و بضعة خيول ترعى، وماء يمتدّ حتى السماء. لم أكن أعرف ونحن نسير باتجاه الجزيرة، جزيرة البلجانية، أننا كنّا نسير بمحاذاة جيكور إلا بعد ما يقرب من نصف قرن حين زرتها وتبين لي أنها تبعد بضع خطى عن الشطّ.


    وحين وصلنا الجزيرة استقبلنا الصيّادون، كانوا حشداً، وهم يخوضون في الطين، ويقيمون أسيجة القصب العالية التي سيغمرها الماء حين يعلو المدّ، وآن ينحسر ستتكوم فيها أطنان من السمك اللامع الذي يتقافز في الهواء. في الليل كانت النيران تُشبّ، والمواقد مهيأة لإطعام أضعاف العدد الحاشد من الصيّادين. قلتُ قبل العشاء لأحدهم : لِمَ كلّ هذا الطعام؟ فأجابني ضاحكاً: سترى.. سيجهزون عليه ولن يخلّفوا منه شيئاً، وهذا ما تحقّق بالفعل.

    كان طقساً رهيباً حقّاً: صيّادون، ومواقد تشب، ونخل يستحيل أشباحاً في الليل، وهسيس أرواحٍ غامضةٍ في جزيرة نائيةٍ، وفضاء شاسع كالنهر، وثمة قارب صغير مربوط هناك إلى الأبد، وطفل يقلّب عينيه بين أرضٍ وسماء لا نهاية لهما، وجزيرة يحملها النهر على ظهره وينأى بها بعيداً حتى آخر العالم.


    * وماذا عن الأم. لا يرد ذكرها إلا في ثلاثة مقاطع محدودة في قصائد "ليدي ستيك" و "طفل جائع في عاشوراء" و"الملح". يبدو حضورها ضامرا حتى لا نكاد نشكل عنها صورة أوضح. هل هو اختيار مقصود؟ أم ماذا؟

    ** قد يبدو حضور الأم ضامراً في هذه المجموعة الصغيرة و لكنها، مع ذلك، تحضر بشكل مباشر في قصائد أخرى كقصيدة (حكاية متعبة إلى الأطفال) وقصيدة (العمياء):

    أيتها العمياء
    لقد كنت رضيعك
    عندما كان ثديك قبضة الباب للطفل
    ويداك أرجوحتي

    مثلما هي تحضر بشكل غير مباشر في هذا المقطع الذي يتحدث عن حمّام فارسيّ قادتني إليه أمي في خراسان (كان عمري آنذاك ست سنوات)، وحين دخلناه فزعت النساء المستحمات فزع الجنيات العاريات ، في ألف ليلة وليلة ، في حكاية الحسن البصريّ ، وطالبن بمغادرتنا الحمام. لا يزال المشهد ماثلاً أمام عينيّ حتّى الآن:

    كيف ألقت بنا الريح صوبك ..؟
    كيف استفقتُ على صخرةٍ ،
    بابها البحر ..؟
    والنسوة العاريات بحمّامك الفارسيّ
    كيف فرقتهنّ على الصحن كالطير ،
    مختفياً تحت جنح العباءة ..؟
    كيف تشابكتُ كالنور فوق زجاجك ..؟
    أيهٍ خراسان!
    مالت بنا الريح عن ضفتيك
    وغاب على صخرة بابك الحجريّ




    مثلما هي حاضرة، بشكل غير مباشر، في المقطع الآخر في القصيدة ذاتها:

    أطبقت زهرة جفن طفل
    أيقظته الأحاديث بين النساء
    في خراسان
    في الخان
    خمسُ نساء

    ولكن حضورها، مع ذلك، يبقى، مثلما قلتَ، أقرب إلى الضمور ، ولعل في قصيدة (حكاية متعبة إلى الأطفال) ما يفسر جانباً من العلاقة مع الأمّ.


    * على عكس ذلك، نلاحظ في الديوان حضورا قويا و كاشفا للنساء، بصيغة الجمع، في شكل نماذج إنسانية متنوعة من قبيل :الراقصة الغجرية"، العمياء"، سكينة الأهوازية"، و"صبرية". لكأن الديوان برمته هو عبارة عن احتفاء بهن. من تكون هؤلاء النسوة؟ و أي أثر تركنه في تشكيل وجدان و خيال الشاعر؟

    ** قد يكون الديوان احتفاءً بهذه النماذج. ولكنني حين تعاملت معها لم يكن في ذهني غير استعادة ماضٍ لم يزل حاضراً بهذه الصورة أو تلك . لم يوجه اختياري لهذه النماذج وعي ما ، بل تجربة ومحبة تتجاوز ما يدركه الطفل إلى واقعٍ لم تكن علاقتي به علاقة المشاهد الواقف عند حافته ، بل علاقة الطفل الذي يتحرك بين الأشياء فاعلاً ومشاهداً. ولم يأت الوعي فيما بعد إلاّ ليؤكد هذه الاختبارات التي أسهمت فيها دوافع شعورية ولا شعورية ، لا للتعبير عن طفولةٍ مفترضة أو مفقودة بل عن عالمها الحقيقيّ الذي لم يكن براءة فحسب بل براءة وتجربة على حدّ تعبير الشاعر الإنجليزي وليم بليك ، أي أن وعي الشاعر لم يكن نقيض إحساس الطفل وتجربته بل امتداداً لهما.

    تربطني بهؤلاء النسوة أواصر لم يزدها الوعي و السنوات إلاّ عمقاً: الخالة العمياء التي هي أمي الثانية، إن لم تكن الأولى، صبرية المومس التي رأيتها تبكي وهي تغادر المبغى، إثر اغلاقه، إلى جهة مجهولة، حمزية الغجرية التي كنا نتدافع إليها أطفالاً وكباراً مسحورين بغنائها ورقتها وجمالها وثوبها الموسلين.. كم كانت دهشتي كبيرة حين رأيتها مرة وهي تسكن خيمة بائسة في بقعة معزولة، شبيهة بالصحراء، في أطراف محلتنا. سمّهم ما شئت ضحايا، هامشيين، سَقَط مجتمعٍ ولكنهم كانوا بالنسبة إليّ، طفلاً وشاعراً فيما بعد، بشراً قادرين أن يهبوا الفرح للناس وأن يجمّلوا الحياة رغم مأساتهم وأحزان من حولهم.

    أتذكر أن أمي قادتني يوماً إلى سكينة الأهوازية الخياطة الجميلة البيضاء الجالسة خلف مكينتها اليدوية وهي تحدّث أمي.. لم أر مثل أناقتها وجمالها قط . لم ألتق بها فيما بعد، غير أنني كنت ألتقي زوجها صدفةً في الباص حيث يعمل قاطع تذاكر.

    تدهشني رقة الناس البسطاء. شاركت مرة في الإحصاء حين كنت مدرساً فالتقيت، في القطاع الذي كنت مكلفاً بإحصاء سكانه، بعوائل تسكن أكواخاً ما إن تدخلها حتى تفاجؤك نضارة وجوّ من الإلفة لا نظير لهما: زوجان في غاية الرهافة واللطف، يدخلانك عشهما فتشعر كأنك تدخل كوخــاً قصبيــاً فـي طـرف الجنـة، ربّ عائلـة وأبنـاؤه الثلاثـة (ولدان وبنت)، يستقبلونك بـودّ غامـر كأنك تعرفهم منذ زمنٍ طويل، أنيقين.. هادئين. الثلاثة جميعهم طلاب في كلية الطب.. إنه شعبنا البسيط الطموح المحب للحياة، ولكن المعرض دوماً للقتل.. لقد سرقوا حتى فضائله ليهبوه رذائلهم.. هؤلاء الأوغاد.. أعداء الحياة. لم أر شعباً كشعبي متسامحاً إزاء أبطاله الهامشيين. لقد سمعتُ في الغربة أن بعضهم أغتيل لأنه يرقص في الأعراس ، وآخر لأنه غجريّ، وثالث لأنه.. مثلما حدث مؤخراً حين اجتاحت إحدى المليشيات بيوت الغجر في أحدى محافظات العراق.


    * هل تشكل النماذج النسائية المذكورة حالات متفرقة تؤثث فضاء المدينة، أم هن مؤشرات على وضع اجتماعي يعكس رؤية و بنية نفسية ذكورية مهيمنة؟

    ** نعم إنها حالات تؤثث فضاء المدينة رغم عدم ارتياحي للفظة ( حالات ) هنا، ومؤشرات على وضع اجتماعي معين، ولكنهنّ كما قلت، بالنسبة إليّ، حضوراً حياتيّاً وواقعاً عشته، لا كما حدث فعلاً، بل كما تصورته طفلاً وشاعراً في آن واحد. لكنني أرى أن الجذر الواقعيّ ذو أهمية لا تقل عن دور المخيلة لأنه يقي القصيدة من ترهلٍ وإنشاء يسودان شعرنا الآن مبرّرين بحداثة لا علاقة لها بالحداثة والشعر كما نعرفهما من خلال ما نقرأه لشعراء الحداثة في العالم. و هذا، ربّما، سرّ ولعي في التفاصيل التي تمنح القصيدة أرضيتها مهما ابتعدت.


    * في موضوع ذي صلة بمسألة الحضور الأنثوي في ديوان "النقر"، هناك كلمة لها وقع خاص هي كلمة "عباءة". فهي تتكرر في إحدى عشرة قصيدة الى حد صارت معه بمثابة استعارة مهيمنة تسبغ لونها السحري على مشاهد الطفولة. ما هي الدلالة أو الدلالات التي تحملها هذه الكلمة في ضوء سياقاتها المتعددة داخل المجموعة؟

    ** إذا صارت كلمة (عباءة) بمثابة استعارة مهمة تسبغ لونها السحريّ على مشاهد الطفولة، فهذا قد يرضيني وبالتالي يغنيني عن التفسير. لكن لا بأس من إضافةٍ ما، توضيحاً لذلك، مشيراً لا مفسّراً. خذ ما تقوله مثلاً قصيدة (عباءة):

    بين كلّ العباءات المنحنية على الصناديق
    تنهض عباءة في الليل
    بعيداً عن النيران الموشكة على النباح
    والقناطر المهتزة تحت الأقدام
    يتبعها جسدٌ
    تنطبق عليه في الظلمة..
    ويغوصان معاً في قاع النهر اليابس
    بين الحلفاء

    ما يشغلني في هذه القصيدة هو ما تضمنه سؤالك أنت من استعارة ولون سحريّ. أما دلالاتها الأخرى فليست هي شاغل الشاعر المعنيّ بتجربته وليس بالموقف منها. فإذا كان البعض يرى فيها دلالة اجتماعية، فهذا صحيح غير أنها دلالة من بين دلالات أخرى. في القصيدة ثمة عباءة تمثل امرأة حقّا ولكنها ليست هي العباءة ذاتها في الواقع . إنها عباءة أخرى لها واقعها الآخر المتحرك الفاعل الذي ينطبق على الجسد ويتوحد فيه ممتزجاً مع الطبيعـة الأرحـب المتمثلـة في الحلفـاء وقـاع النهر وسط كرنفال صامت هو النيران الموشكة على النباح والقناطر المهتزة تحت الأقدام. إنني في القصيدة لا أتعامل مع الرمز وحده.. أو المفهوم وحده، أو الدلالة وحدها، وإنما مع عالم القصيدة الذي يتجاوز كل ذلك. حين أقول عباءة فإنما أعني عباءة فعلاً. للتشكيل أهميته في القصيدة وهذا ما يعنيني بالدرجة الأولى باعتبار التشكيل تنظيماً لتجربة حية هي أقرب إلى المخيلة منها إلى الواقع رغم واقعيتها الشديدة.


    *هل تشبه هذه العباءة العباءات الأخرى في الديوان؟

    ** لا أظن ذلك. قد تلتقي مع غيرها في الدلالة العامة جدّاً ولكن لكل عباءة خصوصيتها في القصيدة الواحدة. أن هذه العباءة لن تشبه العباءة التي أقول عنها في قصيدة أخرى: "وتنزوي عباءة في الظلّ".


    * ألا يزعجك أن يتم اختزال معاني هذه الاستعارة في بعد واحد كما هو الشأن في الدراسة القيمة التي أنجزها الناقد الجاد محمد الأسعد، و المضمومة في كتابه "مقالة في اللغة الشعرية" (1980)، حيث اعتبر أن توظيف "العباءة" يعكس حالة تشيؤ اجتماعي للمرأة التي هي على حد قوله: "لا تصبح مجرد عباءة إلا في وضع أفقدها وجودها كإنسانة، فأصبح أكثر ظواهر وجودها بروزا هذه العباءة"؟

    ** ليس ثمة بعد واحد، كما أشرت من قبل. وما يراه الناقد تشيؤاً اجتماعياً أراه تشيؤاً فنيّاً أو جمالياً أيضاً دون أن ينقض أحدنا الآخر. و تفسيره هذا لا يلغي أبداً المتعة التي أشعر بها شاعراً وقارئاً في تعاملي مع العباءة لا كرمزٍ بل كواقع يتحرك ويفعل ويدخل في علاقةٍ ما، مثلما تجسّد ذلك في قصيدة (عباءة) التي ذكرتها. ليس هناك معنىً محدّد وإنما هناك دلالات وقراءات شتى لا يمكن حصرها في دلالة واحدة أو قراءة واحدة مهما اغتنت هذه الدلالة أو هذه القراءة بالتفاصيل.


    *في الديوان هناك احتفاء متوهج بشخصية موزان-الراوي، الذي تحدثت عنه في فصل "انخطافات ألف ليلة و ليلة". لقد ارتبط موزان لديك بالحكي و الخيال الواسع لدرجة أنك وصفته ب"ذلك الإنسان الذي أشعل الحرائق في ذاكرتي". من هو موزان هذا؟ و كيف أثر فيك إلى هذا الحد؟

    ** كتبت عنه مرّةً: "موزان الذي لم يحمل يوماً هديّة لطفل كنّا نحبه نحن الأطفال.. ننتظره ملهوفين.. ننتظر هداياه التي لا تكلّف شيئاً.. فتح فمه فحسب، لينفتح بحر، وتعلو صارية، وتخفق ريح، وتدنو جزر.. وموزان لا يأتي إلاّ مريضاً لرعاية أخت هي أمي، أو عابراً قادماً من مدينته النائية المطلة على البحر إلى الأحياء الضيقة المكتظة بالنساء العاريات، أو إلى دار المسرّات.

    رآه أحدهم في ماخور، ورأيته أنا مراراً أمام احدى دور السينما بعقاله المهيب وعباءته السوداء .. نلتقي قريبين ونفترق غريبين. لم يدعني يوماً، ولم أنتظر دعوته، فأنا لا أنتظر من خالي الشحيح المحبوب (موزان والي) سوى هداياه التي لا تكلّف شيئاً سوى فتح فمه الذهبيّ.

    كان مرضه صحّتنا .. نتحلّق حوله مشدوهين.. نتطلع في فمه وكأننا نتطلع في بابٍ سحريّ مفتوح على عالمٍ خفيّ .. نتأمل ملامحه التي لا تتغيّر أبداً رغم الأحداث الجسام التي اهتزّت لها أبداننا أو تسمّرت. لا نلمح فيها غير ابتسامة خفيّة تلوح ولا تبدو ، وقد تختفي عند مشهد لتطلّ ثانية على مشهد آخر، وهي بين اختفائها وظهورها لا تبين أبداً.

    كنّا نحبه ولا نكره فيه سوى نهوضه المفاجئ من سريره إلى بيت الراحة .. آنذاك نهبّ معه وإليه ، نتسابق أنا وأخوتي على حمل إبريقه إلى أعلى السلّم، حيث بيت الراحة الذي لا يصله الماء، مصغين، بانتباه، في أسفل السلّم، إلى ضراطه المتواصل وقد خنقنا ضحكاتنا الطفولية، متظاهرين بالجدّ وعدم سماع أيّ صوت من أصواته السريّة المعلنة، حافين به، وقد تقدّمنا كالملاك ثانيةً إلى سريره الطائر بين العصور والبلدان كبساط الريح.

    لم نكن ندري أنه سيلازم سريره هذا طويلاً ، ولكن ليس في البيت بل في مستشفى قريب تؤمه أمّي يوميّاً للإطمئنان على صحة الخال الذي أخفوا عنّا مرضه .. كنا نتندّر ونقول لأمّي: " لن تنفعك كلّ زياراتك هذه فلن يورثك شيئاً " ، فتردّ الأمّ باستياء وكأنها تحدس الحقيقة في قولنا: "إنه أخي". وبالفعل فإن خالي حين مات أورث أبناءه الكثير من ماله العريض وأملاكه من العقارات والدكاكين ولم يوص بشئ لأمّي التي تقبّلت هذه الواقعة على مضض ، مردّدة بلا مبالاة: "إنهم أولاده، وهم أحقّ". لم ينس خالي حتى وهو على فراش الموت تقريع أخته (أمّي) له على زيجاته العديدة وزوجاته الممتعات.

    كان خالي لا يكتفي بدور الراوي بل يعتبر نفسه بطلاً أو شبيهاً بالبطل. فهو حامل العلم أو الراية عند ظهور المهديّ المنتظر ليملأ الأرض عدلاً وسلاماً . كيف لا ؟ وهو الذي زاره المهديّ مرّات عديدة في بيته ، ليبحثا في فساد العالم. ولا يجد خالي أي تناقض بين دوره البطوليّ هذا وحمله صورة الفنّانة سميرة توفيق في جيبه ، فكلّ بطلٍ ، بطبيعة الحال ، بحاجةٍ إلى بطلة، ولا بأس إذا ما كانت البطلة فنّانة مشهورة كسميرة توفيق السمراء. ولعلّ في اختياره سميرة توفيق بطلةً تعبيراً عن مللٍ من بياض محظياته الأعجميّات اللواتي كان يتزوجهنّ بالمتعة ليزوجهنّ فيما بعد بالحلال. كما أنه لا يجد أيّ تناقض بين دوره هذا وبحثه ، كشارلي شابلن، عن الذهب. لذلك تراه مهووساً بالحديث عن الكنوز المخفية تحت الحيطان. وقد كانت ليلة مثيرة حقّاً عندما أشار على أبي أن يحفر أحد أركان بيتنا القديم الذي هدمناه لنبنيه من جديد. لقد حفرا، على ضوء الفوانيس، حفرةً عميقة فلم يبدُ لهما الكنز المخبوء وما بدا لهما لم يكن سوى طين وماء لم يعكسا حتّى وجهيهما اللذين ارتسمت عليهما الخيبة واضحة.

    مرّةً جاء مسرعاً إلى أبي يعرض عليه الذهاب إلى الإثل خارج البصرة للبحث عن كنزٍ مخبوء هناك. لم يكذبه أبي بل استدعيا جارنا الذي حملهما في سيّارته إلى مكان ناءٍ ومعهم عدّة الحفر. بعد ساعات رجعوا بالكنز المخبوء . كان عبارة عن صندوق حديديّ قديم مغلق علاه الصدأ. لم يفتحوه إلاّ بشقّ الأنفس بعد أن كسرا قفله بمعول . لم يجدوا في الصندوق سوى ملابس جنديّ بريطانيّ وأغراضه الشخصيّة، عندئذٍ طلب والدي من خالي موزان أن يقول الحقيقة. كانت الحقيقة المرّة هي أن خالي موزان بعد أن قتل الجنديّ البريطاني أخفى صندوقه بين أشجار الإثل منتظراً كنزه كلّ هذه السنوات انتظاره المهديّ الذي لم يأت.

    في قصيدتي (انخطافات ألف ليلة وليلة) لم يعد موزان راوية حسب وإنما موزان البطل بين أبطال عديدين في ألف ليلة وليلة.


    * ما مدى حضور القصص الشعبي في مرحلة طفولتك؟ هل كانت هناك فضاءات خاصة في المدينة للاستماع للحكايا؟

    ** لم تكن ثمة فضاءات للحكايا في مدينتي، وحتى لو كان هناك فضاءات فإنني لم أذهب إليها .. وما حدث لي هو أن الفضاءات هي التي قدمت إليّ ممثلة بشخصين لا يشبه أحدهما الآخر. الأول هو: خالي موزان الخرافيّ الذي حدّثتك عنه، والآخر نقيضه الواقعيّ المتحدث لا عن أحداثٍ غابرةٍ بل عن أحداث راهنة: يوميات الحرب العالمية الثانية..هذا الشخص هو (عبدالرزاق الديوان) صديق أبي الذي لم أره يضحك مرة بل يكتفي بابتسامة ودود تشتعل فجأة لتضئ وجهه الناحل المستطيل. كنت أنتظر هذين الراويين الحبيبين مثلما أنتظر كتابين مغلقين ليبتدئا الحديث، كأنهما في تناقضهما الواقع والحلم وقد افترقا ليلتقيا هناك في نقطة بعيدة التمعت فيما بعد هي: الشعر.


    * و ماذا عن "ألف ليلة و ليلة" بشكل خاص؟ ما سر هذا السحر الذي ألهب ذاكرتك؟ و ما هو في تقديرك، العنصر التخييلي و الحكائي الذي يتفرد به هذا النص الذي ألهب خيال شعراء وكتاب عالميين أمثال بورخيس وغارثيا ماركيز، وجعلوا منه كتابا أساسيا في المكتبة الكونية؟ و ما تجليات تأثرك بألف ليلة و ليلة في أشعارك؟

    ** لن أبالغ إذا قلت لك أن "ألف ليلة وليلة" حاضر في أغلب قصائدي بشكل مباشر أو غير مباشر وهذا ما لم ينتبه له إلا القليلون …

    لعلّ من المفيد الحديث عن تجليات تأثير ألف ليلة وليلة لا عن سرّه الذي ينفتح على أسرارٍ أخرى قد لا تنتهي أبداً . ولعل أهمّ تجليات هذا التأثير،على الأقلّ في الأسماء التي أوردتها: بورخيس وماركيز، هو في هذا الالتقاء الحميم بين المعرفة والحلم اللذين افترقا لدى راويي طفولتي (الديوان وخالي موزان) . لم يكن ألف ليلة وليلة سرداُ ماضياً بل نبوءة أيضاً واستشرافاً .. واقعاً وحلماً في آن واحد ، وهذا ما يفتقده الكثير من الشعر وما يعوزه الكثير من الكتاب ولعلّ واحداً من أسباب شعبية هذين الكاتبين هو جمعهما هذين النقيضين لا باعتبارهما حدّين منفصلين بل لأن كلا منهما يتضمن الآخر، في أحداث قاسية تبعث المتعة حتى في أحلك أحداثها مثلما تبعث التفكير حتى في أخف أحداثها وأبهجها.

    أليس التأثير نفسه سرّاً؟ في علم النفس التحليلي يتحدث المريض ليشفى من مرضه، وفي الاعترافات المسيحية يتحدث المذنب ليتخلص من خطيئته، أما في ألف ليلة وليلة فإن المحلل النفسي (شهرزاد) هو المتحدث ليشفي المريض الذي هو شهريار.. عبر الحكمة المبثوثة، في مرح، في وقائع وسرد نادرين رغم اعتياديتهما وميلهما إلى الجانب المحكيّ .

    إن لحكايات "ألف ليلة وليلة" وهجها الخاص وتحولاتها المبهجة التي لا تعرف قتامة العالم الآخر ..عالم الحروب. كانت هي الأقرب إلى طفولتي ونداءاتها البعيدة وقدرتها على اختراق مراحل حياتي الأخرى ومن يدري لعلّي أجدها منبثقة مرةً أخرى في أثرٍ ما: قصيدة، خاطرة، كتاباً…ولا يزال لحكاياتها عموماً تأثير في شعري تجده حاضراً في الكثير من القصائد والمقاطع حتى أشدّها تعقيداً.

    * في صلة بموضوع الحكي، في ديوان "النقر على أبواب الطفولة" ثمة قصيدة بعنوان "حكاية متعبة للأطفال" تستثمر فيها النفس الحكائي السردي. ألا يقدم الشاعر أي تنازل عن خصوصية الشعر حين تتخذ قصائده لبوس حكايات سردية؟

    ** للطفل دهاليزه التي اكتشفها علم النفس ومسالكه الوعرة وغرائبه وحكاياته التي لا تقل غرابة عن حكايات الكبار.

    سألتني ولك الحق في ذلك عن قصيدة (حكاية متعبة إلى الأطفال) وأبديت خشيتك من تنازل الشاعر عن خصوصية الشعر حين تتخذ لبوس حكاية سردية. هذه القصيدة بالذات لم يتناولها أحد من الدارسين حتى الذين كتبوا عن المجموعة بحبّ. تتحدث القصيدة عمّا يسميه فرويد عقدة الفطام، وما وجد تطبيقاته في إشارات لمّاحة إلى التراث الفرعوني بما فيه من صور تظهر الفرعون، وهو يمص إصبعه طفلاً .

    كنت مدرساً لعلم النفس وكنت أدرس فرويد ومدرسة علم النفس التحليلي، وكنت مغموراً بهذا العالم ، لكن لا يعني هذا أن القصيدة هي وليدة هذا العالم التعليميّ المجرّد وإنما هي كقصائدي الأخرى لا رافد لها غير الواقع الحسيّ الملموس.

    لم ترضعني أمّي وأنما عهدت بي إلى امرأة أخرى لترضعني، ولا بدّ لهذا انعكاساته على شخصي فيما بعد، غير أني لا أود الخوض في تفصيلات ما انعكس فيّ وفي شعري لأن هذا يقودنا إلى أدب الاعترافات ، فما يشغلني هنا هو ملاحظتك أي الحديث عن الفن وليس دوافعه.

    * هلا قدمت لي مزيد إضاءة لهذه القصيدة بالذات؟

    **تقول القصيدة:

    معذرةً يا أطفال
    أجفاني مثقلة
    أروي لكم الليلة
    عن طفلٍ أثقله الترحال
    لكن لم يتجاوز موطئ قدميهْ
    لم يعرف حتى موضع شفتيه
    كان جميلاً أيّ جمال
    حضنته الأمّ وهبّت نسَمَهْ
    مدّ فمهْ
    صار الصدرْ
    صخرْ
    هربتْ (لم تتلفّت)
    كان الصدر العاري يتفتّت
    في الصحراء
    فبكى يا أطفال
    ثمّ أفاق على حضنٍ حجريّ ذات مساء
    مفزوعاً موجع
    ملفوفاً بالأسمال
    لكنْ حين تأمّل قدميهْ
    معذرةً يا أطفال
    أبصرمدهوشاً ..
    إصبع

    الحكاية في القصيدة ليست عادية أو سردية ولا توجد في واقع وإنما هي خيال محض. أمّ تحضن طفلها وقد هبّت نسمة لتهرب به عبر الصحراء غير أن صدرها أصبح صخراً يتفتت. ثمة في القصيدة إشارة إلى امرأة لوط التي تحجرت حين التفتت، غير أن الأم لم يتفتت صدرها الذي استحال صخراً جرّاء خطيئة بل لعنة ربما. القصيدة لم تشر إلى ذلك وليست معنية بهذه الإشارة. عندئذٍ يبكي الطفل وقد أفاق مذعوراً وهو ملفوف بالأسمال، لكن سرعان ما ينسى ذعره وهو يتأمل قدميه حين يرى إصبعه. هل سيكون الإصبع بديلاً لصدر الأمّ . هذا ما تقوله القصيدة وما لم تقلهُ أيضاً ؟ إنها مفتوحة على الاحتمالات والدلالات لا المعنى الواحد.


    *إلى جانب المحكي و الشفاهي، ما هي الكتب الأساسية التي وصمت طفولتك؟

    ** الكتب الأساسية هي شفاهية في جوهرها: قصص المغامرات، القصص البوليسية، ولاسيما قصص ملتون توب وهي سلسلة كتب بوليسية طويلة كنت أستعيرها من صديق يهوديّ كنت أتبادل وإياه الكتب. ما زلت أذكر اسمه: فيكتور منشي. كانت له أخت لا تخرج من دارهم إلا نادراً.. كانت في غاية الجمال.. أتذكرها الآن وكأنها وجه تخيلته في الأساطير. غير أن الدهشة الكبرى هي "ألف ليلة وليلة" التي قرأتها فيما بعد لوالدي، هي و "سيرة عنترة" الصادرة آنذاك عن دار الهلال بمصر.


    * و ماذا عن الشعر؟ كيف كان حضوره في تلك المرحلة؟ و أي من الشعراء كان لهم تأثير أكثر في بدايتك. ثم كيف ابتليت بانخطافات الشعر؟

    ** لا أدري كيف استيقظ الشاعر في الطفل ، وكلّ ما أتذكره هو أنني كنت مشغوفاً بالشعر في طفولتي، أردّده مسحوراً :

    بيض صنائعنا خضر مرابعنا سود وقائعنا حمر مواضينا

    أما حين أصل إلى : " دون نيل منىً " فإنني أشعر كأن هناك تعويذة في هذه الكلمات أو بالأحرى في هذه الكلمة الواحدة. ففي تكرار النون سحر ما بعده سحر(وهذا ما يسمّى بالجناس اللفظيّ في البلاغة). ولأن هذه القصيدة أو غيرها كانت تجري على لساني كما تجري التعاويذ كان يُنادى على اسمي في الساحة (كنت في الصف الثالث على ما أظن) لأنشدها طرباً، لكنني لا أتذكر أنني كنت أقرأها بخشونة الأطفال المدربين لنيل الإعجاب، وإنما لشغف في نفسي، بترنيم وحب وبساطة ربما كان يعيشها الطفل ولا يعقلها. هل كان هذا الشغف المبكر بالشعر هو طريقى إلى القراءة.. القراءة لا كمعرفة بل حياة في سير وملاحم تتزاحم فيها الأضداد وتفترق بحكمة أو بدون حكمة فلا موضع لتقييم هنا وقد تركته للكبار. لهذا كانت صلتي بالشعر مفتوحة على كل التجارب والشعراء صغارهم وكبارهم ولم تكن لذتي أقل في ما ترجم من شعر كان يسحرني فيـه مـا أجـده مـن أجواء أفتقدها في شعرنا العربيّ وانسانية نادرة.

    أتذكر انفعالي الشديد حين قرأت قصيدة ناظم حكمت عن منصور صباغ الأحذية الذي يشبه نواة البلح وهو يردد في القصيدة، حاملاً صندوقه الخشبيّ الملوّن: "يا عيني .. يا حبيبي".. منصور الطفل يموت في نهاية القصيدة تحت القصف، فتنشر جريدة صورته. هذا الشاعر يسخر منه بعض الكتاب العرب ويعتبرونه شاعراً ملتزماً صعدته حركة سياسية، متجاهلين أنه المجدد الأكبر في الشعر التركي، وأنه الأكثر إثارة الآن في بلدان عديدة ومنها الولايات المتحدة. ما أكثر الأوهام والتقييمات الغبية في ثقافتنا!


    * عودا إلى فكرة الانخطافات. يبدو أن توظيفك لهذه العبارة لم يكن عفويا، و إنما توجد من ورائه خلفية تؤطر تعريفا ضمنيا للحظة الشعرية بوصفها تلك "اللحظة الخاطفة" التي تضيء القصيدة. هلا قدمت لنا إضافة حول معنى "الانخطاف" و فعاليته في انبثاق الشعر؟

    ** الانخطاف هو تلك اللحظة الصوفية إذا صحّ التعبير ..اللحظة المنفصلة عن اللحظات الأخرى أو بالأحرى اللحظة المضيئة التي تضئ ما قبلها من لحظات وما بعدها . كلّ شئ يبدو مظلماً وفجأةً ينبثق شيء .. شيء مضيء ..شيء يتوهج شبيه بذلك الاندفاع الذي يهتف بك: "وجدتها".

    في قصيدة (الغرف) في مجموعتي (الحقائب) لم أعرف من أين أبدأ. ولأن هناك مداخل عديدة إلى القصيدة ولا مدخل واحد فقد أهملتها زمناً ثمّ فجأة تصطفّ الغرف فإذا هي قصيدة ناجزة، كيف؟..ثمة لحظة تضئ فجأةً فيحضرالمكان بأحداثه وزمنه وحيواته ، غير أن الانخطاف وإن كان لحظةً فهو ليس بالضرورة زمناً قصيراً. قد يمتدّ إلى لحظات أخرى سابقة أوتالية في قصيدة تقصر أو تطول. إنه تلك اللحظة التي يتكلم عنها ييتس في أحدى قصائده حين يخطفه فجأة ضوء الشمس المنعكس في كأس البيرة المتوهج في المقهى فكأنه يراه لأول مرة. كما يذكر ذلك كولن ولسن في كتابه عن (الشعر والصوفية) الذي قرأته منذ زمن بعيد. قد يكون الانخطاف شبيهاً بتلك الإشراقة التي تضمنها هذان البيتان:

    فجأة .. فإذا الأرض كوكب
    وأنا في الفضاء الأمير الصغير.

    وقد يكون الانخطاف أرضيّا .. إشراقةً ممجّدةً للحياة في لحظتها الراهنة وهي تختزن الفرح فلا تبرح مكانها في الذاكرة أبداً.


    * هل يستطيع الشعر بكثافة لغته و استعاراته و تشذر صوره التي تستعصي أحيانا على الإدراك العادي أن يلملم صور الطفولة الهاربة و المتشظية ثم يسكبها كتجربة شاملة في نظيمة أو متوالية شعرية تكون قادرة على نقلها بنفس الواقعية المحتملة التي تعبر بها جماليات الرواية مثلا أو السينما ؟

    ** لمَ لا؟ مادام الواقع ذاته ينطوي على جانب كبير من الخيال في أحيان كثيرة، وما دامت الأجناس الأدبية لم تعد بذلك التحديد الذي يجعلها قارات منفصلة .


    *على ذكر السينما، يبدو لي ديوان "النقر على أبواب الطفولة" كأنه قصيدة طويلة مكتوبة ومصممة بلغة السينما. لعل في قراءتي هاته بعضا من مجازفة تأويلية. لكن لم لا نقوم سويا بامتحان مدى نجاعة هذه القراءة. فالقصائد تستثمر لغة حسية بصرية مركزة تنسجم مع رهان الشاعر في إعادة الحياة لصور الطفولة، على طريقة الفلاش باك. ثم ان الديوان مقسم الى فصول، كل فصل عبارة عن متوالية (Sequence) من المشاهد البسيطة و المركبة التي تتكون بدورها من لقطات. هذا علما أنك وظفت تقنية "اللقطة" في قصيدة تحمل نفس العنوان: "لقطات" و هي تقنية ستعود إليها لاحقا في ديوان "وردة البيكاجي" (1983). هذا ناهيك عن توظيف ذكي و شاعري لتوزيع الحركة و السكون، الصوت و الصمت و الضوء و الظلمة، و كذا المشاهد الفردية والجماعية و المواقف الساخرة و المأساوية، كعناصر بنائية لشريط الطفولة هذا.

    ** يسرني سماع ذلك منك وهذه أجمل مكافأة لي على مجموعتي الصغيرة هذه.

    * لنمر إلى مكون أساسي من مكونات الشعر ألا و هو الإيقاع. ما هي الإيقاعات التي رسختها مرحلة الطفولة في وجدان الشاعر عبد الكريم كاصد: أناشيد الطفولة و الأغاني الشعبية وأهازيج الأعراس؟ هل أفدت في ديوان "النقر على أبواب الطفولة" من ذخيرة الصبا الإيقاعية؟ و هل ما تزال تلك الإيقاعات التي حركت روحك و وصمت طفولتك تغذي و تلهم شعرك الحديث، علما بأن كلمة "النقر" في حد ذاتها تثير جرس إيقاع ما؟

    ** نعم الإيقاع مكوّن أساسيّ في الشعر، وقد يكون طاغياً لدى شعراء كبار حتى يبدو وكأنه العلامة الفارقة لشعرهم : هوبكنز، ما ياكوفسكي، تنسون، البحتريّ، وآخرون كثيرون، حتّى أن إيقاعهم يلازمك أحياناً زمناً طويلاً تردّده وتتعشقه ولا تعرف سرّه إطلاقاً، غير معنيّ حتى بما يحتويه من معانٍ ودلالات هي الأخرى ذات قيمة كبيرة في شعرهم، وليست مجانية من أجل الإيقاع ذاته، وهذا ما يوضحه ما ياكوفسكي في دراسته الطويلة القيمة المترجمة إلى الإنجليزية في كتاب صغير عن قصيدته في رثاء الشاعر الروسي يسنين. ولأن الإيقاع ليس تجريباً أو مهارة مجردين وإنما هو مرتبط بمادته الحياتية ، لذا كان للإيقاع أشكاله العديدة وتجلياته المختلفة، وتأثيره الطاغي على القارئ حين تتردّد اصداؤه أياماً في النفس. لنأخذ هذه الأبيات للبحتريّ:

    ولمّا غرّبت أعراف ليلى لهنّ وشرّقت قنن القنان
    وخلّفنـا أيامـن وارداتٍ جنوحاً والأيامن من أيان
    وخفّض عن تناولها سهيلٌ فقصّر واستقلّ الفرقدان
    تصوّبت البلاد بنا إليكم وغنّى بالإياب الحاديان

    إنه إيقاع له من السحر ما يجعل المسافة بينه وبين بحر الكامل المجرد بعيدة تماماً. إنه شيء يضفو على الوزن بحروفه وامتداداته وأصدائه التي تتردّد في الروح وتتسع كدوائر في الماء. في النقر حاولت أن أعكس إيقاع الواقع نفسه كما اختبرته شخصياً: أصوات الباعة، حديث الناس، أو أخفف منه في قصائدي النثرية التي أصف فيها مشاهد منشغلاً بالسرد كقصيدتي "ليدي ستيك" و"مقهى".


    البصرة عبق الأمكنة:

    * في إحدى لقاءاتنا هنا بلندن قلت لي بنوع من الحنين: " إن قلبي هناك، في البصرة". بعد أن تناولنا بعضا من شخوص مرحلة الطفولة، أو قل النماذج الإنسانية الأولى التي أثرت في تجربتك الشعورية و تكوينك الأولي، يبدو لي أن مقاربتنا ستبقى ناقصة لو أغفلنا الحديث عن مسرح الطفولة و المكان الأول الذي حضن التجربة منذ البداية، ألا و هو مدينة البصرة.

    ** كتبتُ مرّةً عن البصرة نصّاً، من بين نصوصٍ عديدة عنها، بعنوان (البصرة مدينة لا مرئية). لقد عدت إليها غير أنني لم أتعرّف عليها إلاّ كما يتعرف الشاعر الجاهليّ على طلله، ولكنني مع ذلك أحسني مشدوداً إلى هذا الطلل بأكثر من سببٍ لا أدري لم اضطربت روحي عندما رأيت تمثال السياب ولم تهدأ إلاّ بزيارة جيكور. ما الذي يشدّني إلى ذلك وجيكور ليست جزءاً من طفولتي إلاّ عبر أصداء الكلمات ونوافذها البعيدة ...

    ما زال ثمة آثار.. ما زال ثمة ماضٍ لم يندثر بعد، مطلّ في قسمات أناسٍ أحبهم وحيطان أحبها، وعتبات أعرف ما وراءها وإن لم أجتزها.. وشوارع أستعيد أشكالها.. وأطفالٌ يطلّون بوجوه آبائهم، واصدقاء هرموا غير أن فرحهم البعيد لا يزال مضيئاً في ملامح لم تهرم بعد. إنها مدينتي اللامرئية التي سأبحث عنها طويلاً، حتّى لو أرقني البحث عنها، ولعلّها في اختفائها يكمن عذابي في هوسي الدائم لا ستحضارها أو حضوري إليها. أشعر أنني لم أغادرها مثلما شعرت من قبل إنها لم تغادرني.

    في تكريمي في المربد الفائت تحمل أناس مشقة الحضور لا لشئ إلاّ لسماع صوت ابنهم الذي غادرهم منذ ثلاثين عاماً .. هم الذين لا علاقة لهم بالشعر. لقد غمرتني المدينة بمحبةٍ حتّى أنني لم أعد أدري أي وجه حبيب سألتقيه أو يلتقيني في المنعطف القادم في هذا الشارع الذي أسير فيه.

    كيف تستحيل المدينة إلى بيت؟ هل يكون الجواب : في الطفولة والشعر.. ولكن أين الطفولة؟ وأين الشعر؟ في أي مكان أعثر عليهما وفي أيّ مكان سأبحث عنهما وهما الحاضران أبداً..الدليلان.. والغائبان أبداً . ولكنني سأجدّ إليهما مثلما سأجدّ الآن في طريقي إلى البصرة باحثاً عن الثلاثة معاً.. هل امتزج الثلاثة حتّى أصبحا شيئاً واحداً:

    الطفولة – الشعـر- البصرة
    الشعــر -البصرة - الطفولة
    البصرة - الطفولة- الشعـــر


    * متى اضطررت إلى الخروج من المكان، هذا الخروج الذي سميته في أكثر من مناسبة بالهروب؟ ما هي دواعي هذه المغادرة الاضطرارية؟

    ** غادرت العراق سنة 1978، بعد أن أصبحت حياتي مثل حياة الكثير من المواطنين مهددة بالاعتقال والتعذيب إن لم أنتمِ إلى حزب السلطة، وبعد ساعات فقط من مغادرتي البيت، قدم رجال الأمن ليسألوا أمي عني أجابتهم أنها لا تعرف أيّ شيء، غير أنهم لم يصدّقوها وظنوا ذلك تضليلاً لهم .انتظروا حلول الليل ليتسلقوا سقف البيت بانتظار عودتي وظلوا ينتظرونني أياماً حتى يئسوا.

    اختفيت شهرين ببغداد ثم اتصلت بواحدٍ من المهربين وكان قد وعد بإنقاذي ذات يوم إذا ما ساء الظرف ولم أجد وسيلة للهرب. وبالفعل فقد قدم المهرب بشخصه لأصحبه إلى بيته استعداداً للرحلة القادمة عبر الصحراء.

    كان هذا المهرب قد فقد جمله في يوم ما فالتجأ إلى أخي الذي كان طبيباً في سفوان البلدة الحدودية المحاذية للصحراء، فطمأنه أخي بإعادة جمله إليه، لما لأخي من حظوة ومنزلة بين الناس، حتى المهربين منهم، وطلب منه أن يذهب إلى البصرة ويقضي ليلته في بيتنا لاستعادته صباحاً، فاستقبلته مرحباً واستمعتُ، بشغف، إلى حكاياته عن الصحراء، ولم أهمل الجلوس معه حين قدمت والدتي من الحج صدفةً في تلك الليلة جالبة معها الكثير من الهدايا التي اجتمع حولها الأقارب والأطفال وهم في أوج حماسهم وصخبهم . ولكي يردّ لي ما حسبه جميلاً أسرني أن السلطة ستشن حملة شرسة ضدّ الكثيرين فإذا ما احتجته فإنّ بإمكاني الاتصال به لمساعدتي على الهرب. قلت له وكيف عرفت ذلك قال لي : " لأنني بعثيّ " ثمّ أضاف: "وهل تعرف كيف أصبحت بعثيّاً؟". قلت له: "كيف ؟" قال : "استدعاني مسؤول بعثيّ وطلب مني أن أكون بعثيّاً، فقلت له: "أنا رجل مهرب ولا أعرف معنى كلمة بعثيّ". قال: "أ تريد أن تعرف معنى كلمة بعثيّ ؟ اذهب إذن خارج المكتب ثمّ ادخل واضرب الباب بقوّة. "امتثلت لأمره وخرجت ثمّ رجعت ضارباً الباب ولكن بتردّد. حينئذٍ صرخ بي قائلاً: " اخرج واضرب الباب بقوة كما قلت لك! " وهذا ما فعلته في المرة الثانية. حينئذٍ سألني: " أتعرف الآن معنى بعثيّ ؟ هو أن تضرب الباب بقوّة و تدخل."

    طلبت من المهرب أن يرافقنا صديق لي هو الشاعر مهدي محمد علي فلم يمتنع. اصطحبناه إلى مدينته البعيدة حيث أمضينا يومين ثمّ إلى قرية حدودية ، استقبلنا أهلها، وهم أخوته وأقاربه، استقبالاً حافلاً، إذ احتفوا بنا وأعدّوا لنا وليمة عامرة حضرها العشرات من أهل القرية مما أثار خشية الصديق مهدي الذي همس في أذني مبدياً استغرابه فما كان من أهل الدار إلاّ ان انتبهوا لإشارته هامسين بدورهم في أذني: " ليطمئن صاحبك!".

    بعد الوليمة خرجت القرية بأكملها لتوديعنا. كنا ثمانية وستة جمال: أنا و مهدي، وهاربان من الخدمة العسكرية، وأربعة مهربين. سبقتنا الجمال فمشينا على أقدامنا خلفها مسافة طويلة بعد أن صافحنا أهل القرية واحداً واحداً وكأننا في مشهدٍ سينمائيّ.

    قبل أن يرتدي الليل شملته
    سبقتنا الجمال
    وعبرنا القرى
    كان نجم القرى نائياً
    فعزمنا الرحيل
    وانحدرنا مع النجم
    قلتُ: إذن هكذا
    صرةٌ ومتاع قليل
    (من قصيدة الرحيل عبر بادية السماوة )


    * لو عدنا إلى ديوان "النقر" لوجدنا نصوصا مشبعة بعبق أمكنة مدينة البصرة و صورها الأثيرة لديك. بي شغف أن تصور لي ملامح، و لو خاطفة، لجغرافيا هذا المكان و خصوصا فضاءاته العاشقة: "السوق" و "الجسر" و " المسرح"؟

    ** السوق: عن أيّ سوق أتحدّث؟ ثمة أسواقٌ عديدة هي كرنفالات حقّاً .. كرنفالات دائمة.. سوق الجمعة الذي يمتدّ شارعاً طويلاً ينتهي بساحة واسعة تقام فيها المراجيح في الأعياد. فيه تجد كلّ شيء.. الكتب والسلع النادرة. أحزن حين أتذكره وأتذكر كتبي العزيزة وهي تعرض فيه لتباع بأرخص الأسعار.. مجنون إلزا لأراغون بالفرنسية، ديوان المتنبي وغيرها من الكتب العزيزة التي تركتها ورائي حين غادرت العراق وخلفت بيتي لرجل أسكنته أمي هو وعائلته دون أن تطالبه بأي إيجار. تسلل هذا الرجل إلى مكتبتي المخزونة في غرفة يسهل فتحها. ولولا أن يلمحه أخي سلمان في السوق، صدفةً، لما تبقى من مكتبتي الكبيرة أي كتاب. كم كنت سعيداً وأنا أتحسسها عند عودتي إلى البصرة متذكراً فرحي باقتنائها وسعادتي بتقليب صفحاتها وما ارتبطت به من أخيلة وذكريات وأمكنة، وناس.

    في تلك السوق أتذكر أيضا فرحي حين كنت طفلاً وأنا أرى التماع الكتب على الأرصفة وطبعاتها الجميلة: كتب نجيب محفوظ ومحمد عبدالحليم عبدالله وآرسين لوبين والدواوين المطبوعة طبعة شعبية، ما أجملها... وكم كانت دهشتي حين التقيت مرةً بكتب جونسون وملتون توب الساحرة والأكثر عمقاً في أحداثها من كتب أرسين لوبين. كنت أظنها لا توجد إلا عند صديقي اليهوديّ فكتور منشي. أمّا السوق الرئيسية، أو الكرنفال الحقيقيّ اليوميّ فهو سوق البصرة التي تبدأ من مركزها مروراً بسوق العبايجية وهي سوق لبيع الأقمشة وانتهاءً بسوق البزازين حيث محل والدي الذي كان في بداية سوق البصرة ثمّ انتقل إلى سوق البزّازين المظلّل المرشوش في الظهيرة بالماء حيث تحلو القيلولة ويندر الزبائن. كانت السوق أشبه بالحوش والناس أشبه بالعائلة، وكم كان سروري كبيراً حين أراهم مجتمعين كلهم في عرس أشهده أنا ووالدي: هاني النداف الأحدب ذو الوجه الجميل والمحبوب من النساء خاصةً، أبو عبدالله بلهجته النجدية المحببة وشخصه المسالم الهادئ . أتساءل أحياناً: من أين يأتي بكل هذه الأقمشة الجميلة التي تعوزنا ؟ جايد الكنطار الوجه الذي تضيئه ابتسامة دوماً لم تكدرها مرابطة أخيه الأحول حاج محمد في محله. كان يتندر أحياناً ويقول أن الحاج محمد ما إن يدخل بيته حتى يصرخ بزوجته أم أحمد: "أمّ أحمد هل أحضرت الغداء؟"، حتى قبل أن يخلع حذاءه، شمخي البصر صديق والدي الطريف الذكي الساخر من كلّ شئ ذو الزيجات السرية والعلنية.

    رأيت مرة احدى زوجاته السريات فهالني ما تضعه فوق رأسها من لفائف قماش شبيهة بالعمامة وحين سألت لماذا قالوا إنها : علوية ، الخياط محمد علي الصموت وذلك البزاز الهادئ المنطوي الذي لا أتذكر اسمه الآن. نماذج طيبة حقا لم أرها يوماً تتشاجر أو ترفع أصواتها على بعضها بعضاً ، فمن أين جاء هذا العنف لدى العراقيّ فيما بعد؟

    الجسر: من بين ما تشتهر به البصرة جسورها : جسر سوق الهنود ويسمى أيضا بجسر المغايز، جسر الغربان، الجسر الصغير الذي أجتازه كل يوم. جسور عند كلّ بضعة أمتار ، وبعضها لا ينتهي بطريق أو زقاق بل ببيت.. بعتبة بيت أو ممر على النهر. منظر ساحر حقا حين تعلو الجسور الشناشيلُ المزينة شبابيكها بالورد. هناك كان يقيم أحبّ مدرس لدينا الأستاذ ناظم مدرس التاريخ الأعزب الأبديّ والوسيم دوماً ، الساخرالذي لا يسلم أحد من سخريته المحببة ،المنحوت في نافذته كل مساء وهو يطل محدّقاً في الناس دون أن يراهم بجلسته الملكية المسورة بالأغصان. إنها الجنة الصغيرة التي لم ندركها إلا بعد أن هبطنا على الأرض. على بعد خطوات من هذا المشهد سكنت فيما بعد، وسكن صديقي الشاعر مهدي محمد علي.

    أكبر هذه الجسور جسر الغربان الذي اجتزته، بدراجتي، مرّة في طفولتي. فكدت أن أصطدم بسيّارة قادمة لولا انحرافي ووقوعي في حافة قاع النهر أنا ودراجتي وكتبي التي التقطتها من بين أكوام نفايات الطرشي (المخلل) الحادة الرائحة ، والتي ظل عبقها ملازماً كتبي ودفاتري زمناً طويلاً. عند نهاية هذا الجسر تسكن (ديزي) أجمل فتاة في البصرة بملابسها القصيرة وخفتها الطائرة في الهواء وشرفتها التي نمرّ تحتها حذرين مرتبكين ..من أين جاء هذا الأمان إلى هذه المدينة وفتياتها المرحات ؟

    أما الجسر الساحر فهو جسر المغايز أو سوق الهنود الذي استحضرته حين كتبت قصيدتي "الجسر" من ديوان "النقر على أبواب الطفولة". يمرّ على هذا الجسر يوميّاً آلاف الناس بطيئين هادئين تعلو وجوههم الراحة والرغبة في التنزه وسط ضجيج الباعة وإعلانات السينما الكبيرة التي يحملها عادة تومان الساحر بنايه الذي يعزف فيه من أنفه وحركاته المثيرة التي تضحك حتى الحزانى. وهو يأخذ سوق الهنود طولاً وعرضاً وسط الحشد وكأنه ملك يتقدم لا يعترضه أحد أجمل ما في الجسر مقهاه المطلّ على النهر وكأنه في المنخفض باخرة ترسو بركابها..بيضاء (لماذا أتصورها بيضاء ؟). لقد اختفى هذا المقهى منذ زمن بعيد واختفى معه الجسر الذي كتبت عنه في رحلتي الأخيرة. "ولعلً أغرب ما يطالعك وأنت تدخل السوق التي تكدّست فيها الظلال كما تتكدّس البضائع هو الجسر الذي يؤدي إليها وقد تغطّى بأسماله التي تصلّبت في الشمس، فعاد هو والخرق التي تعلوه كتلة واحدة وكأنه لا يقف على نهر، بل على أرضٍ مهجورةٍ اقتطعت من المدينة . لا شاراتٌ لماضٍ، ولا أثرٌ لمن مرّوا عليه. جسر لم يعد شاهداً حتى لو حدثت جريمة أمام عينيه. سيظل راتعاً في أسماله وكأنه لم ير شيئاً. تمرّ جواره وتمضي دون أن تلتفت إليه باتجاه الشط وتمثال السياب، وقد تسير باتجاهه متطلعاً إليه لكي تتعرف عليه، ولكن عبثاً سيظل مطرقاً وكأنه شحاذ يعرفك ويشيح بوجهه عنك.. شحاذ مهموم".

    المسرح : ثمة مسرحان في ذاكرتي هما من أبرز مسارح البصرة : مسرح مديرية تربية البصرة الذي مازال قائماً، تعرض فيه، في فترات متباعدة، بعض الفعاليات الفنية الشحيحة. في هذا المسرح شهدتُ عروضاً مسرحية عديدة من بينها مسرحية ثورة الزنج من إخراج سامي عبد الحميد، ووقفتُ على خشبته لألقي أشعاري. ومسرح آخر، في الطريق بين العشار والمعقل، وقد شهدت فيه عروضا مسرحية أيضاً وأخرى للرقص . هذا المبنى الحديث اللامع هو الآن كامد يثقب حيطانه الرصاص، ويسكنه أحد الأحزاب الحاكمة في البصرة.

    لقد أصبح المسرح الآن ذاكرة مثقوبة وكأن المدينة لم تشهد نشاطاً من قبل، غير أنني فوجئت عندما كنت في المربد هذا العام بطلبة الفنون الجميلة الذين يبلغ عددهم أكثر من عشرين وهم يؤدون قصائدي (الزهيريات) بأعذب الألحان مؤكدين أن لا شئ يوقف الحياة، وأن التقاليد الفنية الرائعة لن يمحوها ظرف عابر مهما استطال هذا الظرف.


    * ماذا عن فضاء المكتبة أو الخزانة؟ هل كان لها موقع مخصوص في هذه الجغرافيا؟

    ** نعم، المكتبة لها مكانها المخصوص في هذه الجغرافيا . لقد بدأت قراءاتي الأولى هناك. فيها قرأت كل مسرحيات شكسبير المترجمة المتوفرة آنذاك ، وأحب الكتب إليّ. وفيما بعد نشأت علاقة حميمة بيني وبين مدير المكتبة وموظفها الوحيد صالح الذي فاجأني موته شابّاً.

    هناك التقيت بمحمود عبدالوهاب القاص المبدع الدقيق في حرفته والمقلّ في نتاجه والذي أعدّه من بين أفضل كتابنا في القصة القصيرة، رغم أنه غير معروف على نطاق واسع. كان فرحي كبيراً حين التقيته ثانية في زيارتيّ إلى العراق. كنا لا نعتبر محيي مديراً للمكتبة بل مالكها الكاره للملكية إذ تبرع بمكتبته الخاصة ليضيفها إلى مكتبته العامة، مفتخراً بغنى هذه المكتبة وترتيبها ونظامها واحتوائها على بعض الكتب النادرة. ولعلّ من حسن حظّه أنه توفي قبل أن يرى مكتبته العزيزة وهي تنتهب وتستحيل طللاً موحشاً لا يستوقف أحداً.

    كانت المكتبة تطل على نهر العشار..النهر ذاته الذي يمتدّ مارّاً بالجسر الخشبيّ الذي اجتازه كلّ صباح متوجّهاً إلى مدرستي، وهو النهر ذاته الذي يمرّ بجسر الغربان وجسر سوق الهنود. وفي الضفة الأخرى مقابل المكتبة يلوح الحيّ المظلل بالأشجار، الذي يسكنه الأرمن، والذي لم يعد له وجود مثلما لم يعد وجود لحيّ الأرمن الآخر، القريب من المستشفى، الذي ينتهي عنده نهر العشار.


    * عندما قرأت فصل "البصرة مدينة لا مرئية" من كتابك الذي قيد الطبع، و الموسوم "باتجاه الجنوب...شمالا"، شعرت بنوع من هشاشة الكائن، إذا جاز التعبير، ينتاب نبرة الشاعر عن مدينته. و بدا لي كقارئ و كأنني أدخل رفقة الشاعر فصلا من فصول الجحيم، التي تذكرنا بمشاهد كوميديا دانتي القيامية. هل كان الخراب شاملا إلى هذا الحد؟ و هل لك أن تصف لنا انفعالاتك بصور المكان، بعد فراق طويل؟

    ** قد يكون ما ذكرته فصلاً من فصول الجحيم ، مشهداً قياميّاً في كوميديا دانتي..نعم ..ثمة خراب شامل، وترهّل للمدينة، كأنّ يداً خفيّة بعثرتها في صحراء، فلا فسحة هناك لشجرة أو محطة يستعيد فيها المسافر هدوءه، محدّقاً في الأشياء..لا ليس ثمة شئ من هذا..خلاء يمتلئ بالبيـوت، وبشرٌ كأنهـم تسمّروا إلى حاضرهم فلا ماضٍ مرّ، ولا مستقبلٌ سيأتي.. مع ذلك ثمة بهجة ما..بهجة تطلّ برأسها هنا أو هناك في مشاهد صغيرة: في سوق شعبيّ، في قوارب تنتظر، في مقهىً يطلّ على النهر، في سمر أصدقاء، في نساء عابرات، في رائحة أفاويه، في هدوء مارّةٍ. كنت كالمصاب بالدوار في قدومي الأول، أتطلع ولا أرى المدينة وحين اقترب الباص الذي يقلني من الفندق الذي سأنزل فيه، والذي سألتقي فيه بأصدقائي، ومن بينهم قادمون من بغداد والمحافظات الأخرى لحضور مهرجان المربد، استعدتُ طمأنينتي بتعرفي على المكان، غير أن الأمكنة بدت وكأنها أمكنة أخرى..حائلةً، شاحبة كالبشر..وجوه أم أقنعة؟ لا أدري لِم كان يراودني إحساس إنها أمكنة عارضة.. أمكنة ستزول وترحل ..أين؟..أمكنة خارج الزمن.. غير قادرةٍ حتى على التثاؤب، تطبق فمها وتصمت محدّقة في الأرض لا في السماء..أمكنة مطأطأة الرؤوس، باكية..يمرّ بها البشر ولا يلتفتون. يالمدينتي الحزينة! بشراً و أمكنةً، سماءً و أرضاً نهراً ويابسةً. منذ لحظة مغادرتي خلت أنني سأقطع المسافة إلى حدود مدينتي لأغادرها إلى الأبد، غير أنني ألفيت نفسي أنني ما زلت أقطع الطريق دون أن أصل الحدود أبداً، وما زلت أقطعها. هل استحالتْ المدينة مدينتين؟ أيهما الواقعية منهما؟ أيّ المدينتين؟ وحتّى متى سأسافر بينهما؟
    أيهما مدينتي؟


    * لكن مع ذلك وجدت هناك، حسب ما علمت من بعض كتاباتك، عناصر بقاء قد تعد بانبعاث أمل ما. فأنت تتحدث في نفس الفصل من رحلاتك عن"أثر ضائع لي أراه هناك في زاوية لا يراها أحد". ما هو هذا الأثر الضائع الذي لا يدركه سواك؟

    ** لكلّ منّا أثره الضائع. وأثري الذي لمحته هناك لم يوصلني بعد إلى أي مكان، وقد لا يوصلني، وإن أوصلني فهل أكون ذلك المقيم الذي ظل عابراً ثلاثين سنة ، في مدينة تراكمت فيها الآثار؟ لم أعد آمل برؤية مدينتي بعد أن حلّ بها الخراب. أعرف أنها لن تعود أبداً ، ولكنني سأظلّ أبحث عن أثرٍ ضائع لي فيها..لا يراه أحد. وإن رأيته أنا فهل تراه سيوصلني إلى المدينة..؟ لا أدري، ولعلني توهمت هذا الأثر أيضاً.


    * ثمة كذلك تمثال الشاعر الكبير بدر شاكر السياب الذي قلت عنه: " لم ينج من هذا الخراب إلا تمثال السياب الذي ما زال منتصبا في زاوية من شط العرب رغم كل الحروب، التي شهدها، في حين لم ينج صاحبه من أبسط شرور الدنيا في حياته". هل هذا التمثال هو أيقونة ملازمة لروح الشعر و المكان؟ أم هو دلالة إصرار الشاعر على البقاء كعلامة هادية لإعادة بناء المدينة المشتهاة؟

    ** لعلّه الأيقونة التي ذكرتها والعلامة الهادية معاً. لم يعد حجراً بل روحاً تحفها ارواح الماء من جهة النهر وتمثال أسد بابل من الجهة الأخرى، وبين الجهتين يقف التمثال في هذا الامتداد من الحجر والماء مانحاً المدينة فسحة لتتأمل ذاتها وتلتقي بسمائها، وتستعيد أجمل أيامها حين كانت القوارب تحمل الناس في نزهة أبدية لايمكن أن يمحوها حاضر وسط هذا الامتداد المفضي إلى اللانهاية.. اللانهاية الساخرة بالخراب وهو يقف ذليلاً أمام النهر وتمثال السياب وأسد بابل وكأنه فاتح مقهور سيرتد عن المدينة يوماً ما.. يوماً قد يكون بعيداً ولكنه قادم بلا شك.


    * ثمة كلمة لافتة ترددت في ثنايا حوارنا هذا، هي الكرنفال. ماذا تعني أو توحي لك هذه الكلمة؟ وبالتالي هل يمكن اعتبار الشعر، كتابة و إحساسا، كطقس احتفالي، تتجاور فيه المأساة بالملهاة؟

    ** أعني بالكرنفال المعنى الذي عناه باختين تقريباً: المشهد المسرحي الذي يشترك فيه الجميع ممثلين لا مشاهدين بلا محظورات ولا ألقاب أو مراتب. إنه "هذا الاتصال الحرّ البعيد عن الكلفة الذي يقوم بين الناس"، و "هذا الكشف عن الجوانب الخفيّة للطبيعة البشرية من خلال ما هو ملموس ومحسوس"، مكانه الساحة وما فيها من أشخاص بصفتها رمزاً لكلّ ما هو شعبيّ، وقد يمتدّ الكرنفال إلى البيوت لأن الكرنفال يعني كلّ الناس. والشعر في تعامله مع الواقع ليس بعيداً عن الطابع الكرنفالي في الحياة حيث تتجاور المأساة والملهاة، المقدّس والعادي، السامي والوضيع، العظيم والتافه، وتتسع أمكنة الشعر لتشمل حتى محافل الآلهة.


    * عبد الكريم كاصد، بدأنا حوارنا بتساؤل عن عطاء الطفولة كرافد أساسي من روافد الشعر وكخزين ثر لتجارب الشاعر الأولى. ماذا عن عطاء الشاعر للطفل؟ هل كان عبورك من الكتابة عن الطفولة إلى الكتابة لأجل الطفولة، من خلال الشعر و القصة* معا، هو بمثابة رد لمديونية هذا الكائن الجميل و إعطائه فسحة للأمل في حياة أفضل؟

    ** كتبت عن طفولتي أو سيرتي كما يحلو للصديق الأديب صلاح حزين أن يسميها في دراسته المهمة عن مجموعتي (زهيريات)، وها أنا أعدّ للطبع مجموعة أخرى عن الطفولة (طفولة سارة وزياد) ولا أدري هل كتبت من أجلها حين كتبت عنها في الديوانين؟ سأورد مقاطع من قصيدة كتبتها لولدي زياد آمل أن تكون هي إجابتي:

    انشغالات زياد

    مرّت غابةٌ
    فناداها زياد:
    " إلى أين أنتِ ذاهبةٌ أيّتها الغابة ؟ "
    قالت الغابة :
    " لأنزّهَ وحوشي "
    **
    قال زياد لظلّه :
    " هل نلعبُ ؟ "
    فأجابه الظلّ :
    " لا أكلمك اليوم "
    **
    قالت الغابة :
    " أنا من يخفي الشجرة "
    قالت الشجرة :
    " أنا من يخفي الغابة "
    ثمّ وقفتا في الطريق
    بانتظار شهادة الليل
    **
    أراد زياد أن ينام
    فرأى خرافاً تهبط من السقف
    عدّها حتّى تعب من العدّ
    ثمّ تركها وحيدةً تثغو
    في النوم.

    ..................... يتبع

    (عدل بواسطة محمد جميل أحمد on 09-03-2007, 09:56 PM)
    (عدل بواسطة محمد جميل أحمد on 09-03-2007, 09:57 PM)

                  

09-03-2007, 10:59 PM

Alsadig Alraady
<aAlsadig Alraady
تاريخ التسجيل: 03-18-2003
مجموع المشاركات: 788

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: كتاب : (خارج النص) لعبد الكريم كاصد ..حوار في الشعر والحداثة ، وذكريات جيلي عبد الرحمن (Re: محمد جميل أحمد)

    شكرا محمد جميل
    على هذا الخيط ومادته الثرة، وعلى نافذة الحوار الممكنة


    الشاعر عبدالكريم كاصد، التقيت به لأول مرة في مطلع مارس من العام الماضي، في إحدى استراحات فعاليات مؤتمر الترجمة من العربية للإنجليزية ومن الإنجليزية للعربية، الذي انعقد بلندن، على هامش معرض لندن للكتاب، والتقيت به مجددا حيث كان حضورا لإحدى ورش العمل التي أقامها مركز ترجمة الشعر لأحد أعمالي وشارك بفعالية في ترجمة قصيدتي (البساتين) ضمن الفريق الذي كان يقوده حافظ خير، ثم شرفني بالحضور مجددا في الـ بوتري كافي الذي نظم لي قراءة شعرية في تلك الزيارة.

    رجل كريم وصادق الحضور والإنسانية، قرأت شعره قبل أن ألتقيه بالطبع، وثمة وعود كثيرة بيننا لم يمكننا إيقاع لندن من اللحاق بها، وهو صديق لشاعرنا الكبير والمترجم الخلاق سيد أحمد بلال..

    نتابع معك الحوار ونقرأ
    ونعود للحوار
    حين تفرغ من النشر
                  

09-04-2007, 08:47 AM

محمد جميل أحمد
<aمحمد جميل أحمد
تاريخ التسجيل: 03-21-2007
مجموع المشاركات: 1022

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: كتاب : (خارج النص) لعبد الكريم كاصد ..حوار في الشعر والحداثة ، وذكريات جيلي عبد الرحمن (Re: Alsadig Alraady)

    عزيزي الصادق الرضي
    شكرا على مرورك وعلى التعليق .
    بالفعل الشاعر كريم كاصد شاعر يستحق التقدير ،وهو شاعر كبير في إبداعه وتواضعه .. ولقد ذكر لي في مكالمة هاتفية رأياجميلا حول كتابتك الشعرية . كما أخبرني عن الشاعر والمترجم السوداني (سيد أحمد بلال) الذي زامله في دراسة الماجستير بـ(لندن)
    الحاجة إلى نشر مثل هذا الكتاب تكمن في ندرة وطبيعة الحوارات الثقافية المطولة جدا إذ لا أعرف ـ حسب علمي ـ كتابا في الساحة الثقافية عن شاعر كبير عبر مادة حوارية مكثفة ـ سوى كتاب (حين يقع الغريب على نفسه) الذي حاور فيه الناقد اللبناني عبده وازن الشاعر محمود درويش ـ كذلك حين يكون المحاور ـ بكسر الواو ـ شاعرا متميزا سيتكشف الحوار عن نتائج تقارب الموضوعية ، وتنطوي على مفاجئة للمتحاورين ؛ فضلا عن أنها تساعد في إعادة قراءة الشاعر مرة أخرى ، قراءة تختبر جدوى النص النقدي النابعة من إدراك الناقد لذوبان المسافة بين الذاتي والموضوعي في حياة الشاعر ...
    ولقد حدث ذلك معي بالفعل ـ حين كنت نشرت مقالا قبل سنتين بعنوان (مرايا الغياب)بموقع (إيلاف) كان قراءة لقصيدة جميلة للشاعر كاصد بعنوان (مملكة الأنهار) وخرجت من القرأءة بملاحظات نقدية وجدت ما يعززها بصورة كانت مفاجأة لي ـ حين قرأت بعد ذلك هذا الكتاب ـ أعتقد أن هذا الكتاب يتحدث عن الشعرية وحيثياتها الجمالية بطريقة تلقي أضواء مهمة عن جدوى الكتابة الشعرية أصلا وجدوى أن يكون الشاعر شاعرا قبل أن يكتب تعبيره ذاك على الورق ، وجدوى تقنيات الكتابة الشعرية ، وما إذا كانت تقنيات قائمة على القطيعة أم التواصل .. وغير ذلك من قضايا الشعر والإبداع..
    مودتي
    محمد جميل
                  

09-05-2007, 08:54 AM

محمد جميل أحمد
<aمحمد جميل أحمد
تاريخ التسجيل: 03-21-2007
مجموع المشاركات: 1022

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: كتاب : (خارج النص) لعبد الكريم كاصد ..حوار في الشعر والحداثة ، وذكريات جيلي عبد الرحمن (Re: محمد جميل أحمد)

    *
                  

09-10-2007, 09:44 AM

محمد جميل أحمد
<aمحمد جميل أحمد
تاريخ التسجيل: 03-21-2007
مجموع المشاركات: 1022

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الفصل الثاني ... الطريق إلى عدن (Re: محمد جميل أحمد)

    الفصل الثاني ... الطريق إلى عدن


    ولادة ثانية:

    * الشاعر عبد الكريم كاصد، أود أن نفتتح هذا المحور بالحديث عن تلك الرحلة المخاطرة التي اجتزتها عبر الصحراء من العراق إلى عدن، على أمل إعادة قراءتها بمنظور جديد.

    يبدو من خلال النص الذي كتبته عن هذه الرحلة أنها، رغم ضراوتها، كانت عامرة بعناصر الدهشة اللازمة لجوهر الشعر: "ليلة يكاد صحوها أن يمطر"، "آثار حيوانات غامضة في الرمل"، "ثلاثة جراء/وحيدة في القفر"، و "بدوي يقبل من الخلاء ليذهب إلى الخلاء كأنه سهم يخترق الأبدية". كيف استطعت وسط ذلك الهول و الذهول الذي وصفته أن تحافظ على يقظة حس الشاعر فيك وتستجيب لبواعث الدهشة بهذا الشكل المرهف؟

    ** ما إن ابتعدنا عن القرية واحتوتنا الصحراء حتى ألفيتني إزاء كون شاسعٍ مضيء ينحني كالقوس فيزداد إضاءةً. ولا أدري كيف نبدو وسط هذا الكون لمن يرانا على الأرض أو في السماء: مخلوقات تدبّّ على الأرض كالنمل، ولكن يا لظلالنا الهائلة وهي تمتدّ لتغمر الكون وتهبه وهو الساكن حركة وإيقاعاً بطيئاً وإلفةً في اتساعٍ مدهشٍ ملئ بالأصداء. ولم يكن النهار بأشد غرابة إذ امتلأت الصحراء فجأةً بالآثار...آثار تحوطنا من كلّ جهةٍ، حتّى حسبنا، لكثرتها، أن نجوم السماء آثارٌ هي أيضاً يطبعها الليل فوق سماء الصحراء:

    آثارٌ
    آثارٌ لجمالٍ ترعى
    آثارٌ لجمالٍ آتيةٍ من جهة الشرق
    آثارٌ تتعقبنا حتّى الماء وأقدامْ
    أصغر من راحة كفّ
    ( أين تُرى غادر ذاك الطفل
    وغابت أظلاف الأغنامْ ؟ )
    آثارٌ لذئابٍ عطشى وحوافر خيل
    آثارٌ للنمل
    يخطّ كتابته البيضاء
    أثارٌ
    أثارٌ سوداء
    آثارٌ يطبعها الليل
    فوق سماء الصحراء

    في هذا العالم الخلاء إلاّ من ظلالنا والآثار لم يعد للهول مكان في قافلتنا الصغيرة. لقد أصبحنا جزءاً من هذا الكون الصحراويّ المضيء بعيداً عن عالم الأحياء و الأموات وعن هوله، ومخاوفه، ورغائبه ولم يُفاجئنا العالم ثانية إلاّ بعد ليال حين باغتنا ضوء سيارة بعيد حسبناه قريباً وقد كنّا في ارضٍ منخفضة...حادثة أو حادثتان ويرجع الكون إلى صفائه وسكونه العجيبين، وإصغائه المرهف إلى هذا السكون الذي نعبره صامتين غير أنّا حين يحلّّ المساء ننيخ الجمال ونسرع، رغم أجسادنا المنهكة من ركوبها، إلى جمع الحطب لنشعل النار:


    عندما عضّت الشمسُ (عين النخيلة)،
    نادوا: أنيخوا
    ثمّ سارت على مهل للمياه الجمال

    عندئذٍ نبدأ تسليتنا الوحيدة في ليل الصحراء: القص. نتحول أطفالاً نصغي لحكايات تمتلئ بكل ما هو متخيّل، على حدّ تعبير جمال الدين بن الشيخ، من جن وعفاريت وجمال طائرة وغيلان، ويبدو الكون سلساً عذباً مصغياً لا لنفسه بل لنا، بينما تدور كؤوس الشاي وعيدان الأشجار، وكأننا لسنا على الأرض، بل في كوكب آخر. وحين ينتهي طقسنا الليليّ وينهض الراوي (مطشر) والساهرون إلى أسرتهم الرمل يبقى الشاعر ساهراً وحيداً لتبدأ الحكاية ثانية و قد أمسى الشاعر أحد شخوصها وحيداً في هذا القفر:

    " مطشّر" رحل الأعرابْ
    وبقيتُ وحيداً في القفر أدقّ بلا أبوابْ

    في هذه الأيام السبعة التي أمضيناها في السير في الصحراء لم تعد تشغلنا سلطة أو بشرٌ حتّى ولا ماضٍ، بل حاضر حسب..حاضرٌ يتكرّر و يتكرّر صحراءَ تمرّ بآثارها وحيواتها وفضائها: أرنب بريّ بأذنين حمراوين يمرق وكأنه يحمل ناراً في أرض بيضاء ملحية تزلق فيها الجمال، خيمة وحيدة اشترينا منها وجبتنا الوحيدة..خروفاً التهمناه في جلسة واحدة. بركة صغيرة تلوح بين مسافة وأخرى وقد احتشدت حولها آثار حيوانات شتّى. نخلة وحيدة بفسائلها المكتظة أغادرها وأنا أتلفّت إلى خضرتها المتوهجة في شمس الصحراء.. صحراء تنبسط وتنبسط و معها نحن ننبسط فنألفها وتألفنا.. فلا خوف هناك ولا قتل ولا مباغتة بل امتداد مكشوف لانهائي ّ حتى إنني تساءلت: في الصحراء/ أين ترى يختبئ الموت؟

    كانت روحي مفتوحة على هذا العالم الجديد تستقبله كما يستقبل الطفل العالم مدهوشاً .


    * لقد طالت الدهشة حتى اللغة نفسها حيث وجدتم جملا و عبارات تتخللها، حسب تعبيرك، ألفاظ عاشت قبل أكثر من ألف سنة واندثرت و لكنها لم تندثر في الصحراء. قلت: "لم أصدق أن مفردات امرئ القيس و عنترة ولبيد وطرفة ما زالت تسري في أفواه هؤلاء المهربين الشعراء العشاق الذين لم يشعروني أبدا بمعرفتهم بهويتي". كل شيء يعود بنا إلى البدايات، بداية العالم و رحم الكلام، لكأنها رحلة إلى البدايات الأسطورية للشعر.

    ** نعم كأنها رحم ضَمّني .. كأنها طفل الحياة في ملحمة الماهابهاراتا وقد احتوتني بجسدها لأرى الكون في بكوريته وبراءته الأولى بعيداً عمّا يحدث لي. صحراء لا تمتدّ في حاضرْ فحسب وإنما تنبسط في ماضٍ هو حاضر أيضاً..ماضٍ سحيق يعود حين تجمعنا النار حولها بألفاظه وعاداته وبساطته.

    كان صديقي المهرّب الحريص على نظافته يأخذ دوماً على عاتقه تهيئة العجين ليطعمنا خبزه اللذيذ . كان يسمونه خبز الملة الذي ورد في قصيدة الحطيئة الشهيرة التي يصف فيها ضيفاً حلّ عليهم ولم يكن لديهم ما يقدمونه للضيف :

    عراة حفاة ما اغتذوا خبر ملّة ولا عرفوا للبُرّ مذ خلقوا طعما

    أمّا الرشأ، أي الحبل، وغيره من الألفاظ فإنها تمرّعلى ألسنتهم وكأننا سنلتقي بعد قليل بامرئ القيس أو عنترة العبسيّ وهو يترجل قادماً بفرسه .

    كانت لنا لذائذنا وأفراحنا الصغيرة التي تشبّ في الليل مع النار، وكانت لنا دهشتنا بهذا العالم البكر. ذات مرّةٍ نزلنا قرب شجيرات خفيضةٍ فاقتربت منّا أفعىً كبيرة. تخيلتُ أن المهربين سيقتلونها في الحال ، لكني فوجئت باقتراب أحدهم من الأفعى ليحملها بعصاه هادئاً إلى ناحية بعيدة دون أن يخطر في باله أن الأفعى قد تقترب منّا ثانيةً.

    حين يجئ الليل بقوسه المضيء ثم يعقبه النهار ولا ترى حولك غير كون صامت وحيوانات تمر بآثارها فكيف لا تشعر كأنّك في عَوْدٍ أبديّ ترى الوجود وقد شفّ بعد أن ضاق حتى أن يكون غرفة تأويك في غابة الموت التي اسمها المدينة.


    * ما دمنا نتحدث عن رحلة في قلب الصحراء، لا بد لنا، في هذا المقام، من أن نقف احتراما، ولو لوهلة، أمام ذلك الكائن الميثولوجي الذي عبر بك الصحراء، و أقصد به الجمل؟ هلا حدثتنا عن جمالك الميثولوجية هاته؟

    ** حين صدر ديواني الشاهدة في بيروت عن دار الفارابي، تناوله العديد من الشعراء والنقاد، وبين هؤلاء الشاعر بسّام حجّار الذي نعت جمالي أنها جمال ميثولوجية. وهي قد تكون ذلك بالنسبة إليّ الآن، غير أنها كانت آنذاك جمالاً من لحمٍ ودم لها لحظات فرحها الغامر أيضاً حين تستروح الماء من بعيد فتهتزّ طرباً وينبت لها أجنحة فتكاد تطير (آنذاك عرفت لماذا تُنعت في الحكايات بالطائرة)، وحين تنيخ جوارنا تجتر طعامها على مهل. تبدو وكأنها تصغي لحكاياتنا، مستسلمة لاسترخاء عذب بعد مسير طويل:

    الجمال الخفيفة كالهواء
    الجمال الحبيبة المسحورة
    توسّدت ذراعي
    ورحلت ..
    تبحث عن مقيل

    كنّا نفضل السير أحياناً على ركوبها ولاسيّما في يومنا الأخير إذ يسبب ركوبها المتواصل آلاماً شديدةً في الخاصرة حتى تستحيل إلى حصىً يقدح ، غير أنّا ، أنا ومهدي ، كنّا نتحملها فلا نشكوها لأحد أو نطلب استراحة قصيرة لتهدئتها ، فيضطرّون ، هم ، للتعبير عنها طالبين استراحة قصيرة تمنوا لو كنّا نحن الذين طلبناها مثلما عبّروا لنا عن ذلك فيما بعد مازحين.

    لقد أبدت الجمال صبراً عجيباً وهي تحملنا فنلوح على ظهورها في الليل كأننا شواهد سوداء، غير أن خوفها كان عجيباً أيضاً، في مرّتين: مرّةً حين اجتزنا بقعة ماء واسعة تخللها شجر وطئته الخنازير فكانت تنزلق مذعورة وتمتنع عن السير فنضطر إلى جرّها عنوة وهي تجأر. ومرّةً أخرى حين باغتنا ضوء سيّارة بعيد حسبناه قريباً لأننا كنا في منخفضٍ فارتعبت ولكننا استطعنا تهدئتها إلاّ جملاً فرّ مذعوراً براكبه فلحقته وأوقفته. قالوا لي أن الجمل يمكنه في مثل هذه الحالة، أن يقتلني، وحسبوا منّي ذلك شجاعة لا جهلاً بعادات الجمل:


    ما لهذا القطا لا ينام ..؟ اقتربنا نحاذر في الليل .. يلمع ضوء
    سحبنا الأزمّة ( تصمتُ رجرجةُ الماءِ في الرحل ) يقترب الضوء
    نهبط منحدراً منحنين شواهدَ سوداء فوق الجمال المنيخة ..
    تجأر .. ننهرها، ثم يبتعد الضوء...
    ترفع أعناقَها للرحيل.

    ما رأيت الجمل في أيّ مكان، فيما بعد، إلا وأحسست أنني ألتقي مخلوقاً عزيزاً لديّ. بعد وصولي إلى عدن فاجأني الجمل وهو يسحب عربةً وأثقالاً و يسير على الأسفلت ذليلاً يائساً هزيلاً فيحضرني جملي الذي كاد أن يطير بي يوماً حين استروح الماء . وكانت المفاجأة الأخرى في صنعاء حين دعيت إلى حضور احتفالاتها بمناسبة اختيارها عاصمة للثقافة العربية. كنتُ في طريقي إلى بيت إبرهة الحبشيّ وفجأة يستوقفني جمل يلوح في معصرة زيت وهو يحدقّ بي. كان جملاً أسطورياً حقّاً بحجمه الهائل وعينيه الكبيرتين. حتى أنني دُهشت كيف لمثل هذا المكان الضيق أن يتسع لهذا الجمل الضخم. كان يحدّق بي وكأنه يسألني: هل تتذكرني؟

    وكثيراً ما كنت ألتقيه في الكتب حين أفتقده في الواقع ولعل أطرف ما قرأته عنه هو ما كتبه فرانسوا دو شاتوبريان في رحلته إلى القدس: "تنتقل القبائل في قوافل، وتسير الجمال في خط واحد فيربط الجمل الذي يترأس الجمال بحبل مصنوع من حشوة النخيل برقبة حمار يكون هو المرشد للقطيع ، ويعفى هذا الحمار من حمل الأثقال نظراً لكونه الرئيس، ويتمتع بامتيازات عديدة".


    * ثمة محطة مهيبة في طقس العبور هذا، تتمثل في هروبك في "خزان ماء" صحبة رفقاء لك لتلافي عيون الدوريات. قلت في هذا الصدد: " و حين قدم (خزان الماء) الذي سيحملنا جميعا تقدمنا منه كما تتقدم الضحايا في الطقوس إلى الموت. تكدسنا عشرين شخصا، بعضنا فوق بعض، في رحلة رهيبة استغرقت خمس ساعات توقفنا خلالها مرة واحدة حين أوشك اثنان منا على الاختناق فاضطررنا إلى سحبهما إلى سقف الخزان و تمديدهما ليستنشقا الهواء". إنها تجربة وجودية بامتياز أن يقف الإنسان على عتبة الموت وجها لوجه. هل من موقف فلسفي يمكن استخلاصه من التجربة؟

    ** كانت الصحراء لي رحماً لولادة أخرى.. لحياة أخرى.. لأمل آخر. لم يكن الموت حاضراً وقد انبسطت الصحراء فلم يعد هناك مخبأ للموت. لقد خلفت الموت ورائي وعليه أن يقطع المسافة التي قطعتها فلم يفعل. وحتى حين هبطنا في اليوم السابع في منخفض في الصحراء نحن وقافلة أخرى معرضين للدوريات لم يكن الموت هاجساً وقد تخليت عن لحية البدويّ في وجهي، بقطعة مرآة وجدتها.. (لا أدري كيف ؟) وآلة حلاقة حادة، بعد أن رافقتني هذه اللحية زمناً طويلاً..هل هي تهيئة لموت أم حياة؟ كم يبدو الفارق ضئيلاً أحياناً، لكنني أحسست به حين طُلب منا على عجلٍ أن نتفرق خلف الشجيرات، وقد قدم تنكر الماء، لئلا نكون عرضة للرصد. أرجفني تناثر الهاربين وارتباكهم ودخولهم المفاجئ السريع إلى التنكر فتذكرت غسان كنفاني وروايته "رجال في الشمس" (1963) وندمت. كانت لحظة عسيرة حقّا يمثل فيها الموت بوجهه الغائم الذي لم أتبينه بعد.

    لكن ما إن دخلنا باطن الخزان متكدسين بعضنا فوق بعض وصررنا الفقيرة في أيدينا حتى شعرت ثانية، ويا للغرابة، لا برحم الصحراء هذه المرة، وإنما برحم آخر هو رحم الخزان وإلفة الآخر. لاحظت أن الرجل الجالس فوقي (أو بالأحرى المحشور فوقي) يتململ فسألته: كيف أنت؟ أجابني: وردة (وهذه هي الإجابة الشائعة لدى ناسنا البسطاء في العراق) ثمّ سألني: وأنت؟ فقلت له: مزهرية. عندئذ ضحك كل من في التنكر وكان عددهم عشرين هارباً. أما صديقي المهرّب فكان يجلس جوار السائق هو ومهرب آخر. وكم كانت اللحظة مشبعة بالأخوة حين تخليا عن مكانيهما لاثنين منا اختنقا كانا في قعر الخزّان فسحبناهما إلى سقفه ليتنفسا الهواء. كان ذلك قريباً من أحد المخافر. حتّى في أشدّ اللحظات حلكة ثمة خيط من الضوء.

    اللحظة الأخرى التي فقدت فيها اطمئناني هي لحظة الوصول حين قذفنا التنكر وسط بيوت لم يكتمل بناؤها بعد. كان انتشارنا انتشاراً أخرق في اتجاهات شتى لائذين بحفرٍ أو حائط. نرتدي ملابسنا المحمولة في الصرة على عجلٍ وكأننا نتحرك في فيلم صامت . لنقف هناك في الجادة العامة بانتظار ما يقلنا إلى المدينة.

    الموت الذي خلّفته ورائي كان يسبقني أحياناً لكن لا أدري لِمَ كان يعبرني. مرة عند جسرٍ في أبي الخصيب كنت راكباً دراجتي وقت حلول الليل . لم أكن أعلم أن أمامي سيارة وقد أطفأت أحد مصباحيها الأماميين فحسبتها دراجة بخارية ولولا انحرافي الغريزيّ الذي سلخ جلدي لكنت في عداد الموتى الآن. ومرّة في طريقي إلى باريس قادماً من ليون بصحبة صديق كادت سيارته تصطدم بسيارة مسرعة أخرى قادمة من شارع فرعيّ .. كان الفارق ثانية أو ثانيتين ربما.

    ومرة في بغداد في طريقنا من فندق بابل إلى المسرح الوطني قبل عامين إذ حدث انفجار بعد أن غادرنا موضع الانفجار بثوان. ليس الموت بالخصم السهل ، فهو له أيضاً مباغتاته وفعله المحكم الخبيث الذي يفاجئك لا في مغامرة أو حدث بارز بل في استراحة أو استرخاء تراوغه ويراوغك وفجأة يفجعك بأحب إنسان لديك. أتراني أعيش فائض وقتي؟

    * لقد كان بصحبتك الشاعر مهدي محمد علي، كيف عاش شاعران تجربة من هذا النوع؟ هل قمتما بتأملها سويا فيما بعد؟ و ما كانت خلاصتكما للتجربة؟

    ** لم نتأملها معاً. ولم تكن لنا خلاصة هناك، رغم أننا عشنا قريبين في منافٍ شتّى: اليمن، سوريا، الكويت، لأسباب يطول شرحها أهمها ربما انشغالاتنا في تفاصيل حياة المنفى اليومية المعذّبة في هذه البلدان، بالإضافة إلى انشغالاتنا الخاصة التي لم تترك لنا تفكيراً في مثل هذه التجربة. وفي الحقيقة لم يطرأ في ذهننا لا أنا ولا مهدي أن نكتب عملاً مشتركاً. سؤالك نبّهني إلى ذلك. ولعلّ غفلتنا هي جزء من ظاهرة عامة هي ندرة هذا التقليد في ثقافتنا.


    * أعلم أنك كتبت عن التجربة في أكثر من عمل أدبي: ديوان "الشاهدة" و"وردة البيكاجي" والنص الرحلي "باتجاه الجنوب...شمالا". ماذا عن الشاعر مهدي محمد علي، كيف كانت معالجته للموقف شعريا؟ ما أوجه الاختلاف و الائتلاف في رؤيتكما الشعرية للتجربة؟ ألم تفكرا حينها في إصدار عمل مشترك يعرض للرحلة ويستكنه أبعادها الوجودية و الرمزية خصوصا بالنسبة لشاعرين مسكونين بلعنة الاستعارة و الرمز وحرقة الأسئلة؟

    ** مثلما قلت لك لم نفكر في ذلك. كان غفلة منا نحن الاثنين. لعلّ الشيء الوحيد الذي عملناه معاً هو كتابته عن قصيدتي (الرحيل عبر بادية السماوة)، وكتابتي عن مجموعته التي لم يكتب عنها أحد (رحيل عام 78). وحين كنّا في سوريا نعيش متجاورين كان هو مشغولاً بمشروعه الرائع (البصرة جنة البستان) وهذا الكتاب من أجمل الكتب التي صدرت في المنفى . قرأه الكثيرون: مهندسون أطباء، عمال، طلاب وتمّ تهريبه إلى العراق آنذاك ولكنه للأسف لم يجد أي صدىً في الجو الثقافي العراقي والعربي الصدئ.


    * يقول غابريال غارثيا ماركيز، في رواية الحب في زمن الكوليرا، إذا لم تخني الذاكرة: "لا يولد البشر مرة واحدة و إلى الأبد يوم تلدهم أمهاتهم، إنما تجبرهم الحياة على أن يلدوا أنفسهم بأنفسهم".ألا ترى معي، الشاعر عبد الكريم كاصد، أن هذه التجربة تحمل معها كل عناصر الولادة الجديدة: "مخاض الرحلة" و "رحم الخزان" و " نسغ اللغة الأول"؟ هل يمكن الحديث عن ولادة ثانية فعلا؟

    ** حين غادرت رحم الخزّان كنت حقّاً كالطفل الذي يتعثر في مشيه ويتلعثم في كلامه ويتطلع حوله مشدوهاً وهو يرى العالم أول مرّة. لم تعنني التفاصيل قطّ. كان المنفيّون في عدن يتخاصمون ويتقاتلون وكنت أنظر إليهم مستغرباً حماستهم وصراعاتهم ، غير أنني سرعان ما وجدت نفسي مغموراً في التفاصيل ثانيةً دون أن تغادرني الدهشة وأنا أتطلع من حولي إلى الحياة وهي تنبض في البشر والأشياء دون أن يعيرها الآخرون اهتماماً، غافلين عنها.. عن بساطتها وجمالها. كان مجيء زوجتي إليّ في عدن بهجة أخرى.. هدية أخرى في هذا المنأى الذي اسمه عدن. لقد أصبحت الصحراء تاريخاً سحيقاً عاشه شخص آخر سواي يروي لي حكاياته فأتمثلها وأعيشها وأظنني أنا ذلك الآخر.. الذي لا يصدقني أبداً . أرى جمالي الآن وهي تمر دون أن تعرفني وقد تحملني يوماً في صورة ذلك الآخر.. فالولادة إن كانت خلقاً لدى من انبعث من رماده، فهي قد تكون مخلوقاً مشوّهاً بشعاً يتناسل في سلطة أخرى تشبهها ولا تشبهها، وقد تكرر فعلتها في نفي شاعرٍ آخر.. سلطات تتناسل.


    وردة البيكاجي

    * يتفق العديد من النقاد الذين تناولوا منجزك الشعري، على أن ديوان "وردة البيكاجي" (دمشق 1983) الذي يعتبر ثمرة التجربة العدنية، هو ولادتك الشعرية الثانية بحيث يمثل انعطافة أساسية في مسارك الشعري و الاختيارات الجمالية و طرح الأسئلة على الذات و على الشعر، كما يبدو أنه جاء محكوما بقلق أسئلة مغايرة و بحث عن لغة تعبير قادرة على احتضان هواء التجربة الجديدة. ما نوع هذه الأسئلة التي طرحها عليك وضعك الجديد كشاعر عراقي لاجئ؟

    ** لا أدري هل يمثّل البيكاجي انعطافةً أساسية أم لا سيما إنه كان مسبوقاً بديوان (الشاهدة) الذي لا تقلّ قصائده أهمية بالنسبة إليّ وإلى بعض من تناولوه من النقاد والشعراء ، لكنني أتفق معك أنّ في (وردة البيكاجي) لغة تعبير أخرى وهواء تجربة جديدة: الحرب والمنفى. والعجيب أن الطفل حاضر في الاثنين ففي قصائد الحرب ثمة مفتتح يحضر فيه الطفل :

    في مقهىً يتوقف فيه الأعراب
    وسيارات الأجرة
    يعبر طفل محشورٌ في باصٍ خشبيّ بين الأغنام
    يمدّ إلى المارّة عُنُقاً
    ويغادر
    كانوا كوفيّات حمراء
    أسمالاً بقّعها الزيتُ ورائحة البنزين المحروق
    جنوداً يستمعون إلى المذياع
    ولا يحتفلون
    حدوداً كانوا
    وحدوداً سيموتون كماشيةٍ
    وحدوداً سيعودون
    إلى مقهىً طينيّ يتوقف فيه الأعراب
    وسيّارات الجند الآتين من الجبهة محمولين إلى الأهل

    ويظلّ هذا الطفل يخترق المجموعة كالظلّ ، يطلّ ويختفي لكنه لا يغيب أبداً وقد يتمهل في بعض القصائد معلناً عن حضوره الشفاف كما في قصيدة طفولة :

    ونهضتُ أيّ طفولةٍ دهمتني بالأحجار! ألقتني كرخّ السندباد بساحة الأطفال، أيّ طفولةٍ نهضتْ فنمتُ ! أعشرةٌ في بيت (زينب) يكنسون البيت، وامرأةٌ تدبّ وراءهم سوداء تهوي بالسلاسل.. عشرةٌ سودٌ من العبدان يلمع فوقهم صيفٌ تأرجح كالغبار على السطوح وبيت (زينب). مسّني القمرُ الجميلُ فصحت بالخفاش: جاء الليل، تعبر ساحة الأطفال أجنحةٌ تضئ. نهمّ بالأحجار.. يصعقنا الضياء. أفيق مرتجفاً. ألمّ خيوطي انقطعتْ، وكأس الماء، أشربُ، والصباح كأنّه وجهي تلبّث برهةً ومضى يدحرجه الهواء...

    مثلما هو حاضر في قصائد المنفى ، فحين يعثر البيكاجي يكون الطفل هناك وكأنّ حضوره إشارة إلى حياة لن تتوقف . ليس الطفل هنا شاهداً بل جزءاً فاعلاً في مشهد إنسانيّ وليس وحده بل صار جميع الأطفال .

    ثمة تشابك في هذه المجموعة وتناص ولغة وعوالم لم تكن مألوفة من قبل: الموقف وغرائبيته، رامبو وعالم عدن الخرافيّ مما جعل الأسئلة أكثر تشابكاً لا تشير بقدر ما توقظ.. وحين كنت مقيما في دمشق دعيت إلى واحدة من الفعاليات الثقافية في عدن فتوجه إليّ بعض اليمنيين عاتبين لأن الواقع الذي كتبته بمخيلتي لا يرغبون في رؤيته. بعد أعوام فاجأني الشاعر الجميل علي المقري حين كنت في صنعاء برأيٍ آخر هو أن قصائدي كانت نبوءة بما حلّ فيما بعد مشيراً إلى قصيدة بالذات هي قصيدة "ليل عدنيّ".

    * هل كان هاجس تطوير الأدوات التعبيرية و تجاوز الذات و امتحان اللغة حاضرين بشكل واع أثناء تأليف الديوان؟ و ما هي التجارب الشعرية المعاصرة آنذاك التي وجدت فيها عناصر رؤية جديدة سواء على المستوى العربي أو العالمي؟

    ** ليس لديّ هاجس بتطوير أدواتي التعبيرية، فأنا لا يهمني أن أكتب بأيّ أداة تعبير بسيطة أو معقدة. مثلما أنا لا أسبق قصيدتي.. على الرغم من تعدد الأشكال في مجموعاتي الشعرية المختلفة التي لا يشبه بعضها بعضاً. لم يكن شاغلي الشكل يوماً رغم اعتنائي الشديد به وحساسيتي إزاءه فأنا أنفر من أيّ قصيدة مائعةٍ بلا شكل. القصيدة لديّ هي التي تقترح أدواتها. لذلك تفاجئني قصائدي بأشكالها، وقد تجترح هي مضمونها أحياناً. لأنني لستُ بصائغ أفكار حسب وإنما أنا معنيّ بالدرجة الأولى بالقصيدة ذاتها.. بعالمها وما يحتويه من صور و أفكار شعورية ولا شعورية، ومن أشياء لها صلابتها تماماً كأشياء العالم الواقعيّ، مثلما لها مدلولاتها المختلفة التي مهما اختلفت وتعدّدتْ لا تلغي أشياء القصيدة إذ يظل لهذه الأشياء بروزها وثباتها.. من هنا يأتي وضوح القصيدة وغموضها في آن واحد.

    لم أكتب قصيدة يوماً وفي ذهني شكل قصيدة أخرى لشاعر آخر. قد يكون للأشكال البسيطة عمقها، وللأشكال المعقدة بساطتها الساذجة. إنّ حداثة الشاعر لا تتأتي من اجتراحه الدائم للأشكال الجديدة. ثمة أشكال قديمة قد تحضر بين فترة وأخرى هي أكثر امتحاناً للشاعر الحديث من الأشكال الجديدة في الشعر، لأنها اختبار لقدرة الشاعر على تمثلها.. اختيار لا يقل صعوبة عن اجتراح أي تجديد إن لم يكن هو التجديد بعينه. ماذا يعني التجديد؟ أليس هو كسر المألوف. فحين يأتي مثلاً شاعر ويكسر هذا التكرار الممل لما يسمى بالأشكال الجديدة التي هي بلا شكل أصلا، ويبث روحاً جديدة في شكل قديم مهمل. أليس هذا هو التجديد؟

    ألم يكتب رامبو قصيدته الرائدة في الشعر (المركب السكران) بأكثر الأوزان شيوعاً؟ هل انتهى الهايكو ، وكتابة السونيتات والرباعيات في شعر العالم ؟ في قصيدة لي كتبتها عن البصرة ترددت في وضعها بين قصائدي الأخرى عن المدينة لبساطتها الشديدة فهي التقاطة يومية سريعة لأطفال رأيتهم يستحمون في شط العرب وهم يتصايحون وقد انعكست الشمس بحدة على أجسادهم العارية:

    في البصرة
    أبصرتْ:
    أحمد
    و زياد
    وغسان
    "أحمد .. !"
    صاح زياد
    فاندفعوا في المدّ
    "يا هو.. و .. و"
    واشتعلت نارٌ في الماء
    ورددّ ت الأصداء
    في الضفّة:
    "أحمدُ ..
    أحمدُ ..
    أحمدْ"

    ترددت ولكن عندما تذكرت تجارب الشعراء الكبار تخليت عن ترددي لِمَ أضع في ذهني أكداس القصائد والكتابات الضاجة بادعاءاتها ولا أضع في ذهني هؤلاء الكبار؟ تذكرت بالذات والاس ستيفنس وقصائده القصيرة الجميلة ومن بينها هذه القصيدة المذهلة ببساطتها وتوجهها الشعبيّ وهو الشاعر الأكثر تعقيدا في الشعر الأمريكي:

    في أوكلاهوما
    بوني وجوزي
    يرقصان حول جذع
    مرتدين الكاليكو
    ويصرخان
    "أوهوياهو
    أوهو " ...
    محتفلين بعرس
    الدم والهواء
    (الكاليكو : نوع من القماش)

    * خلال مقامك بعدن اشتغلت في مجلة ثقافية، هل كان من السهولة العثور على عمل هناك؟ ما هي العوامل التي ساعدت على ذلك؟

    ** منذ اليوم الأول لي في عدن طُرح عليّ العمل في مجلة "الثقافة الجديدة" اليمنية وهي تكاد تكون المجلة الثقافية الرئيسية الصادرة في عدن. كان يعمل فيها الشاعر سعيد البطاطي والصحفية رضية شمشير. صادف يوم وصولي أن زار الراحل الدكتور حسين مروّة الفندق الذي أقمت فيه رغبة منه في اللقاء بالعراقيين وحنيناً لماضيه في العراق الحاضر في وجوه هؤلاء المنفيين وإحساسه العميق بالرفقة والهم الإنسانيّ. ولحسن الحظ إنني كنت قد قرأت كتابه الصادر حديثاً (النزعات المادية في الفلسفة الإسلامية) حين كنت مختفياً في الكويت، لذلك لم يكن ثمة إشكال أو صعوبة حين اقترح عليّ أن أحاوره بعد يومين أو ثلاثة من إقامتي في عدن، أو أدير ندوة يشارك فيها العديد من الوجوه الثقافية في عدن: الدكتور محمد الزعبي من سوريا، الشاعر جيلي عبدالرحمن من السودان، وعلي عقيل من اليمن. حضر أيضاً فيما بعد دون أن يشارك في الندوة الشهيد الدكتور توفيق رشدي.

    أجريت الحوار مع الدكتور حسين مروه في الصباح و أجريتُ الندوة في المساء واحتل الحوار والندوة سبعين صفحة في المجلة. كان من بين الملاحظات التي طرحتها في الحوار والتي تقبلها الدكتور مروه برحابة صدر وتواضع العالم الجليل عدم دقة الكثير من المصطلحات في الكتاب مثل إطلاق (المثالية الذاتية) على فلسفتي أفلاطون وابن عربي نظراً لأنّ المثالية الذاتية إذ تعترف بأولوية الوعي الإنساني تنفي الوجود الموضوعي وتعتبر الأشياء نتاجاً للإحساسات والأفكار بينما للمثل عند أفلاطون وجودها المستقل لذلك كان الأولى نعتها بالمثالية الموضوعية. أقرني في ذلك، بينما اعتبر المثالية الذاتية أكثر انطباقاً على فلسفة ابن عربي. وفي الحوار استفاض الدكتور مروّه بالحديث عن سؤالي الأول له المتعلق بجوهر الكتاب: هل مهمة الباحث هو الكشف عن الأساس المادي للتراث الفلسفي أو الفكري بوجه عام أم البحث عن مدى فعالية هذا التراث في واقعه الاجتماعي الذي أنتجه ومدى تأثيره في الوقت الحاضر وهذا كان أيضاً موضوع الندوة الأساسي في المساء.

    بعد الندوة تمت دعوتنا إلى العشاء في مطعم فاخر في أحد الفنادق الحكومية. قُدّم لنا فيه نوع من السمك غير المتوفر في الأسواق لأنه يصدّر إلى الخارج للحصول على العملة الصعبة، فكان موضع تندرنا جميعاً.

    لم ألتق بالراحل توفيق رشدي من قبل لذلك حين تمّ تعارفنا اندهش الشاعر جيلي عبد الرحمن وعلّق ساخراً: هل هذا جزء من عملكم السريّ أيها الرفاق العراقيون؟ كان توفيق رشدي متوترا طوال الليلة صامتاً وكأنه يحدس أن اغتياله واقع لا محالة، جراء التهديد العلني الذي وصله من السفارة العراقية الموجودة في عدن آنذاك. وبالفعل تمّ اغتياله بعد يومين فقط من لقائنا العابر في الفندق. اغتيال معلن .. لم يكن خافياً على أحد..فكيف حدث ذلك؟

    * كيف كان المشهد الثقافي في عدن آنذاك؟ و ما هي العلاقات التي نسجت مع شعراء المرحلة الذين تبادلت معهم التأثير و التأثر؟

    ** لم يكن المشهد الثقافي بتلك الحيوية التي اعتدنا عليها في بلدان أخرى حللنا بها، ولكن ثمة أصوات شابة مبدعة في الشعر والقصة كان من بينهم محمد حسين هيثم الذي أحمل له مودّة كبيرة وهو شاعر مبدع حقا لم ينقطع عن الإبداع والنشر. كان هناك أيضاً أصدقائي الشعراء: شوقي شفيق، عبد الرحمن ابراهيم ، سعيد البطاطي، فريد بركات، والراحل زكي بركات الذي أحزنني اغتياله، ومن القصاصين ميفع عبد الرحمن. بالإضافة إلى الشعراء العرب المقيمين في عدن: جيلي عبد الرحمن الذي تربطني به صداقة قديمة منذ لقاءاتنا الأولى في موسكو، الشاعر المصري الشعبي المبدع زكي عمر الذي مات غرقاً حين حاول إنقاذ ابنته القادمة في الصيف من دراستها في موسكو.

    وعلى قصر الفترة التي أمضيتها في عدن.. سنة تقريباً التقيت أيضاً بشعراء قادمين إلى عدن. أتذكر منهم أدونيس، أحمد دحبور، ثم من المغرب الباحث عبد الكبير الخطيبي. وعند مجيء أدونيس ومعه عبد الكبير الخطيبي جمعتنا جلسة في بيت مسؤول منظمة التحرير الفلسطينية في عدن. كنا مدعوين إليها أنا وجيلي أيضاً عقب الأمسية الجميلة التي أحياها أدونيس والتي قرأ فيها "ملوك الطوائف" وقصيدة عن طفولته كما أتذكر.

    قال لي أدونيس، حين غاب جيلي لدقائق:
    هل مازال جيلي يكتب الشعر؟
    قلت له : نعم
    قال : وكيف ترى شعره.
    قلت : لطيف
    قال ضاحكاً هذا يعني بالعراقي ليس لطيفاً.
    قلت له ضاحكاً بدوري : لماذا؟
    قال : لأنكم العراقيون حين تقولون لطيف فهذا يعني العكس.

    لا أزال أعتقد أن ثمة نماذج في شعر جيلي عبد الرحمن ستبقى حية حقاً. و لعل الدراسة التي كتبها عفيف دمشقية عن قصيدته (حارة عابدين ) في أحد أعداد مجلة "الطريق" اللبنانية هي من الدراسات النادرة التي تحمل وفاءً ودقة وكشفاً لشعر يبدو بسيطاً ولكنه يحتوي على غنىً فنيّ نادر في الشعر. أسرّني جيلي مرّة أنه حين دخل السجن فوجئ بحائط الزنزانة وهو يتحرك فاندهش ولم يصدّق عينيه، وعرف فيما بعد أن حركة الحائط لم تكن غير حركة القمل الحاشد الذي يتحرك عليه:
    في السجن
    رأى جيلي عبد الرحمن
    الحائطَ يتحرّك
    فأبى إلاّ إن يوقفهُ
    لكنّ الحائطَ لم يتوقّفْ
    كانت تدفعهُ بين طوابير السجناء ..
    طوابيرُ القملْ
    قصيدة "الحائط"

    مما أتذكره عن جيلي وزكي أننا دعينا مرة، من قبل صديقنا الدكتور محمد أبو مندور الكاتب الاقتصادي المعروف في عدن بكتاباته الاقتصادية المتواصلة في الصحف، دعوة مرتجلة مستغلاّ غياب زوجته وسفرها إلى مصر، ولم يكن في بيته غير البصل المخلل الذي كان مزتنا الوحيدة تلك الليلة النادرة التي ضحكنا فيها كثيراً. كان موضوعنا الأثير في الجلسة هو نقد قيادات الأحزاب الشيوعية العربية فلم يقصر زكي عمر ولا محمد مندور في نقدهما اللاذع لقيادة حزبهما، وهذا ما فعلته أنا أيضاً. وبقي جيلي صامتاً إذ كان عنصراً قيادياً في الحزب الشيوعي السوداني ومسؤول منظمة الحزب الشيوعي السوداني في عدن. آنذاك التفت إليه زكي عمر بروحه المشاكسة: وأنت إيه رأيك يا عم جيلي؟
    عندئذٍ استرسل جيلي في بث همومه وشكواه من قاعدة الحزب وما يسببه له رفاقه من آلام أين منها آلام فرتر. فكان هذا موضع تندرنا وضحكنا المتواصل تتخلله ابتسامة جيلي الوقورة الحبيبة وهو يتقبل تعليقات زكي الجارحة بروح رفاقية عالية وكأنه في جلسة حزبية يمارس فيها النقد والنقد الذاتيّ ، موافقاً على كلّ ما قلناه.

    لم تكن إقامتي في عدن خالية من الطرائف والبهجة أحياناً. مرّة تلقينا أنا ومهدي، أول وصولنا إلى عدن، دعوة من قبل عمال أحد المؤسسات الحكومية. وبعد انتهاء الأمسية أهدونا قفصين ممتلئين بفواكه شتى فتقبلناهما مسرورين وسط التعليقات والضحك. كانت الهدية الأولى التي تسلمتها في حياتي عن شعري.

    كان من بين أصدقائي الأعزاء آنذاك أيضاً الدكتور عبدالقادر باجمال رئيس وزراء اليمن الحالي وكان دائم الحضور إلى المجلة جالباً معه مقالاته ومحبته وتساؤلاته وكنا نتحدث طويلاً. حين علم بوجودي صدفة بين الحاضرين في افتتاح معرض تشكيليّ في صنعاء عند زيارتي لها السنة الماضية، أسرّ للشاعر الصديق علي المقري رغبته في رؤيتي فكان لقاء مؤثراً حقّاً. كان عبد القادر باجمال نفسه هو ذلك الصديق العزيز بشخصه الحبيب وكلماته المعبرة عن أخوتنا أمام الحضور من الوزراء المستغربين من هذا اللقاء الحميم الخالي من التكلف المليء بالألفة الصادقة وسط هذا الجوّ الرسمي الثقيل.

    حاولنا في عدن ألاّ نثقل على أحدٍ، أو أن نُدخل اتحادهم في أيّ إشكال قد يؤثر عليهم في علاقتهم ببغداد ولاسيما أنهم قالوا لنا صراحة أن اتحادهم فقير ويعتمد كلّيا على معونة العراق، بل كنا أحياناً وقد اتفقنا معهم على لقاء مهنيّ نغفل عن الموضوع القادمين من أجله لنشاركهم تحليقاتهم ببعض أوراق من القات التي لا تسعف في اللحاق بهم إلى مقاماتهم العليا مكتفين بالأحاديث اللطيفة والمودة المتبادلة. وأظن أنهم كانوا مسرورين بهذا التغافل.


    * الشاعر العربي الوحيد الذي أهديته قصيدة تحمل اسمه في هذا الديوان هو صديقك الشاعر اليمني الراحل سعيد البطاطي. هلا حدثتنا عن عطائه الشعري و عن طبيعة العلاقة التي ربطت بينكما؟ وما جوهر تجربته التي جعلت منه بطلا لإحدى قصائدك؟ ثم ما هي الصورة التي يمثلها البطاطي للشاعر في ثمانينيات القرن العشرين؟

    ** كما قلت لك كان البطاطي يعمل محرّرا معي في مجلة "الثقافة الجديدة" اليمنية. كان له وجه طفل وعينان صغيرتان ذاهلتان دوماً ولاسيما حين يتناول قاته فيبدو وكأنه في عالم آخر. وكعادة الشعراء لم يكن راضياً بوضعه ، رغم ألفته ووداعته والرضى الظاهر الذي يشيع في وجهه الدائريّ. حلمه أن يغادر عدن إلى صنعاء ، وما من طريق سوى طريق الهرب عبر الحدود بأية وسيلة كانت.
    حدث هذا بعد أن غادرت عدن غير أنه لم يكن موفقاً بخطته إذ قبض عليه وأرجع عنوة إلى عدن إلى موقعه الوظيفيّ نفسه في الثقافة الجديدة. علمت بعد ذلك أنه تزوج وسكن في الغرفة ذاتها التي كنت أسكنها أنا وزوجتي في البيكاجي، بعد رحيلي.

    لم نتراسل ويا للأسف، ولكن وصلني عندما كنت في دمشق أو بيروت لا أتذكر بالضبط أحد أعداد الثقافة الجديدة وفيها مقالة له طويلة عن مجموعتي الأولى الحقائب مكتوبة بحب نادر مؤثر لم أحتفظ بها إذ ضاعت وسط تنقلي الدائم وهجرتي الدائمة . قيل لي أنه قبل موته كان يذرع البيكاجي كالمجنون ذاهباً آيباً. لم تمهله طويلاً كما يبدو صدمة العودة إلى عدن.

    كتبت عنه قصيدتي قبل وصول نبأ موته إليّ، مستحضراً ذهوله حين يتناول القات وبراءته وحبي له وحلمه الدائم بالحوريات وهدايا التمر التي يجلبها من مدينة طفولته حضرموت.. لا أعرف ما مصير أشعاره؟ أو مصير زوجته وأطفاله إن كان له أطفال؟ لقد انقطعت أخباره عني تماماً، وذكرني جنونه الهادئ الخفيف فيما بعد بجنون مريم جارتنا في الطفولة حين خرجت ذات يوم من عزلتها الطويلة التي دامت سنوات، مزينة بإكليل العرس وهي الطاعنة في السن ذاهبة آيبة في الباحة التي تتوسط البيوت المجاورة لبيتها وهي تردّد بصوت منغّم عذب مخاطبةً رفيق عمرها الذي رحل قبل ثلاثين أو أربعين سنة:

    معن! .. معن!.. ها أنا قادمة إليك..


    * إن قصيدة "تشيلي في القلب" (1973) المنشورة في ديوان "الحقائب" (1975) تحيل على ديوان للشاعر الشيلي الكبير بابلو نيرودا "اسبانيا في القلب". هل كان بابلو نيرودا، بالنسبة إليك في تلك المرحلة، حاضرا هو أيضا كنموذج للشاعر و كاختيار شعري و موقف من العالم؟

    ** نيرودا واحد من شعراء عديدين أحببتهم ولم يفارقني حبهم طوال كلّ هذه السنوات، وإذا كنت أحببت نشيده الشامل وقصائده الغاضبة الصارخة بالمأساة في (اسبانيا في القلب) فانني أحببته أيضاً في أشعاره التي تردّدت فيها أصداء وحشته في البقاع النائية ولا سيما أشعاره التي قرأتها بالفرنسية في مجموعته الرائعة (الإقامة على الأرض). كان لخبر موته وما حلّ بتشيلي أفجع الأثر في نفسي . وقتها نشرت قصيدتي (تشيلي في القلب) سنة 1973 في مجلة "الآداب" وكان ناقدها في العدد اللاحق الشاعر الرقيق (فاروق شوشة) ومما قاله عنها (أخذتني قصيدة تشيلي في القلب). وحين قرأتها على خشبة مسرح مديرية تربية البصرة الذي حدثتك عنه في المحور الأول ، قال لي أحد الأدباء الحاضرين وكان بعثياً، بخبث لا يخلو من تقدير: تخيلتك قادماً بحقيبتك للتو من تشيلي.


    * عودا إلى "وردة البيكاجي". تقول في إحدى تصريحاتك: "ما أكثر الشعراء الذين يزورون مدنا وبلدانا و لا يرونها، و يلتقون بشرا و لا يرونهم". تجربة مدينة عدن فيها إحساس بفقدان الوطن، كما فيها تهيؤ لعناق مكان جديد؟ كيف رأى عبد الكريم كاصد مدينة عدن؟ و ما هي الشواغل الشعرية الأساسية التي حكمت التجربة؟

    ** نعم ، ثمة فقدان وعثور على مكان جديد لم أصل إليه إلا بمشقة ومعاناة، فبعد حصولي على وثيقة سفر من السفارة اليمنية في الكويت، سلّمت نفسي إلى الشرطة، ومعي مهدي طبعاً، بصفتي يمنياً مقيماً في الكويت بشكل غير شرعيّ، غير أن الشرطة لم تستلمنا، و يا للمفارقة! بحجة انشغالهم وضيق وقتهم، ذلك اليوم، فاضطررنا إلى المجيء ثانية في اليوم التالي ومعنا تذاكر سفرنا، لنمضي في التوقيف عدة أيام، بعدها نقلنا إلى موقف المطار حيث أمضينا ليلة هناك قبل أن نغادر إلى عدن. كانت عدن بالنسبة إلينا خلاصاً و منفىً جديداً يحتشد فيه المنفيون متقاربين. كلّ في عزلته.. وحين تقترب العزلات من بعضها بعضاً يصبح الاقتراب خطراً وتهديداًً للعزلة وخلاصاً أيضاً لما تكتظّ به من وحشةٍ وأحزان وأخبار أهل، لا طاقة للمنفيّ على تحملها. وحين وصلت لم يكن هناك منفيون ينتظرون بعزلاتهم الموحشة وحدودهم المتصلبة والهشة في آن واحد بل كان هنالك أيضاً بشرٌ يجتازون غابة ولكن.. إلى أين؟

    كلّ نأمة هي شارة لوحش رابض ، وكلّ أثرٍ هو أثر لوحشٍ مرّ وكانت الغابة تكتظّ وتكتظّ حتّى لم يعد للحيوان من موضع فيها وقد شغل الغابة البشر الذين ما تزال خيالاتهم مسكونة بالوحوش. التحقتْ بي زوجتي فيما بعد وصادف مجيئها حلول رمضان فكنّا نقضي لياليه متجولين في الأسواق حتى ساعة متأخرة من الليل بين محلات الأقمشة الخفيفة الهفهافة القادمة من الهند بألوانها الزاهية المبهجة، و أضواء عربات الباعة ، وزحام الناس ، ولطف معشرهم واسترخائهم النادر الذي لم تره في مكان آخر.

    لم يتكرّر هذا الطقس الاحتفالي الرائع قطّ . سنة واحدة وانقضى.. إذ لم نشهده في السنة التالية التي غادرنا بعدها عدن إلى منافٍ أخرى. وحين أتساءل الآن لماذا ؟ لا أجد جواباً. كيف تتغير مثل هذه الطقوس المعروفة بثباتها ودوراتها و تكرارها بهذه السهولة التي لم يكن وراءها سبب.. لا انقلاب ولا حركة تصحيحية ولا غير ذلك من مصطلحات الثورات وإعلام العرب.

    لم يدم فرحي بالنجاة ولا بمجيء الحبيبة فالأحداث تتسارع وقد اكتظت الغابة بالبشر.. صراعات .. اجتهادات في العزلة والتمرد.. محاكمات لا يحضرها خصومها، ومعارك صامتة بلا دم ، ولكنها صراعات يمكن أن تؤدي إلى ما هو أنأى من الدم .. استدعاء شرطة على رفاق الأمس وتهجير إلى منفىً آخر لا يقبل المنفيين. ولعلّ ما هو أقسى من ذلك حين يُهجّر المنفيّّ وهو بلا وثيقةٍ.

    إنه الجحيم ثانيةً، جحيم المدينة والآخرين.. جحيم يتغلغل فيك أيضاً فلا تجد ملاذاً إلاّ بالهروب ثانية إلى أرضٍ أخرى.. إلى سماءٍ أخرى.. إلى بشرٍ آخرين وغاباتٍ أخرى.. ربّما.



    الوردة الحجرية

    * في قصيدة "وردة البيكاجي" هناك تصوير لأدق تفاصيل المكان من مختلف الزوايا و الأبعاد. لماذ هذا الهوس بالتفاصيل؟

    ** ما ذكرته في إجابتي السابقة، وإن جاءت تعميماً ، أليس هو الضياع عينه لحياةٍ استغرقتها التفاصيل؟ غير أن تفاصيل القصيدة شيء آخر، شيء يشير إلى مكان وقد يشير إلى زمن محدّد أيضاً، وبشر، وأحداثٍ وكلّ ما يرسّخ القصيدة ويحيلها واقعاً لا إنشاءً في قصائد تتكدس كبضائع في خان. ما القصيدة دون تفصيلاتها.. ما الأرض الخراب دونها؟ وقصائد ريتسوس و رامبو وتفصيلاته المذهلة سواء في قصائده الأولى أو الأخيرة الموزونة والنثرية؟

    " في التفاصيل يقيم الإله الطيب " يقول فلوبير. حتى لو كان الشعر بحثاً عن الكليات فإنه لن يكون شعراً إلا عبر تفصيلاته، وخصوصيته مهما اقترب أو امتزج بالأجناس الأدبية الأخرى أو احتوى أفكاراً ورؤىً شاملة. ما تسميه هوساً أسميه شغفاً وضرورة فنية نابعين، ربما، من هذه الرغبة المحمومة في جعل القصيدة حاضرة في كلماتها.. في جعل الكلمات أشياء والأشياء كلماتٍ، يمرّ بها القارئ مثلما يمرّ في مدينةٍ عابراً أو مقيماً. غير أن ما يقوّم القصيدة ليس تفصيلاتها وحدها وإنما هو ما تتضمنه من رؤية وزاوية نظر وتشكيل وتعامل مع الواقع وتفصيلاته واختياراته وسوى ذلك من مميزات أخرى لا تقلّ أهميةً في كتابة القصيدة.


    * تتشكل هذه القصيدة من عدة مقاطع، كل مقطع يحكي قصة المكان و شخوصه من زاوية مختلفة: الاستهلال/"الهنود ابتنوا في سقوفك أعشاشهم"، أغنية المهجرين:"خرجنا من باب واحدة"، نزهة المهجرين: "في المساء نتقاطع في الباحة...نهبط سلمنا المتآكل"، أغنية البيكاجي: "أنا البيكاجي"، غرف البيكاجي: "غرفة بابها أصلع"، خاتمة:" ركض البيكاجي/ رنت أجراس الخلخال/ عثر البيكاجي/ و التم جميع الأطفال". كأننا أمام لوحة تشكيلية تكعيبية تحتاج إلى جمالية تلقي مغايرة للمألوف.

    ** أشعر بالامتنان حقّاً لهذا التعبير الفاتن " لوحة تشكيلية تكعيبية " .

    * في مقطع "غرف البيكاجي"، هناك توظيف لطيف للتشكيل البصري من خلال تكرار و توازي كلمة "غرفة" في القصيدة بنحو يعكس تمثلا بصريا لمبنى البيكاجي و غرفه المرصوصة.

    ** لا أشعر أنّ هذا توصيف فقط وإنما هو تقييم أيضاً . أشكرك عليه .

    * في تعاملك مع البيكاجي كفضاء، تنحو إلى أسطرة المكان من جراء إسباغ هالة من السحر عليه عبر التشخيص و الأنسنة بحيث يقوم الشاعر بتسميته من جديد و كأنه يولد في التو "غرف تتقابل كالعربات، و حين تنفتح الأبواب تصير شارعا/ سميته البيكاجي". بل أكثر من ذلك، يتحول البيكاجي إلى كائن خرافي هائل يتحدث ككل الشخوص: "أنا البيكاجي/ لا أدري أأنا حجر أم حوت أم إنسان؟".

    ** أشعر أيضاً أن توصيفك يحمل فهماً عميقاً للقصيدة وتقييماً لها وإشارتك إلى الولادة ذات دلالة تشير إلى ما هو أوسع من التوصيف .


    * قصيدة "مجنون" تطرح تحديا آخر على مفهوم الشعر. فهي تتألف من بيتين فقط تقول فيهما:
    كان ضابطا بحريا
    و انحسر عنه البحر.

    هل هو انخطاف الشعر مرة أخرى؟ ما هي قصتك مع هذا الضابط البحري الذي انحسر عنه البحر؟ أين تكمن الشاعرية في مثل هذا الاقتضاب و الاقتصاد في العبارة؟ هل صورة مقترة بكل هذه الحدة الجارحة، على طريقة الهايكو اليابانية، قادرة على حمل الشحنة الشعورية اللازمة لتذوق الشعر؟ هل يكون بمستطاع قصيدة بهذا الحجم القصير الاستجابة لأفق انتظار القارئ وتحقيق الإشباع المطلوب؟ أم هي إحدى فضائل جماليات الحد الأدنى، حيث كلما ضاقت العبارة اتسعت الرؤيا؟


    ** حين حللت في عدن وأقمت في الفندق أكثر من شهر كان هذا المجنون الضابط البحريّ سابقاً يطالعني كلّ يوم ببذلته القديمة المهترئة بذلة الضابط البحريّ وأحياناً متخففا منها ... يسير باستقامة وتصلب غريبين ، لا يكلم أحداً . شغلني زمناً طويلاً : كيف أأسر هذا المجنون في قصيدتي؟ كانت البداية تقريرية ، عادية جدّاً : كان ضابطاً بحريّاً . وحين كتبت : وانحسر عنه البحر ، شعرت أن القصيدة اكتملت وأن ما جاء بعدها ليس سوى حشو . لقد انحسر البحر عن الضابط كما ينحسر بساط من تحت القدمين، وانحسر معه كلّ شيء.. عقله أيضاً . لم يكن في ذهني الفكرة بل الرؤيا: وقوف الضابط المنعزل الوحيد في هذا القفر الواسع الذي كان بحراً . في ذهني حركة البحر وهو ينحسر عن الضابط وحيداً. أما الدلالات فهي لا حقة وما كانت شاغلي أبداً.

    تحدّث عن ضيق العبارة واتساع الرؤيا الكثير من الشعراء والمتصوفة. فقد وردت لدى النفري بهذه الصيغة كما وردت لدي رامبو بصيغة أخرى يمكن ترجمتها بالكلمات التالية: "رؤاك الكبيرة خنقت كلماتك ، واللانهاية المفزعة أرعبت عينك الزرقاء" .


    *في قلب الديوان هناك استعارة مركزية تتمثل في صورة "الوردة الحجرية"؟ ماذا أردت أن تشير إليه من خلال هذه الاستعارة؟

    ** لا أدري كيف اجتمعت الوردة بالحجر. لعلّ ثمة تكثيف أو استبدال في القصيدة كما يحدث في الحلم، لدى فرويد، حين يكثف عناصره أو يستبدلها بعناصر أخرى ، فتتخذ الوردة شكل الحجر والحجر شكل الوردة، مثلما لا أدري أية صدفةٍ رمتنا حتّى آخر الأرض في مبنىً حجريّ هائل سكنه الإنجليز و من قبلهم سكنه الهنود، ثمّ جئناه بأطفالنا وعذاباتنا وموتانا مثقلين بالهواجس والأحلام، لنلمس حيطاناً غابرة تهرم وتموت في مكانها كأنها في انتظارنا: باحة واسعة وقبة أوسع تُسمى سقفاً وشبكة حديدية تتوسط شرفة فوق الطابق الأسفل وسلّم حجري يهبط ويرتفع بنا يوميّاً، وهناك ثمة جدار تحط عليه الغربان وقد لا تطير محدّقة بالمنفيين وكأنها تسألنا: من أين؟ عبر هذا الجدار رأيت مرة حبل غسيل وقد تعلق فيه غراب كالمشنوق وقد بان عنقه الأحمر..هل يمكن أن أتحدث عن الوردة في هذا المبنى الحجريّ دون أن تقترن بالحجارة مجازاً أو استعارةً؟


    * في أكثر من مناسبة كنت تحاول تقديم عناصر تأويلية تصلح مفتاحا لقراءة نصوصك و لو على شكل سؤال؟ ألا يضيرك أن تخوض في عملية تفسير لقصائدك و كشف بعض لطائف الصنعة الخفية فيها. ألا يقتل التفسير حياة المعنى في القصيدة، أم أن القصيدة تمتلك نسغها الحيوي الخاص وعناصر حياتها الداخلية؟

    ** أعتقد أن القصيدة، مثلما قلت في سؤالك ، تمتلك نسغها الحيوي الخاص وعناصر حياتها الداخلية بعيداً عن تفسيرات الشاعر والقارئ. لم أقدّم تفسيراً بل ملاحظات تبقى خارج القصيدة مهما بلغت من القيمة والعمق. لقد فعل إليوت أكثر من ذلك إذ قدّم تفسيرات لقصيدة "الأرض الخراب" لم تضر القصيدة بل ساعدت النقد الأكاديمي خاصة على الاقتراب من شعره. كانت تفسيراته مفاتيح لقصائده لكنها لم تشرع أبوابها تماما لتفسير الآخر. أليس حوارنا هو محاولة لمثل هذا الاقتراب ؟ ليس ثمة تفسير مطلق.. في كل ما هو مطلق شيء من النسبيّ يخترقه مثلما يخترق النسبيّ كل شيء في العالم حياةً أو شعراً.


    * يقول الكاتب مصطفى عراقي حسن في مقال له عن عملك الشعري: " ديوان وردة البيكاجي جسد ذروة المشهد الشعري" مشيرا إلى أن المشهد هو الوسيلة الأثيرة لديك لبناء القصيدة. في تقديري أن التعبير المشهدي صيغة حداثية مميزة في البلاغة الشعرية لعبد الكريم كاصد، و هي تقابل "غموض العبارة" الذي اختاره بعض الشعراء ميسما لحداثتهم.

    ** يرى بودلير إن عمق الحياة يتبدى في المشهد . في بناء المشهد في القصيدة ما يقي الشاعر من اندياحٍ لا مركز فيه.. المشهد الشعريّ يمنح القصيدة وجوداً واستقلالاً حتّى عن الشاعر نفسه لتصبح القصيدة آنذاك هي التي تحدّ الشاعر لا العكس . من هنا يأتي اكتشاف الشاعر لقصيدته ودهشته أمامها كالقارئ تماماً..

    أمّا غموض العبارة فلأراغون رأي في ذلك إذ يرى إن الوضوح في القصيدة هو بالتحديد ما هو غامض في الشعر.. والغريب أنه بحث عن الوضوح وأشكاله البسيطة في شعر رائد الحداثة في الشعر الفرنسي الذي هو أبولينير إضافة إلى الشعر الشعبي والأغاني القديمة، لا من أجل أن يكرر الفولكلور، بل من أجل أن يستخدمه استخداماً مجازياً. وليس مصادفة أن يقترن شعر أبولينير ووضوحه بالمشهد الواضح الغامض ذي الدلالات العميقة التي لا تنفد أبداً .

    أما بالنسبة إلى دراسة الدكتور مصطفى عراقي فهي نموذج للنقد التطبيقي البارع البعيد عن ترديد مقولات تبتعد كلما اقتربت من تطبيقاتها.


    * بالمقارنة مع شعراء ينتسبون لمسمى الحداثة الشعرية، ألاحظ أن الوضوح سمة من سمات قصائدك. هل هو دليل رغبة الشاعر و رهانه على التواصل مع جمهور قراء الشعر؟ ألا تحتاج القصيدة في نظرك إلى حد من الغموض الملازم، أو قل السريالية المحببة، كما يسميها محمود درويش؟ من أين إذن تستمد القصيدة لغزها السري؟

    ** الوضوح ليس سمة شعري وحده. إنه سمة كل شعر جيّد. القصيدة ليست وجبة نضيف لها ملح الغموض لكي نتقبلها. إنها أعقد من ذلك بكثير، ومن أجل الوصول إلى بداهة الشعر ووضوحه في القصيدة فإنّ ذلك يتطلب مراناً ودربة ومعرفة بالشعر. هل هناك أوضح من قصيدة "أنشودة المطر" و"بويب" وقصائد برشت ونيرودا وإيليوار ووالت ويتمان الذي يبدو واضحاً وضوحاً ساطعاً ولكن كم من الظلال تختفي خلف ضوء وضوحه.

    هل شعري واضح حقا؟ حين أقول في وردة البيكاجي هذه الأبيات هل أنا واضح حقا رغم وضوحها الشديد؟

    ركض البيكاجي
    رنّت أجراسُ الخلخال
    عثر البيكاجي
    و التمّ جميعُ الأطفال

    سأسرك بشيء أرجو ألاّ أكون مغالياً فيه هو أنني كتبت هذه الأبيات في الحلم ونهضت فجأة لأدونها. وأكاد أنا نفسي لا أصدّق ولم يحدث لي ذلك إلا نادراً.

    لقد حلم إليوت و رامبو و لوتريامون و شعراء كبار آخرون بكتابة شعر واضح بسيط يفهمه جميع الناس. يقول رامبو في قصيدة "المستحيل": "أوضح نفسي ". وفي مقالات إليوت عن دانتي وعن غيره من الشعراء يتضح معنى أن يكون الشاعر واضحاً، بل أن إليوت يغلو في ذلك ويعتبر إن أهمية شعراء كدانتي تكمن في وضوحهم وبساطتهم وصورهم المرئية الواضحة وهذا ما سعى إليه في مراحل متأخرة من شعره الذي أخذ يقترب من الكلام اليومي وأغاني الأطفال كما في قصيدته "الرجال الجوف" و رباعياته التي سرني أن أطلع عليها بترجمتك مؤخرا. لكنني أقول إن الغموض والوضوح أمران نسبيان تماماً، وإن للشعر روافده العديدة و منها اللاوعي. وهذا لا يعني فقدان النظام في القصيدة واختفاء الوعي تماماً فحتى اللاوعي له قوانينه، عند فرويد، وآلياته التي تجعل من ادعاء السرياليين بالكتابة الميكانيكية خرافة وجهلاً بفرويد الذي يوضح هذه الحقيقة بجلاء في كتابه محاضرات تمهيدية في التحليل النفسي.

    وإذا كان لنا أن ندرك ماذا يعني النظام في القصيدة فليس أدلّ على هذا من ذلك النظام الباهر في قصيدة "إشراقات" لرامبو رغم عوالمها المتداخلة بإيحاءاتها الثرية المتوهجة التي جعلت من مقلديها مهرجين حقيقيين لافتقادهم تلك الروح التي أشاعها رامبو في قصيدته وذلك النظام الذي استطاع أن يتحكم في تجربة نادرة هي تجربة رامبو الخارج من أكبر تجربة تاريخية هي تجربة كومونة باريس.

    ليس الوضوح واضحاً، وإذا كان ثمة وضوح حقاً فهو وضوح غموض القصيدة -إذا صحّ التعبير- لدى الشاعر المتمكن.


    * يقول الكاتب و الناقد الإنجليزي بيتر أكرويد (Peter Ackroyd)في كتابه "سيرة لندن": "إن رؤية الشاعر ت.س.إليوت إلى الزمن تبلورت من خلال علاقته بمدينة لندن". بنوع من التأمل الذاتي، في نظرك ما هي الرؤية الخاصة التي تبلورت لديك من خلال مقامك بمدينة عدن".

    ** أعتقد أن علاقة إليوت بلندن على جانب كبير من التعقيد ، يتجاذبها طرفان : الكراهية والحب تبعاً للظروف النفسية و الاجتماعية التي مر بها الشاعر . وحين كتب قصيدته الشهيرة "الأرض الخراب" ضمنها قصائد أخرى لم ينشرها من قبل احتوت على مقته لمدن أخرى كبوسطن. وهذا ما تحدث عنه بإسهاب بيتر أكرويد نفسه في كتابٍ آخر عن سيرة إليوت، ولعل رغبته في التواصل مع الماضي كتراث في مرحلة الحرب ما يفسر رعبه من حاضر لندن، بينما نجده في المرحلة التي أعقبت حصوله على جائزة نوبل واستقراره العاطفي يعود إلى ماضيه لا كتراث بل كطفولة وشعر درامي يتسم بوضوح كبير . لذلك اكتسبت رؤيته للزمن تلك الوشيجة المرتبطة بمدينة لندن أما بالنسبة لعلاقتي بعدن فهي ليست بتلك العلاقة ذات التعقيد الكبير الذي شهد مراحل وأزمات ولكنها لم تكن بعيدة عن تشكيل رؤيتي للزمن الذي استرعى انتباهي منذ دخولي مطار عدن وكأنني في عالم آخر يتوقف فيه الزمن ليصبح حاضراً أبديّاً له شكل المكان المتحجر . ويصبح الفعل ضرباً من التكرار، ولولا الأحداث المتسارعة للمنفيين من شجارات و تنقل دائم و أخبار موتى ومشاهد حزن وأفراح غائبة لقلت أنني عدت إلى الصحراء ثانية.

    لم يكن الزمن في عدن بالنسبة إليّ زمناً متعاقباً. كان زمناً مليئاً بالإشارات إلى ماضٍ يحضر بقوة ، يشبه الحاضر ولا يشبهه: غزوات، أقوام، حروب، تجار أسلحة، مهربون، وشاعر عاش مثلي هنا هو رامبو يشبهني ولا يشبهني.. ليس هذا ما يعنيني. ما يعنيني هو جوهر هذا الحضور.. حضور الماضي في حاضر رامبو وحاضري، في لحظته ولحظتي، وجوهر هذين الاثنين معاً في القصيدة.

    كان للّحظة في عدن ثقل الأبدية. لحظة تمتدّ حتى تغمر كلّ شيء بضجرها، في فوهة هذا البركان التي اسمها عدن حيث سواد قبائل الغربان تلطّخ خضرة الأشجار في الساحات والطرق كأنّنا في عالم خرافيّ هو عالم رامبو وعالمي الموجود وغير الموجود لغرائبيته.

    لم يكن زمني في عدن زمن إليوت لأنني لا أعود إلى ماضٍ منظم بذاكرة إرادية ولكنني أعود إلى ماضٍ من الفوضى اللانهائية للتاريخ على المستويين الشخصي وتاريخ الآخر. زمان يتقدّم ويرتدّ في أي لحظةٍ في حاضره وماضيه معاً..لا شيء منجز أبداً.

    كيف ترتّب الذاكرة تاريخاً مبعثراً؟ و كيف يرتب الوعي حاضراً معرّضاً للعبث؟ ما يبدو راسخاً في الواقع معرض للتفجير في أية لحظةٍ. العالم يحضر في داخلك.. و للواقع هيمنته وحضوره غير أن ذاكرة الشاعر ترحل وتعود بلا إرادة.. في عالم ليس هو الواقع ولا الفن.. و إنما هو الاثنان معاً. هل حين اكتشف رامبو أنّ الواقع هو الفنّ، و الفنّ هو الواقع في عدن كفّ عن كتابة الشعر؟


    آرثر رامبو: البركان العدني

    * منظورا إليه من زاوية أخرى، يبدو ديوان "وردة البيكاجي" و كأنه محاولة لبلورة صورة إنسانية لبطل جماعي يتمثل في المهجرين و المنفيين. هل يتحول صوت الشاعر إلى صوت من لا صوت لهم، في محاولة لإعطاء معنى لتجربتهم الجماعية الهامشية حتى لا تبتلعها فوهة النسيان؟

    ** نعم ثمة بطل جماعي هناك في القصيدة غير أن صوت الشاعر حين يتحول إلى صوت من لا صوت لهم لا يعني أنه هابط من السماء نبوءةً أو عرافة أو أنه صوت إراديّ.. صوت بطلٍ قادم للتعبير عن أصوات أخرى مثلما هو ليس ذلك الصوت الذي يتسع حتى يفقد طابعه الخاص وإيقاعه الذي لا يشاركه فيه إيقاع آخر، وإنما لأن ّالشاعر واحد من هؤلاء يعيش تجربتهم ويعاني معاناتهم، وقد ينتظره المصير نفسه الذي ينتظرهم. لم يأت الصوت محاولة لإعطاء معنى لتجربة جماعية هامشية وإنما جاء تعبيراً عن تجربة ليس الشاعر إلا جزءاً منها. حين تجد الجماعة، أفراداً لا كتلةً، صوتها في صوت الشاعر فهذا شيء مختلف تماماً عمّا هو عليه صوت الشاعر حين يتوجه إلى الآخر في صيغة إعلام. أي أن انتشار الصوت ليس باتساعه و إنما بقدرته على الحفاظ على خصوصيته لدى كل فرد في الجماعة فهو خاص وسط ما هو عام. يجد فيه المنفيّ ذاته المبعثرة التي أحالها المنفى كسراً يرى عبرها في القصيدة ذلك الخيط الواهي ولكن الحميم الذي يشده إلى الشاعر ومن ثمّ إلى الآخرين الذي يعيشون تجربته ولكنهم يختلفون عنه في هذه التجربة نفسها. الجماعة أفراداً تهب الشعر معناه أيضاً.

    ليس ثمة إنسان معزول تماماً عن الآخر؟ الإنسان المعزول ما هو إلاّ إنسان مجرّد، فما بالك بالشاعر الذي يفترض فيه أن يكون في القلب من أحداث عصره حتى لو كان رافضاً لحضارة هذا العصر ومتوجهاً بعينيه صوب ماضيه؟


    * في قلب الصوت الجماعي الذي يتبلور في هذا الديوان، هناك صوت الشاعر المفرد. لكن هذا الصوت، في تقديري الشخصي، جاء بشكل موارب في شكل تقمص شعري لصوت شاعر آخر، هو الشاعر الفرنسي آرثر رامبو الذي أهديته قصيدتك الرائعة "البركان العدني". هل يحتاج الشاعر أحيانا إلى أقنعة كي يعبر عن ذاته؟ لماذا توظيف رامبو كقناع و كمحاور رمزي للذات؟ ما هي الغاية الفنية من ذلك؟ هذا علما أن فكرة الوجه و القناع ليس غريبة عن مناخ الديوان إذ نجدك توظفها في قصيدة طوطم حيث تقول: "أحضروا المائدة/ أوقدوا الشمعة الباردة/ إن وجهي جميل/ و قناعي ارتداه القتيل".

    ** لم أفكر في اتخاذ رامبو قناعاً. لقد كان في قصيدتي موضوعاً شعريّاً تلتقي فيه تفصيلات حاضري بتفصيلات ماضيه. كنت أسكن على مقربة من بيت رامبو لذلك كنت أحسه قريباً منّي أحاوره ويحاورني لا في واقع أو وهم وإنما في مصير نجهله ونواجهه نحن الاثنين. كنت أحاوره لا كماضٍ حسب ، وإنما كحاضرٍ يخاطبني في شعره. وهناك إحالات في القصيدة إلى أبياته وعالمه الشعريّ. أما القناع في قصيدة "طوطم" فهو شيء آخر.. مكوّن من مكونات القصيدة.. جزء منها لا شارة لها أو علامة للاستدلال عليها.


    * لم يكن رامبو فقط تجربة حياتية استثنائية بمعنى الكلمة، و إنما كان و ما يزال أيقونة التجديد والتحديث في الكتابة الشعرية الفرنسية و العالمية على حد سواء. ما هي في نظرك سمات الحداثة الأساسية في شعر رامبو؟

    ** أريد أن أبسط السؤال و أتحدث عن أهمية رامبو بالنسبة إليّ قبل نعته بأيّ من النعوت التي وردت في سؤالك أو ترد دوماً حين يتم الحديث عن رامبو. لعلّ أول ما استرعى انتباهي في شعر رامبو منذ قراءتي الأولى هو موضوعاته لا أشكاله.. موضوعاته غير المألوفة في الشعر والمألوفة في الحياة: أختان تبحثان عن القمل في شعر أخيهما الطفل، أطفال جائعون أمام مخبز، فقراء في كنيسة، طفل في السابعة من عمره يحبس نفسه في مرحاض، ابنة جيران عمال تأتي وتقفز فوق ظهره مؤرجحة فوقه ظفائرها، شيوخ يغفون في مكتبة، وعشرات الموضوعات المفعمة بالشعر والحياة، مثلما استرعى انتباهي قدرته على جعل المباشرة شعراً أيضاً فلم تضر قصائده هتافاته ولا حنقه و لا شتائمه ولاسيما في (فصل في الجحيم)، وبعض قصائده الهجائية الأولى، بل أعطتها نكهةً، ومنحتها قوة الشعر الذي ظلّ خالداً لا بأشكاله وحدها وإنما بجدّة مضامينه ومباركته الحياة حتى وهي في أوج مأساتها . لقد غنّى الفرح في انتصار الكومونة وغنّاه بعد سقوطها ولعلّه فرّ من أوربا التي لا يتذكرها إلا باشمئزاز، فزعاً من بربريتها التي ذهب ضحيتها في أحداث الكومونة 30 ألف قتيل. وبسبب مباشرته هذه و وضوحه ربما اعتبر بعض النقاد أنّ (فصل في الجحيم) مجرد اعترافات وليس عملاً فنيّاً ناضجاً.

    من بين الأشياء التي استرعت انتباهي أيضاً، منذ قراءتي الأولى لرامبو هو هذا السطوع، لأتجنبْ تسميته بالوضوح، حتى في شعره الغامض كما في (إشراقات). في هذه القصائد ثمة صفاء مدهش وسطوع أبيات تضيء ظلمة القصيدة وتملؤها بالصمت. ثمة مفاتيح صغيرة أحياناً ما إن نملكها حتى ينفتح الباب مشرعاً على ضوء المعنى الذي يضئ ما حوله من ظلمة في القصيدة: استدعاءات طفولة لا تستنفد، وحنق وسخرية ورؤى هي إشراقات حقّاً، لذا لا أرى في ترجمة القصائد بإشراقات خطأ، مثلما لا أرى في ترجمتها (منمنمات) خطأ أيضاً، فهو أي رامبو المصور البارع صاحب المنمنمات الدقيقة وهو صاحب الرؤى الكبيرة كما في قصيدته "تصوف" و "آثار عجلات" وغيرها.

    لم تقد الأشكال رامبو إلى مضامينه بل العكس، ولم تكن مضامينه وليدة الطفرة العبقرية وحدها أو المصادفة بل وليدة الجهد الذي جعله يلتهم لا كتباً بل مكتبات بأكملها حتى صار يشكو من فقدان الكتب الجديدة، مثلما هي وليدة التراث المتمثل بقصائد فيكتور هيجو العظيم، وراسين، وإدغار آلن بو، ووالت ويتمان الذي كان مترجماً آنذاك، وبودلير، وفرلين نفسه الذي كان رامبو على معرفة بشعره، قبل اللقاء به. ولعلّ الترجمات الغامضة المبنية على عدم الدقة في فهم عالم رامبو هي التي ساعدت أيضاً، بالإضافة إلى عوامل أخرى ، على تقديم عالم رامبو بشكل خاطئ.

    إنّ غموض رامبو ليس آتياً من فراغ المعنى أو تشوشه بل من اكتظاظه وتداعياته وإيجازه المذهل وتجربته الحياتية الغنية التي تختصر عصراً بمآسيه ومجازره وتحولاته وأحداثه. لم يكن رامبو شاعراً منعزلاً عن أحداث عصره بل كان في القلب منها، وفي شعره الأمثلة العديدة على ذلك، دون أن يفارقه التغني بالحياة وتمجيدها في أجمل قصائده ولا سيما قصيدتيه اللتين أنهى بهما (فصل في الجحيم) و (إشراقات).

    ثمة درس آخر يقدّمه لنا هذا العبقريّ/الطفل؛ ألا هو قدرته على تفجير الشعر، بكل ما تحمله كلمة تفجير من حداثة واجتراح أشكال رغم عدم حبي لهذه اللفظة، ليس من خلال ما هو جديد بحت في الأشكال وإنما من خلال قديمها أيضا. لقد كتب رامبو قصيدته-الحدث "المركب السكران" بالبحر الاسكندري الشائع، دون أن يعيق هذا الشكل رؤاه وفرادة مضامينه الجديدة على الشعر. مثلما فعل ذلك فيما بعد لوركا حين كتب أغاني غجرية بالأوزان التقليدية، ومثلما فعل نيرودا في أجمل دواوينه (السونيتات)، ومثلما استعار إليوت الأغاني الشعبية والفولكلور في قصائده المتأخرة، ومثلما فعل قبلهم بودلير في ديوانه الرائع (أزهار الشرّ) .


    * في سنة 1981، و هي سنة كتابة قصيدة "البركان العدني"، صدرت لك ترجمة لديوان "كلمات" للشاعر جاك بريفير. ألم تعمد إلى ترجمة نصوص لرامبو آنذاك؟ ما الذي دفعك بالتحديد إلى تمثل عالمه؟ هل كان لتشابه تجربتكما في عدن دخل في ذلك، أم هو مجرد ذريعة لبحث حثيث عن بلاغة جديدة؟

    ** لم أترجم أي نص لرامبو ولم ترضني معظم الترجمات التي اطلعت عليها لا لقصور في الترجمة، وإنما لصعوبة شعر رامبو وصفائه الغامض وامتلائه بالصمت وإحالته لوقائع في غاية الخفاء طمستها ثقافة مؤدلجة ونقاد متحذلقون وتجار أدب وسرياليون مهرجون شطروا رامبو شطرين ليمحوهما معاً: متمرداً وليس ثائراً. تاجر رقيق وأسلحة و ليس شاعراً لايزال هناك ما يربطه بماضيه عبر رسائله وقراءاته وتصرفاته وتعامله مع السكان الأصليين وتعلمه لغاتهم هو المشغوف باللغات التي أجاد بعضها حين كان طفلاً كاللاتينية.

    لقد محوا نصفه الأول بممحاة التجريد ليصبح شعره وكأنه شعر محض بلا أثر من واقع فلا كومونة باريس هناك ولا يدا ماري ، ولا قصيدته الشهيرة عن عبدالقادر الجزائري. لا أدري كيف يستطيع مترجم أن يترجم ، على سبيل المثال ، قصيدته "ديمقراطية" في إشراقاته بدون إدراك العلاقة التي تربط أبياتها بموقف رامبو السياسي من الأحداث ؟ كم تبدو غبية ترجمة هذه القصيدة حتى في الترجمات الإنجليزية الحرفية البليدة . لم أقرأ قصيدة مترجمة بهذا السوء في العربية أو الإنجليزية كترجمة هذه القصيدة رغم الشروحات والإشارات التي تحدثت عنها كشروحات والاس فاولي في كتابه (رامبو).

    قد يحدث أن لا تترجم لشاعر تفضله وتترجم لشاعر ليس هو شاعرك المفضل ولا قصائده هي المفضلة بالضرورة، ولكنني كنت دائم الرجوع إلى رامبو كغيره من الشعراء الذين أحبهم لتأمل تجربته ، وقراءة أشعاره التي لم يتم تمثلها بشكل صحيح في نقدنا أو شعرنا العربيّ، ولا سيما إشراقاته أو منمنماته كما تفضل ترجمتها وكما يفضل ترجمتها صديقي الشاعر المغربي رشيد وحتي الذي ترجم "البركان العدنيّ" إلى الفرنسية معبّراً عن حبه الكبير لها.






    * و ماذا عن تشابه التجربتين؟

    ** نعم كان لتشابه التجربتين دخلٌ كبير في ذلك. كان رامبو يسكن، كما قلت، على مقربة من سكني في عدن . يرى ربما الأشياء ذاتها، ويعلن عن ضجره الشبيه بضجري ، ويعيش مشاعر متداخلة من المحبة والكره في آن واحد، تاركاً للمحبة من الظلّ ما يحجب جحيم شمس عدن التي يسميها (الصخرة البشعة) و (حمم الرمل)، مسكوناً بالمجازر التي خلفها وراءه.. مجازر الكومونة مثلما كنت مسكوناً بها حين قدمت إلى عدن .


    * لقد أهديتني من قبل نسخة من كتاب يحمل ترجمات الشاعر بدر شاكر السياب للعديد من الشعراء العالميين كانت من بينهم قصيدتان لرامبو. هل كان للسياب تأثير في هذا المنحى؟ هل كان له سهم في التعريف بتجربة رامبو و إثارة أسئلتها في الشعر العربي؟

    ** لا أعتقد أنّ كتاب السياب يخلو من هذا التأثير في التعريف بتجربة رامبو والشعراء الآخرين الذين احتواهم الكتاب لا سيما أن الكتاب لاقى انتشاراً واسعاً وقت صدوره وحتى الآن ، لكن ينبغي عدم المبالغة في هذا التأثير الذي أسهم فيه بشكل أوسع، كما أعتقد، كتّاب آخرون كالأديب السوري صدقي إسماعيل الذي كان لكتابه الصغير عن رامبو أثر بالغ رغم بساطته ونواقصه .


    * تصف إديث سيتويل رامبو بأنه "مدشن إيقاعات النثر الحديث". إلى أي حد أفدت من صنعة الكتابة التي تميزت بها بلاغة رامبو الحديثة؟

    ** لم يكن رامبو حاضراً في قصيدة "البركان العدنيّ" وحدها، وإنما كان حاضراً بشكل خفيّ أو غير مباشر في قصائد عديدة أخرى لا كمثال أستلهمه في هذا التعبير أو ذاك، في هذا الشكل أو ذاك، في هذه الاستعارة أو تلك، وإنما في روحه المبثوثة في شعره حيث يقترن الضوء بالظلّ، الصوت بالصمت، التجريد بالملموس وتختلط الأحاسيس لا بفوضى كما يتصور البعض بل بنظام مدهش يعبر عنه هذا البناء المحكم في القصيدة.

    كان رامبو حاضراً بصمته في قصيدتي "هجس".. صمت أحسسته يشيع في إشراقاته وقصائده الأخيرة في (فصل في الجحيم) كقصيدة "وداع" التي أشعر وكأن مكانها في إشراقات وليس في (فصل في الجحيم) .

    أنتَ مائدتي
    وابتهاج المريض بعافية الزائرين
    أنتَ وقع الخطى في النهار ..
    وأفراح عائلتي
    أنتَ صمتي أحاوره ..
    وانتظاريَ في الصمت
    والصرخات الخبيئة في رئتي
    أنتَ فوق طريقي رنين خطى العابرين



    إذا كان لي أن أختار أبياتاً أفضلها من شعري فإنني سأختار هذا البيت من بينها:

    أنتَ مائدتي
    وابتهاج المريض بعافية الزائرين

    في هذه القصيدة، التي لا تشبه قصائد رامبو أبداً في ظاهرها، هناك مسعىً للتخفيف من وطأة ثقل.. وطأة مادةٍ قد تعلق بالواقع والكلمات. ثمة صرخات خبيئة ولكن ثمة خلفية لهذه الصرخات هو الصمت. ثمة رنين، ولكن ثمة خلفية لهذا الرنين هناك هو الصمت. حتى الخطاب الموجه إلى ذلك المجهول إنما هو خطاب أقرب إلى الصمت.. خطاب شخص واحد.. خطاب صامت. كان رامبو حاضراً أيضاً في مجموعتي (النقر على أبواب الطفولة) بشكل خفيّ بعيد في قصائد هنا وهناك وفي قصيدة "قوارب"، دون أن يكون له أثر ما.. هذا العابر الهائل بنعالٍ من ريح..


    * إنني أكاد أن ألمس في قصيدة "البركان العدني"مسحة من الاحتفاء بشعر رامبو و في نفس الوقت هناك نوع من اللعب و المناورة مع عبارات وردت في قصائد "فصل في الجحيم" و"منمنمات" (Illuminations)، و كأنك تحاول أن تتمثل عناصر الحداثة دون السقوط في شرك التقليد الساذج للشاعر الفرنسي. هلا كشفت للقارئ بعضا من أسرار الصنعة الخفية في هذه القصيدة بالذات؟

    ** لقد حذّرتني في سؤال سابق من الوقوع في شراك التفسير وكشف الأسرار وها أنت الآن تدعوني إلى كشف بعضٍ منها.


    * أرجو أن تشفع لي شغف القارئ و شغب فضوله...

    ** حقّاً ثمة عبارات لرامبو وردت في قصيدتي البركان العدنيّ مثل "الصبر المتوهج" في قصيدة "وداع" و "غناء الملائكة المتصاعد من السفينة في "دم فاسد" و "عش النار" في "ليل الجحيم" وغيرها من التعابير الأخرى وأغلبها في (فصل في الجحيم)، فالتعبير الأول يرد في قصيدتي: منطفئ صبرك المتوهج، والثاني يرد في هذه الأبيات: أي جحيم رأيت؟/ المراكب تهوي إلى القاع/ تفتح بركانك العدنيّ /وتصعد محترقاً في الغناء.

    ولكن القصيدة أرحب من هذه التعابير وغيرها في تمثلها لروح رامبو في نصوصه عامة. وبعض هذه التعابير فاجأتني في ما بعد لورودها في قصيدتي، إذ لم أفطن لورودها أصلاً في قصائد رامبو.


    * إلى جانب الاقتراض من تجارب الشعر المختلفة، هل بمقدور الشعر أن يكتفي بذاته و تراثه دون أن ينفتح على عناصر جديدة من أشكال التعبير المستجدة و المحدثة؟

    ** لا أعتقد أنّ الشعر يكتفي بذاته يوماً ما فهو في حركة مستمرة بين ذاته وخارجها حتى يمكن القول أن الخارج نفسه لم يعد خارجاً وقد تمثله الشعر ليصبح جزءاً من نسيجه الحيّ. هل يمكن، مثلاً، أن أفصل الشعر في العصر العباسي عن التيارات الفكرية والفلسفية آنذاك؟ هل يمكن أن أفصل شعر إليوت عن تجارب الآخرين كتجربة جيمس جويس في الشكل والتيارات الفكرية في عصره كفلسفة برادلي مثلاً. وهذا ينطبق على شعراء آخرين. اكتفاء الشعر بذاته يعني موته وعزلته عن أشكال الحياة الأخرى . لا يغتني الشعر بفراغه بل بامتلائه بالآخر وهذا ما لا يدركه الذين يحملون ازدراء ومقتاً للفظة الآخر، حضارةً وأساليب وآخرين. الوجه الآخر لهؤلاء المنغلقين ضيقي الأفق أولئك الذين لا يرون الأشياء إلاّ في تجريدها، والحداثة إلاّ في أنماط أشكالها، وما امتدادهم إلى مناطق العزلة الأخرى في الثقافات الأخرى، في حقيقته، إلاّ عزلة معكوسة لا ترى غنى الواقع في تنوعه الذي يمتدّ ابتداءً من الأساليب العصرية المعقدة وانتهاءً بالأساليب الشعبية المو######## التي تحفل بها الثقافة المحلية والثقافات الأخرى.


    * في "وردة البيكاجي" استثمار لتقنيات المسرح من "مشاهد" و "حوار" و "مونولوغ" (وهي عناوين لقصائد معينة في الديوان) إلى حد أن أحد النقاد اعتبر أن "قصيدة عبد الكريم تنبع لديه من حس مسرحي متمكن من أدواته". ما مدى حضور هذه القصدية في بناء القصيدة لديك؟ أليس هذا النزع من التفاعل بين أشكال التعبير المختلفة هو جزء من تحديث الشعر؟

    ** ليس ثمة قصدية وإنما للواقع في القصيدة أشكاله العديدة المفتوحة على كلّ الأجناس الأدبية بلا استثناء. يسرّني أن يعتبر أحد النقاد أن قصيدتي " تنبع من حسّ مسرحيّ متمكن من أدواته "، أتمنى ذلك أن يكون حقيقيّاً. هل هذا التشخيص هو الذي يفسر نجاح مسرحيتي الشعرية (حكاية جنديّ)؟، وتفضيل مخرجها البريطاني، أندرو ستاغل (Andrew Steggal) النص العربي على النص الإنجليزي المترجم عن الفرنسية و المكتوب شعراً أيضاً بطريقة الدوبيت كما عبّر لي عن ذلك المخرج نفسه، رغم التقليد الراسخ في المسرح الشعري الإنجليزيّ وتجاربه العديدة التي لم تكن مسرّة دوماً.

    المشاهد والحوار والمونولوغ ليست تقنيات مسرح فقط وإنما هي واقع له أشكاله الغائرة أيضاً في الروح. لا أدري لماذا تقترن هذه الأشكال حين يرد ذكرها بالإيقاع، بما هو لصيق بروح الإنسان وروح الشاعر بالذات. ألا يتجلى إيقاعنا الداخلي في هذه الأشكال أكثر من غيرها: حين نحدث أنفسنا أو نحدث الآخر أو نحدثه ونحن نصغي لأنفسنا أو حين نتفرج ونحمل مشاهد الحياة معنا وقد لا تفارقنا هذه المشاهد أبداً وقد تغيّر إيقاع حياتنا بأكملها. المشاهد واقع القصيدة الصلب حتى وإن أحالت المخيلة والذاكرة هذا الواقع إلى زمن دائم الجريان.


    * تصدر قصيدة "طوطم" بإضاءة مقتبسة من مسرحية "هاملت" لوليام شكسبير يقول فيها: "إن خبز الجنازة قدم باردا على موائد العرس". ما قصة هذه القصيدة الملغزة التي لها وقع خاص في الديوان برمته و كأنها كتبت لزمن آخر؟ و ما المغزى من استحضار صوت هاملت المعروف بقلق أسئلته الوجودية؟

    ** ثمة ألغاز في شعري إذن . هل تعتقد أيها العزيز عبدالقادر أنني قادر على حل جميع ألغازي؟ لعلّ الشيء الواضح في هذه القصيدة التي تبدو غامضة هو وضوح مفارقاتها: طوطم تقايضه القبائل وهو ليس سوى حجرٍ، بوق ينفخ في القفر، خبز جنازةٍ يقدّم في العرس ولكن بحضرة ميتين، شمعة باردة توقد ودعوة غامضة إلى ماذا؟ أ إلى مصافحة القاتل أم إدانته؟.. مفارقات واقع أملتها مخيلة، وحيرة كحيرة هاملت في اختلاط عجيب نشهده الآن على مسرح واقعنا العراقيّ بأقصى تجليات المخيلة. نعم كأنها كتبت لزمن آخر هو الزمن الذي نشهده الآن.. زمننا الحاضر.


    * تؤطر ديوان "وردة البيكاجي" قصيدتان. الأولى بعنوان "ذلك البيت" و قصيدة "خاتمة" فيها نداء للوطن: أيها الوطن الغريب.. افتح/لقد أزهر قبري كالبيت/ فطليته بالحناء". تغريني هاته المقدمة و الخاتمة بمناوشة موضوعة البيت/الطريق، المنفى/الوطن التي سنفرد لها حيزا كافيا في مقام آخر. ماذا تعني لك، و لو باقتضاب، هاته الكلمات بعد هذه الرحلة الطويلة المتعرجة؟

    ** قد يكون البيت قبراً والطريق نزهة ولكنها لن تكون سوى (نزهة آلام)، مثلما لن يكون المنفى حتى وإن كان هبة وطناً على الإطلاق حتى لو كان الوطن الأصلي منفىً حقيقيّاً، وبين هذين الواقعين ثمة أوهام وعذابات ومراجعات شتى لن تستقر يوماً حتى لو بدت علامات رضىً تلوح هنا وهناك.


    *يبدو أن رحلة الألف ميل ابتدأت بخطوة واحدة إلى عدن. هل تنظر خلفك بغضب أم بطمأنينة ورضا.

    ** الغضب والطمأنينة ليسا بمنفصلين ويا للأسف في تجربتي. كيف يرضى من يعيش منفيّاً ويترك خلفه أحباء وقبوراً لكن الحياة ليست غضباً صرفاً و إلاّ استحالت إلى ضجيج وصراخٍ مملّ لمعتوه، مثلما الحياة ليست رضىً في عالم يفجؤك في كلّ يوم بما يجعلك فاقداً لهذا الرضى
                  

09-12-2007, 04:06 PM

محمد جميل أحمد
<aمحمد جميل أحمد
تاريخ التسجيل: 03-21-2007
مجموع المشاركات: 1022

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الفصل الثاني ... الطريق إلى عدن (Re: محمد جميل أحمد)

    *
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de