|
التوجـه الحضـاري. . !!
|
مركز عبد الرحيم ميرغني الثقافي بأم درمان ما انفك يثري مكتبة الكتاب السوداني بما ينشر لكتاب سودانيين لولا المركز لحال ضيق ذات اليد بين النشر وإنتاجهم فبقي مغيبا وربما انتهى إلى الإهمال والضياع . مساهمة المركز لم تقف عند نشر الكتاب للمؤلف السوداني ، وإنما إمتدت إلى جميع ما يتصل بالسودان في المصادر الأجنبية وترجمته إلى العربية ـ إن دعى الحال ـ على ما في ذلك من جهد وارتفاع تكلفة . ثم امتدت المساهمة مرة أخرى إلى إنشاء ما يشبه دار وثائق أهلية أنشأ إلى جانبها مكتبة للباحثين والكتاب المعنيين بأمر السودان ، وتطورت إسهامات الترجمة فيه إلى كنوز الفكر والجماعة وإن لم يكن السودان موضوعها . ومما ترجم أخيرا محاضرة عن حكم القانون قدمها اللورد بنجهام أف كورن هيل ـ أحد اساطين القانون الإنجليزي ـ أمام جمهور من جامعة كمبردج البريطانية العريقة . وكان موضوع المحاضرة : حكم القانون .
حكم القانون مفهوم في فقه القانون كان دايسي ـ فقيه القانون الدستوري ـ أول من عالجه في ما كتب في القرن التاسع عشر حول القانون الدستوري يوم بدأ التحول في أوربا من الملكيات المطلقة إلى الملكيات الدستورية . كتب دايسي " في دولة الدستور القانون هو الملك ، وليس الملك هو القانون " ولأن القانون هو الملك فإن من عداه وما عداه سواسية أمامه ، يتساوى في ذلك السلطان مع الآخرين ، لا يفضل أحدهم الآخر بشيئ . وحتى تكون الحجة على من عناه القانون فلا بد أن يكون القانون في المتناول ، وأن يكون في علم الناس سواء أكان هذا العلم متحققا فعلا أو حكما ، فعلا إن هم قد اطلعوا عليه ، وحكما إن كان من المفروض أن يكونوا قد اطلعوا عليه إذ هو منشور ( في الجريدة الرسمية ) .
فكرة حكم القانون لا تقتصر على نشره وعلى وضوح ما يفرضه وعلى سواسية الناس أمامه . ولكن هنالك ركيزة أخرى أساسية في فهم هذه الفكرة . هذه الأساسية تقتضي أن يؤسس الفصل في الحقوق والواجبات على القانون لا على التقدير discretion ، لأن التقدير قل أو كثر ، ضاق أو اتسع ، يقوم على موازين غير موضوعية subjective . وهي لذلك ستختلف باختلاف الأشخاص وباختلاف التوجهات والزمان وربما ـ المزاج ، مما يفتح الباب ويوسعه للهوى والإعتباط وهما نقيض حكم القانون .
في قصة في بعض محاكم السودان كانت ثلاث فتيات يلبسن البنطلون الواسع وبلوزات قال العارفون إن تفصيلتها تعرف بإسم فصل الدين عن الدولة ، وكن يسافرن في سيارة أمجاد للأجرة ، وتشاء الأقدار أن يخطئ السائق خطئا رمى به في قبضة الشرطة ، ولكن الشرطة رأت ألا تحاسبه وتكتفي بالصيد الذي ساقته الأقدار إليها وإلى قاضيها الذي أسرف في وعظ مطول ثم حكم عليهن بالغرامة والجلد أربعين جلدة هي عند العالمين حد مقرر لجريمة السكر ، لأنهن خالفن . . ماذا خـالفن ؟ لم يعرف الناس ولم يثبت الحكم ولكن ظريفا قال لأنهن أعلن فصل الدين عن الدولة . ثم عمد إلى تنفيذ حكمه رأسا حتى يقفل الباب على الإستئناف ويجعل منه خطوة عبثية لو حاول الناس عن طريقه تصحيح ما قد يكون الحكم قد وقع فيه من خطأ . ولم تنج المسكينات صيحات الألم ولذع الوجع من عنف الجلد وسادية منفذه والحاكم به ـ وقد جلس يشهد ويستمتع . في غياب نص يحدد للناس ما هو مفروض عليهم ، وترك ذلك لتقدير السلطة: تنفيذية أو قضائية ، ينفتح الباب للظلم والإستبداد وللسادية وكثر هم المصابون بهذه الأوباء ، وكل ذلك يجد متسعا ومرتعا في مجتمع السودان المتعدد الأعراق والثقافات والتوجهات العقائدية و الفكرية والإجتماعية .
في المجتمع المسلم قال أهل الفقه إن الأصل في التصرفات هو الإباحة ، وحين ينتقص من تلك الإباحة فلا بد من إعلان ذلك ، والله يقول " وماكنا معذبين حتى نبعث رسولا " ، وحين أُستوجب العذاب ويكون ذلك بعد إرسال الرســــل ، " وليشهد عذابهما طائفة من المسلمين " ـ أي لا يتم العذاب في مكتب مغلق وليس من شهود إلا من حكم وآخر قام بالتنفيذ ، ولولا أن الصراخ وصيحات الإستعطاف قد جذبت بعض الفضوليين لمحاولة إستطلاع ما يحدث من خلف النوافذ التي أسدلت ستورها لما كان للطائفة من المسلمين مجرد أن تسمع وهي قطعا لم تشهد .
وحتى حين شرع العذاب قال أهل الرأي إنه عذاب لا ينبغي أن يؤذي فحددوا أداته وكيفية أدائه إذ المقصود من العذاب " شيلة الحس " . فإن كانت القاعدة حتى في العذاب المفروض هي عدم الإيذاء ، فإن عدم الإيذاء يكون أوجب حين يتصل العذاب بمخالفة غير مفروضة ، ويكون أكثر وجوبا حين يتصل الأمر بالقوارير، فقد أوصى الرسول ( صلعم ) بهن .
ومهما يكن ، وفي غير ما أمر به الله صراحة ، والله لا مبدل لكلـماته ، أين " التوجه الحضاري " في جلد القوارير وغير القوارير ؟
إن ما جرى لأولئك الشابات يقتضي المحاسبة كما يقــتضي مراجعة هذا " التوجه الحضاري " برمته . . أين يسير بالناس .
صالح فرح ، أبوظبي .5/9/2007 سودانايل 19/9/2007
|
|
|
|
|
|