|
محمد الفيتوري " في زمن الغربة و الارتحال".. بلا هوية بلا موارد بلا شعر
|
تقع ضاحية " سيدي العابد " جنوب الرباط. يسكن في هذه الضاحية أناس من الطبقة المتوسطة. يبدو أنهم يفضلونها لهدوئها وموقعها على شاطئ المحيط الأطلسي. من تروقهم رائحة البحر وصخب أمواجه يأتون عادة الى هذه المنطقة. علاقة محمد الفيتوري مع البحر قديمة إذ منذ أن أمضى طفولته في الإسكندرية ، دخل البحر قاموسه الشخصي. أختار أن يقيم الشاعر محمد الفيتوري هنا منذ سنوات. يسكن فيلا أطلق عليها إسم أبنته " أشرقت". يعيش بعد أن أقعده المرض في "سيدي العابد " يجتر أحزاناً، يتعايش مع الآلام بذاكرة وهنت كثيراً، وجسد هده المرض .*** تلقيت يوم السبت 28 ابريل رسالة عاجلة من الصديق مصطفى البطل في صيغة استفسار حول صحة ما تردد في السودان حول "وفاة الفيتوري ". لم يكن لدي رد على هذا الخبر المزعج، لذلك طلبت من مصطفى مهلة حتى استقصي الأمر. بعدها رحت استعيد شريطاً طويلاً من الوقائع مع الفيتوري. وبدا لي أنه ليس هناك ما هو أسوأ لشخص أن يجد نفسه يتساءل بكثير من القلق والألم والحزن عن مصير صديق . *** عندما عدت الى المغرب من اميركا قبل ثلاث سنوات، سألت كثيراً عن الفيتوري ، إذ الرجل صديق عزيز جمعتنا علاقة متينة عمرها عقود. المعلومات التي حصلت عليها، تفيد بانه مريض ويوجد في ليبيا. لم يكن سهلاً وقتها الحصول على المزيد من "جماهيرية العقيد " لذلك كنت أنتظر زيارة ليبيا، وهي في دائرة مسؤولياتي الصحافية،لأبحث عن الرجل. لكن رسالة البطل، جعلتني أسائل نفسي معاتباً: حقاً لماذا لم أسأل عن الفيتوري خاصة أن "ليبيا الثوار" إنزلقت الى حالة هي اقرب ما تكون الى الفوضى؟ ترى ماذا حدث له ؟ خاصة ان "سادة ليبيا" الجدد سيعتبرونه محسوباً على النظام السابق، وربما تعرض الى سوء معاملة كما حدث لآخرين. رحت أجري اتصالات بلا إنقطاع مع بعض من تعرفت عليهم من رجال "العهد الجديد " في ليبيا إلى ان عثرت على خيط. هذا الخيط هو رقم هاتف زوجته المغربية "رجات أرماز". وبيننا معرفة شخصية منذ زواجهما قبل سنوات طويلة. أجريت إتصالاً. ثم كانت هناك مفاجأة. بدت زوجته سعيدة فرحة بالتواصل. قالت لي إن الفيتوري موجود في الرباط منذ عام 2005، وانه لم يغادر داره منذ ذلك الوقت. كانت مستاءة جداً من نشر الأخبار الكاذبة. وعلى الرغم من أنه مريض طريح الفراش، لكنني ألححت في الحديث معه، جاءني صوته ضعيفاً متعباً منهكاً، وضحكنا على خبر وفاته وقال جملة واحدة "الشعراء لا يموتون ". قلت له أنا قادم الآن. أبلغتني زوجته أنه متعب وتناول الدواء للتو، وربما لن يكون مستيقظاً ، لذا من الأفضل تأجيل الزيارة حتى اليوم التالي. اتفقنا أن ازوره في وقت ملائم، وأن يكون ذلك في السابعة مساء. المسافة من الرباط الى " سيدي العابد " تستغرق قرابة نصف ساعة بالسيارة، وبما أنني لا أعرف الدار على وجه الدقة، تفضلت زوجته وجاءت الى محطة وقود لا تبعد كثيراً عن منزلهما، ورافقتني الى حيث الدار. وجدت الفيتوري استيقظ للتو. كانت زوجته قد أبلغتني إنه فقد الكثير من ذاكرته. لذلك توقعت ألا يعرفني. كان يتحرك بصعوبة من غرفة نومه الى الصالون، تساعده شقيقة زوجته في المشي. أصيب بشلل في الجزء الأيمن، لذلك لم يعد يستطيع أن يحرك يده، كما انه لم يكن قادراً على المشي بسبب شلل جزئي للرجل اليمني. جلس على الكرسي وهو متعب ، بدا واضحاً أنه يغالب آلامه. سلمت عليه. حاولت قدر المستطاع إخفاء حزني. سألته زوجته: هل عرفته؟ أجاب بصوت متقطع : " يا امبراطور متى جئت من أميركا". دأب الفيتوري أن يطلق كلمة " امبراطور" على القريبين. أدركت وقتها أنني لم أختف من ذاكرته. لا أكتمكم القول، فارقتني حالة الحزن وشعرت بشيء من السعادة. طلبت منه ألا يتكلم، بل يسمع فقط حتى لا يجهد نفسه. أبلغتني زوجته بعض التفاصيل. في مايو 2005 تعرض الى جلطة، أفقدته النطق. عندما نقل الى الطبيب ، كان رأيه أن زيادة كولسترول في دمه هي التي تسببت في الجلطة. ثم نقل الى باريس لمواصلة العلاج، وكان أن اصيب بجلطتين. بذل الأطباء جهداً كبيراً. كان من رأيهم أنه تأخر في العلاج. كان من نتائج جهدهم استرجاع قدرته على الكلام ، ليس كلياً ولكن جزئياً ، لكن لم يكن ممكناً معالجة شلل يده اليمني، والجزء الأيمن من جسده. كانت علاقاته مع نظام القذافي قد تباعدت قبل ذلك بسنوات، باستثناء بعض الأشخاص. ومنذ عام 2005 عاد الى منزله في "سيدي العابد" لا يخرج منه إلا عند الذهاب الى الطبيبة التي تتولى علاجه. ومما زاد في حالته سوءً ألا أحد من أصدقائه أو معارفه كان يسأل عنه. وبما ان زوجته لا تعرف احداً في السودان ، كان طبيعياً ألا يعرف أحد تفاصيل هذه السنوات. بعد سقوط النظام في ليبيا، قررت الحكومة الجديدة سحب جواز سفره الديبلوماسي ورفضوا منحه جوازاً عادياً. وكانوا قبل ذلك قد أوقفوا راتبه. كانت بطاقة إقامته في المغرب قد انتهت، لكن السلطات المغربية ومع وضعه الصحي المتردي تغاضت عن الأمر. بعد أن نشر خبر وفاته، أبلغتني زوجته أن السفير السوداني في الرباط زارهم ووعد بحل مشكلة جواز سفره. قبل ذلك لم يتصل به احد قط من السلطات السودانية. وما قيل عن زيارة وفد أو عضو من ما يسمى "اتحاد الأدباء السودانيين" كان مجرد هراء وإدعاءات. محمد الفيتوري الذي صنع جزء من وجدان الشعب السوداني، يوجد حالياً نصف مشلول في دارته، بلا هوية ولا مورد ولا مداخيل. فقط زوجة "تقاتل" معه. و"تقاتل" في جبهة أخرى لتواصل ابنتهما " أشرقت" (15 سنة) دراستها. في حوار كنت أجريته معه ونشر في يوليو عام 1985 في مجلة " المجلة" قال الفيتوري "أنا قلق، وربما أظل كذلك، وأعتقد ان نبؤة لوالدي أثرت في كثيراً، مرة قال لي والدي" أنك ستقضي حياتك غريباً عن وطنك". في موقع آخر من ذلك الحوار يقول " أجد نفسي مثل عصفور غريب يتنقل من غصن الى غصن، من مسافة الى مسافة، ولا يعرف أين هو بالضبط. عصفور يبقى فوق أحد الأغصان لساعات، لأيام ، لشهور ثم يطير". وفي ذلك الحوار كنت طرحت عليه مسألة "جنسيته"، وجاء رده كالتالي" لم أتخل عن هويتي لكنني أجبرت على التخلي عنها، عندما طاردني نميري في اركان العالم العربي من زاوية الى أخرى،طاردني بشكل قاس ومدمر. كنت أعيش في بيروت وأوفد رسولاً من عنده الى الرئيس اللبناني آنذاك سليمان فرنجية، وطلب طردي من لبنان، وبالفعل أخذوني من مكتبي الى المطار. وعرفت لاحقاً أنه اراد اسقاط جنسيتي ولم يكن ذلك ممكناً لانني ولدت في السودان ، وانا سوداني بالميلاد، وليس في امكان أحد اسقاط جنسيتي. ثم جاءت فترة اردت فيها تجديد جوازي فاحتجزته احدى السفارات السودانية وسحب مني. كنت اريد ان اتحرك لذلك استرجعت جنسية أبي ، وهو ليبي الأصل، هذه كل الحكاية".
***
بسبب الشلل الذي اصاب يده اليمني لا يستطيع الفيتوري الكتابة ، وبسبب مشاكل في النظر ومع تأثير الجلطة، لا يستطيع كذلك القراءة. لكن زوجته تقرأ له ما يرغب في قراءته. وهو يحب أن تقرأ له أشعاراً، وعندما تقرأ له بعض اشعاره يقول " معقول ..هل كتبت انا ذلك". في جلستنا التي استغرقت قرابة ثلاث ساعات، حرص ان يسمع مني بعض تفاصيل حول السنوات التي لم نلتق خلالها. قلت له " امنيتي هي التي سمعتها مني منذ سنوات طويلة، كنت وما زلت أتمنى أن اعود الى السودان، لكن في كل مرة أذهب الى الخرطوم أجد أن الأوضاع تزداد سوءً، ثم أن مثلي لن يجد قطعاً هناك عملاً يستر به حاله". طلب من زوجته ان تقدم لي نسخة من آخر ديوان له " وهو بعنوان" عُرياناً ..يرقص في الشمس". نقرأ في القصيدة الاولى التي اختار لها عنوان "تحديق في صورة قديمة" :
ابتسم للحضور ابتسم للغياب ابتسم للبكاء ابتسم للعذاب ابتسم للجنون ابتسم للخراب ابتسم للغزاة وهم يُقبلون للعبيد الطّغاة وهم يزحفون للطّغاة العبيد وهم يبطشون
طلب مني بالحاح أن ابقى، لكنني أيقنت أنه كان يغالب إرهاقه وتعبه ومرضه، لذلك استأذنته في الإنصراف. كان الليل قد سقط مثل كرة بلاستيكية على ضاحية " سيدي العابد" . كانت هناك رائحة البحر، وصوت الأمواج تتكسر على الشاطيء، والشوارع خالية. تذكرت أبيات الفيتوري: في زمن الغربة والإرتحال تأخذني منك وتعدو الظلال وانت عشقي حيث لا عشق يا سودان إلا النسور الجبال يا شرفة التاريخ يا راية منسوجة من شموخ النساء وكبرياء الرجال
طلحة جبريل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لم نذهب إلى بيته والاطمئنان عليه لأنه «شايقي» يا تراجي ذهبنا لانه منا وشكل وجداننا ولا يهمنا حتى أن نعرف قبيلته فليرزقه الله الصحة وطولة العمر بقدر الجمال الذي منحنا
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: محمد الفيتوري " في زمن الغربة و الارتحال".. بلا هوية بلا (Re: احلام وهبي)
|
Quote: استاذنا الكبير من اليوم كلنا نطلق عليك الامبراطور فعلا الامبراطور عارف صاحبك محمد السني دفع الله دخل في حزن حينما سمع خبر الوفاة الكاذب وقال ده ما بقى عام الحزن والفجيعة لكن اثبت الان انك امبراطور بهذا اللقاء الرائع الموثق لشاعر نعتز به ونفتخر تسلم لنا يا امراطور ولك التحيات الندية وتقبل تحيات محمد سني |
يا بتنا كيفنك ياخي طبعا الامبراطور طلحة أخوي ونحن في جاه الملوك نلوك
تحياتي لحبيبنا محمد السني
| |
|
|
|
|
|
|
Re: محمد الفيتوري " في زمن الغربة و الارتحال".. بلا هوية بلا (Re: طارق جبريل)
|
شكراً أيها الفاضل : طارق جبريل
انشق القمرَ ... وجاءت الأخبار بقدر ما تشتهي السُفن : إن الشعراء كما قال السامق "محمد مفتاح " ( لا يموتون ) فقط يموت الذين لا يبدعون ، والأشقياء الذي يرحلون من بعد زمانٍ طويل !!
لن نعرف كيف نوفِ المبدعين حقهم من العرفان والتكريم . خسرناهم بالتتابُع . يقولون في الأمثال التي لا تُحسن الصنيع :( إن شاء الله لايجي يوم شُكرك ) ، ويعنون به الممات هو يوم الشُكر !!! من الذي كتب بنبض الشعب ثورته الأولى في أكتوبر : أصبح الصبحُ ولا السجنُ ولا السجان باقٍ وهاهو الصبح في أفق الآمال ، لم يصبح بعد ، وإن السجّان باقٍ ، يستريح على أعناق الأبطال . تحية لسيدنا في تخوم " المغرب " ، أرضٌ رحبة بالغرباء ، وطقسها أقل رحابة من طقس الجفاء عندما .
*
| |
|
|
|
|
|
|
Re: محمد الفيتوري " في زمن الغربة و الارتحال".. بلا هوية بلا (Re: عبدالله الشقليني)
|
Quote: شكراً أيها الفاضل : طارق جبريل
انشق القمرَ ... وجاءت الأخبار بقدر ما تشتهي السُفن : إن الشعراء كما قال السامق "محمد مفتاح " ( لا يموتون ) فقط يموت الذين لا يبدعون ، والأشقياء الذي يرحلون من بعد زمانٍ طويل !!
لن نعرف كيف نوفِ المبدعين حقهم من العرفان والتكريم . خسرناهم بالتتابُع . يقولون في الأمثال التي لا تُحسن الصنيع :( إن شاء الله لايجي يوم شُكرك ) ، ويعنون به الممات هو يوم الشُكر !!! من الذي كتب بنبض الشعب ثورته الأولى في أكتوبر : أصبح الصبحُ ولا السجنُ ولا السجان باقٍ وهاهو الصبح في أفق الآمال ، لم يصبح بعد ، وإن السجّان باقٍ ، يستريح على أعناق الأبطال . تحية لسيدنا في تخوم " المغرب " ، أرضٌ رحبة بالغرباء ، وطقسها أقل رحابة من طقس الجفاء عندما .
|
الله الله عليك يا الشلقيني تسلم ياخ
| |
|
|
|
|
|
|
Re: محمد الفيتوري " في زمن الغربة و الارتحال".. بلا هوية بلا (Re: طارق جبريل)
|
حفظهما الله .. اتمنى ان بصحو ضمير ادباء وسياسيين السودان بدون فرز .. ياخ والله منتهى الكسوف ان يعامل رمز كالفيتوري بهذا المستوى .. طبعا هي حاجة ما غريبة على بلادنا فكم وكم من المشاعل عانت من الاهمال والتجاهل بل واغتيال الشخصية محجوب شريف ومن قبله وردي زيدان والقائمة تطول انا لله وانا اليه راجعون لك جزيل الشكر اخونا طارق وعبرك التحية لاخيك الانسان طلحة.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: محمد الفيتوري " في زمن الغربة و الارتحال".. بلا هوية بلا (Re: محمد الكامل عبد الحليم)
|
Quote: طارق.....وصديقي القديم طلحة...
ياها المحرية فيكم...
تصور كيف يكون الحال لو ما كنت سوداني واهل الحارة ما اهلي ...تصور...
الشاعر لا هوية ولا جنسية له....له الوجع المتصل عندما يمسح الدخان صدر لوحة وينزع عنها تفاحتها المثمرة....في ليل الاخيلة التي لا نجوم فيها...وفي عام رمادة العالم حين يموت طفل بالكلازار...
|
يا حبيب ليتنا نقدم له أكثر من ذلك هذا انسان فريد على طريقته
| |
|
|
|
|
|
|
Re: محمد الفيتوري " في زمن الغربة و الارتحال".. بلا هوية بلا (Re: نيازي مصطفى)
|
Quote: حفظهما الله .. اتمنى ان بصحو ضمير ادباء وسياسيين السودان بدون فرز .. ياخ والله منتهى الكسوف ان يعامل رمز كالفيتوري بهذا المستوى .. طبعا هي حاجة ما غريبة على بلادنا فكم وكم من المشاعل عانت من الاهمال والتجاهل بل واغتيال الشخصية محجوب شريف ومن قبله وردي زيدان والقائمة تطول انا لله وانا اليه راجعون لك جزيل الشكر اخونا طارق وعبرك التحية لاخيك الانسان طلحة.
|
يا نيازي نحن شعب مقهور كل من حكمونا لم يعرفوا قيمتنا كشعب هذا شاعر فذ كيف يترك هكذا لعنة الله عليهم الى يوم الدين
| |
|
|
|
|
|
|
Re: محمد الفيتوري " في زمن الغربة و الارتحال".. بلا هوية بلا (Re: عادل نجيلة)
|
ود نجيلة يا حبيب كيفنك ياخي
الحبيب احمد الامين دة رد طلحة ليك:
Quote: يا طارق صحيح ان الفيتوري ولد في الاسكندرية من ام سودانية واب ايضاً كان يحمل الجنسية السودانية، لان جد الفيتوري لأبيه هو الليبي جاء الى السودان واستقر فيه وصحيح أيضاً أن الفيتوري استعاد جواز سفره السوداني بعد الانتفاضة وكان فخوراً به جداً لانه كتب في خانة المهنة " شاعر بالنسبة لكتاب حول الفيتوري ، بالفعل كان الفيتوري كان متحمساً لكتاب أكتبه عنه وكان سيكون بعنوان " مسار شاعر..اربع مدن في حياة محمد الفيتوري" والمدن هي الاسكندرية والخرطوم وبيروت والرباط لكن حدث ما حدث ، الآن لا يستطيع الفيتوري أن يقول إلا بضعة جمل وهو بالكاد يتذكر الناس سلام طلحة |
| |
|
|
|
|
|
|
|