|
هواء نضيف ( رقم تلاتة ) : طلال عفيفي
|
لم أسعد بأن تكون لي جدة .. ف"آمنة " توفيت باكرا تاركة وراءها صورة فوتوغرافية وحيدة تحكي القليل عن امرأة وسيمة الملامح طيبة العينين ,.... أما " فاطمة " فقد رحلت قبل إتمامي طفولتي , ململمة معها ما تبقى من رطانة نوبية وثياب سود ارتدتها طوال الوقت ورائحة البطاطس المحمرالذي كانت تصنعه لي حبا وكرامة, بموتها فقدت جدتي الوحيدة وفقدت العائلة آخر الناطقين باللغة النوبية , وأصبح البيت الكبير مرتعا للهجات عربية عدة ! رحمها الله . كان وجه " فاطمة " , من فرط صبرها وحزنها , صارما صرامة لم تحسسها طفولتنا الباكرة.. وأذكر الآن كثيرا أغانيها الراطنة وكأن دف مخفي يتجول في أنحاء المنزل . أطول امرأة مرت على بصري ( يرى بعض المحققين في تاريخنا العائلي أني ورثته عنها ),وسوادهاكان فاحما .... أخذت عنه تلك السمرة التي أتسكع بها الآن وسط العواصم . عماتي , زينب على وجه الخصوص , سددن الخانة , فأسبغن علي ذلك الحنان " الفاطمي " فكن يقبلنني طوال الوقت , لكن دون أغاني وأقراط مذهبة تتدلى من الأذن على شكل هلال ! كذا ما كان بحوزة طفولتي جد ...... جداي توفيا عن أعمار صغيرة ,تاركين أرملتين وعدد لا بأس به من الأيتام ! الا انه وفي " حلة خوجلي " , شرق النيل السوداني , كان بانتظاري رجل في نفس قامة الأجداد : "حسن شرف " عليه السلام . اشتبك مع عائلتي في نسب متشابك , عشنا في منزله أوائل عودة العائلة المقدسة من ألمانيا , العام: 1982 . أفتش له في ذاكرتي عن شيء غير جلبابه الأبيض , فلا أجد ! كان له سريره الليلي في الحوش على مقربة من شجرة الليمون . وغرفة يتناول فيها شاي الصباح بالخبز المستدير والحليب . ومصحف مخطوط ... وخط مفتوح : يصل بينه وبين السماء . قدس الله ضريحه .
الغريب في الأمر , أنني لا أذكر حزنا قويا أو بكاء أصابني لموت هؤلاء الأولياء : فاطمة وزينب وحسن , .... قد يكون في الأمر أنس الهي ورفقة ربانية, ولكني أذكر أن علاقتي بالموت علاقة رحيمة , ففي طفولة مبكرة شاهدت احتضار بنت عمي " سميرة " مدققا في السرطان وهو يغربل خلاياها ,ثم في سوانح أخرى ساهمت صبيا في غسل وتكفين عمي " كمال " و صديقي " أمجد" ...... لم أبك سوى مرات ثلاث , عمي " صلاح " , "سعد الروبي " و "علي المك " .. كان هناك" حسن خليفة" , لكن أصابني تجاه موته صدمة لم أتجاوزها حتى الآن,(ولذلك قصص أخرى ..) .
..................................
ما الذي جاء بسيرة الأموات في حين أني أحاول قصة حياتي ؟! ليس سوى أنها حياة تشبه هذه الهرطقة !
........................
ما لا أعرف مناسبته , لكني أود حكايته , أني تعلمت ركوب الدراجات باكرا , الأمر الذي أفضى في الأخير إلى علاقة حميمة مع التجوال . ( تجوال بين البلاد والمدن والأفكار وقلوب البنات ). اذو لم أعهد نفسي على استقرار , الأمر الذي جعل حياتي عجيبة وغير مبررة للآخرين (ولي في أحيان عدة !).. كنت أركب الدراجة والصبا في بواكره لا ألوي على شيء, سوى أني أذكر تماما كيف كانت الدراجة تسحبني عبر الهواء الطلق إلي عوالم مدهشةوجذلة في تلك القرية الألمانية التي تشبه أحلام الصغار بشكل ناجز , في ألمانيا رأيت بعيني حقول القمح الذهبية ممتدة على مدى البصر خلفها شمس على وشك الغروب. كثيرا ما تركت دراجتي على طرف الحقل راكضا فيه باحثا عن مسكن الشمس … لأعرف بعدها بأعوام أن عنوانها : الساعة الثانية ظهرا / جمهورية السودان الديمقراطية !
برغم من حب أطفال الألمان الجم للشوكلاطه , إلا أن شيء ما على جلدي كان يثير حفيظتهم , سمرةٌ ما , بعضهم كان ينتظر عودته الى المنزل ليسألون أمهاتهم عن اللون الذي يدهن المجاور به جسده , البعض الآخر كان يعاني من خشونة مبكرة , فكان يتعمد إهانتي والاحتكاك بي ( احتكاكاً خفيفاً) .. قد يكون هذا البعض الآن انضم للجماعات النازية في ألمانيا ذات الوقت الذي انضممت فيه للحزب الشيوعي السوداني , ربما !
على كل فقد كانت طفولتي على مشارف بحر الشمال هناك , أشبه بالحلم حين أستعيدها الآن تحت درجة حرارة تلامس الخمسين .
كنت أجلس ساعات طوال أرقب عمال البناء والبيوت تكتمل تحت أيديهم, ليسكنها جيران جدد ,وكأنهم سحره , أثناء ذلك أحببت البناء ,اللعب بالصلصال والمكعبات ,( ثم الجالوص في مرحلة أخرى ) .
حين أنظر لصوري, التي غالبا ما كان يلتقطها والدي( في عادة كف عنها فيما بعد) , أرى وجهاجميلا و عيون فيها من الكحل الكثير ,ذلك الكحل الذي ورثته عن أبي في حياته , وهو ما ساهم في مرور حياتي العاطفية دون عقبات تذكر . هذه العيون تعاني الآن من خلل طفيف في وظيفتها الأساسية, ألا وهي الإبصار, وهو ما أرجعه البعض لعين أصابت مستودع الكحل , أما أمي فتستغل الموضوع كسند قانوني ضد الخمر , إلا أني أرى أن المسألة تتعلق تعلقاً عاديا بالسن والنصيب .
على ذكر مسألة العيون , فأعشق في البنات , ضمن ما أعشق , تلك العيون الناطقة بلغات العالم السرية , تلك القادرة على خلق تماس مبدأي , عيون قد تلهيك عن جسد بأكمله .
.....................................
أبي سوداني , يعود أصله إلى أقوام حطت طيورهم قبل قرون على شباك الوطن. أمي نوبية مصرية ينحدر نسبها لصانع المراكب نوح ( والذي أصبح نبيا شهيرا فيما بعد )..
ولدت في هامبورج اثر لقاء بينهما في السبعينيات لم يتح لي معرفة تفاصيله . لذا أجدني حفيا تجاه العالم كله , بخطوط طوله وعرضه وأديانه وخزعبلاته وآمال أبنائه البشر بكل تعرجاتها التي تميل غالبا نحو الخير . ( أو هذا ما أظن ) .
باقي ال " سيره " (1+2 +3 )!!!
|
|
|
|
|
|