|
Re: الى جنات الخلد الاديب الروائى محمود محمد مدنى (Re: أحمد طه)
|
بنية موقع التحديث في رواية محمود محمد مدني : " الدم في نخاع الوردة ":- بنية موقع التحديث في رواية محمود محمد مدني : " الدم في نخاع الوردة "
مقدمة : هذه الرواية , عبرت عن زمنها .. زمن الأحلام الكبيرة , والمشاريع التي داعبت خيال حركات التحرر في العالم الثالث , وامتدت في الخمسينيات والستينيات , في هموم المستنيرين , حول إزاحة المفاهيم البالية , المتحكمة في البنى الاجتماعية . وإحلال الأخرى الجديدة محلها . بما هي قيم تغيير وتنمية لخير الإنسان .
هذه الرؤية الحداثوية , تجلت في "موسم الهجرة إلى الشمال - للطيب صالح" , كرواية تنتمي لذات زمن هذه الرواية , بما حملت من قول حداثوي , تمثل في عودة مصطفى سعيد , ومحاولاته توطين قيم الحداثة وتنمية الإنسان (تجربة الجمعية التعاونية , إدخال محاصيل جديدة , تطوير نظام الرى ,الخ ..) . ومثلما حاول مصطفى سعيد تحويل فراغه الوجداني , وهزيمته في الغرب إلى طاقة تغيير في تلك القرية , عند منحنى النيل . تحاول هنا الشخصية المركزية (الطيب أحمد حامد الماحي), تحويل مرارة هزيمتها الأسرية والعاطفية , إلى طاقة تغيير ..
ومثل كل المحاولات , في تجارب التغيير , في التاريخ الإنساني , تصطدم القوى الجديدة , بقيمها الجديدة بالقوى القديمة , ومن هنا ينهض القول ويتنامى الفعل الروائي , كاشفا عن متناقضات هذه القرية , بما يعيد إلى الأذهان , تصدى أهلي "ودحامد" في مجموعة الطيب صالح (دومة ود حامد) لرياح التغيير , بالتفافها حول الدومة , للحؤول دون قطعها لتنفيذ المشروع الحديث .
اذن رؤيا العالم في الحديث الروائي لـ "الدم في نخاع الوردة" , لا مناص من قراءته , بشروط الزمن الذي كتبت فيه هذه الرواية نفسها ؛ والهموم الفاعلة التي كان المستنيرون يتمسكون بها ويلتفون حولها . ومن هنا تأتي أهمية "الدم في نخاع الوردة" التي كتبت قبل أكثر من ربع قرن من الزمان . كنص روائي ينهض القول فيه من موقع التحديث والتغيير , في أكثر المواقع تخلفا "الريف" , بما تلقيه من ظلال التحولات المدينية .. ومقاومة حراس التخلف لقوى الحداثة والتنوير والتمدين , حفاظا على مصالحهم التي ارتبطت بالمفاهيم والقيم القديمة , التي تأخذ أعلى تجلياتها هنا في شخصية الشيخ "الضو" الدجال , والشيخ "فرحان" , كعناصر محتمية بتوظيفات الديني . وشخصية سعيدة بنت إبراهيم وزوجها حسان الممرض , كعناصر ردة , ينقض التغيير والتحديث مصالحها ..
وهكذا يتنامى الفعل الروائي , كاشفا عن متناقضات العلاقات , وتوازياتها وتقاطعاتها في وحول التغيير , في حالة من الشد والجذب والمفارقة . خلال الاسترجاع للماضي , والتداعي فيه , الماضي كمنبع تعمل فيه الهزيمة فعلها .. وكذلك الاستباق , كشفا عن لحظة ربما هي حاضرة , انتصرت فيها إرادة التغيير بقوة الفعل الإنساني , المضاد لدجل وشعوذة شيخ الضو . فالدرة الصبية الصغيرة , تصير الآن مديرة مدرسة فاعلة في التغيير الاجتماعي , منتصرة بذلك على مرارات البيئة المظلمة , التي انتجتها .. منتصرة على الماضي المرير لحياتها الأولى , وكذا , بما مثلته حياة الأسى والعذاب لأمها .. وإذ ينهض القول الروائي للدم في نخاع الوردة , من موقعين . موقع التحديث , والموقع النقيض . تختلف هكذا كتجربة عن كثير من الروايات , التي ينهض فيها الحديث الروائي مغلقا عن فضا الممكنات ..
موقع الراوي:
بدء ينهض القول الروائي في "الدم في نخاع الوردة" , من موقع الراوي . ومن جهة أخرى من موقع الشخصيات التي يختبئ خلفها الراوي , الذي يسرد الأحداث , التي تجري في القرية , مكان هذه الأحداث , استباقا "اللحظة التي يبدأ فيها النص" بشيخ فرحان محمولا إلى المستشفى , كتعبير عن هزيمة الموقع النقيض للتحديث . وينقلنا الراوي عبر الاسترجاع إلى مشهد آخر , يتحاور فيه الطيب أحمد حمد الماحي وأمل ابن المهندس خالد وزوجته فريدة , وهكذا يمضي الراوي تقديما وتأخيرا , وتداعيا في لحظة ماضية . إلى ماض أبعد . أو أقرب . حتى تنتهي الرواية , بانتصار مفاهيم وتصورات قوى التغيير والتقدم , بما يمثلها الطبيب والمهندس والمعلم "الجيل الجديد" والأهالي البسطاء , الذين اقتنعوا بهذه التصورات والمفاهيم , بمواجهة قوى الردة التى تحاول سحبهم للخلف . التى يمثلها الشيخ فرحان وسعيدة وحسان , إلخ .. لتصبح المستشفى هي المكان الذي يتقاطع عليه صراع الموقعين ..موقع التحديث والموقع النقيض له . فتتسامى المستشفى من محض توصيف لمكان معالجة الأمراض البيولوجية , الناتجة عن التلوث والجفاف والأمراض المنقرضة تاريخيا إلا هنا . . تتسامى أيضا إلى مؤسسة لمعالجة الفساد والتلوث الروحي والنفسي وأمراض الواقع ..
دلالات الهزيمة - اليأس - الموت :
الطبيب أحمد حامد الماحي , الذي يقود التغيير هو غريب عن القرية . يأتي إليها هاربا من ماضيه الذي يطارده (هزيمته العاطفية إزاء صافيناز) , التي يسميها اليأس , الذي يتحول إلى أمل , فتتحول الهزيمة إلى انتصار .. وحكاية المهندس لا تختلف كثيرا عن حكاية الطبيب , إذ يهرب مهزوما من نظام تفكير والده , التاجر الماضوي , الذي يقصي "صافية" بنت الجنايني , عن حياة ابنه , مقترحا زيجات مبنية على مصالحه الخاصة في السوق وسعيه لإدخال ابنه في عالم السوق , وتزويجه لثريا شقيقة خالد من ثري عجوز جاهل .. تتراكم كل هذه الهزائم , فيهرب خالد ويتزوج كيفما اتفق , من فريدة التي تنجب له , وليد فيموت . وبموته يموت جذر الهزيمة . والهروب , مفسحا لنمو الجنين الثاني : أمل . فيتخذ الموت هنا بعدا مفاهيميا , متجاوزا للإطار المادي للموت . فنور حفيدة الشيخ فرحان , ومعشوقة مصطفى موظف البريد , بتوكيل القرية . تموت مثلما ماتت ستنا أم الدرة . ليمثل موتها نقطة تحول في حياة ابنتها .. يمثل موت نور تحولا لصالح ميمونة ابنة الشيخ فرحان , ويمضي مفهوم الموت إلى التسامي ليأخذ بعدا معرفيا خاصا . ليس هو النقيض للحياة , بقدر ما هو اندثار للماضي , وموت للبالي : مفاهيم الردة , لصالح ميلاد ونمو الأمل , ومفاهيم التقدم . فموت علي الأطرش الغامض . علي الاطرش بنزوعه المديني .. موته يفتح التأويل على احتمالات عديدة ترتبط بخرق النظام الاجتماعي , وترتبط بنظام خاص ابتدعه الشيخ فرحان .. هكذا ينفتح التأويل على احتمال غسيل العار , لكنه ينطوي أيضا على الغدر والخيانة والسرقة . مثلما ينطوي على العتق والتحرر لميمونة , بانهيارات البنى المتخلفة , تحت ضربات معاول قوى التغيير والتحديث , باستسلام آخر معاقلها , ممثلة في الشيخ فرحان ذاته . لمبضع الجراح , كما في المشهد الأول من الرواية ...
رمزية الغريب :
ارتبط التحديث والتغيير في هذه الرواية بالغريب المديني , الوافد إلى القرية . وفكرة الغريب شهيرة في الرواية السودانية والعربية عموما . فهي فكرة المنقذ المنتظر , الذي "يملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا" .. "دخل القرية رجلا غريبا , لا يحمل من متاع الدنيا إلا صفارة بوص طويلة , ومخلاة بها قليل من الزاد . حيا الغريب الرجال والنساء , وسأل عن الحزن الذي يملأ العيون حتى تفيض بالحسرة (..) شرب طويلا , ثم بدأ ينفخ صفارته الطويلة (..) ظهرت آلاف الفئران الضخمة (..) كان المنظر كأنه جزء من حلم عائم فوق مياه الترعة , التي لا تتوقف مطلقا عن الجريان (..) كان يمضي بتلك السحابة السوداء من المخلوقات , نحو الشمس . ومضى غريبا دون أن يلقي تحية الوداع - ص : 34 من الرواية" .. وفكرة الغريب والمنقذ , فكرة ثاوية في أعماق التراث الإنساني , لارتباطها بالعقائد القديمة , وتبرز في فترات الانحطاط , لتمثل محور تماسك للمظلومين والمقهورين والمحرومين , فتعزيهم . هذه الفكرة , هنا تتسامي إلى ما أشرنا إليه ولا تأتي في سياق مقاومة الفئران بالمبيدات , كمنجز تحديثي للسيطرة على مخاطر اختلالات البيئة , وهو ما عنيناه بهموم مشروع التحديث , في إزاحة المفاهيم السالبة وإحلال الأخرى الموجبة البديلة المرتبطة بتقدم الإنسان محلها ...
تداخل الأزمنة :
ضمن هموم مشروع التحديث للعقل العربي , إنهاء حالة تداخل الأزمنة الثقافية في نظم تفكير هذا العقل , هذا من وجهة النظر المعرفية .هنا على مستوى القول الروائي , يتجلى التداخل , لا كتقنية رواية , بقدر ما هو تعبير عن حالة تداخل ارتبطت بالهزائم التى تم التعبير عنها في شخصيات الشخوص.. ويأخذ تداخل الأزمنة أقصى تعبير له في اللحظة التي يجلس فيها المهندس خالد قرب زوجته فريدة , التى كانت تتصفح مجموعة من كراسات تلميذاتها (باسطة أمامها مجموعة من كراسات التلميذات للمراجعة والتصحيح ص: 61) ففي هذه اللحظة تنساب وتتداخل ذكرياته , منذ لحظات الإحساس باليتم والحرمان مرورا بالهزيمة وميلاد أمل ووليد .. تتداخل حياته الماضية كلها , لتخرج من ركامها صافية وسارة تعابثان فريدة , ليمثل الانعتاق من بوح ومواجد هذه اللحظة والهروب إلى طاقة مواجهة وتغيير ...
خاتمة :
يأخذ مسكوت الحديث الروائي , في "الدم في نخاع الوردة", للأستاذ محمود محمد مدني , مشروعيته بالدرجة الأولى من الحاجة التي لا تزال ماثلة لمشروع التحديث الذي لم ينجز .. فالضرورات التي أنتجت قوى التحديث لا تزال ملحة , في ظل استمرار القوى التى تحاول صياغة المجتمع إلى الخلف .. لذلك فهي رواية الآن وغدا قبل أن تكون رواية عبرت عن الهموم التي تمثلت في مقولات حركات التحرر في العالم الثالث , في زمنها التاريخي ..
أحمد ضحية : كاتب وصحفى سودانى مقيم بالقاهرة [email protected]
http://www.ofouq.com/today/modules.php?name=News&file=article&sid=2359
| |
|
|
|
|