حمار بوريدان!ضيف على الرزنامة: محمد الفكي سليمان

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 03-28-2024, 11:30 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الرابع للعام 2007م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
09-26-2007, 11:19 PM

امبدويات
<aامبدويات
تاريخ التسجيل: 06-06-2002
مجموع المشاركات: 2055

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
حمار بوريدان!ضيف على الرزنامة: محمد الفكي سليمان


    حمار بوريدان!

    محمد سليمان الفكى


    رزنامة الأسبوع 11-17 سبتمبر 2007

    الثلاثاء

    سبع سنوات مضت منذ أطللت من الرزنامة للمرة الأولي والأخيرة. سبع سنوات تعلمت فيها الكثير وضاع من ذاكرتي الكثير. ما زلت أذكر ذلك اليوم الذي تركت فيه أوراق مادة الرياضيات علي طاولة المكتب، والامتحان غداً، وحملت أوراقي إلى كمال الجزولي! تلبستني حمي النشر، وهي حمي ملازمة لكل من يدب بقلمه كاتباً! يومها كنت بالمستوي الثاني في الجامعة، لكن كمال الجزولي قال لي: لا تهمني الأسماء .. تهمني الكتابة! وتسبب ظهور صورتي، وأنا أحتل صفحة كاملة في العدد الأكثر رواجاً، في حالة من الزهو ألمت بي ولازمتني أياماً! لم لا ، واسمي يجاور الأسماء الكبيرة، فلان وفلان وفلان و .. زهاء الطاهر! وكان كمال الجزولي قد أتى به ليطل، أسبوعياً، من صدر الصفحة الثالثة في (عدد الثلاثاء المتميز) بجريدة الصحافة. ويوم قلت للأسباط، بعد ذلك بسنوات، ومع أول رشفة من شاي صباح ما:

    ـ "يا أسباط .. زهاء الطاهر رحل"!

    أجابني ببساطة:

    ـ "ياخي دي حركة ساكت منو"!

    وفكرت أن الحقَّ لا بد مع الأسباط ، فزاهي، هذا الرجل الفنان، الشاعر، البهلوان، الرسام، المناضل، المطبوع، الحبوب، ود الابيض، يمارس الحيل والالاعيب ، وقد يكون الآن قابعاً في ود عكيفة، أو قرب الحلاج في أحد منتديات (أبقية)، أو قد يكونان معاً في النهود أو بارا أو أم روابة، لكن لا يمكن أن يكون زاهي قد ارتحل سريعاً هكذا. لذلك لم نأبه لكلمات الصحف. أشعل الأسباط سيجارة وقال في طمأنينة إن هذا محض كلام جرايد. رددت معه: "طبعاً كلام جرايد" ، إذ لا يمكن لزاهي أن يغيب فجأة هكذا، وهو الذي جاب بقاع الارض كلها من لدن تمبكتو إلى خليج العرب، ومن حي القبة بشارع النهود حتى النهود حتى نيالا والجنينة وجنينة الحكومة بالبان جديد (.. والبان وظهر/ أداني السهر) ، السهر الذي جعل أقسام الاخبار بالصحف المختلفة تتفق على (رحيل زاهي) .. هؤلاء الذين لا يعرفون إلى معرفته سبيلاً! مع ذلك تطرق شئ من الشك إلى نفسي .. هذا الرجل يمكن أن يفعلها! يمكن أن يركب حصاناً ويلج إحدى المعارك لنصرة المتنبي، أو مقاتلاً بجوار لوركا الذي دافع عن عرجه بقوله: "ومن منا لم يعرج ولو لمرة واحدة"؟!

    عدنا صباح الجمعة نحاول إقناع أنفسنا بأن هذه الصحف لا شك كاذبة. لا تحزن يا أسباط، إن لدينا موعداً مع زاهي لا يمكن أن يرحل قبل الوفاء به! في الداخلية وجدنا عثمان أبو صالح إبن ود راوة الذي كان قد تحدى الأسباط، وتحداني، بل وتحدى زاهي نفسه إن كان يعرف عن زاهي أكثر مما يعرف! هذا الفتى الذي يحفظ كتابات زاهي كما قد أنزلت، يحفظها ويعلقها على أستار جزلانه الخاوي مع أشعار لوركا ونيرودا ودبايوا أبو آمنة حامد، جزلانه المملوء بالحكايات ، والخالي من الدنانير بعد أن فارق صنعة أهله وتجارتهم الرابحة! عندما أخبرناه بأكاذيب صحف الخرطوم حول رحيل زاهي، قفز كالملسوع وهو يهتف:

    ـ "فعلها الكلاب .. فعلها الكلاب .. تمكنوا أخيراً من اسكات الصوت الجميل"!

    ـ "إسكات ماذا .. وأنت لا تعرف شيئاً عما قلنا"؟!

    ـ "أصمتوا .. بل انتم الذين لا تعرفون شيئاً"!

    وصمتنا. لكن، عندما رأينا عثمان يبكي ملء عدساته الطبية، أدركنا، ساعتها، أن زاهي قد رحل حقيقة!

    قلت: سبع سنوات مضت من ربيع العمر حملت معها الأمنيات والحلم وشهوة التغيير والإصلاح بشيء من الشعر والصبر والعمل الدءوب. سبع سنوات تعزينا خلالها بوشوشة البياتي وهو ينصح أحدهم: "علي الواحد أن يعيش ويراقب ما شاء، بشرط أن يحرص علي بقاء مسافة بينه وبين الواقع .. مسافة يأمن معها أن لا ينكسر قلبه"! ويعلق مَن وُجِّهت إليه النصيحة بأنها نصيحة ثمينة لم يقلل من قيمتها أن القلب قد انكسر فعلاً!

    سنوات شهدنا فيها عودة (التجمع)، و(مصالحة) المناضلين، وموت قرنق، وانزواء مشروع (السودان الجديد) في قاع الذاكرة بعد أن كان ملء فضاءات الأمل! وتابعنا معارك الاسلاميين، ما بين (السوق) و(السُلطة) و(الأمن)، وهم ينشجون ويملأون صفحات الصحف السيارة حسرة على أحلامهم بـ (دولة المدينة) التي دفنوها ليلة الانقلاب، ثم أقبلوا علي بعضهم يتلاومون ودماء شهدائهم نازفة علي بعد خطوات بحساب السنين!

    ويوم أن عادت الرزنامة إلي صفحات السوداني تحرك صديقنا فيصل يلهب حماسنا للتخندق مع صاحب الرزنامة ، وفيصل لا يعيش إلا جو معارك الرأي والفكر، ويقرأ لمنصور خالد مقاطع صاعقة علي خصومه، ويهتف: "ينصر دينك"!

    هكذا عدنا نتكئ، مجدداً، علي مشاهد وحروف وحكايات. فالرزنامة، كما عرَّفها محمد المكي إبراهيم، هي نوع من (الونسة) الجميلة. وقد ذكرني بكلماته تلك صديقنا حمزة بلول يوم أن وقف في منصة الحديث بإحدى ورش المؤتمر الأكاديمي لتقييم مقررات جامعة الخرطوم، وقال بأعلى صوته إن كليتنا (كلية الاقتصاد) تخرج (وناسين) من نوع ممتاز، فهي لا تدرِّس تخصصاً بعينه، بل تعطي إبنها مداخل إلى كل علم. لذلك، حسب تعريف حمزة بلول ، فإن خريجي كلية الاقتصاد هم نجوم الجلسات الساطعة في الأفراح والاتراح ومجالس الطرب والسمار والندامى!

    كان ود بلول يتحدث بغردونية متعالية، وهو ينفث الهواء الساخن من صدره، عن تلك الفرص الضائعة، وعن الجامعات التي تقدمت الصفوف في حين تراجعت الجامعة الأم! وبما أنني ابن هذه الكلية (الوناسة)، وتأكيداً لمداخلة صديقنا تلك التي أدرجت في مضابط المؤتمر، فإنني أطلب الإذن لي بالدخول، مرة أخرى، إلي ديوان الرزنامة المضياف برمله (المغسول والمسقي) على حد مجاز ود المكي، وبالاستناد، أيضاً، إلي تعريفه الدقيق للرزنامة.

    الأربعاء:

    قالها وهو في المقعد الخلفي من الحافلة المكتظة بالركاب:

    ـ "نحنا بلد كلها أسطوات"!

    بحثت عن ذلك المعني فوجدته موثقاً في الذاكرة بنشيد آسر: "نحن شعب أسطي"! وتذكرت سمرنا مع محجوب شريف ونحن نعد لعدد جديد من (كوسو) لسان حال اتحاد طلاب جامعة الخرطوم، ذلك السمر الذي دلفنا إليه بعد المغرب واستمر حتى حواف الفجر بين الشاي والونسة السودانية وحضور (مي) ثانية اثنين إذ كانت (مريم) يومها غائبة. كان محجوب يبسط السؤال بالقول: "إنت قصدك شنو"؟! ويدفع خفية لغة كنا قد اجتهدنا ليال عددا حتى تكون قدر المقام، فإذا به يرجعها إلي أصلها بدارجة الدارجة، ثم يجيب بعمق التجربة. إستعدت تلك الذكرى وما قال لنا عن الكيفية التي يلتقط بها المعاني والكلمات من لغة الشارع. روى لنا، مثلاً، كيف تجادل مع المغني عن مقطع "من أقاصي الدنيا جيت" في الاغنية الشهيرة، ثم ما لبث أن وجد العبارة المناسبة وسط الركاب المنتظرين في موقف الحافلات العامة، حيث ثار ، بعد مباراة كرة ساخنة ، جدل ساخن ، نفث المغلوب خلاله الهواء الساخن من صدره في وجه الغالب:

    ـ "بالله كورة شنو العليك وانت جايي من ضواحي الدنيا"!

    من يومها صار المقطع "من ضواحي الدنيا جيت وعلي رحالي"! وما زال (حديث الاسطوات) يتدفق، برنة الصدق وبساطته، من فم الرجل البسيط الجالس في المقعد الخلفي من الحافلة:

    ـ "البلد دي عايزة ترتيب .. البلد دي ياخوانا كلها أسطوات"!

    أبصرت عمق حجته، فالجنس الأصفر يستثمر بترولنا في أطراف البلاد، ويشيد البنايات في وسطها، بينما يقبع (الاسطوات) أولاد البلد في (ضل الشدر) مسلمين أمرهم، من بعد الله، للانتظار والجوع والحمي! آلاف (الاسطوات) ممن تدربوا في المدارس والمعاهد الفنية ووزارة الأشغال .. وربما السجون والإصلاحيات (!) وشادوا بسواعدهم (الخدرا) مباني الوزارات، وبيوت الأفندية، واستراحات الساسة والمناضلين! هؤلاء الآلاف يعمل معهم مئات الآلاف من عمال اليومية البسطاء الذين أرهقتهم المجاعات، ومحل المواسم، وجفاف السافنا الفقيرة، وضعف تخطيط المخزون الاستراتيجي، فركبوا أرجلهم، وتسلحوا بالإيمان، وبالحمد لتلك المهن البسيطة التي تشاركوها مع إخوة في الوطن شردهم بؤس الساسة وبوار الأيدلوجيات، ثم ما لبث هؤلاء وأولئك أن استيقظوا ليجدوا غرباء وافدين من خلف الحدود يحتلون أعمالهم ، بينما هم عطالى في عقر دارهم بالحجة القديمة القائلة إنهم عمال غير مهرة!

    لو شاءت الحكومة لفتحت (معسكرات) التدريب بنصف المدة وربع المجهود والمنصرف الذي بذلته في إعداد تلك الجيوش الجرارة التي لم تفلح إلا في تدمير كل ما بناه (أسطوات) الزمن الجميل! لو أرادت هذه الحكومة المنصرفة عن هموم الشعب إلى أحلام النخبة لأعادت تأهيل (الاسطوات) القدامى والجدد، ولأشركتهم في ملحمة مجيدة لبناء الوطن، فلا يجدون أنفسهم في قارعة الطريق، غرباء في وطنهم، تنهش دواخلهم ضغائن الفقر، ومرارات العوز، وإحن الشعور بالحيف .. في (قسمة الثروة) مثلما في (قسمة السلطة)! آلاف (الاسطوات) ينتظرون التفاتة اهتمام، قراراً صغيراً يعيد ابتسامة الحياة لهم ولأسرهم ووطنهم. لكن صاحب القرار غائب عن شواغل الناس، وعن نبض الشارع، وعن (رجل الحافلات) الذكي اللماح الذي يعرف أن الصين وصلت إلى ما وصلت إليه من نهضة بالتخطيط السليم، والدراسة المتقدمة، وتأهيل الانسان (أصل الثروة) ، بينما نحن نكتفي بأن نجلب منها كل منتج دون أن ندرس أو نتعلم أو حتى نلاحظ كيف انتصرت تلك الأمة علي الأفيون، وحجزت لنفسها موطئ قدم في مدارج المجد!

    مشكلتنا مع الصين أنها تعطينا سمكة، لكنها لا تعلمنا كيف نصطاد السمك! والدليل علي ذلك أن المنح التي تقدمها للدارسين فيها من طلاب بلادنا لا تتجاوز الألف، رغم الميزان التجاري بيننا ، والمنافع الاقتصادية التي تعود عليها منه!

    الخميس:

    النشاط القديم، المناظرات، الدالي والخاتم عدلان، العجكو، أكتوبر وأبريل، شعبان، المائدة المستديرة، القرشي وحران وبابكر عبد الحفيظ، الشمباتة والترابة، العلم والتاريخ، العاطفة والشجن، أمنيات معلقات علي حواف الانتظار، شباب نضر وغدٌ أخضر، موسم النشاط السياسي، هجعة الامتحانات الفاصلة، الملاحق، (ميدان آداب) حيث خرجت النخبة السودانية بأرتال إنجازاتها وإخفاقاتها الجسام، داخلية الوسط والبركس، نقابة الطلبة أيام أحمد خير العالي وزروق الوسيم، سنوات البحث الأول، صراع المعسكرات، تخندق الأيدلوجيات، الاسلاميون والشيوعيون، إعلان مبادئ وأسس مؤتمر الطلاب المستقلين، ملصق قديم من ستينيات القرن المنصرم قابع في الأرشيف يدعو للتصويت للجبهة الاشتراكية، برامجه، بعد خدمة الطلاب الذين يعيشون في دعة ، لجم الحرب الكورية، قول لا يعجب المراكسة ولا الإسلاميين، يضحكون كيف لطلاب أن يطالبوا بإيقاف الحرب الكورية! الهمة العالية المتعبة للأجسام، الهم العام وشهوة إصلاح الكون! الحرب الكورية والقضية الفلسطينية، قضية إسلام أم قضية حق عام؟! ويخرج دستور الطلاب الأنيق ليقول: علي اتحاد طلاب جامعة الخرطوم مناصرة حركات التحرر الوطني وقضايا الحق العام، كيف لا وهو حكومة (الطلاب النخبة) في الزمن الجميل، أولئك الحاملين على الاكتاف قضية الوطن والأوطان الصديقة، حكومة اتحاد ود المكي "والله حكومة!" .. إذاعة وجنود وتموين وإمداد ومتاريس وبيانات! وقطار الشوق يحمل الخبز من أعلي السكة حديد إلي أرض الميدان الشرقي، وحاج مضوي يتابع مع فتية صغار خلف الأسوار أخبار حكومتهم والفطور والغداء!

    حكايات تأتيك مثل زخات المطر، باردة، عطرة، ومسيجة بصلف غردوني قديم عن العلم الحديث وعلاقته بالغليون والمسرح وشاي العصر البارد!

    ومثلما حكيت في كتابي (صباحات زاهي ومساء الجنرالات) فإن شاوراب والرَّيَّح ابتدرا الدعوة إلى أحد المنابر بأهزوجة محجوب الثوريَّة المتميِّزة: "أسمعنا يا ليل السجون/ نحنا بنحب شاي الصباح/ والمغربيَّة مع الولاد/ والزوجة والأم الحنون"! لكن إحدى (برلومات) الشهادة العربيَّة كتبت إلى أبيها في الخليج تنبئه بقرارها عدم مواصلة الدراسة في هذه الجامعة بحجة أن بها (ناس) مساكين وجوعى ، وهذه حقيقة! لكنها استدلت على ذلك بإيقاعات شاوراب والرَّيَّح قائلة:

    ـ "في أولاد مساكين بيقيفوا في شارع الـ main في الجامعة ويصرخوا بأعلى صوتهم عاوزين شاي الصباح عاوزين شاي المغربية .. ياي .. مساكين يا بابي"!

    ومع ذلك تتوالى المظاهرات، والشهداء، والبمبان، وسحل الحكومات العسكرية! الليل، والشعر، والغناء، والعذارى، وقصص الحب السامقة، وقصص الحب الرخوة، والحلمنتيش الساخر المازج بين الشعبي والوافد! ليل انتخابات اتحاد الطلاب المترع بالانتظار والتعب، جلوس الطلاب علي (البنشات) والميادين الخضراء، قيادة الطلاب السياسية والاجتماعية والرياضية، سطوة أصحاب الأصوات الجميلة، والتفاف الطلاب حولهم بعد أن انفضوا عن أصحاب المنابر في اليوم قبل الأخير للاقتراع، يطالبونهم بوردي وود الأمين وزيدان وكابلي وسيف الجامعة. وهذا السيف ود الجامعة، بالذات، سيمسي غداً معنا، بالكاب المميز، والعود المصاحب، ومشية الأبطال!

    على حواف الفجر يأتي هواء البحر مشبعاً بنكهة المانجو الحريفة، ويأتي معه، من بعيد، صوت الأشقاء علي إيقاع صفقة أفريقية عنيفة: "دُقوا النِّحاسْ مِن ضَيْ/ صوت الشوارع حَيْ/ ما فيش تخاذل تَبْ/ ما فينا زولاً نيْ"! عندها تتوقف دندنات عود عجوز لازم الداخليات طويلاً، ويتوقف زملاء الجبهة الديمقراطية عن الترجيع الشجي: "كتلوك يا قاسم أمين/ كتلوك الناس القصر/ الساسة المبيوعين"! صناديق (تربية)، وتقدم التيار الديمقراطي بأربعمائة وخمسين صوتاً، وبرالمة (آداب)، تشتعل ولاعات السجائر، وتشتعل الأصوات، وقبل آذان الفجر تكون الجامعة مكتملة الحضور، ثم .. فجأة تنفتح البوابات ليتدفق الشمباتة والترابة يهدرون بصوت كالرعد: "المجد لك، المجد لك"! و ..

    ذاكرة الوطن، هزائمه وانتصاراته، هل هي بخير؟!

    الجمعة:

    البياتي يبكي، ويعتذر عن فعلة المتنبي، ويقول بكامل الفلسفة إن المتنبي لم يقف عند أبواب الملوك، وإنما الذي وقف هناك كان حذاؤه! والناس لم يسمعوا بحذاء المتنبي إلا وهو في قدميه عندما خرج في لباس الحرب يقول: "وفؤادي من الملوك وإن كان لساني يري من الشعراء"! خرج يبحث عن سلطة غير سلطة الشعر، خرج من حلب إلي بغداد إلي القاهرة مروراً بكل أصقاع الأرض شاهراً شعره في وجه كل من يقف في طريقه.

    وكمال الجزولي يقول علي استحياء: "يمكن للشاعر أن يكون وزيراً للدفاع"، فلا يهب لنجدته غير شاعر هو (ود المكي). وحتى ود المكي طلب ثمناً لنصرته وهو أن يعين وكيل عريف بالجيش، ليس قانعاً، بل ناظراً إلي أبيات عصام عيسي رجب: "أولاً يخرج أصحاب الرتب الوسطي في الجيش/ والكلونيلات هم من أرهقوا ديمقراطيتنا المسكينة بالانقلابات اليومية"! ويخرج علينا كمال الجزولي كراسات باقان أموم فنري العجب .. شعر ومعاني والتزام! ونتذكر قصيدة دنيس بروتس: "إنني أحيي ذكرى أوغستينو نيتو/ وطني ورجل دولة/ بطل الضعفاء والمقهورين/ وشاعر"!

    وأوغستينو نيتو عرفناه بكل الصفات السابقة، إلا صفة (الشاعر) .. انزوت، ولم تبق سوي ذكراها في صوت صلاح احمد إبراهيم. وجاء إلي الخرطوم ، واهتزت جنبات دار أساتذة جامعة الخرطوم بالتصفيق الحار! وصلاح وعلي المك رحمهما الله درر المجالس، وأي مجالس .. دار أساتذة جامعة الخرطوم أمسية الاحتفال بذكري أبريل!

    ود المكي أضاع حتى سلطة الشعراء الوسيمة، وترك بلاط الدبلوماسية ، نهائياً ، للعسكر وأقاربهم وكتاب الأعمدة الذين يمجدون الشموليات فتغدق عليهم من سفاراتها بعض غنائم الوطن الكبير! ود المكي سليل القبة والإسماعيلية الأماجد ، شيوخ (كردفان) التي ودعها إلي الخراتيم والدرامين ، قبل أن يركب إلي بلاد الفرنجة عبر الجواز الدبلوماسي، ثم يقبع في بلاد العم سام تاركاً الخارجية لهؤلاء وأولئك!

    المتنبي أذكي الشعراء جميعاً، وهو أول من عرف سطوة البوليس السري يوم أن ضربه سيف الدولة (بدواته)، استناداً إلى تقارير البلاط، وإرضاءً لمراكز القوي والعشيرة وأبناء العمومة! من يومها خرج المتنبي من مصر إلي مصر، بحثاً عن إمارة ينتصر بها لدولة الشعر .. فهل وجدها؟!

    السبت:

    الحسين ود الهندي عندنا، نحن أهله (الاتحاديين)، ذكري ومحبة تماثل محبة الشيعة! ويزيد الارتباط بين الاثنين إسمه وحادثة موته غريباً حسيراً في المنفي .. القلوب معه والسيوف عليه!

    وما خلا عدد قليل من الطلاب لم يكن مع الحسين في أثينا إلا الذكريات وعلبة التبغ الذي لعنه قائلاً: لم يبق لنا سوي هذا التبغ الذي أتلف عقولنا! فقد انفض كل الذين تجمعوا حول عزه البائن يوم كان وزيراً للمالية يرسم ويخطط ويصرف الإيرادات والمنصرفات بما لا يضعه في الوضع الخائب الذي دائماً ما يجد وزراء مالية دول العالم الثالث أنفسهم فيه نتيجة حدث غير مرصود، كانخفاض أسعار القطن أو الشاي أو البن، وما إلى ذلك من صادرات الدول المسكينة، أو ارتفاع أسعار البترول، وبالتالي كل منتجات الدول الصناعية. والحسين الذي أدهش ماكنمارا رئيس البنك الدولي بقدرته علي التحليل الاقتصادي هو صوفي موجد يمدح الرسول: "بروق الحيف ضياك بعيد/ علي المشتاق صباح العيد"! ويأكل الكسرة، ويركب اللاندروفر، وينام علي الأرض، ويلبس ما يجد، كيفما اتفق .. ولا يزال أصدقاؤه يذكرون أينما ينام فإنه يستيقظ للاستحمام ويغير ملابسه بملابس آهل البيت الذين استضافوه! ولعل في سيرته الأسطورية، ونقاء سريرته، وسحره الكامن، وبساطة قربه من الناس، وذرابة لسانه بالحجة الدامغة، ومزاوجته بين الفكرة والفصاحة بصورة آسرة، وبسالته في القتال دفاعاً عن الحق رافضاً كل نعيم يخصه وحده، مما يُعلي من شأنه عند جمهور الفقراء والضعفاء الذين خرج من أجلهم يرسم المشاريع الزراعية، ويتوسع في التعليم، ويرسل البعثات كي يعود أبناء الفرقان بسلاح العلم، في وجه قوي احتكرت حق القيادة ومفاتيح القوة والدين والأرض والأتباع وصولاً للسلطة!

    ومما يعمق حزن الاتحاديين عليه، فوق محبتهم له، هو موته بعيداً في المنفي، هناك في فندق الملك مينوس، ولم يكن في المدينة إلا خاله أحمد خير المحامي الذي شهد سنوات نبوغه الباكر، ثم شاهد عن طريق الصدفة المحضة موته في المنفي، لتزوي في روحه كل الشجيرات التي سمدها بالصبر منذ أن وقف في نادي النيل بود مدني يتحدث عن واجب الخريجين، تلك الفكرة التي قادت لقيام المؤتمر الذي قاد السودان ثم زوي مع كل آمالنا العظام. والحسين من جيل الذين ساندوا آباء الاستقلال وهم بعد صغار. وكان للأزهري مثل بوتفليقة لبومدين .. رجل المهام الخاصة رغم صغر سنه. هم جيل لم يبلغ الجامعات رغم نبوغه الأكاديمي المذهل، بل حملوا الكتب إلي جبهة النضال السياسي، حيث العلم لا ينفصل عن الثورة، جيل قاوم نموذج الأفندية المطبوع، واختط لنفسه بالقلم والألم والسلاح نهجاً وطنياً خالصاً.

    نقاد الحسين سلخوه بأنه لم يبن مؤسسة سياسية يقوم عليها الحزب، وذاك نقد محترم. لكنهم نسوا أن الحسين سطع في زمن كانت (كاريزما) القائد هي الدينمو المحرك، وليس المؤسسة. زمان الأزهري، الأزهري وعبد الناصر ونكروما ونايريري. وذكري الحسين عندنا الاتحاديين تتجدد لدى كل هزيع وهو بالمنفي يموت ، مردداً: رحل كل صديق وحبيب ولم يبق لنا سوي هذا التبغ الذي أتلف عقولنا!

    الحسين هو النشيد الذي يدثرنا عند إنكشاف عورات (المصالحات): "لو خيرت بين أصلي جائعاً خلف الحسين، أو أغني مترفاً خلف اليزيد، لاخترت أن أصلي جائعاً خلف الحسين، ونحن علي سفر وإمامنا غائب"!

    الأحد:

    رمضان كريم. أسابيع قلائل ويأتي العيد. وقد استيقظت ذات صباح عيدٍ في الخرطوم، وهو أمر غير مألوف من أبناء الريف الذين اعتادوا أن يركبوا الظلط باتجاه قراهم وفرقانهم لقضاء العيد مع ذويهم للمعايدة والمفاكرة، أوان يجتمع الأبناء من الأصقاع المختلفة التي شتت شملهم فيها (الهروب الكبير) من الريف بعد أن تعرض لتدمير ممنهج، فأغلقت المدارس والمراكز الصحية، وسُجلت الرأسمالية الصغيرة للحزب الحاكم تحت عنوان (التمكين)، ولم يبق للناس سوي شوارع السوق العربي يهتفون فيها، بكرة وعشية، باسم الصابون والكبريت والملابس الهجين، ويتقنون معرفة المداخل والمخارج ساعة (الكشات)، فنمت لديهم ، بفعل وهج الشمس وغريزة حب البقاء، لغة خاصة، وبشرة خشنة قاسية!

    استيقظت صباح ذلك العيد الذي ألزمني طارئ ما بأن أمكثه في شوارع الخرطوم، فدهشت قرويتي التي لم تر مثل ذلك المشهد من قبل، حيث الخرطوم أشبه ما تكون بمدينة الأشباح! مضيت أتجول في شوارعها وحدي، تماماً مثل قطار زهاء الطاهر الذي حمله علي جناح إحدي حكاياته إلي الأبيض، فوجدها خالية من أي بشر، فمضى يتساءل: "أيعقل أن يقيموا لي قيامة وحدي"؟!

    كانت المدينة مثل حكاية زهاء. السوق خال، المواصلات خالية، الشوارع والمساجد والكنائس كلها خالية، ولا أثر لرجال الشرطة!

    تذكرت صيحة حسن البطري: "أغلقوا البوابات"! كأن بيوت الخرطوم التي غالبيتها من الصفيح لها أبواب حتى يكون للمدينة بوابات!

    جلست علي حافة الطريق مكان لا تحلم، في غير أيام العيد، بالسير دون أن تدهسك حافلة مسرعة! أية مدينة هذي؟! أهي مدينة مؤقتة؟! أين مئات الآلاف الذين تعمر حناجرهم هذا الفضاء كل يوم، يبيعونك كل شيء ، كل شئ .. من مبيض الأسنان حتى منظف القلوب عبر الأدعية والحبة السوداء شفاء من كل داء، ناهيك عن الحبة التي تجعلك صاحب همة عالية آخر المساء إذا دب الوهن!

    أسهل الطرق التي يتعرف بها المرء علي مدينة ما هي أن يعرف ماذا يعمل الناس فيها، وكيف يحبون، وكيف يموتون .. تلك وصفة البير كامي وهو يسجل علي دفتره مأساة وهران مع الطاعون. والكثيرون في الخرطوم لا يعرفون ماذا يعملون بالضبط. وإذا طلبت من أحدهم أن يملأ الخانة الشاغرة جوار سؤال الوظيفة في احدي الأوراق الرسمية فإنه سيحُك رأسه طويلاً دون أن يدري ماذا يكتب! مع ذلك فالدنيا تدور، والحياة تسير، إذ يمكنك أن تعمل حمالاً، أو مادحاً للرسول، أو منادياً يحث الركاب علي الإسراع نحو حتفهم، أو بائعاً متجولاً للماء البارد، أو لسلع أخرى غير محددة الهوية! مع الأيام يمكنك أن (ترتقي) إلى سمسار مقرب من الدوائر الحكومية، أو (فهلوي) يعرف كل (الدريبات)، ويقدم خدماته للجميع بمقابل، فيوفر عليهم جهد اتباع الوسائل (الدغرية) والوقت الذي (يهدرونه) فيها سعياً وراء مصلحة قد لا يحصلون عليها لوحدهم أبداً!

    يمكنك أن تسأل العشاق الصغار عن سيرة الحب، ليحدثوك عن مشهد تشردهم في شوارع لا يعرفون إلي أين تقودهم، وتحت طائلة أي قانون يمكن أن يوقفهم فيها رجال متجهمون يحشرون أنفسهم ضمن أجندة هذه العلاقة الشخصية شديدة الخصوصية والحساسية! إنها مدينة تنتهي كل جلسات عشاقها ومشاويرهم أفراحهم الصغيرة إلي واعظ رسمي يذكرهم، باسم تقويم المجتمع، بأن للحكومة أعين لا تغفل عن مثل هذه الجرائم!

    مهما كنت صياحاً في هذه المدينة القارة فإنك تموت في صمت، وإذا آثرت أن تموت في حادث حركة، أو منصوباً علي خازوق، أو مذبوحاً أمام أجهزة الإعلام، فثق تماماً أنك ضيعت حياتك سدى، لأن الفضائيات، والمنظمات، ووكالات الأنباء المحلية والعالمية قد تهتم بفعلتك هذه صباح اليوم الأول، وربما مساءه، ثم ما تلبث أن تدير لك ظهرها لتنشغل بموت آخر، بينما تتواري أنت في صمت داخلك قبرك المحروس بدموع قليلة، حيث لا أحد يتذكرك في هذا المولد الهايص الذي تحول فيه الموت إلي حدث عادي! إنها، بحق، مدينة الحب المفضوح والموت المسفوح!



    الاثنين:

    سئل المرحوم عمر الحاج موسي عن (حالة الوطن) فأجاب بأنه لا يعلم، وأضاف قائلاً إنها مثل حالة حمار ود اللدر الذي يشبه حمار حاجة نفيسة .. وهو لا يعرف أياً من الحمارين!

    وعلى ذكر الحمير ، فإن توفيق الحكيم الذي لخص سوفوكليس، وجال في مونمارت، وحاضر في السوربون، وناقش قضية (الفن للفن)، وجادل عظماء فلاسفة عصره ومفكريه وأدبائه حول الحياة والروح، لم يجد عنواناً لكتابه الذي حوى نصائحه غير (حماري قال لي)!

    أما بوريدان فقد كان له حمار فيلسوف مثله أتقن الشك وطرح التساؤلات. وعندما وضع بين الماء والعشب بدأ يبحث في دماغه الحماري عن أيهما أفضل (للحمارية)، على وزن (الانسانية)، أن يبدأ بالماء أم بالعشب، وبقي على هذه الحالة من التردد حتى نفق!

    قد يبرز متحامل ليقول هذا حمار بليد! ولكن، على النقيض تماماً، فإن حمار بوريدان هو الأذكي على الاطلاق، فموقفه الرمادي هذا شبيه بموقف الساسة الذين هم ضد الحكومة التي استولت على سلطتهم، وضد المعارضة (المرتهنة) للقوى الاجنبية وتريد تمزيق البلاد! فحالهم كحال حمار بوريدان في (الهلاك) بين (الماء) و(العشب)! فما رأيكم، أدام الله فضلكم، في (حمار) ارتفع إلى مرتبة (الساسة)، أو العكس؟!


    (عدل بواسطة امبدويات on 09-26-2007, 11:21 PM)
    (عدل بواسطة امبدويات on 09-26-2007, 11:27 PM)

                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de