فرج فوده \ الحقيقه الغائبه\ (٢)

دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 12-11-2024, 06:22 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف العام (2001م)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
12-14-2002, 04:13 AM

smart_ana2001
<asmart_ana2001
تاريخ التسجيل: 04-17-2002
مجموع المشاركات: 5695

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
فرج فوده \ الحقيقه الغائبه\ (٢)

    فرج فوده \ الحقيقه الغائبه\ (٢
    ثالثا : إنه من المناسب أن أناقش معك أيها القارئ مقولة ذكرتها لك ضمن وجهة نظر الداعين للتطبيق الفوري للشريعة ، وهي قولهم بأن التطبيق ( الفوري ) للشريعة ، سوف يتبعه صلاح ( فوري ) لمشاكله ، وسوف أثبت لك أن صلاح المجتمع أو حل مشاكله ليس رهناً بالحاكم المسلم الصالح ، وليس أيضاً رهناً بتمسك المسلمين جميعاً بالعقيدة وصدقهم فيها وفهمهم لها ، وليس أيضاً رهناً بتطبيق الشريعة الإسلامية نصاً وروحاً ، بل هو رهن بأمور أخرى أذكرها لك في حينها ، دليلي في ذلك المنطق وحجتي في ذلك وقائع التاريخ ، وليس كالمنطق دليل ، وليس كالتاريخ حجة ، وحجة التاريخ لدى مستقاة من أزهى عصور الإسلام عقيدة وإيماناً ، وأقصد به عصر الخلفاء الراشدين .

    أنت أمام ثلاثين عاماً هجرياً ( بالتحديد تسعة وعشرون عاماً وخمسة أشهر ) هي كل عمر الخلافة الراشدة ، بدأت بخلافة أبي بكر ( سنتين وثلاثة أشهر وثمانية أيام ) ثم خلافة عمر ( عشر سنين وستة أشهر وتسعة عشر يوماً ) ثم خلافة عثمان ( إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهراً وتسعة عشر يوماً ) ثم خلافة علي ( أربع سنين وسبعة أشهر ) .

    وتستطيع أن تذكر بقدر كبير من اليقين أن خلافة أبي بكر قد انصرفت خلال العامين والثلاثة أشهر إلى الحرب بين جيشه وبين المرتدين في الجزيرة العربية ، وأن خلافة علي قد انصرفت خلال الأربعة أعوام والسبعة أشهر إلى الحرب بين جيشه في ناحية وجيوش الخارجين عليه والرافضين لحكمه في ناحية أخرى ، بدءاً من عائشة وطلحة والزبير في موقعة الجمل ، وانتهاء بجيش معاوية في معركة صفين ومروراً بعشرات الحروب مع الخوارج عليه من جيشه ، وأنه في العهدين كانت هموم الحرب ومشاغلها أكبر بكثير من هموم الدولة وإرساء قواعدها .

    أضف إلى ذلك قصر عهد الخلافتين ، حيث لم يتجاوز مجموع سنواتهما ست سنوات وعشرة أشهر ، ويبقى أمامك عهد عمر وعهد عثمان ، حيث يمكن أن تتعرف فيهما على الإسلام الدولة في أزهى عصور الإسلام إسلاماً ، وأحد العهدين عشر سنين ونصف ( عهد عمر ) ، والثاني حوالي أثنى عشر عاماً ( عهد عثمان ) ، وهي فترة كافية لكل من العهدين لكي يقدم نموذجاً للإسلام الدولة كما يجب أن تكون ، فعمر وعثمان من أقرب الصحابة إلى قلب الرسول وفهمه ، والاثنان مبشران بالجنة ، وللأول منهما وهو عمر مواقف مشهودة في نصرة الإسلام وإعلاء شانه ، وهي مواقف لا تشهد بها كتب التاريخ فقط ، بل يشهد بها القرآن نفسه ، حين تنزلت بعض آياته تأييداً لرأيه ، وهو شرف لا يدانيه شرف ، وللثاني منهما وهو عثمان مواقف إيمان وخير وجود ، ويكفيه فخراً أنه زوج ابنتي الرسول ، هذا عن الحاكم في كل من العهدين .

    أما عن المحكومين ، فهم صحابة الرسول وأهله وعشيرته لا تحدث واقعة إلا تمثل أمامهم للرسول فيها موقف أو حديث ولا يمرون بمكان إلا وتداعت إلى خيالهم ذكرى حدث به أو قول فيه ولا تغمض أعينهم أمام المنبر إلا وتمثلوا الرسول عليه قائماً ولا يتراصون للصلاة خلف الخليفة إلا وتذكروا الرسول أمامهم إماماً ، وهم في قراءتهم للقرآن يعلمون متى نزلت الآية ، وأين ، ولماذا إن كان هناك سبب للتنزيل ، وباختصار يعيشون في ظل النبوة ويتأسون بالرسول عن قرب وحب ، هذا عن المحكومين ، ولا يبقى إلا الشريعة الإسلامية وهي ما لا يشك أحد في تطبيقها في كل من العهدين .

    بل أنك لا تتزيد إن أعلنت أن هذا العهد أو ذاك ، كان أزهى عصور تطبيقها لأنها لزوم ما يلزم في ضوء ما سبق أن ذكرنا بشأن الحاكم والمحكوم ، ومع ذلك فقد كان عهد عمر شيئاً وعهد عثمان شيئاً آخر فقد ارتفع عمر بنفسه وبالمسلمين إلى أصول العقيدة وجوهرها ، فسعد المسلمون به ، وصلح حال الدولة على يديه ، وترك لمن يليه منهجاً لا يختلف أحد حوله ، ولا نتمثل صلاح الحكم وهيبة الحاكم إلا إذ استشهدنا به ، بينما قاد عثمان المسلمين إلى الاختلاف عليه ، ودفع أهل الحل والعقد إلى الإجماع على الخلاص منه ، إما عزلاً في رأي أهل الحجى ، أو قتلاً في رأي أهل الضراب ، واهتزت هيبته في نظر الرعية إلى الحد الذي دفع البعض إلى خطف السيف من يده وكسره نصفين أو حصبه على المنبر ، أو التصغير من شأنه بمناداته ( يا نعثل ) نسبة إلى مسيحي من أهل المدينة كان يسمى نعثلاً وكان عظيم اللحية كعثمان ، أو الاعتراض عليه من كبار الصحابة بما يفهم منه دون لبس أو غموض أنه خارج على القرآن والسنة ، ووصل الأمر إلى الدعوة الصريحة لقتله ، حيث يروي عن عائشة قولها : اقتلوا نعثلاً لعن الله نعثلاً ، وهي كلها أمور لا تترك لك مجالاً للشك فيما وصل إليه أمر الخليفة قبل رعيته ، وما وصل إليه أمر الرعية قبل الخليفة .

    وعلى الرغم من أن عمر وعثمان قد ماتا مقتولين ، إلا أن عمر قد قـُتل على يد غلام من أصل مجوسي ، وترك قتله غصة في نفوس المسلمين ، وأثار في نفوسهم جميعاً الروع والهلع لفقد عظيم الأمة ، ورجلها الذي لا يعوض ، بينما على العكس من ذلك تماماً ، ما حدث لعثمان عند مقتله ، فقد قتل على يد المسلمين الثائرين المحاصرين لمنزله وبإجماع منهم ، وقد تتصور أن قتلة عثمان قد أشفوا غليلهم بمصرعه على أيديهم ، وانتهت عداوتهم له بموته ، لكن كتب التاريخ تحدثنا برواية غريبة ليس لها نظير سابق أو لاحق ، وإن كانت لها دلالة لا تخفى على أريب :

    فالطبري يذكر في كتابه تاريخ الأمم والملوك الجزء الثالث ص 439 :

    ( لبث عثمان بعدما قتل ليلتين لا يستطيعون دفنه ثم حمله أربعة " حكيم ابن حزام وجبير بن مطعم ونيار بن مكرم وأبو جهم بن حذيفة " فلما وضع ليصلي عليه جاء نفر من الأنصار يمنعوهم الصلاة عليه فيهم أسلم بن أوس بن بجرة الساعدي وأبو حية المازني ومنعوهم أن يدفن بالبقيع فقال أبو جهم ادفنوه فقد صلى الله عليه وملائكته فقالوا لا والله لا يدفن في مقابر المسلمين أبداً فدفنوه في حش كوكب ( مقابر اليهود ) فلما ملكت بنى أمية أدخلوا ذلك الحش في البقيع )

    وفي رواية ثانية ( أقبل عمير بن ضابئ ، وعثمان موضوع على باب فنزا عليه فكسر ضلعاً من أضلاعه ) ، وفي رواية ثالثة أنهم دفنوه في حش كوكب حين رماه المسلمون بالحجارة فاحتمى حاملوه بجدار دفنوه فوقع دفنه في حش كوكب .

    هذا خليفة المسلمين الثالث ، يقتله المسلمون ، لا يستطيع أهله دفنه ليلتين ويدفنوه في الثالثة ، يرفض المسلمون الصلاة عليه ، بقسم البعض ألا يدفن في مقابر المسلمين أبداً ، يحصب جثمانه بالحجارة ، يعتدي مسلم على جثمانه فيكسر ضلعاً من أضلاعه ، ثم يدفن في النهاية في مقابر اليهود .

    أي غضب هذا الذي يلاحق الحاكم حتى وهو جسد مسجى ، وينتقم منه وهو جثة هامدة ، ولا يراعي تاريخه في السبق في الإسلام والذود عنه ، ولا عمره الذي بلغ السادسة و الثمانين ، ويتجاهل كونه مبشراً بالجنة وزوجاً لابنتي الرسول ، ويرفض حتى الصلاة عليه أو دفنه في مقابر المسلمين شأنه شأن أفقرهم أو أعصاهم . هو غضب لا شك عظيم ، وخطب لا ريب جليل ، وحادث لا تجد أبلغ منه تعبيراً عن رأي المسلمين في حاكمهم ، وأمر لا يؤثر في الإسلام من قريب أو بعيد ، فعثمان رضي الله عنه ليس ركناً من أركان الإسلام ، وإنما هو بشر يخطئ ويصيب ، وحاكم ليس له من الحصانة أو القدسية ما يرفعه عن غيره من المسلمين ، لكنك لا تملك إلا أن تتساءل معي وأن تجيب .
                  

12-14-2002, 04:14 AM

smart_ana2001
<asmart_ana2001
تاريخ التسجيل: 04-17-2002
مجموع المشاركات: 5695

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فرج فوده \ الحقيقه الغائبه\ (٢) (Re: smart_ana2001)

    ألم يكن عثمان وقت اختياره واحداً من خيار المسلمين ، مبشراً بالجنة وأحد ستة هم أهل الحل والعقد ، وأحد اثنين لم يختلف المسلمون على أن الخلافة لن تخرج عنهما وهما عثمان وعلي ؟



    والإجابة ( بلــــى )



    * ألم يكن المسلمون في أعلى درجات تمسكهم بالعقيدة ، وأقرب ما يكونون إلى مصدرها الأول وهو القرآن ومصدرها الثاني وهو السنة ، بل كان أغلبهم أصحاباً للرسول وناقلين عنه ما وصلنا من حديث وأحداث ؟



    والإجابة ( بلــــى )

    * ألم تكن الشريعة الإسلامية مطبقة في عهد عثمان رضي الله عنه ؟

    والإجابة ( بلــــى )

    * هل ترتب على ما سبق ( حاكم صالح ومسلمون عدول وشريعة إسلامية مطبقة ) أن صلح حال الرعية ؟ ، و حسن حال الحكم ؟ وتحقق العدل ؟ وساد الأمن و الأمان ؟

    والإجابة ( لا ) .



    وهنا نصل سوياً إلى مجموعة من النتائج نستعرضها معاً عسى أن تحل لنا معضلة التفسير وأن تجيب معنا على السؤال الحائر و موجزه لفظ ( لماذا ) .



    النتيجة الأولى :

    أن العدل لا يتحقق بصلاح الحاكم ، ولا يسود لا بصلاح الرعية ، ولا يتأتى بتطبيق الشريعة ، وإنما يتحقق بوجود ما يمكن أن نسميه ( نظام حكم ) ، وأقصد به الضوابط التي تحاسب الحاكم إن أخطأ ، وتمنعه إن تجاوز ، وتعزله إن خرج على صالح الجماعة أو أساء لمصالحها ، وقد تكون هذه الضوابط داخلية ، تنبع من ضمير الحاكم ووجدانه ، كما حدث في عهد عمر ، وهذا نادر الحدوث ، لكن ذلك ليس قاعدة ولا يجوز الركون إليه ، والأصح أن تكون مقننة ومنظمة .

    فقد واجه قادة المسلمين عثمان بخروجه على قواعد العدل بل وأحياناً بخروجه عل صحيح جوهر الإسلام ، فلم يغير من سياسته شيئاً ، وبحثوا فيما لديهم من سوابق حكم فلم تسعفهم سابقة ، ومن قواعد لتسيير أمور الدولة فلم يجدوا قاعدة ، وأشتد عليهم الأمر فحاصروه وطلبوا منه أن يعتزل ، ولأن قاعدة ما في الأمر لم تكن موجودة ، فقد أجابهم بقوله الشهير والله لا أنزع ثوباً سربلنيه الله ( أي ألبسنيه الله ) ، وحين اقترب الأمر من نهايته ، وأصبح قاب قوسين أو أدنى من ملاقاة حتفه على يد رعيته ، أرسلوا إليه عرضاً فيه من المنطق الكثير ومن الصواب ما لا يختلف عليه .

    فقد خيروه بين ثلاث :

    - إما الإقادة منه ( أي أن يعاقب على أخطائه شأنه شأن أي مسلم يخطئ ) ويستمر بعدها خليفة بعد إدراكه أنه لا خطأ دون عقاب.

    - وإما أن يتبرأ من الإمارة ( أي أن يعتزل الخلافة بإرادته ) .

    - وإما أن يرسلوا الأجناد وأهل المدينة لكي يتبرأوا من طاعته ( أي أن يعتزل الخلافة بإرادة الرعية ) .

    فكان رده كما ورد في رسالته الأخيرة كما انتسخها بن سهيل ( وهم يخيرونني إحدى ثلاث إما يقيدونني بكل رجل أصبته خطأ صواباً غير متروك منه شئ ، وإما أعتزل الأمر فيؤمرون آخر غيري وإما يرسلون إلى من أطاعهم من الأجناد وأهل المدينة فيتبرأون من الذي جعل الله سبحانه لي عليهم من السمع والطاعة فقلت لهم أما إقادتي من نفسي فقد كان من قبلي خلفاء تخطئ وتصيب فلم يستقدمن أحد منهم وقد علمت إنما يريدون نفسي وأما أن أتبرأ من الإمارة فإن يكلبوني أحب إلى من أن أتبرأ من عمل الله عز وجل وخلافته وإما قولكم يرسلون إلى الأجناد وأهل المدينة فيتبرأون من طاعتي فلست عليكم بوكيل ولم أكن استكرهتهم من قبل على السمع والطاعة ولكن أتوها طائعين ) .

    هنا يوضح عثمان بصراحة أن مراجعة الخليفة على الخطأ لم تكن واردة فيمن سبقه من الخلفاء ( أبو بكر وعمر ) أو على الأقل ليس لها قاعدة ، وهنا أيضاً يعلن بلا مواربة أنه مُصر على تمسكه بالحكم حتى النهاية وأن اعتزاله غير وارد ، وهنا أيضاً يواجه الدعوة إلى سحب البيعة بمنطق غريب مضمونه ، وهل كنت أكرهتكم حين بايعتم ؟ وكأن البيعة أبدية ولا مجال لسحبها أو النكوص عنها .

    لا قاعدة إذن ولا نظام للرقابة ، والأمر كله موكول لضمير الحاكم إن عدل وزهد كان عمر ، وإن لم يعدل ويمسك بالحكم كان عثمان .

    لقد أعلن عثمان أن نظام الحكم الإسلامي ( من وجهة نظره ) يستند إلى القواعد الآتية :

    - خلافة مؤبدة

    - لا مراجعة للحاكم ولا حساب أو عقاب أن أخطأ .

    - لا يجوز للرعية أن تنزع البيعة منه أو تعزله ، ومجرد مبايعتها له مرة واحدة ، تعتبر مبايعة أبدية لا يجوز لأصحابها سحبها وإن رجعوا عنها أو طالبوا المبايع بالاعتزال .

    ولأن أحدا لا يقر ولا يتصور أن تكون هذه هي مبادئ الحكم في الإسلام ، قتله المسلمون ، لكن السؤال يظل حائراً ، ومضمونه ، هل هناك قاعدة بديلة ؟

    أو نظام حكم واضح المعالم في الإسلام ؟

    هل هناك قاعدة في القرآن والسنة تحدد كيف يبايع المسلمون حاكمهم ، وتضع ميقاتاً لتجديد البيعة ، وتحدد أسلوباً لعزل الحاكم بواسطة الرعية ، وتثبت للرعية حقها في سحب البيعة كما تثبت لها حقها في إعلانها ، وتعطي المحكومين الحق في حساب الحاكم وعقابه على أخطائه ، وتنظم ممارستهم لهذا الحق ؟

    أعتقد أن السؤال كان حائراً ولا يزال ، بل إن السؤال نفسه قد اختفى بعد عهد الخلفاء الراشدين ، وحرص المزايدون والمتزيدون في عصرنا على إخفائه ، تجنباً للحرج ، وتلافياً للخلاف ، ونأياً بأنفسهم عن الاجتهاد وهو أمر بالنسبة لهم عسير ، ربما عن قعود ، وربما عن جمود ، وربما عن عجز .



    النتيجة الثانية :

    إن تطبيق الشريعة الإسلامية وحده ليس هو جوهر الإسلام ، فقد طبقت وحدث ما حدث ، وأخطر من تطبيقها بكثير وضع قواعد الحكم العادل المتسق مع روح الإسلام ، فقد رأينا أن الشريعة كانت مطبقة ، وأن الحاكم كان صالحاً ، وإن الرعية كانت مؤمنة ، وحدث ما حدث ، لغياب ما غاب ، وأظنه لا يزال غائباً .

    ولعل ما حدث في السودان خير دليل على مغبة البدء بالوجه العقابي للإسلام ، وهو ما حدث حين أعلن الحاكم عن تطبيق الشريعة الإسلامية وبدأ في إقامة الحدود في مجتمع مهدد بالمجاعة ، الأمر الذي ترتب عليه أن أصبح أنصار تطبيق الشريعة الإسلامية بعد تلك التجربة أقل بكثير من أنصارها قبل التطبيق ، فالبدء يكون بالأصل وليس بالفرع ، وبالجوهر وليس بالمظهر ، وبالعدل قبل العقاب ، وبالأمن قبل القصاص وبالأمان قبل الخوف ، وبالشبع قبل القطع .



    النتيجة الثالثة :

    إنك إن انتقلت من عهد عثمان إلى عهدنا الحاضر ، لا تجد شيئاً قد اختلف أو استجد سواء بالنسبة لحل مشاكل المجتمع ، أو بالنسبة لمواجهة السلطة إن انحرفت ، من خلال منظور إسلامي ، ودونك ربطهم بين تطبيق الشريعة وحل مشاكل المجتمع ، واسألني وأسأل نفسك .



    * كيف ترتفع الأجور وتنخفض الأسعار إذا طبقت الشريعة الإسلامية ؟





    * كيف تحل مشكلة الإسكان المعقدة بمجرد تطبيق الشريعة الإسلامية ؟





    * كيف تحل مشكلة الديون الخارجية بمجرد تطبيق الشريعة الإسلامية ؟





    * كيف يتحول القطاع العام إلى قطاع منتج بما يتناسب وحجم استثماراته في ظل تطبيق الشريعة الإسلامية ؟



    هذه مجرد عينات من الأسئلة ، على الداعين للتطبيق الفوري ( للشريعة ) والمدعين أنها سوف يترتب عليها حل ( فوري ) لمشاكل المجتمع أن يجيبوا عليها ، وهم إن حالوا الإجابة وجدوا أنفسهم أمام المأزق الذي يدور هذا الحوار حوله ، وهو وضع برنامج سياسي متكامل ، بل إن تفرغهم للإبداع ( النقلى ) من اجتهادات القرن الثاني الهجري يمكن أن يقودهم إلى تعقيد المشاكل بدلاً من حلها ، فالنظرة الضيقة إلى مفهوم الربا إن طبقت في عالم اليوم ، سوف تقود إلى ارتباك هائل في سوق المال وسوف تلجئ إلى تحايل نرى ملامحه في تجربة البنوك الإسلامية ، وربما أدت إلى الخراب بدلاً من التنمية ، والكساد بديلاً عن الرواج .

    وقبل أن تفغر فاك مندهشاً أو ترفع يدك معترضاً دعني أذكر لك أن الشريعة لا تقود إلى ذلك ، بل إنه اجتهاد القرن الثاني الهجري هو الذي يقود إذا طبق في عالم تغيرت معالمه تغيرت معالمه ، وتبدلت أحواله ، وعرف أنماطاً من التعامل لم يعرفها السلف ، وطرأت فيه من المتغيرات ما لا يقصر الاستدانة على الحاجة ، أو الادخار على مفهوم إقراض الغير ، وعرف التضخم الذي يترتب عليه خفض القوة الشرائية للنقود ، إلى غير ذلك مما لا يسعه حصر ولم يشمله اجتهاد بعد ، اللهم إلا اجتهاد في مناخ غير المناخ ، ولعصر غير العصر .

    هذا عن الربا ، فماذا عن الأجور والأسعار والإسكان ، هل هناك علاقة بين هذه الظواهر أو المشاكل وبين تطبيق الشريعة ، المؤكد أنهلا علاقة ولا ارتباط ، لكن الارتباط قائم ومؤكد إن كان الحديث عن برنامج سياسي ينتظم مفردات المجتمع بما فيه الشريعة في منظومة لا تتناقض مع الإسلام ولا تتصادم مع متغيرات الواقع .



    النتيجة الرابعة :

    إننا يجب أن نفرق بين الهروب والمواجهة ، وبين النكوص والإقدام ، وبين المظهرية والجوهر ، فالمجتمع لن يتغير والمسلمون لن يتقدموا بمجرد إطالة اللحية و حلق الشارب ، والإسلام لن يتحدى العصر بإمكانيات التقدم بمجرد أن يلبس شبابنا الزي الباكستاني ، ومصر لن يتألق وجهها الإسلامي الحضاري بمجرد أن يتنادى الشباب بغير أسمائهم فيدعو الواحد منهم الآخر باسم ( خزعل ) ويرد عليه الآخر التحية بأحسن منها فيدعوه ( عنبسة ) .

    واللحاق بركب التقدم العلمي لن يحدث بمجرد استخدام السواك بديلاً عن فرشاة الأسنان أو تكحيل العينين أو استعمال اليد في الطعام أو الاهتمام بالقضايا التافهة مثل نظرية ( حبس الظل ) في شأن التماثيل أو الصور أو إضاعة الوقت في الخلاف حول طريقة دخول المرحاض وهل تكون بالقدم اليمنى أم اليسرى ، وميقات ظهور المهدى المنتظر ، ومكان ظهور المسيخ الدجال ، فكل هذه قشور ، والغريب أنها تشغل أذهان الشباب وبعض الدعاة بأكثر مما يشغلهم جوهر الدين وحقيقته .

    وهو جوهر لا يتناقض مع التقدم بحال ، وهي حقيقة لا تتوقف أمام هذه الأمور الصغيرة ، ولعلي أعترف لك أيها القارئ أنني حزين أشد الحزن ، ومكلوم حقيقة لا مجازاً ، وأنا أشهد شبابنا وقد امتلأ رأسه بهذه الأمور التافهة ، وأشهد قادته من أصحاب الطموح ، ومدعى إحياء الإسلام ، وهم يرسخون فيه هذه الأسس ، بل ويتجاوزون ذلك إلى دعوته لترك العلوم ( الوضعية ) أو الأعمال ( العلمانية ) والتفرغ للعبادة .

    هل هذا هو وجه الإسلام الحقيقي ، وهل هذا هو ما سنواجه به القرن الحادي والعشرين ، وهل هؤلاء الذين يسيئون قيادة أنفسهم وأتباعهم هم الصالحون لقيادة المجتمع ، وهل أقبل منهم أو تقبل منهم دعوتهم للدولة الدينية وهم لا يتمسكون من الدين إلا بالقشور ، ولا يعرفون من العقيدة إلا مظهرها الذي لا أصل له في كتاب الله ، ولا سند له إلا التأسي بالرسول في مسايرته لعصر غير عصرنا ، ولمجتمع يختلف جملة وتفصيلاً عن المجتمع الذي نعيشه ، وليتهم تأسوا به وهو يدعو للرحمة ، ويستنكر قتل المسلم للمسلم ، ويدعو لطلب العلم ولو في الصين ، ويستنكر اعتزال العمل للعبادة ، ويعدل في قسمته بين الدين والدنيا ، ويعلن حكمته الخالدة للأجيال التالية له ، ومضمونها أنهم أعلم بشئون دنياهم .

    هؤلاء قوم كرهوا المجتمع فحق للمجتمع أن يبادلهم كرهاً بكره ، ولفظوه فحق له أن يلفظهم ، وأدانوه بالجاهلية فحق له أن يدينهم بالتعصب وانغلاق الذهن ، وخرجوا عليه فحق له أن يعاملهم بما اختاروه لأنفسهم ، معاملة الخارجين على الشريعة والقانون ، ووضعوا أنفسهم في موضع الأوصياء على الجميع ، وهم أولى الناس بأن يعاملوا معاملة المحجور عليهم ، وهم من قبل ومن بعد ، أساءوا للإسلام ذاته حين ادعوا عليه ما ليس فيه وأظهروا منه ما ينفر القلوب ، وأعلنوا باسمه ما يسئ إليه ، وأدانوه بالتعصب وهو دين السماحة ، واتهموه بالجمود وهو دين التطور ، ووصموه بالانغلاق وهو دين التفتح على العلم و العالم ، وعكسوا من أمراضهم النفسية عليه ما يرفضه كدين ، وما نرفضه كمسلمين .



    هو الهروب لأنه أسهل من المواجهة ، وهو النكوص لأنه أهون من الإقدام ، وهي المظهرية لأنها أيسر من إدراك الجوهر ، وهم في مزايدتهم على المظاهر يغالون في المطالبة بالشريعة ، وهي مطالبة تتسق مع ما درجوا عليه واتسق تفكيرهم معه ، فتطبيق الشريعة في مجتمعنا الحالي ، على ما تركه السلف دون اجتهاد ومراجعة ، إنما تمثل مظهراً لا غناء فيه ، وظاهراً من الأمر لا جوهر له ، ومجرد إطار شكلي لا مضمون داخله ، أما الجوهر والإطار والمضمون فهو ما أشرت إليه من قواعد تنظم المجتمع على أساس لا تتناقض مع جوهر الدين في شئ ، ولا تصطدم مع معطيات العصر في إطارها العام ، وهو مطلب بالنسبة لهم عسير ، فهم مطالبون أولاً أن يروا العصر على حقيقته قبل أن ينظروا له ، وأن يعيشوه قبل أن يبرمجوه ، وأن يتفاعلوا معه قبل أن يخططوا مستقبله ، وهم في النهاية سحابة صيف لا أشك أنها إلى زوال ، وغيم داكن لا أحسب إلا أنه إلى انقشاع .



    رابعا : إن أصحاب وجهة النظر الأولى ، وأقصد بهم الداعين إلى التطبيق الفوري للشريعة الإسلامية ، يضمرون عداء لا حد له للديموقراطية ، إما عن قصد نتيجة عدم إيمانهم بها كما أسلفت ، وإما عن حسن نية من الكثيرين الذين يدفعهم حماسهم للشريعة إلى المطالبة بإقرارها بعرضها على مجلس الشعب ، دون أن تناقش على نطاق شعبي واسع ، مع تلويحهم بسيف الخروج عن الدين لأعضاء المجلس ، إن هم رفضوا أو تأنوا أو ترددوا ويتجاوز البعض فيحالون القفز فوق المجلس ، متوجهين مباشرة إلى رئيس الجمهورية ، ومطالبين له بوضعها – هكذا – موضع التنفيذ الفوري الناجز .

    ولأن الأمر كما أوضحت ليس أمر شريعة بل أمر اختيار بين الدولة الدينية والدولة المدنية ، وهو اختيار كما شرحت من قبل ، بين بديل واضح ومطبق وهو الدولة المدنية ، وبديل آخر لم يجهد أصحابه أذهانهم في بلورته وتوضيحه وهو الدولة الدينية ، فأنه من الصعب والأمر كذلك أن يقضى بشأن هذا الأمر في جلسة أو اثنتين ، أو في أسبوع أو اثنين ، بل إنني أتصور سبيلاً آخر لطرح هذا الأمر ومناقشته ، وهو سبيل أرى أنه الأوفق والأصح ، ليس فقط من وجهة نظري ، بل إنه لزوم ما يلزم بالنسبة لأمر هذا شأنه ، وتلك طبيعته ، ولعلي قبل أن أعرض تصوري في هذا الشأن ، أتسمع رأي المعارضين لقولي جملة وتفصيلاً ، وكأني بهم يقولون ، ها هو يلتوي بالكلم ، وينكر علينا حقاً يرضاه للآخرين ويطلبه لنفسه ، ويتصور الديموقراطية وفقاً على آرائه ونظرائه ، ولا يلتزم بالدستور الذي أقر أن تكون مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للقوانين ، ولا يلزم نفسه بإرادة الأمة التي أنشأت هذا التعديل ، وتمثلت في استفتاء شعبي أعطى التأييد الكامل له ، وهي كلها آراء جديرة بالبحث والمناقشة ، وتستحق بالفعل كثيراً من التوقف والتأمل .

    أما عن الدستور فلا أحسب أنه قد جاء بجديد ، فأغلب القوانين القائمة مستمدة من مبادئ الشريعة الإسلامية ، مما يجعل منها المصدر الرئيسي للتشريع في مصر ، مع ملاحظة أرى أن إبداءها واجب ، وتتلخص في أن الدستور ليس كتاباً مقدساً ، وأنه يحق لأي مواطن أن يختلف مع بنوده أو أن يعترض عليها ، وله أيضاً أن يطالب بتعديلها ، على أن يسلك في هذا السبيل ما نظمه الدستور نفسه من سبل لتعديل مواده أو إلغائها أو الإضافة إليها ، بل أن أصحاب وجهة النظر الأولى يعترضون على الكثير من نصوص الدستور ، مثل النص على تعدد الأحزاب الأمر الذي يختلف عن اعتقادهم في قصرها على حزبين هما حزب الله وحزب الشيطان ، بل ويتجاوز أغلبهم تلك الجزئية إلى الاعتراض على ما يتعلق بنظام الحكم في الدستور جملة وتفصيلاً .

    ما بالهم إذن يلقون الحجة وهي مردودة إليهم ، ويطلقون الرأي وهو مأخوذ عليهم ، ويستندون للدستور وهو غير مقبول منهم ..

    وقريب من ذلك احتكامهم إلى الإستفتاء دليلاً على التأييد الشعبي ورفضهم الاعتراف بشرعية جميع الاستفتاءات التي حدثت منذ اختلفت معهم الثورة وحتى الآن ، عدا استفتاء واحد صادف هوى في نفوسهم ، ومس من قلوبهم الشغاف ، وحلق بهم في أحلام وردية وامتشقوه سلاحاً يخرسون به الألسنة ، ويذودون به عن أوهامهم حيناً وأحلامهم أحياناً .

    هو الهوى حين يتسلط ، والغرض حين يستبد ، والمنطق حين يهرب ، والعقل حين تغشاه العاطفة ، والحجة حين يشوبها الضعف والكلام حين يحتوى خبيئاً ، معناه ليست لنا عقول .

    ليس الدستور إذن هو السند ، و ليس الاستفتاء هو الحجة ، وإنما سبيلهم الوحيد كما أتصور ، أن يفعلوا ما فعله الآخرون ، وهو أن يتقدموا إلى الشعب ببرنامجهم السياسي ، وأن يشكلوا حزبهم أو أحزابهم ، فإن حازوا الأغلبية في انتخابات حرة فقد ألزمونا بالحجة الدامغة ، وأخرسونا بالفعل السديد ، و قد اخترت لفظ ( أخرسونا ) عن قصد لاعتقادي أنه سوف يكون واقعاً لا مراء فيه ، ففاقد الديموقراطية لا يعطيها ، لكنه إن توصل للحكم بإرادة الشعب كان له ما أراد .

    هنا قد يحتج القارئ بأن القوانين الحالية لا تتيح لهم تشكيل أحزاب على أساس العقيدة الدينية ، وهو نص قانوني له وجاهته، لكون الأحزاب السياسية منبراً لكل المصريين مهما اختلفت عقائدهم ، لكني أحسب أن المناخ الرديء قد تجاوز ذلك وأن الإخوان المسلمين على سبيل المثال يملكون حزباً ، ومكتب إرشاد ، وصحفاً ومجلات حزبية وغير حزبية تدافع عنهم وتتبنى آراءهم بل ووصل الأمر إلى تواجد ممثلين لهم في المجلس النيابي بعد تحالف الوفد والإخوان المسلمين ، ذلك التحالف الذي يشبهه بعض الظرفاء بزواج المتعة الذي تعترف به بعض طوائف الشيعة وتنكره طوائف السنة .

    هم موجودون إذن ، وهم توصلوا بالشرعية إلى تواجد شرعي ، وإنكار تواجدهم إخفاء للرؤوس في الرمال ، والسماح لهم ولغيرهم من التيارات السياسية الدينية بتشكيل أحزابهم له من المزايا ما لا يستهان به ، فسوف يلزمون بوضع برامج سياسية ، وسوف يدور الحوار معهم على أرض الواقع السياسي ، وسوف يكون حوار دنيا لا حوار دين وسوف يكون هدفهم كراسي الحكم لا قصور الجنة ، وسوف يحجم أئمة المساجد عن المزايدة على مقولاتهم لدخولهم آنذاك في دائرة العمل السياسي الصريح .

    وسوف تتحول الأحزاب السياسية إلى معارضتهم بدلاً من المزايدة عليهم ، وسوف يختلفون فيما بينهم بأكثر من اختلافهم مع الآخرين ، وسوف يواجهون بعضهم البعض بأكثر مما يواجهون الآخرين ، وسوف يتحاورون في ساحة ليست ساحتهم ، ويتكلمون لغة تصعب عليهم مفرادتها ناهيك عن قواعدها ، وفي كل هذا رحمة من الله أي رحمة ، ولطف بالوطن أي لطف ، ولا حجة هنا للقائلين بأن ذلك سوف يدعو إلى إنشاء أحزاب دينية قبطية ، وأنه سوف يمزق الوطن طائفياً ، فدرس التاريخ ينبئنا بأن ذلك غير وارد ، وإن ورد فلا تأثير له ، وغير بعيد عن الأذهان حزب أخنوخ فانوس ، الذي تكون وقضى دون أن يزيد عدد أفراده على الآحاد ، وغير بعيد تجربة الوفد حين استوعب الأغلبية الساحقة من أقباط مصر ، الذين تحتويهم دائماً راية العلمانية ، وتستهويهم شعاراتها ، وهو أمر ما زالت أسبابه قائمة ، وحديث ذلك يطول ، وهو في مجمله حديث يهون من أسباب التخوف ولا يدعمها ، ويؤكد ما أدعو إليه ولا ينفيه .

    هذه هي وجهة النظر الثانية أيها القارئ ، أفضت فيها لكثرة ما أفاض أصحاب وجهة النظر الأولى في عرض آرائهم وتزيينها ، وأحسب بعد ذلك أنك إلى اختيار ، وأن التفكير الهادئ سوف يقودك إلى قرار ، بل إنني أحسب أنك توصلت بعد ما سبق إلى مجرد التردد فسوف أحمد الله ، ولعلك أدركت معي أنهم قد اختاروا الطريق السهل ، وأن اتباعهم إلى ما لا تعلم وما لا يعلمون أمر جلل ، وأن يجتهدوا قبل أن يجهدوا الآخرين بحلم لا غناء فيه ، وأن يفكروا قبل أن يكفروا ، وأن يواجهوا مشاكل المجتمع بالحل لا بالهجرة ، وأن يقتصدوا في دعوى الجاهلية حتى لا تقترن بالجهل ، وأن يعلموا أن الإسلام أعز من أن يهينوه بتصور المصادمة مع العصر ، وأن الوطن أعز من أن يهدموا وحدته بدعاوى التعصب ، وأن المستقبل يصنعه القلم لا السواك ، والعمل لا الاعتزال ، والعقل لا الدروشة ، والمنطق لا الرصاص ، والأهم من ذلك كله أن يدركوا حقيقة غائبة عنهم . وهي أنهم ليسوا وحدهم .. جماعة المسلمين
                  

12-14-2002, 04:15 AM

smart_ana2001
<asmart_ana2001
تاريخ التسجيل: 04-17-2002
مجموع المشاركات: 5695

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فرج فوده \ الحقيقه الغائبه\ (٢) (Re: smart_ana2001)

    قراءة جديدة في أوراق الراشدين



    للقارئ أن يحزن ومن حقه أن يتعجب ، وهو يستعرض معنا ما عرضناه في الفصل الأول حول مصرع عثمان ، أما الحزن فأسبابه مفهومة ، وأما التعجب فأبوابه كثيرة ، إن سددت منها باباً وحسبت أنك استرحت ، انفتحت عليك أبواب ، وأثـقلتك هموم ، وحسبك أنك إن أدنت لا تدري من تدين ، فأنت إن أدنت الثائرين لا تملك أن تبرئ عثمان ، وأنت إن أدنت عثمان لا تملك أن تبرئ الثائرين ، وأنت إن أدنت الثائرين لا تملك إلا أن تتعاطف معهم في نوازعهم ، وأنت إن أدنت عثمان لا تملك إلا أن تتعاطف معه في مصرعه ، ولعلك بحكم العاطفة الدينية أقرب إلى إنصاف عثمان ، وإلى تلمس الأعذار له ، لكنك تصطدم في سبيلك هذا بأقوال كبار الصحابة وأفعالهم ودعوة بعضهم الصريحة إلى حمل السيف والخروج عليه ، فهذا عبد الرحمن بن عوف يقول لعلي: إن شئت أخذت سيفك وأخذ سيفي ، فقد خالف ما أعطاني ثم يقول لبعض في المرض الذي مات فيه : عالجوه قبل أن يطغي ملكه وهذا طلحة في المرض يؤلب الثائرين حتى لا يجد علي مفراً من أن يفتح بيت المال ، ويوزع من أمواله عليهم حتى يتفرقوا ، ويقره عثمان على ما فعل ، ولن تمر شهور حتى يقتل عثمان ، وحتى يخرج طلحة نفسه مطالباً بالثأر له في جيش عائشة ، وحتى يصاب بسهم رماه به مروان بن الحكم ، صفى عثمان وساعده الأيمن ، وخليفة المسلمين بعد ذلك بثلاثين عاماً ، ورفيق طلحة في الجيش الثائر من أجل الثأر ، وساعتها سوف يدرك طلحة أنها النهاية ، فيردد في لحظات الصدق مع النفس ومع الله ، هذا سهم رماني به الله ، اللهم خذ لعثمان منى حتى ترضى ، وهو قول بالغ الدلالة على صحوة الضمير ، وتيقن الخطأ ، ولم يكن طلحة في هذا مبتدعاً ، وإنما كان مسايراً لفعل أصحابه ، وهم أنفسهم صحابة الرسول ، غاية ما في الأمر أنه كان أكثر تطرفاً ، فأهلك وهلك ، أما علي والزبير وابن مسعود وعمار وغيرهم ، فقد تراوحوا في معارضتهم بين العنف واللين ، وانتهوا ما انتهى إليه طلحة ، حين هلك بعضهم معه ، وتأخر البعض إلى حين .

    حدث ما حدث ، وقتل المسلمون بسيوف المسلمين ، وهلك الصحابة بسيوف الصحابة ، وبقيت دلالات الحوداث تؤرق أذهاننا حتى اليوم ، واختلف الفقهاء حتى يومنا هذا مع ما لم يتمن أحد أن يناقش ، ناهيك عن أن يحدث ، وهو ( شرعة قتال أهل القبلة ) ، أي مشروعية قتال المسلمين للمسلمين ، ويحلو للبعض أن ينسب نشأة هذه الظاهرة إلى أوائل عهد علي ، لكنا نعود بها إلى عهد أبي بكر ، حين نتوقف أمام حروب الردة متأملين مفرقين بين قتال أبي بكر للمرتدين عن الإسلام ، وبين قتاله للممتنعين عن دفع الزكاة له أو لبيت المال ، ولنا في التفرقة بين الفريقين منطق بسيط ، يسلم بارتداد الفريق الأول ، ويتحرز في وصف الفريق الثاني بالردة ، فقد كانوا ينطقون بالشهادتين ، ويؤدون جميعا دون إنكار ، ويؤدون الزكاة نفسها لكن للمحتاج وليس للخليفة أو لبيت المال ، وكانت حجتهم في ذلك الآية الكريمة ( خذ من أموالهم ) ، منصرفة إلى الرسول ، موجهة إليه ، ولا يجوز أن تنصرف لغيره ، لأنها لم توجه إلى غيره ، حتى لو كان هذا الغير خليفة الرسول ، ولعلنا ونحن نتأمل ونفرق ، وربما نتعاطف ، نستحضر في أذهاننا موقف عمر من أبي بكر ، وهو يسائله عن حجته في قتل من ينطق بالشهادتين ، فيجيبه أبو بكر بما يعنى أن للشهادة ( حقها ) ، يقصد بهذا الحق أداء الزكاة لبيت المال ، وهو اجتهاد مجهد وجهيد ، ولعل عمر كان يستحضر في ذهنه وهو يحاور أبا بكر حديث الرسول عن أن المسلم لا يقتل إلا لثلاث ، إن زنى بعد إحصان ، أو أرتد بعد إيمان ، أو قصاصاً لقتل النفس بغير حق ، ولعله كان يرى أن نفى الإيمان عن ناطق الشهادتين ، مؤدى الصلاة ، صائم رمضان ، حاج البيت أن استطاع لذلك سبيلاً ، مؤدى الزكاة إلى المحتاج دون وساطة ، أمر أن لم يتسع له الإنكار ، ونظنه يتسع له ، فلا بد أن يضيق به باب القبول أي ضيق ، ولعلنا إلى مثل ذلك الضيق أقرب ، بل لعلنا منكرون كل الإنكار ، لسبب يتصل بنا أكثر مما يتصل بعمر أو بأبي بكر .

    فنحن نفعل ما فعله أولئك القوم تماماً ، وندفع الزكاة للمحتاج كما كانوا يدفعونها تماماً ، ولا ندفعها مثلاً لوزارة الخزانة أو لرئيس الجمهورية ، وإن جاز لأبي بكر قتالهم وقتلهم ، فإنه يجوز للبعض أن يخرجوا علينا مقاتلين وقاتلين ، لا يشفع لنا عندهم أن نرفع عقيرتنا بالنطق بالشهادتين ، ولا أن نقسم على أننا ملتزمون بأركان الدين ملزمون لأنفسنا بها ، ولولا أننا لم نجد في ديننا عصمة لغير النبي ، ولولا أيضاً أننا نرى أن اجتهاد أبي بكر من يليه ، وإلا لسلك جميع جمع الخلفاء سبيله في تولية من يليه ، بالنص على اسمه في كتاب مغلق يبايعون عليه مغلقاً ، وهو ما لم يأخذ به أحد بعده ، لولا هذا كله ، ولولا إيماننا بأن الإسلام حق ، والقرآن حق ، ونبوة الأنبياء حق ، وبشرية غيرهم حق ، ما تناولنا ما أوردناه .

    و ما استطردنا فذكرنا أن أبا بكر كان على حق ، إذا ناقشنا الأمر من باب آخر هو باب السياسة . فلولا ما فعل ما أصبح للإسلام دولة ثابتة الأركان ، متينة البينان ، تفتح البلدان ، وتنشر العقيدة وتثبت دعائمها ، ولقد اجتهد أبو بكر في السياسة فأصاب دون شك ، واجتهد في الدين فأصاب أجرين في رأيه ، وأجراً واحداً في رأينا ، وربما أثبت لمن يرونه أصاب أجراً واحداً أن السياسة قد تتناقض مع قواعد الدين وأصوله ، تلك المحفوظة لنا تماماً كما وجدها ، وكما نجدها قرآناً وسنة .

    وما كان اجتهادنا إلا اجتهاداً وما كان لأحد أن يزعم أن اجتهاد أبي بكر أصل من أصول العقيدة أو ركيزة من ركائز الإيمان ، وما كان لنا أن نؤيد ما قد يراه من أن قرار أبي بكر كان سياسياً وليس دينيا ، وبمعنى آخر كان علمانياً يفصل بين السياسة والدين ، فنحن لا نود أن نرد على تعسف في الاجتهاد بتعسف في الإستنتاج ، ولعل فيما ذكرناه ونذكره الكفاية لاستنزال اللعنات علينا ممن يرون في أسماء الصحابة قدساً من الأقداس ، وفي أفعالهم طوطماً لا يمس ، وحسبنا أن نذكرهم بحديث الرسول الكريم ، عن أن عمار بن ياسر سوف تقتله الفئة الباغية ، وهو حديث ثابت وصحيح ، لأن الجميع تذكره حين قتل عمار ، تذكره جيش علي فتهلل ، وتذكره جيش معاوية فتزلزل ، ولم يهدئ روعه إلا رد معاوية المحنك " قتله من أخرجه " .

    غير أنا نرى الأمر بعد هذه السنوات عظيماً وجليلاً وذا خطر ، ونقرأه بعد كل هذه السنوات فنتزلزل ، فإحدى الفئتين باغية لا شك ، ولو سلمنا بظاهر الحديث لحكمنا عل جيش معاوية بالبغى ، ولأصبح معاوية باغياً وعمرو بن العاص باغياً ، ومروان بن الحكم باغياً ، وعبيد الله بن عمر باغياً ، وغيرهم وغيرهم .

    ولو سلمنا بتفسير معاوية لأصبح البغاة فريقاً من كبار الصالحين لا نجرؤ على ذكر أسمائهم مقترنة بالبغى ، وإذا كنا قد توقفنا عند مقابلة اجتهاد أبي بكر باجتهاد مقابل ، فإن بعضاً من كبار الصالحين مثل واصل بن عطاء ، فقيه المعتزلة وإمامهم ، وعمرو بن عبيد ، الزاهد الورع ، الذي وصفه الخليفة المنصور بقوله الشهير ( كلكم يطلب صيد . غير عمرو بن عبيد ) ، كانا أجرأ منا حين أطلقا لعقولهم العنان ، وهما من هما ، تديناً وفقهاً وعلماً ، فأنكرا فعل الفريقين في أصحاب الجمل ، وأصحاب صفين ، وذكرا أنه " لا تجوز قبول شهادة علي وطلحة والزبير على باقة بقل ( كل نبات اخضرت له الأرض ) " ، وأوضح من قول واصل وعمرو ، قول عبد الله بن عباس لعبد الله بن الزبير ( لو كان جيش الإمام على حق فقد كفر الزبير بقتاله ، ولو كان جيش عائشة على حق فقد كفر الزبير بتخليه عنه ) .

    وهي أقوال لا نفحصها ولا نمحصها ، وإنما نذكرها متأملين ، مقارنين عصراً بعصر ، ومناخاً بمناخ ، وفكراً بفكر ، وحسبنا أننا لا نتجاوز الاجتهاد في تفسير الوقائع ، بينما اجتهد عمر بن الخطاب فيما هو أجـّل وأعظم ، مخالفاً ما نعرفه ونلتزم به من أنه لا اجتهاد في النص ، أو لا اجتهاد مع وجود نص ، ولم يكن اجتهاده قاصراً على التفسير أو التعديل ، بل امتد إلى التعطيل والمخالفة ، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة اجتهاده ، ولعلنا لا نعرف نظيراً لعمر كرجل دين ورجل دولة على مدى التاريخ الإسلامي كله ، فهو القاسي على نفسه في الحق ، ومن هنا قبلت الرعية قسوته ، ثقة منها أنه على حق ، وهو الزاهد في الدنيا زهداً لم يعرفه حاكم قبله أو بعده ومن هنا قبل الجميع أن يحاسبهم ، وأن يتحرى عن كسبهم ، وأن يأخذ منهم ما يفيض عن حاجتهم ، وأن يعنف عليهم أشد العنف ، إن رأي فيهم أهون الميل للهوى ، أو الهوى للميل ، وهو الذي يخطئ فيتعلم من الخطأ ولا تأخذه العزة بالإثم .

    فها هو يولى عمار بن ياسر على الكوفة ، ثم لا يلبث أن يتبين أن صلاح الدين لا يعنى بالضرورة صلاح الدنيا ، وأن للحكم ميدانه وللسياسة فرسانها ، وليس بالضرورة أن يكونوا رجال الدين وفرسانه ، فيعزل عمار ، ويولى أمثال المغيرة بن شعبة ويزيد بن أبي سفيان ومعاوية بن أبي سفيان ، ويرفض أن يولى أباذر معلناً أمامه أن به ضعفاً ، وأن الضعيف لا يولى مهما ارتفع في سلم العقيدة درجات ، فهذه ساحة وتلك ساحة ، إن اجتمعتا – ونادراً ما تجتمعان – فهو الكمال ، وإن افترقتا – وغالباً ما تفترقان – فلكل ساحة رجالها ، ولكل ميدان فرسانه ، فرجال السياسة أجدر بالحكم ، ورجال الدين أحفظ للعقيدة ، غير أن أعظم ما تركه عمر لنا ، هو ذاته أكثر ما تجنبه اللاحقون ، وما ارتعدوا عند ذكره ، ناهيك عن الإقدام عليه ، ونقصد به الاجتهاد ، ذلك الذي بدأنا حديث عمر بذكره وما تميز عمر فيه عن الجميع ، حين اجتهد -كما ذكرنا – مع وجود النص القرآني ، وبالمخالفة له ، وقدم في تبرير ذلك حجة رائعة ، ما أجدر المنغلقين في زماننا أن يقفوا أمامها بالتأمل طويلاً ، وما أجدرنا بأن نذكرها لهم تفصيلاً ، عسى أن تتسع لها قلوبهم ، ويتعلموا منها أن العقل قد يسبق النقل ، وأن التفكير لا بد وأن يسبق التكفير ، ولعلنا نسائلهم مداعبين قبل أن نعرض عليهم ما نعرض ، ما حكمكم إذا ذكرنا لكم دون تخصيص أو تفصيل أن حاكماً مسلماً ، لدولة مسلمة ، قد أفتى بمخالفة نص قرآني مع علمه به ، وطبق قاعدة مختلفة معه ومخالفة له ، وأفتى بجواز مخالفة النص ذاكراً أن واقع الحياة قد تجاوزه ، وأن المنطق لم يعد يستقيم معه ، ولعلنا متصورون ، بل ومتأكدون من الإجابة ، ولعلنا أيضاً هاتفون بهم حنانيكم ، تمهلوا قليلاً ، وتحسبوا كثيراً ، فنحن نتحدث عن عمر بن الخطاب ، وهاكم النموذج كما يسرده عالم جليل ، في كتاب من أهم وأرقى ما كتب في السنوات الأخيرة .

    أما العالم فهو الدكتور عبد المنعم النمر وأما الكتاب فعنوانه ( الاجتهاد ) وأما القاعدة التي نتحدث عنها فهي خاصة بسهم المؤلفة قلوبهم وهاكم ما كتبه الدكتور النمر:

    ( سهم المؤلفة قلوبهم وهو سهم قد نص عليه القرآن ما كتبه القرآن الكريم في آية توزيع الزكاة " إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم " التوبة / 60

    وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعطيهم – وهم كفار – أو ليسوا على إسلام صحيح صادق بل متأرجحين ، ليتألف بالعطاء قلوبهم – وطالما استعبد الإنسان إحسان – فيكفوا عن المسلمين شرهم ، وليكسب ودهم أو لسانهم ، وربما حبهم وإسلامهم ، يروى سعيد بن المسيب عن صفوان بن أمية قال : " أعطاني رسول الله وإنه لأبغض الناس إليّ ، فما زال يعطيني حتى أنه لأحب الخلق إلى ".

    وسار أبو بكر رضى الله عنه في خلافته على ما سار عليه الرسول ، حتى جاءه عيينة بن حصن ، والأقرع بن حابس ، فسألا أبا بكر : يا خليفة رسول الله إن عندنا أرضاً سبخه ليس فيها كلأ ، ولا منفعة ، فإن رأيت أن تعطيناها ؟ فأقطعهما أبو بكر إياها ، على أنهما من المؤلفة قلوبهم ، وكتب لهما كتاباً بذلك ، وأشهد عليه ، ولم يكن عمر حاضراً ، فذهب إلى عمر ليشهد ، فعارض عمر ذلك بشدة ، ومحا الكتابة . . فتذمرا وقالا مقالة سيئة ، قال لهما : " إن رسول الله كان يتألفكما ، والإسلام يومئذ قليل ، وإن الله قد أغنى الإسلام . اذهبا فاجهدا جهدكم لا يرعى الله عليكما إن رعيتما " .

    والشاهد هنا ، أن عمر أوقف حكماً كان مستقراً في أيام الرسول ، وجزء من خلافة أبي بكر ، بناء على اجتهاد له ، في سبب إعطاء هؤلاء حيث اعتبر أن السبب الآن غير قائم ، فلا داعي للإعطاء ، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً ، كما عرفنا فعمر رضى الله عنه ، لم يقف جامداًً عند حدود النص وظاهره ولا حدود الفعل ، بل غاص إلى سببه وعلته ، وحكم اجتهاداً منه في فهم الحكم ، على ضوء ظروف الإسلام ، حين صار قوياً في غير حاجة إلى تأليف قلوب هؤلاء ..

    كلام منطقي ، وواضح ، وصريح ، يترتب عليه سؤال منطقي ، وواضح ، وصريح أيضاً ، مضمونه : هل يجوز لنا أن نتأسى بعمر فنعطل نصاً ، أو نجتهد مع وجوده ، ويصل بنا الاجتهاد إلى مخالفته ، إذا انعدمت علته أو تغيرت أسبابه ؟

    سؤال صعب ، وإجابته خطيرة ، وتداعيات إجابته أخطر ، ليس على الإسلام ، بل على قلوب عليها أقفالها ، وعقول تعرف الضبة وتنكر المفتاح ، غير أنا نلمح في أذهانهم طوق نجاة ، قد يتشبثون به ، وهو قولهم بأن ذلك قد يجوز ، إن تشابهت الحالة أو تماثلت مع ما سبق دون أن ينصرف ذلك إلى قواعد الدين وتعاليمه الواضحة ، مثل الحدود الثابتة بيقين في نصوص القرآن ، ولعلنا بهذا القول نتفاءل كثيراًَ ، ونتوقع منهم ما لا نعرفه عنهم قياساً على تجربة سابقة لنا معهم ، لكن ما ضرنا إن تفاءلنا ، وما خسراننا إن أحسنا الظن ، وما أجدرنا بأن نسحب منهم طوق النجاة ، وأن نحيلهم في ردنا عليهم إلى مثال آخر لاجتهاد عمر ، عطل فيه حداً من الحدود الثابتة ، وهو حد السرقة ، إذا كان السارق محتاجاً ، ثم أوقف تنفيذه في عام المجاعة ، وجدير بنا قبل عرض هذا الاجتهاد ، أن نرد على بعض من ادعوا التفقه ، وأزعجهم اجتهاد عمر ، فأفتوا بما يخالف الحقيقة ، ظناً منهم أن أحداً لا يقرأ ، أو أن الغاية تبرر الوسيلة .

    ومثال ذلك ما ذكره الأستاذ الحمزة دعبس في حواره مع وزير مغربي ، وهو حوار منشور في جريدة النور ، التي يرأس الأستاذ الحمزة تحريرها ، حين سأل الحمزة الوزير ، محاولاً إحراجه ، عن سبب عدم تطبيق الحدود الشرعية في المغرب ، فكان رد الوزير أن تعطيل الحد اجتهاد ، وأن لذلك سابقة تتمثل في تعطيل عمر لحد السرقة في عام المجاعة ، فرد عليه الأستاذ الحمزة على الفور ، بلغة الواثق من علمه ، " إن عمر لم يطبق حد السرقة ، لأن المبلغ المسروق كان أقل من النصاب " ، والحقيقة أن الواقعة التي عطل فيها عمر الحد ، والتي وردت في " الموطأ " للإمام مالك ، كانت تتعلق بسرقة ناقة ، وهي ما يفوق النصاب كثيراً ، بل ما يتناوله البسطاء في أحاديثهم عندما يتندرون فيقولون : إن سرقت فاسرق جملاً ، دلالة على ضخامة حجم السرقة وجسامته .

    والمثال الثاني ما يتردد كثيراً على ألسنة بعض الفقهاء ، وفي مقالات بعض الكتاب ممن يسمون أنفسهم بالإسلاميين من أن عمر لم يعطل الحد ، بل أقام شروطه ، لأن من هذه الشروط توفير الحد الأدنى للمعيشة والمعاش ، وردنا على ذلك يسير ، ورأينا فيه أنه مغالطة واضحة ، لأن جميع ما توافر أمام عمر وقت أن أجتهد ، لم يكن يزيد عن أمرين :

    * أولهما : نص قرآني صريح واضح قاطع بقطع اليد في السرقة دون ذكر لأية شروط .

    * وثانيهما : سنة قولية وفعلية نقلتها لنا كتب الأحاديث الصحاح وراجعناها جميعاً فلم نجد إلا اختلافاً حول تحديد النصاب أي الحد الأدنى لقيمة ما يسرق ، فتقطع اليد في مقابله ، ولعلنا نضيف إلى علمهم تصحيحاً ، وإلى معلوماتهم تصحيفاً ، فنذكر لهم أن ما اختلط في أذهانهم ، هو الشروط التي ذكرها الفقهاء بعد عمر بحوالي قرن أو قرنين ، وهي شروط عديدة تمثل اجتهاداً منهم لمسايرة ما واجهوه من ظروف الحياة وهي متغيرة ، بنصوص الشريعة وهي ثابتة ، وكل ذلك أتى بعد عمر بكثير ولم يكن عمر في اجتهاده مقتفياً أثر الشافعي أو أبى حنيفة ، وإنما كان العكس هو الصحيح ، وكان اجتهاد عمر في هذه الواقعة هو الذي فتح باب الاجتهاد لهم ، وهو الذي قنن لهم شرطاً فأضافوا شروطاً ، ولنقرأ معاً ما أورده الدكتور النمر في كتابه ( الاجتهاد ) بشأن هذا الاجتهاد من عمر :

    ( عدم إقامة الحد على السارق : وهذا اجتهاداً جديد في إقامة الحد ، اجتهد عمر في ألا يقيمه بعد ثبوت السرقة على السارقين .. ووجوب الحد عليهم ، في الحضر لا في السفر ، ولا في الغزو .

    فقد روى مالك في الموطأ ، أن رقيقا لحاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة لرجل من مزينة ، فانتحروها ، فأمر عمر بقطع أيديهم ، ثم أوقف القطع ، وفكر في أن يعرف السبب الذي من أجله سرق هؤلاء فلعلهم جياع ، وجاء حاطب فقال له عمر ، إنكم تستعملونهم ، وتجيعونهم والله لأغرمنك غرامة توجعك ، وفرض عليه ضعف ثمنها ، وأعفى السارقين من القطع لحاجتهم ..

    ولم يقف عمر بهذا عند ظاهر النص جامداً ، بل غاص إلى ما وراءه ، ووجد أنه لا يقام حين يكون السارق في حاجة تلجئه إلى السرقة ، كما قال لحاطب : " لولا أنكم تستعملونهم و تجيعونهم ، حتى لو وجدوا ما حرم الله لأكلوه ، لقطعتهم " .

    وعمر بهذا وضع أساساً لعدم تطبيق الحد على المحتاجين الذين تحدث عنهم ، وهي وجهة نظر جديدة في تطبيق الآية :

    " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا ، نكالاً من الله . . "

    المائدة / 38

    راعى فيها عمر علة القطع وظروفه ، ودار مع العلة ، وإن أدى ذلك إلى تخصيص النص أو ترك ظاهره – كما قال المرحوم الدكتور محمد يوسف موسى ، وهذه النظرة هي التي حملته على إيقاف حد السرقة أيضاً عام المجاعة ، كما حملته على إيقاف الحدود في السفر مثل ما فعل حذيفة أيضا فأوقف الحد على شارب الخمر ، وقال : " تحدون أميركم وقد دنوتم من عدوكم فيطعمون فيكم ؟ " .

    وقد أصدر عمر أمره إلى قواده ألا يجلدوا أحداً حتى يطلعوا من الدرب راجعين ، وكره أن تحمل المحدود حمية الشيطان على اللحوق بالكفار ، وهو لم يوقف الحد وإنما أجله لظروف ، حتى تزول هذه الظروف ، وهذه كلها اجتهادات لأحكام جديدة ، لم تكن قبل ذلك .. وفيها ظاهرة مخالفة لما كان في أيام الرسول وأبي بكر ) .



    وهكذا يتضح لنا أن عمر قد اجتهد فألغى سهم المؤلفة قلوبهم مخالفة للنص القرآني ، وأوقف حد السرقة على المحتاج ، ثم عطله في عام المجاعة ، وعطل التعزير بالجلد في شرب الخمر في الحروب ، ونضيف إلى ذلك أنه خالف السنة في تقسيم الغنائم فلم يوزع الأرض الخصبة على الفاتحين ، وقتل الجماعة بالواحد مخالفاً قاعدة المساواة في القصاص ، ولا نملك ونحن نستعرض ما فعل ، في ضوء الملابسات المحيطة بكل حادثة ، إلا أن نكتشف حقيقتين هامتين :

    أولاهما أنه استخدم عقله في التحليل والتعليل ، ولم يقف عند ظاهر النص .
                  

12-14-2002, 04:17 AM

smart_ana2001
<asmart_ana2001
تاريخ التسجيل: 04-17-2002
مجموع المشاركات: 5695

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فرج فوده \ الحقيقه الغائبه\ (٢) (Re: smart_ana2001)

    وثانيهما أنه طبق روح الإسلام وجوهره مدركاً أن العدل غاية النص ، وأن مخالفة النص من أجل العدل ، أصح في ميزان الإسلام الصحيح من مجافاة العدل بالتزام النص ، وهذه الروح العظيمة في التطبيق ، تخالف أشد المخالفة روح القسوة فيمن نراهم ونسمع عنهم ، وتتـناقض مع منهجهم المتزمت ، وتوقفهم أمام ظاهر النص لا جوهره ، ونكاد نجزم أنهم لو عاشوا في زمن عمر ، لاتهموه بالمخالفة لمعلوم من الدين بالضرورة ، ولقاعدة شرعية لا لبس فيها ولا غموض ، ولحد من حدود الله لا شبهة في وجوب إقامته ولرفعوا عقيرتهم في مواجهته بالآيات التي لا يملون تكرارها ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) ، ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ) ، دون توقف أمام أسباب التنزيل ، أو حكمة النص أو العقوبة ، ولعلهم يدركون أن التأسي بعمر وارد ، وأن الباب الذي فتحه باجتهاده يتسع لكثير مما نراه ونقبله ، ويرونه فينكرونه ، ويسمح لنا بأن نوجه إليهم سؤالاً محدداً وواضحاً :

    هل تعطيل إقامة الحد جائز ، وهل مخالفة النص القرآني جائزة ، وهل مخالفة السنة الثابتة ، قولية كانت أم فعلية جائزة ؟

    ولعلهم أمام ثلاث إجابات لا رابع لها :

    - أولها : أن الحكم بالجواز على إطلاقه لا يجوز ونحن نوافقهم على ذلك .

    - وثانيها : أن الحكم بإنكار الجواز على إطلاقه لا يجوز و نحن نسلم معهم بذلك ، وحجتنا عليه اجتهاد عمر .

    - وثالثها : أن الحكم بالجواز جائز في بعض الحالات ، وللضرورة ، ولأسباب منطقية وواضحة ، تتسق مع روح النص وعلته ..

    وفي هذا مساحة واسعة لنقاش طويل ، وأخذ ورد ، وحجة وحجة ، واجتهاد واجتهاد ، دون رمى لقفاز التكفير في الوجوه ، ودون ادعاء باطل بأنهم المسلمون ، وأننا الكافرون الظالمون الفاسقون ، وأن ما في مخيلتهم وحدهم هو الإسلام ، وأن ما في حياتنا كله هو الجاهلية بعينها ، غاية ما في الأمر أنها جاهلية معاصرة إلى غير ذلك مما يرونه حقاً ونراه باطلاً ، ويرونه علماً بالفقه ونراه جهلاً بالفقه وبالتاريخ ، ويرونه إيماناً ونراه تعصباً مقيتاً .

    ولعلنا لا نتجاوز سيرة عمر ، دون أن نتوقف أمام قرار خطير وجليل ، ربما مر على البعض دون أن يعيروه التفاتاً ، بينما هو في رأينا مفتاح لتفسير ما بدأنا به الحديث ، وهو الفتنة الكبرى التي حدثت في عهد عثمان ، وانتهت بمصرعه ، واستمرت طوال عهد علي وانتهت بمصرعه أيضاً .

    لقد ألزم عمر كبار الصحابة بالبقاء في المدينة ، وحظر عليهم مغادرتها إلا بإذنه ، وفسر ذلك لهم في رفق بأنه يحب أن يستأنس بهم ، ويهتدي بمشورتهم ، بينما حقيقة الأمر أنه خشى أن يفتتن الناس بهم ، وأن يفتتنوا هم أنفسهم بالناس ، وبما يفتن الناس ، وأجرى عليهم أرزاقاً محددة ومحدودة ، ألزمهم بها ، وألزم نفسه بها قبلهم ، فقبلوها منه ، مثلما قبلوا مجمل سيرته ، التي لا تأتي إلا منه ، ولعلهم ضاقوا بذلك أشد الضيق ، وكرهوه غاية الكره ، فهم في النهاية بشر يكرهون أن يمنعوا ما هو متاح للآخرين ، لكن ضيقهم من عمر ، كان يصطدم بسيرة عمر مع نفسه ، ومع أهله وخاصته ، فيستحيل الضيق رضا ، والتبرم صمتاً ، والكراهية صبراً جميلاً .

    ولعلنا في تخيلنا للكراهية أو التبرم أو الضيق لم نتجاوز الحقيقة ، ولم نحلق في الخيال ، دليلنا على ذلك أن أول ما فعله عثمان غداة ولايته ، أن أطلق الصحابة يذهبون حيث شاءوا وزاد على ذلك بأن أجزل لهم العطايا ، وذلك أمر يتفق مع طبيعة عثمان وما جبل عليه من لين ورقة وكرم وتسامح ، ولم تكن عطايا عثمان هينة أو محدودة ، فقد أعطى الزبير ستمائة ألف وأعطى طلحة مائة ألف .

    ولعله كان يتألف قلوبهم ، لعلمه أن اجتهاداته قد تختلف مع اجتهاداتهم ، وأنه مقدم على أمور لن تكون منهم محل قبول ، ومن صالحه أن يذهبوا في الآفاق ، وأن يكون قبولهم لعطاياه مانعاً لهم من الثورة أو حتى الغضب ، حين يعلمون أنه وهب ابنه الحارث مثلها ، أو أنه اقطع القطائع الكثيرة في الأمصار لبنى أمية ، غير أنهم لم يأبهوا لشيء من هذا في أول الأمر ، فقد خرجوا إلى الأمصار ، وإذا بالدنيا تقبل عليهم إقبالاً لم يخطر لهم على بال أو خيال ، وأقبلوا هم أيضاً على الدنيا .

    وحين تقبل الدنيا دون حدود ، فلابد أن تـُدبـِر العقيدة ولو بقدر محدود ، أما كيف أقبلت هذه ، وكيف أدبرت تلك ، فتعال معي وتأمل ، وتدبر معي :

    ثروات خمسة من كبار الصحابة أسماؤهم لوامع بل إن شئت الدقة أسماؤهم اللوامع ، فهم جميعاً مبشرون بالجنة وهم من الستة الذين حصر فيهم عمر الخلافة ، وأحدهم هو الخليفة المختار ، وهم عثمان بن عفان ، والزبير بن العوام ، وسعد بن أبي وقاص ، وطلحة بن عبيد الله وعبد الرحمن بن عوف ، ننقلها إليك من كتاب موثوق به هو ( الطبقات الكبرى لابن سعد ) .

    يقول ابن سعد بسنده :

    ( كان لعثمان ابن عفان عند خازنه يوم قتل ثلاثون ألف ألف ( الألف ألف هي المليون ) درهم و خمسمائة ألف درهم وخمسون ومائة ألف دينار ( الدرهم عملة فارس والدينار عملة الروم ) فانتهبت وذهبت ، وترك ألف بعير بالربذة وترك صدقات كان تصدق بها ببر أديس وخيبر ووادي القرى قيمة مائتى ألف دينار ) .


    - ( كانت قيمة ما ترك الزبير واحد وخمسين أو اثنين وخمسين ألف ألف . وكان للزبير بمصر خطط وبالإسكندرية خطط وبالكوفة خطط وبالبصرة دور وكانت له غلات تقدم عليه من أعراض المدينة )

    - ( عن عائشة بنت سعد ابن أبي وقاص : مات أبي رحمه الله في قصره بالعتيق على عشرة أميال من المدينة ، وترك يوم مات مائتى ألف وخمسين ألف درهم )


    - ( كانت قيمة ما ترك طلحة بن عبيد الله من العقار والأموال وما ترك من الناض ثلاثين ألف درهم ، ترك من العين ألفى ألف ومائتى ألف دينار ، والباقي عروض )


    - ( ترك عبد الرحمن بن عوف ألف بعير وثلاثة آلاف شاة بالبقيع ومائة فرس ترعى بالبقيع ، وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحاً ، وكان فيما ترك ذهب قطع بالفؤوس حتى مجلت أيدي الرجال منه وترك أربع نسوة فأخرجت امرأة من ثمنها بثمانين ألفاً )
    و قد ذكر المسعودى تقديرات مقاربة لما سبق من ثروات مع اختلاف في التفاصيل ، واستند طه حسين في كتابه الفتنة الكبرى لتقديرات ابن سعد ، وذكر ابن كثير أن ثروة الزبير قد بلغت سبعة وخمسين مليونا وأن أموال طلحة بلغت ألف درهم كل يوم .

    ولعل القارئ قد تململ كثيرا ، وهو يستعرض ضخامة ما تركه كبار الصحابة من ثروات ، ولعله انزعج كما انزعجنا لحديث الملايين ولعله أيضاً يتلمس مهرباً بتصور أن الدراهم والدنانير لم تكن ذات قيمة كبيرة في عصرها ، لكنى أستأذنه أن يراجع نفسه .

    فابن عوف توفى بعد عمر بن الخطاب بثمانى سنوات ، والزبير وطلحة توفيا بعد عمر بثلاث عشرة سنة ، وأقصى ما يفعله التضخم ( بلغة عصرنا الحديث ) في تلك الفترة القصيرة ، أن يهبط بقيمة النقد إلى النصف مثلاً ، ويحكى المسعودى عن عمر أنه :

    ( حج فانفق في ذهابه ومجيئه إلى المدينة ستة عشر ديناراً فقال لولده عبد الله : لقد أسرفنا في نفقتنا في سفرنا هذا ) ، وإذا كانت الستة عشر ديناراً قد كفت عمراً وولده ، أو كفت عمراً وحده ، شهراً كاملاً ، فلنا أن نتخيل ما تفعله عشرات الملايين ، وما يملكه صاحب الذهب الذي يقصر جهد الرجال عن قطعة ( بالفؤوس ) .

    ولنا أن نسوق مثالاً أوضح من المثال السابق ، عن سادس الستة الذين رشحهم عمر ، ونقصد به علياً ، الذي توفى بعد طلحة والزبير بأربعة أعوام ونصف ، وبعد ابن عوف بحوالي عشر أعوام ، وهاكم ما تركه في رواية المسعودى :

    ( لم يترك صفراء ولا بيضاء ، إلا سبعمائة درهم بقيت من عطائه ، أرد أن يشتري بها خادماً لأهله ، وقال بعضهم : ترك لأهله مائتين وخمسين درهما ومصحفه وسيفه ) .

    نحن هنا أمام نموذج ونماذج ، ومثال وأمثلة ، وتركة وتركات ، وأمام مؤشر خطير لما حدث للمسلمين ، وأمام نذير خطير لما سيحدث لهم ، فالدين والدنيا لا يجتمعان معاً إلا بشق الأنفس ، وجمع المال على هذا النحو لا يستقيم مع نقاء الإيمان وصفاء السريرة إلا بجهد مجهد وجهيد ، وقول الرسول عن ابن عوف أنه يدخل الجنة حبواً يطرق الأذهان في عنف ، فغنى عبد الرحمن وثروته يثقلان خطوه إلى الجنة ، ولا لوم ولا تثريب على المسلم إن أثرى كما يشاء ، وأدى حق الله في ماله كما يحب ، لكن ميزان كبار الصحابة ليس كميزان غيرهم ، فهم أثقل من غيرهم بالزهد ، وأجدر من غيرهم بالخصاصة ، وقد عهدناهم حين هاجروا من مكة قبل ذلك بسنوات لا يملكون غير ملابسهم ، ويبيتون على الطوى سجداً خاشعين ، وكانوا في الميزان أغنى الأغنياء ، لكن الزمن قد دار إلى غير عودة ، وما ضر المقبل على الثروة أن يقبل على الحكم ، فهما وجهان لعملة واحدة هي الدنيا المقبلة ، وسوف يأتي على خليفة بعد عثمان ، وسوف يكون الخليفة الحق في الزمان الخطأ ، وسوف يحدث له ما حدث ، لأنه لابد أن يحدث ، غاية ما في الأمر أنه كانت هناك جذوة من العقيدة ما زالت مشتعلة ، أبقت حكمه قرابة الخمس سنوات ، ولم يكن له أن يتساءل مستنكراً : أعصى و يطاع معاوية ؟ فالتساؤل على مرارته مجاب عليه : نعم يا أبا الحسن ، تعصى لأنك على دين ، ويطاع معاوية لأنه على دنيا ، فكما تكونوا يول عليكم ، وقد كان القوم أقرب إلى معاوية منك ، ولم يكن لهم أن يصبروا عليك وأنت تحاول إدارة العجلة إلى الخلف ، إلى الزمن السعيد والصحيح ، فليس لها أن تدور إلا حيث تريد لها الرعية أن تدور ، وإذا كان أصحابك قد أقبلوا على الدنيا هذا الإقبال ، أتنكر أنت على الرعية أن تقبل هي الأخرى آخذة منها بنصيب ، ساعية إلى من ييسر لها ما ترضاه ، ويتألف قلوبها بما أنست إليه ، وتألفت معه ، وأقبلت عليه ، وأدبرت أنت عنه .

    هون عليك يا أبا الحسن ، فسوف يأتي بعدك بسبعين عاماً من لا يستوعب درسك فيحاول ما حاولت ، ويقضى بأسرع مما قضيت ، سوف يأتي عمر بن عبد العزيز ، ولن يستمر أكثر من سنتين وثلاثة أشهر ، وسوف يموت دون الأربعين ، مسموماً في أرجح الأقوال مخلياً مكانه ليزيد بن عبد الملك ، شاعر المغاني والقيان ، عاشق سلامة وجبابة ، وأول شهداء العشق والغرام في تاريخ الخلفاء ، كما سنروى للقارئ بعد قليل .

    وسوف يأتي بعد عمر بن عبد العزيز بقرن ونصف ، خليفة عباسي اسمه المهتدى بالله يحاول أن يحتذي حذوه فيأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، ويزهد في الدنيا ، ويقرب العلماء ، ويرفع من منازل الفقهاء ، ويتهجد في الليل ، ويطيل الصلاة ، ويلبس جبة من شعر وسوف يكون مصيره كما ذكر المسعودى : ( فـثـقلت وطأته على العامة والخاصة بحمله إياهم على الطريقة الواضحة فاستطالوا خلافته وسئموا أيامه وعملوا الحيلة حتى قتلوه ، ولما قبضوا عليه قالوا له أتريد أن تحمل الناس على سيرة عظيمة لم يعرفوها ؟ فقال : أريد أن أحملهم على سيرة الرسول وأهل بيته والخلفاء الراشدين ، فقيل له : إن الرسول كان مع قوم قد زهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم ، وأنت إنما رجالك تركي وخزرى ومغربي وغير ذلك من أنواع الأعاجم لا يعلمون ما يجب عليهم في أمر أخرتهم وإنما غرضهم ما استعجلوه من هذه الدنيا ، فكيف تحملهم على ما ذكرت من الواضحة ؟ ) .

    وقد قتل المهتدى بعد أقل من أحد عشر شهراً من خلافته ، واختلف في قتله ، فذكر البعض أنه قتل بالخناجر ، وشرب القتلة من دمه حتى رووا منه ، ( ومنهم من رأى أنه عصرت مذاكيره حتى مات ، ومنه من رأى أنه جعل بين لوحين عظيمين وشد بالحبال إلى أن مات ، وقتل خنقاً ؟ كبس عليه بالبسط و الوسائد حتى مات ) ، لا تحزن يا أبا الحسن ولا تغضب ، فزمانك لا شك أعظم من زمن من يليك ، وحسبك أن عهدك كان فيصلاً أو معبراً إلى زمان جديد ، لا ترتبط فيه الخلافة بالإسلام إلا بالاسم ، ولا نتلمس فيها هذه الصلة بين الإسلام والخلافة ، إلا كالبرق الخاطف ، يومض عامين في عهد عمر بن عبد العزيز ، وأحد عشر شهراً في عهد المهتدى وخلا ذلك دنيا وسلطان ، وملك وطغيان ، وأفانين من الخروج على العقيدة لن تخطر لك على بال ، وربما لم تخطر للقارئ على بال ما نقلوه إليه كان ابتساراً للحقيقة ، وإهداراً للحقائق ، وانتقاصاً من الحق ، وإذا كان الشيء يذكر يا أبا الحسن ، فدعنا نقص على القراء ما راعك وما سيروعهم ، وما أفزعك وما سيفزعهم ، وسوف ننقله إليهم موثقاً بالرسائل ، تلك التي تداولتها أنت وابن عمك وأقرب الناس إليك ، عبد الله بن عباس ، حبر الأمة وبحرها ، وأحد أكثر من نقلت عنهم أحاديث الرسول ، وواليك على البصرة ، أعظم الأمصار وأجلها خطراً ، ولعلك يا أبا الحسن كنت تتوقع أن تسمع عن عبد الله بن عباس أي شئ إلا ما سمعت ، حين أتتك من صاحب بيت المال في البصرة ( أبو الأسود الدؤلى ) رسالة ينبئك فيها أن ( عاملك و ابن عمك قد أكل ما تحت يده بغير علمك ) .
                  

12-14-2002, 04:18 AM

smart_ana2001
<asmart_ana2001
تاريخ التسجيل: 04-17-2002
مجموع المشاركات: 5695

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فرج فوده \ الحقيقه الغائبه\ (٢) (Re: smart_ana2001)

    ولعلك يا أبا الحسن لم تصدق ، ولعله لم يكن أمامك إلا أن ترسل لعبد الله بن عباس مستفسراً ، متمنياً أم يحصحص الحق فيسفر عن بياض صفحته ، وهو خطابك إليه مختصراً : " أما بعد ، فقد بلغني عنك أمر ، إن كنت فعلته فقد أسخطت ربك ، وأخربت أمانتك ، وعصيت إمامك ، وخنت المسلمين : بلغني أنك جردت الأرض وأكلت ما تحت يديك ، فارفع إلى حسابك واعلم أن حساب الله أشد من حساب الناس " .

    ويأتيك يا أبا الحسن " أما بعد ، فإن الذي بلغك باطل ، وأنا لما تحت يدي أضبط وأحفظ ، فلا تصدق على الأظناء ، رحمك الله ، والسلام " .

    رد كأنه إحدى رسائل التلكس في أيامنا الحاضرة ، وهو رد لا يغنى من جوع ، ولا يسمن من شبع ، فعلي قد طلب حساب بيت المال ، فلم يظفر من ابن عباس إلا بنفي التهمة وبالسلام ، وما عليه إلا أن يعاود الكرة ، موضحاً ما يطلبه ، مؤكداً عليه ، محاولا استثارة النخوة الدينية لديه ، ولنقرأ خطاب علي :

    " أما بعد ، فإنه لا يسعني تركك حتى تعلمني ما أخذت من الجزية ، ومن أين أخذته ، وفيما وضعت ما أنفقت منه ، فاتق الله فيما ائتمنتك عليه واسترعيتك حفظه ، فإن المتاع بما أنت رازئ منه قليل ، وتبعة ذلك شديدة ، والسلام " .

    لم يعد الأمر اتهاماً ينفيه ابن عباس ، بل طلباً واضحاً ومحدداً ، ومطلوب من ابن عباس أن يجيبه ، وهو أن يكتب له ( كشف حساب ) يوضح في جانب منه موارده من الجزية ، وفي الجانب الآخر أوجه الإنفاق .

    والحقيقة أن ابن عباس قد أجاب ، وهو في إجابته لم يذكر شيئاً عن موارده وإنفاقه ، وإنما تقدم بالخصومة بينه وبين علي خطوة واسعة ، ورد عليه اتهاماً باتهام ، فعلي يتهمه باغتصاب المال ، وهو يتهم علياً بسفك دماء الأمة من أجل الملك والإمارة ، وهكذا جريمة بجريمة ، بل أن جريمة علي ( هكذا قال وهكذا أفتى ) أعظم عند الله من جريمته التي لم ينفيها أو يعتذر عنها ، ولنقرأ معاً رسالة عبد الله بن عباس إلى علي ( أما بعد ، فقد فهمت تعظميك على مرزئة ما بلغك أني رزأته أهل هذه البلاد ، والله لأن ألقى الله بما في بطن هذه الأرض من عقيانها ولجينها وبطلاع ما على ظهرها ، أحب إلى من أن ألقاه وقد سفكت دماء الأمة لأنال بذلك الملك والإمارة . فابعث إلى عملك من أحببت " .

    استقالة أسبابها غير مقنعة ، ضرب علي عند قراءتها كفاً بكف ، مردداً :

    " وابن عباس لم يشاركنا في سفك هذه الدماء ؟ " ولو رمى ابن عباس باستقالته تلك واكتفى ، لآخذناه على ما جاء فيها ، ولبررناها بغضبه من اتهام ظالم وجسيم ، أطلق منه نوازع الغضب وانفعالات الثورة ، فكتب ما كتب تحت وطأة الغيظ وفي ظل انفعال من يتهم وهو برئ ، لكنه فعل بعد كتابة هذا الخطاب ما لم يخطر لعلي على بال ، وما لا يخطر للقارئ على بال ، وما لا سبيل إلى نجاته من وزره أمام الله ، وأمام علي ، وأمامنا جميعاً ..

    لقد جمع ما تبقى من أموال في بيت المال ، و قدره نحو ستة ملايين درهم ، ودعا إليه من كان في البصرة من أخواله من بنى هلال ، وطلب إليهم أن يجيروه حتى يبلغ مأمنه ففعلوا ، وحاول أهل البصرة مقاومتهم وناوشوا بنى هلال قليلاً ، ثم أقنعوا أنفسهم بترك المال عوضاً عن سفك الدماء ، ومضى ابن عباس بالمال ، آمناً ، محروساً ، قريراً ، هانئاً ، حتى بلغ البيت الحرام في مكة ، فاستأمن به ، وأوسع على نفسه ، واشترى ثلاثة جوار مولدات حور بثلاثة آلاف دينار ..



    صدمة هائلة ، لا لعلي فقط ، بل لنا جميعاً ، نحن الذين عشنا عمرنا نقرأ عن فقه العباد له ، وزهد العباد له ، وورع العباد له ، ( يقصدون عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب ) ، فإذا بنا نحارفهما ، ونمسك ألسنتنا غصباً أمام أشهر العباد له ، ونخشى أن نصف فعله بما يستحق فلا ننجو من الألسنة الحداد ومما هو أكثر ، لكنا يجب أن لا نكون أرفق ببعض الصحابة من أنفسهم ، ولا أقل من أن نصفهم بما وصف بعضهم به بعضاً ، وحسبنا أن علياً أوجز رأيه في ابن عباس بأنه ( يأكل حراماً ويشرب حراماً ) وليس لنا إلا أن نقول مع علي :

    صدقت إن صدق ما قلت وحدث ما فعل ، بل أننا نتساءل ومعنا كل الحق ، هل الاستيلاء على أموال المسلمين بالباطل حلال على مسلم لكونه عاصر الرسول أو الخلفاء أو الصحابة ، حرام علينا لأننا جئنا في عصر بعد العصر ، وعاصرنا زماناً غير الزمان ؟ ، هي حرام عليهم بقدر ما هي حرام علينا ، بل هي حرام عليهم أكثر ، لأنهم يعرفون من الدين أكثر ، ومتفقهون فيه أكثر ، ولأنهم الأئمة والمنارة ، فإذا فسد الأئمة فمن أين يأتي الصلاح ؟ ، وإذا أظلمت المنارة فبمن نسترشد ؟

    ولعلي قبل أن أستطرد في الحديث ، وللحديث بقية ، أتذكر أن أحد أعضاء تنظيم الجهاد ، ممن اغتالوا الرئيس السادات في المنصة ، كان مشهوراً عنه أنه يكحل عينيه ، وعندما سئل ، قال تأسياً بابن عباس ، ولعله لو قرأ ما قرأناه عنه ما تأسى به وما أكتحل مثله ، واقرأوا معي رسالة علي لابن عباس ، بعد أن استقر في مكة ، هانئاً بين جواريه ، قانعاً بأموال المسلمين

    ( أما بعد ، فأني كنت أشركتك في أمانتي ، ولم يكن في أهل بيتي رجل أوثق منك في نفسي لمواساتي ومؤازرتي وأداء الأمانة إليّ . فلما رأيت الزمان على ابن عمك قد كلب ، والعدو عليه قد حرب ، وأمانة الناس قد خربت ، وهذه الأمة قد فتنت ، قلبت له ظهر المجن ، ففارقته مع القوم المفارقين ، وخذلته أسوأ خذلان الخاذلين ، وخنته مع الخائنين ، فلا ابن عمك آسيت ، ولا الأمانة أديت ، كأنك لم تكن لله تريد بجهادك ، أو كأنك لم تكن على بينة من ربك ، وكأنك إنما كنت تكيد أمة محمد عن دنياهم أو تطلب غرتهم عن فيئهم ، فلما أمكنتك الغرة أسرعت العدوة ، وغلطت الوثبة ، وانتهزت الفرصة ، واختطفت ما قدرت عليه من أموالهم اختطاف الذئب الأزل دامية المعزي الهزيلة وظالعها الكبير ، فحملت أموالهم إلى الحجاز رحيب الصدر ، تحملها غير متأثم من أخذها ، كأنك لا أباً لغيرك ، إنما حزت لأهلك تراثك عن أبيك وأمك ، سبحان الله !

    أفما تؤمن بالمعاد ولا تخاف سوء الحساب ؟ أما تعلم أنك تأكل حراماً وتشرب حراماً ؟ أو ما يعظم عليك وعندك أنك تستثمن الإماء وتنكح النساء بأموال اليتامى والأرامل والمجاهدين الذين أفاء الله عليهم البلاد ؟ فاتق الله ، وأد أموال القوم فإنك والله إلا تفعل ذلك ثم أمكنني الله منك لأعذرن إلى الله فيك حتى آخذ الحق وأرده ، وأقمع الظالم ، وأنصف المظلوم ، والسلام ) .

    خطاب يقطر دماً ، ولو استقبله ابن عباس بقلب فيه ذرة من إيمان لخشع وتاب ، ورجع عن فعله وأناب ، لكنه يرد مستخفاً في سطرين لا أكثر فيقول ( أما بعد ، بلغني كتابك تعظم على إصابة المال الذي أصبته من مال البصرة ، ولعمري إن حقي في بيت المال لأعظم مما أخذت منه والسلام ) .

    هذه المرة يأتي الرد سافراً ، نعم أخذت ، لكنه حقي ، بل إن حقي فيه أكثر ، أي حق ؟ وبأي حق ؟ وهل لعبد الله بن عباس في بيت مال المسلمين حق أكثر مما لرجل من المسلمين ؟

    هذا ما تساءل به علي في رده على هذا الخطاب ، وهو رد بليغ وحزين لا أريد أن أشغل به القارئ فأزيده حزناً فوق حزن ، لكني أنتقل به فجأة إلى رد ( برقى ) آخر من ردود ابن عباس ، حسم به النقاش ، وأنهى به الجولة ، وختم به حديث الدين والعقيدة ، مهدداً بسطوة الدنيا وسيفها ، وسلطانها وزيفها ، قائلاً لابن عمه علي :

    " لئن لم تدعني من أساطيرك لأحملن هذا المال إلى معاوية يقاتلك به " .

    وهكذا أصبحت الموعظة الحسنة أساطير لدى عبد الله بن عباس ، وأصبحنا نحن في حيص بيص كما يقولون ، نضرب كفا بكف ، ونتساءل في مرارة ، هل نأتمن على ديننا من لم يؤتمن على دنيانا ؟ .

    لا بأس أن نترك علياً لأحزانه ، وهو يرى ( كما يقول ) أن أمانة الناس قد خربت ، والأمة قد فتنت ، وابن عمه قد انقلب عليه ، وفضل رغد العيش من مال المسلمين في مكة ، على نضال العقيدة من أجل الإسلام في الكوفة ولن يمر وقت طويل حتى يقتل علي ، ، وحتى نرى عبد الله بن عباس ، ضيفاً على معاوية في مقر خلافته في دمشق ، مستقبلاً بالتوقير والملاطفة والعطايا ، غير أن العلة لم تكن فقط في نكوص رموز العقيدة عن حمل أعبائها ، بل كانت هناك علل أخرى قد تسللت إلى بنيان الدولة الإسلامية الوليدة فأجهزت عليه وهنا نترك حديث العقيدة ورموزها إلى حديث الدنيا وسياستها ، ونشير إلى أن أي حكم في التاريخ لا بد له مهابة ، وأن هيبة الحكم محصلة للتفاعل بين الحاكم والمحكوم ، وهي في النهاية ضرورة ليس لصلاح الحكم ، فهذا أمر آخر ، بل لتوطيد دعائمه ، واستمراره واستقراره ، ولا شك في أن أبا بكر بحروب الردة قد حفظ هذه الهيبة بل ورسخها في نفوس المحكومين ، ولا شك في أن عمر بعنفه وعدله معاً قد وصل بهذه الهيبة إلى أقصى الدرجات .

    ولا شك أيضاً في أن عثمان قد هبط بها رويداً رويداً حتى تلاشت أو كادت ، فهو مرة يصدر قراراً خاطئاً ، ثم لا يلبث أن يقف على المنبر لكي يعتذر ويبكي ( حتى يبكي الجميع ) ، ثم لا يلبث أن يعود عن اعتذاره إلى عنف لا يملك مقوماته ، وهو في تأرجحه بين العنف واللين ، وتراوحه بين القرار وعكسه ، يفقد الحكم هيبته لدى الرعية شيئاً فشيئاً ، حتى يصل الأمر إلى خطف السيف من يده وكسره نصفين ، وإلى قذفه بالحجارة وهو على المنبر حتى يغشى عليه ، وإلى محاصرته ومنع المياه عنه ، بل أن يرسل إليه الأشترالنخعى خطاباً يفتتحه بالعبارة التالية :

    " من مالك بن الحارث إلى الخليفة المبتلى الخاطئ الحائد عن سنة نبيه النابذ لحكم القرآن وراء ظهره "

    ولعلى أجزم بأنه لم يكن هناك سبيل لعودة هذه الهيبة إلا برجل دنيا وسياسة وحكم من شاكلة معاوية ، رجل لا يتحرج أن يقتل حُجر بن عدى ، على إيمانه وعدله وزهده ، حين يعبر حجر الخيط الرفيع بين معارضة الحكم ومحاربته ، وبين الاعتراض على الحاكم ، والثورة عليه ، لأن القضية في نظره حكم أو لا حكم ، وسلطة أو لا سلطة ، وهيبة أو لا هيبة .

    ولعل هذا المنطق هو ما حفظ جيش ( معاوية ) من الانقسام ، بينما سلك ( علي ) طريق الدين ، فحاور المنشقين ، وكلما أتوا بحجة أتى بحجة ، وإذا ذكروا آية أفحمهم بآية ، وإذا استشهدوا بحديث رد عليهم بحديث ، وكلما طال النقاش زادت الفرقة واتسع الانقسام ، ولم يعد هناك بد من أن يرفع عليهم السيف و أن يرفعوا عليه السيف ، و في النهاية صرعته سيوفهم ، لأنه هكذا ينتهي التطرف بالمتحاورين معه ، وهكذا يحسم الحوار ( الديني – الديني ) دائماً ، يحسمه الأكثر تطرفا لصالحه ، عادة يحسم معه أشياء كثيرة ، منها مبدأ الحوار ذاته ، وحياة المحاور ذاتها ، وإذا كنا نرى في أيامنا من المتطرفين عجباً ، فلأنهم رأوا منا عجباً ، تحسسوا هيبة الدولة فلم يجدوا هيبة ولا دولة ، عجموا عود النظام في الهين من الأمر فوجدوه مرناً مثل ( اللادن ) ، زادوا فوجدوه قد ازداد ليناً ، تمادوا فإذا به ينثني معهم أينما انثنوا ، عاجلوه بالجليل من الأمر فعاجلهم بضبط النفس ، انتظروا اللوم من قيادات الفكر السياسي ورموز المعارضة فلم يجدوا إلا من يشيد أو يستزيد ، ومن يصف مجرميهم بالشهداء ، أو ينعت فأسديهم بالشرفاء ، ولو طبقت عليهم الشريعة التي ينادون بها لعوملوا معاملة المفسدين في الأرض ، ولقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف ، ولصلبوا في ميادين القاهرة والإسكندرية .

    ما علينا ولنعد إلى صفحات التاريخ ، فقد توقفنا عند عثمان وعلي وذكرنا أن الخلافة الإسلامية قد انتهت علاقتها بالإسلام بعدهما ، ولم تكن لها بالإسلام صلة إلا في ومضات خاطفة تمثلت في عهد عمر بن عبد العزيز أو المهتدى ، ولعلها بدأت هذا المسار كما أشرنا في بداية عهد عثمان ، وإذا كنا ننزع صفة الإسلام عن الخلافة فيما ذلك من عهود فإن لنا في ذلك حجة سوف نسردها في موقعها من السرد ، والصحيح في رأينا أنها كانت خلافة عربية ، إن جاز التعميم وهو جائز ، والأدق أن نقول أنها قرشية إن شئنا الدقة في اللفظ وهو دقيق ، فقد حكمت قبيلة قريش المسلمين أكثر من تسعمائة سنة ) ، بينما حكم الإسلام ربع قرن أو أقل ، فالخلفاء الراشدون قرشيون ، والأمويون قرشيون والعباسيون قرشيون ، وقد استمرت الدولة العباسية بصورة رسمية ثم بصورة شكلية بعد سقوط بغداد حتى سقوك دولة المماليك في أيدي العثمانيين عام 918 هــ ، وأكاد أجزم بان قبيلة قريش بذلك تمثل أطول أسرة حاكمة في تاريخ الإنسانية كلها ، بل إن التاريخ لا يحدثنا عن أسرة واحدة حكمت نصف هذه الفترة ، ولو كان الأمر أمر رضا من المسلمين ، أو اختيار منهم لهان علينا وما توقفنا عنده ، لكننا نتوقف عنده طويلاً ، ونتأمله كثيراً لكونه ارتبط بأعز ما نملك وهو العقيدة ، وتستر بأقدس رداء وهو الدين ، واستند إلى أحاديث نبوية ننكرها على من ادعوها ، لأنها لا تمت لروح الإسلام بصلة .

    وحسبك ذلك الحديث الذي استند إليه العباسيون حتى استمر حكمهم قرابة سبعمائة وستة وثمانين عاماً ، ومضمونه أن الخلافة إذا انتقلت إلى أيدي أولاد العباس ، ظلت في أيديهم حتى يسلموها إلى المهدى أو عيسى بن مريم ، وهو حديث كاذب ، ومختلقة كذوب ، وأنا وأنت أيها القارئ لا نختلف الآن على كذب الحديث ولا تكذيب قائلة ، حجتنا في ذلك أنه ببساطة لم يتحقق ، لكن هذه الحجة لم تكن متاحة لأجدادنا ، وما كان لهم إلا أن يخضعوا صاغرين للحديث ، وإلا اتهمهم فقهاء العصر ، شأنهم شأن بعض الفقهاء الذين يظهرون في كل عصر ، بنقص في دينهم ، والتواء في عقيدتهم ، وحسبنا أن مراجع الحديث ومنها الصحيحان وابن حنبل والدرامى وأبو داود تجمع على حديث يأتي حديث لو اجتمع عليه أهل الأرض لعارضناه ، فالإسلام السمح ، الذي أتى ليساوى بين العربي والأعجمي ، لا يميز أسرة من الأسر عن غيرها بدم أزرق ، لمجرد أنها قريش ، وها هو عمر يعلن قبيل وفاته ( لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا لوليته ) ، وما كان سالم قرشياً ، وما كان عمر بالذي يجهل حديثاً له هذا القدر من الأهمية ، وها هو سعد بن عبادة ( الخزرجى ) ينافس أبا بكر على الخلافة ، ويرفض بيعته حتى وفاته ، ولو علم سعد بالحديث ما نافس ولا أنكر ولا رفض ولا أصر ، لكنه هكذا كان الأمر .
                  

12-14-2002, 04:19 AM

smart_ana2001
<asmart_ana2001
تاريخ التسجيل: 04-17-2002
مجموع المشاركات: 5695

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فرج فوده \ الحقيقه الغائبه\ (٢) (Re: smart_ana2001)

    وهكذا خضع أجدادنا لحكم الخلفاء ، الفضلاء منهم ( و ما أندرهم ) والسفهاء منهم ( وما أكثرهم ) ، خوفاً من اتهامهم بالخروج على الطاعة ، أو المخالفة للجماعة ، ويا حسرة على إسلام عظيم أتي ليساوي بين الناس ، فأحاله البعض بالكذب ، إلى دين يرسخ التفرقة العنصرية ، ويرفع البعض فوق البعض بالنسب ، ولعل المنادين بالخلافة في عصرنا الحديث ، يدلوننا على سبيل نتحقق به من أنسابنا ، فربما كنا قرشيين دون أن ندري ، فنزايد في السياسة مع المزايدين ، ونطمع في الحكم مع الطامعين ونكره المنطق مع الكارهين .

    وأخيراً ونحن نتجاوز عهد الراشدين إلى غيرهم ، يجدر بنا أن نستخلص نتيجتين :

    النتيجة الأولى :

    أن من يتصورون أنه من الممكن إعادة طبع نسخة كربونية من عصر الراشدين ، في عصرنا الحديث ، إنما يركبون شططاً من الأمر ، وقد يصلون بأنفسهم وبنا نتائج مؤسفة ، فليس كل ما كان مقبولاً في عهد الصحابة مقبولاً وصحيحاً في عصر غير العصر ، ومع قوم غير القوم ، وحتى في أفعال الرسول نفسه ، هناك مساحة واسعة لتأسيه بعصره ، ومعايشته لتقاليد قومه ، كالزي والعلاج ، وهي مساحة لسنا مطالبين بالأخذ بها أو اعتبارها سنة واجبة الإتباع والنفاذ ، فالرسول لم يأت بزي جديد ، وإنما ارتدى زي الجاهلية ، وزي الأعاجم عندما أهدي إليه ، وعليه فليس الزي النبوي وارد اكسنة للتأسي والمتابعة ، وما يقال عن الزي يقال عن الطب ، ويقال عن كثير من المفاهيم التي سادت في عصرنا الحديث ، وتقبلها الناس قبولاً حسناً ، وهي أقرب ما تكون إلى الروح العامة للإسلام إذا ما فهمناها بمنطق مخالف للمنطق ( الكربوني ) سالف الذكر ، الذي لو اتبعناه لوصل بنا نتائج أقل ما توصف به أنها مؤسفة ، بل وربما جاز وصفها بما أكثر ..

    ولنأخذ مثالاً .. التعذيب ..

    لن يختلف اثنان على القول بأن التعذيب بالإيذاء البدني أو النفسي للحصول على اعتراف أو قبل تنفيذ حكم أو خلال تنفيذ حكم أمر ينكره الدين ، ويتنافى مع جوهره في العدل والرحمة .

    هذا هو التفسير العصري ، أي الذي يأخذ روح العصر فيطابقها على روح الدين وجوهره أو يفعل العكس وهو في الحالتين مقنع ومقبول وصحيح ، فماذا عن التفسير الكربوني ؟

    إليكم واقعتين شهيرتين :

    الأولى : في حادثة الإفك المعروفة ، ، حين اتهم البعض عائشة فدعا الرسول عليا لاستشارته ( فقال يا رسول الله إن النساء لكثير وأنك لقادر على أن تستحلف وسل الجارية فإنها تصدقك فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ( بريرة ) يسألها فالت فقام إليها ( علي ) فضربها ضرباً شديداً وهو يقول اصدقي رسول الله فتقول والله ما أعلم إلا خيرا .. )

    هنا إيذاء بدني من علي للجارية بقصد الحصول منها على اعتراف ولم ينكر الرسول شيئاً مما فعله علي ، والتفسير ( الكربوني ) هنا يصل بنا إلى أنه من ( السنة ) أن يعذب المتهم للحصول على اعترافه ويصبح ما يثار حول تعذيب أعضاء الجماعات الإسلامية في السجون أمراً مشروعاً ، وشرعياً ، بل ومحمودا لأنه تأس بالسلف الصالح ..

    بينما وجهة النظر المقابلة ، المتسعة الأفق الملتصقة بروح العقيدة ، تستـنكر التعذيب ، وترى أن هذا حتى لو كان أمراً مقبولاً في عصر الرسول ، لا ينسحب على غيره من العصور ، وإذا كانت الحضارة قد أضافت فيما أضافت ، مفهوماً واسعاً لحقوق الإنسان ، يرفض فيما يرفض أن يعذب متهم للحصول على اعتراف ، فإننا نقبل هذا المفهوم من منطلق إسلامي ، ولا نرفضه لمجرد التأسي بعصر أياً كان هذا العصر ، لسببين بسيطين واضحين : أولهما أننا في عصر غير العصر وثانيهما أن الإسلام لا يتنافى مع روح العصر ، أي عصر ، في كل ما هو إنساني وسمح وعادل .

    الواقعة الثانية :

    بعد وفاة الإمام على بن أبي طالب بطعنات من عبد الرحمن بن ملجم ( دعا عبد الله بن جعفر بابن ملجم ، فقطع يديه ورجليه وسمل عينيه فجعل يقول : " إنك يا ابن جعفر لتكحل عيني بملمول مض " أي بمكحال حار محرق " ثم أمر بلسانه أن يخرج ليقطع ، فجزع من ذلك ، فقل له ابن جعفر : قطعنا يديك ورجليك ، وسملنا عينيك ، فلم تجزع ، فكيف تجزع من قطع لسانك ، قال : إني ما جزعت من ذلك خوفاً من الموت ، لكني جزعت أن أكون حياً في الدنيا ساعة لا أذكر الله فيها . ثم قطع لسانه ، فمات ) ، والرواية يذكرها ابن سعد مضيفاً إليها حرقة بعد موته ويذكرها ابن كثير دون ترجيح ويقتصر الطبري وابن الأثير على الحرق بعد القتل .

    والرواية لا تعبر في رأينا عن روح الإسلام أو تعاليمه ، حتى لو اقتصرت على حرق الجثمان بعد القصاص فقد نهى الرسول عن المثلة ولو بالكلب العقور ، ونهى ( علي ) قبل وفاته في رواية لابن الأثير عن المثلة بقاتله ، لكنها تعبر من وجهة نظرنا عن روح عصر ، سادته القسوة ، وتحجر القلب وكان مقبولاً فيه أن يحدث ما فعله عبد الله بن جعفر بابن ملجم ، دون استنكار ، بل ويكمل المشاهدون المشهد بحرق الجثمان ، بينما أضافت الحضارة إلى سلوكنا كثيرا من الإحساس بعذاب الآخرين ، وصعوبة تقبل التمثيل بهم أو تعذيبهم ، بل إنه من الصعب أن نتصور صمود مجموعة من المشاهدين لمثل ما فعله عبد الله بن جعفر ، بكلب ضال أو بقط شارد ..

    غير أن لكل حقيقة وجهين ، وما أيسر أن يجد أنصار ( الكربون ) تبريراً لفعل عبد الله بن جعفر ، وللإقتداء به ، بإلصاق تهمة الإفساد في الأرض بابن ملجم ، والتأسي بالحسن والحسين ، حيث لم يذكر عنهما أنهما أنكرا التمثيل بالجثمان بحرقه بعد القصاص . ولعلنا نتساءل ونحن نتأمل صمود عبد الرحمن بن ملجم ، وصبره على قطع أطرافه وسمل عينيه بالحديد المحمى ثم جزعه عند قطع لسانه ( حتى لا تمر عليه لحظة لا يذكر فيها الله ) .. هل هناك مثال أبلغ من هذا المثال ، على ما يمكن أن يؤدي إليه التطرف عندما يتسلط على الوجدان فلا يميز المتطرف بين الكفر والإيمان ، ويصل به الأمر إلى قتل على ابن أبي طالب ، والتلهي عن المثلة به بقراءة القرآن ، والجزع فقط عند قطع اللسان ، حتى لا يحرم لحظة من ذكر الرحمن ؟ .

    لا جديد إذن تحت الشمس ، وقد لا نجد في زماننا نظيراً لعلي ، لكننا نجد كثيراً من أمثال عبد الرحمن ..

    ونعود إلى هواة الكربون ..

    أليس الأجدر بهم ، رحمة بنا ، وبالإسلام ، أن نلتزم بالقرآن ، وبالسنة في شئون العبادة ، وأن نترك في نفس الوقت ، مساحة من أذهاننا للتعرف على العصر والالتقاء معه ، وقبول ما يأتي به من قيم تتناسق مع جوهره ، ولا تتناقض مع الإيمان والعقيدة ، وأن نقبل ما نقبل ، ونترك ما نترك ، بقلب مؤمن وفكر مفتوح ، فلا نرفض حقوق الإنسان لأنها أتت من الأعاجم ، ولا نرفض الديموقراطية لأنها بدعة ، ولا نرفض عصرنا على إطلاقه ، ولا نقبل عصر الراشدين على إطلاقه ، ونستخدم العقل في النقل ، والكربون في طبع مستحدثات الحضارة ، تلك التي لا علاقة لها بالفكر أو العقيدة ، وإنما علاقتها وطيدة بالتقدم ، ذلك الذي أزعم أنه ليس ركنا من أركان الإسلام ، بل هو الإسلام .



    النتيجة الثانية :

    أن قواعد الدين ثابتة ، وظروف الحياة متغيرة ، وفي المقابلة بين الثابت والمتغير ، لا بد وأن يحدث جزء من المخالفة ، ونقصد بالمخالفة أن يتغير الثابت أو يثبت المتغير ، ولأن تثبيت واقع الحياة المتغير مستحيل ، فقد كان الأمر ينتهي دائما بتغير الثوابت الدينية ، وقد حدث هذا دائماً ومنذ بدء الخلافة الراشدة وحتى انتهت ، وتغيير الثوابت هو ما نسميه بالاجتهاد ، وقد اتفقنا على أنه ليس مطلقاً ، لكنه قائم ومتاح ، وما أوردناه من أمثلة لاجتهادات عمر يصلح دليلاً على ما نقول ، غير أنه في بعض الأحيان تفرض تعقيدات الحياة نوعاً من المخالفات ، الحادة ليس فيه شئ من تناغم الاجتهاد في ربطة بين الأسباب والنتائج ، فتصبح المخالفة صريحة وواضحة لا يمكن تبريرها بالاجتهاد لافتقاد أسبابه ، وإنما تبرر فقط بأن عدم المخالفة مستحيل أو في احسن الأحوال غير ممكن ، وقد حدث ذلك في عهد الراشدين كما يحدث في كل عهد ، ومثاله ما حدث عقب مقتل عمر ابن الخطاب ، حين انطلق ابنه عبيد الله ابن عمر ، و قتل ثلاثة ظن فيهم التآمر على مقتل والده ، ولم يثبت ذلك في حق أحد منهم ، وكان أحدهم الهرمزان ، الذي أسلم وصح إسلامه ، وقد واجه عثمان هذا الموقف في بدء ولايته وكان رأي الدين فيه واضحاً ، أعلنه علي وأصر عليه ، وهو أن يقتل عبيد الله بدم من قتل ، لكن عثمان لم يملك إلا المخالفة لأسباب ( إنسانية ) ، فقد تساءل الناس في شفقة ، أيقتل عمر بالأمس ، ويقتل ابنه اليوم ؟ ألا يكفي آل عمر قتل عمر ؟ ، أيفجعون فيه ثم في ولده قبل أن تجف دموعهم عليه ؟ .. منطق .. وإنسانية .. وظروف متغيرة .. لكن حكم الدين ثابت وواضح ولا لبس فيه .. حكم الدين هو القصاص ، ولا بد من قتل عبيد الله ..

    ويقال أن عمرو بن العاصي أفتى بفتوى بالغة الذكاء والمهارة عندما تولى عثمان ، وسأل عمرو أن يخرجه من المأزق الصعب ، فسأله عمرو : هل قتل الهرمزان في ولاية عمر ؟ فأجابه عثمان : لا كان عمر قد قتل ، فسأله ثانية : وهل قتل في ولايتك ؟ فأجابه عثمان : لا ، لم أكن قد توليت بعد ، فقال عمرو : إذن يتولاه الله ..

    والشاهد هنا أن عثمان حاول التخلص من المأزق بدفع دية الهرمزان من ماله ، ولم يتحمل عبيد الله وزر القتل أو حتى دية القتلى ، وهو ما رفضه علي ، الذي ظل يتوعد عبيد الله كلما لقيه بأنه إذا تولى فسوف يقتله بدم الهرمزان ، وما أن تولى علي حتى هرب عبيد الله إلى جيش معاوية ، وحارب عليا إلى أن قتل في معركة صفين ..

    ويشاء القدر أن يقع على نفس المأزق ، بل ربما بصورة أعقد ، فقد ولى ولم يقدر على قتله عثمان لأنهم كانوا مسيطرين على المدينة ، ثم انتقل من حرب إلى حرب وهم على رأس جيشه فلم يتمكن منهم ، وعندما أعلن معاوية أن مطلبه الوحيد أن يدفع علي إليه قتله عثمان ، فوجئ علي بجيشه يهتف في صوت واحد ، كلنا قتلة عثمان ، فزاد الموقف تعقيدا ، وأصبح مستحيلاً على الإمام علي أن يثأر من القتلة أو حتى يحاسبهم ..

    هي الحياة وليست الجنة ، والبشر وليس الملائكة ، وخلا عصر النبوة لا يوجد عصر للنقاء المطلق ، أو انعدام المخالفة المطلق وكلما تغير العصر أو تقدم ، تعددت المتغيرات ، وزادت المخالفات ، وإذا كانت الاجتهادات واسعة ، والمخالفات واردة ، قبل أن يمر ربع قرن على وفاة الرسول ، وفي عهد معاصريه فكيف بنا بعد أربعة عشر قرناً من وفاة الرسول ، ألا نتوقع أن يزداد حجم ( المخالفات الاضطرارية ) ، وأن نتوسع في ( الاجتهادات الضرورية ) ، وأن نقبل بحد أدنى من تطبيقات الدين ، أقل بكثير مما قبله سلف أصلح ، في عصر أكثر تخلفاً ، وأقل تعقيداً انغلاقاً ، وأكثر اتفاقاً .. الحقيقة أن القارئ الحرية كل الحرية في أن يرفض ما أقول وأن يستنكر ما أتوصل إليه ، وما أراه رغم كل ما أتوقعه من استنكار واعتراض ، حقاً وعدلاً ، وأمراً واقعاً لا مهرب منه ، وسوف يرى القارئ فيما سنذكره عن خلفاء بن أمية وبنى العباس ، ما يؤكد له صحة ما نقول ، وحقيقة ما ندعى ..

                  

12-14-2002, 09:56 AM

Yasir Elsharif
<aYasir Elsharif
تاريخ التسجيل: 12-09-2002
مجموع المشاركات: 50057

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فرج فوده \ الحقيقه الغائبه\ (٢) (Re: smart_ana2001)

    لك الشكر يا إسمارت

    بوست رائع

    والتحية والسلام والرحمة تغشى روح المفكر الثائر فرج فودة.

    لي قليل من الاختلافات مع طرحه في مسائل جزئية لا تؤثر على جوهر الموضوع ولذا لن أذكرها.

    خلاصة الأمر أن الشريعة على تمامها وكمالها كما طبقها النبي المعصوم في القرن السابع غير صالحة لمواجهة مشاكلنا الحياتية السياسية والاقتصادية والاجتماعية المستجدة كل يوم جديد.

    لقد كان فكر الأستاذ محمود يمثل اجتهادا غير مسبوق وهو اجتهاد فيما ورد به نص قرآني أو نص من الحديث الشريف. خلافا لرأي الفقهاء العقيم بعدم جواز الاجتهاد فيما فيه نص. وسأضرب مثلا بمسألة الميراث في الإسلام.

    يقول تعالى:
    "للذكر مثل حظ الانثيين"

    وهذا النص قد كان صالحا لزمن طويل ولكنه أصبح غير صالح اليوم ويجب الانتقال منه إلى نص آخر في القرآن يمكن أن نجده في قول الله تعالى: "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة"
    وأرجو أن لا يتبادر إلى الذهن بأن الدرجة تعني التقليل من أمر المساواة أمام القانون وفي الحقوق والواجبات.

    سأعود لاحقا

    ولك الشكر

    (عدل بواسطة Yasir Elsharif on 12-15-2002, 11:51 AM)

                  

12-14-2002, 10:47 AM

Yasir Elsharif
<aYasir Elsharif
تاريخ التسجيل: 12-09-2002
مجموع المشاركات: 50057

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فرج فوده \ الحقيقه الغائبه\ (٢) (Re: Yasir Elsharif)

    نص المنشور الذي أصدره الجمهوريون في عام 1984 وترتب عليه إعقتال الأستاذ محمود والحكم عليه في محكمة المهلاوي الشهيرة. ولما لم يكن تسبيب الحكم مقنعا اضطر القاضي من نفسه إلى إرسال الأوراق إلى محكمة الكباشي، وقد أسموها محكمة الآستئناف، فلجأ إلى أوراق ما عرف بمحكمة الردة وهي محكمة قامت على أكاذيب. وما محاولة البعض تصوير أن الأستاذ قد حوكم لأنه تحدث في الأسرار الإلهية أو أولوهية الإنسان أو أنسنة الإله إلا محاولة لذر الرماد في العيون. الأستاذ قال بصوت عال: إن الشريعة الإسلامية على تمامها وكمالها كما طبقها المعصوم غير كافية لحل مشاكل القرن العشرين وهذا الكلام مسجل. ولم يقبض عليه ويقدم للمحاكمة لأنه تحدث عن الإنسان الكامل أو أي من هذه المسائل العرفانية التي لن يفهمها هؤلاء الفقهاء الجهلة. ولكنهم مع ذلك لا ينقلون إلا فهمهم هم الشائه لتلك المعارف، وفي كثير من الأحيان يلجأون لبتر النصوص لتلائم اتهاماتهم الفارغة الجاهلة على غرار: "لا تقربوا الصلاة" وترك باقي الآية.


    هـــذا .. أو الطوفـــان !!
    (و اتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة .. واعلموا أن الله شديد العقاب)
    صــدق الله العظيم
    غايتان شريفتان وقفنا ، نحن الجمهوريين ، حياتنا ، حرصا عليهما ، و صونا لهما ، وهما الإسلام و السودان .. فقدمنا الإسلام في المستوى العلمي الذي يظفر بحل مشكلات الحياة المعاصرة ، و سعينا لنرعى ما حفظ الله تعالى على هذا الشعب ، من كرايم الأخلاق ، و أصايل الطباع ، ما يجعله وعاء صالحا يحمل الإسلام إلي كافة البشرية المعاصرة ، التي لا مفازة لها ، و لا عزة ، إلا في هذا الدين العظيم ..
    و جاءت قوانين سبتمبر 1983 ، فشوهت الإسلام في نظر الأذكياء من شعبنا ، وفي نظر العالم ، و أساءت إلى سمعة البلاد .. فهذه القوانين مخالفة للشريعة ، و مخالفة للدين ، ومن ذلك أنها أباحت قطع يد السارق من المال العام ، مع أنه في الشريعة ، يعزر و لا يحد لقيام شبهة مشاركته في هذا المال .. بل إن هذا القوانين الجائرة أضافت إلى الحد عقوبة السجن ، و عقوبة الغرامة ، مما يخالف حكمة هذه الشريعة و نصوصها .. هذه القوانين قد أذلت هذا الشعب ، و أهانته ، فلم يجد على يديها سوى السيف ، والسوط ، وهو شعب حقيق بكل صور الإكرام ، و الإعزاز .. ثم إن تشاريع الحدود و القصاص لا تقوم إلا على أرضية من التربية الفردية ومن العدالة الاجتماعية ، وهي أرضية غير محققة اليوم ..
    إن هذه القوانين قد هددت وحدة البلاد ، و قسمت هذا الشعب في الشمال و الجنوب و ذلك بما أثارته من حساسية دينية كانت من العوامل الأساسية التي أدت إلى تفاقم مشكلة الجنوب .. إن من خطل الرأي أن يزعم أحد أن المسيحي لا يضار بتطبيق الشريعة .. ذلك بأن المسلم في هذه الشريعة وصي على غير المسلم ، بموجب آية السيف ، و آية الجزية .. فحقوقهما غير متساوية .. أما المواطن ، اليوم ، فلا يكفي أن تكون له حرية العبادة وحدها ، و إنما من حقه أن يتمتع بسائر حقوق المواطنة ، وعلي قدم المساواة ، مع كافة المواطنين الآخرين .. إن للمواطنين في الجنوب حقا في بلادهم لا تكفله لهم الشريعة ، و إنما يكفله له الإسلام في مستوى أصول القرآن ( السنة ) .. لذلك فنحن نطالب بالآتي :-
    1. نطالب بإلغاء قوانين سبتمبر 1983 ، لتشويهها الإسلام ، و لإذلالها الشعب ، و لتهديدها الوحدة الوطنية..
    2. نطالب بحقن الدماء في الجنوب ، و اللجوء إلى الحل السياسي و السلمي ، بدل الحل العسكري. ذلك واجب وطني يتوجب على السلطة ، كما يتوجب على الجنوبيين من حاملي السلاح. فلا بد من الاعتراف الشجاع بأن للجنوب مشكلة ، ثم لا بد من السعي الجاد لحلها ..
    3. نطالب بإتاحة كل فرص التوعية ، و التربية ، بهذا الشعب ، حتى ينبعث فيه الإسلام في مستوى السنة (أصول القرآن) فإن الوقت هو وقت السنة ، لا الشريعة (فروع القرآن) .. قال النبي الكريم صلي الله عليه وسلم : (بدأ الإسلام غريبا ، وسيعود غريبا ، كما بدأ ، فطوبى للغرباء قالوا: من الغرباء يا رسول الله ؟؟ قال: الذين يحيون سنتي بعد اندثارها). بهذا المستوى من البعث الإسلامى تتحقق لهذا الشعب عزته ، وكرامته ، ثم إن في هذا البعث يكمن الحل الحضاري لمشكلة الجنوب ، و لمشكلة الشمال ، معا‍ … أما الهوس الديني ، و التفكير الديني المتخلف ، فهما لا يورثان هذا الشعب إلا الفتنة الدينية ، و الحرب الأهلية .. هذه نصيحتنا خالصة ، مبرأة ، نسديها ، في عيد الميلاد ، وعيد الاستقلال ، ونرجو أن يوطئ لها الله تعالي أكناف القبول ، و أن يجنب البلاد الفتنة ، ويحفظ استقلالها و وحدتها و أمنها .. وعلي الله قصد السبيل.

    أم درمان
    25 ديسمبر 1984م
    2 ربيع الثاني 1405هـ
    الأخـــــوان الجمهوريون

    (عدل بواسطة Yasir Elsharif on 12-14-2002, 10:48 AM)

                  

12-18-2002, 12:35 PM

Yasir Elsharif
<aYasir Elsharif
تاريخ التسجيل: 12-09-2002
مجموع المشاركات: 50057

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فرج فوده \ الحقيقه الغائبه\ (٢) (Re: smart_ana2001)

    يا إسمارت

    سلامات

    هل هذا هو كل الكتاب أم هناك شئ لم تنشره هنا؟

    وشكرا على مجهودك

    ياسر
                  

12-18-2002, 01:08 PM

Yasir Elsharif
<aYasir Elsharif
تاريخ التسجيل: 12-09-2002
مجموع المشاركات: 50057

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فرج فوده \ الحقيقه الغائبه\ (٢) (Re: smart_ana2001)

    هذا المقال للدكتور نصر أبو زيد له صلة بالموضوع.

    http://217.158.5.9/azzaman/articles/2002/09/09-10/799.htm
    ما قبل أيلول (سبتمبر) 2001 وليس ما بعده (1) تجديد الخطاب الديني ضرورة معرفية وليس استجابة لاستحقاقات 11 سبتمبر - نصر حامد أبو زيد
    من الضروري في البداية إزالة الالتباس الذي يمكن أن ينتج عن كون الدعوة لتجديد الخطاب الديني يعاد طرحها اليوم بإلحاح بعد أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر). وفي سياق الضغوط الأمريكية علي العالم العربي والإسلامي لتعديل برامجه التعليمية، خاصة منها ما يرتبط بتعليم الإسلام. لا يحتاج الكاتب هنا لإبراز جهوده في مجال (نقد الخطاب الديني) خلال أكثر من ربع قرن، هي مجمل حياته الأكاديمية.
    وهي جهود صارت مكثفة خلال العشر سنوات الأخيرة بصفة خاصة. الكاتب هنا لا يتعامل مع الأسئلة والإشكاليات التي يطرحها علينا الآخرون بقدر ما يتعامل مع أسئلة الواقع الراهن، وكثير منها أسئلة مؤجلة. أكثر الأسئلة المؤجلة تتعلق بحقوق الإنسان وحقوق المرأة وحقوق الأقليات، وهي الحقوق التي يمكن تصنيفها تحت مفهوم (العدل). وثمة أسئلة تتعلق بقضايا التعليم والحرية والديمقراطية والتقدم والنهضة.. الخ.
    .......
    .......
    انقر على الواصلة
    http://217.158.5.9/azzaman/articles/2002/09/09-11/795.htm
    للجزء الثاني من المقال
                  

12-18-2002, 03:18 PM

elnadeif
<aelnadeif
تاريخ التسجيل: 07-17-2002
مجموع المشاركات: 172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فرج فوده \ الحقيقه الغائبه\ (٢) (Re: smart_ana2001)

    العزيز
    لكم الفال
    جميل ماورد ولكن غيرالجميل الي الان لم تصطرع الافكار داخل هذا البورت و الكثير للاسف يتجنب الهادف من المواضيع ليغرق في اسفاف يبحث عنه برغبه وكانه دخل لهذا البورت كي يبحث عن فضيحة
    هي مجرد مداخل لك التحية حبيبنا ما اردت اضافته في هذا الموضوع هو عندما كانت الدعوه في بدايتها كانت لاتزال تحتفظ بالجانب الروحي فيها ولكنه اي النبي محمد (ص يدرك أنه ان نبي بدون سلاح لن تستقيم ظل دعوته مستفيدا من التجربة القاسية التي خاضها المسيح وبدا في تكوين الجيش واعداد العدة لدولتة السياسية التي استطاع بحنكه منه ان يديرها فيما بعد وان يكرس فكرة الجهاد و نضاله المحموم في الانتقال بالوعي القبلي الي وعي خاص به ونجح في ذلك
    ولكن مع تطور الدولة السياسية بدات المرتكزات الاساسية في التوهان و التناقض الذي احدثته متطلبات الدوله الجديدة عموما الموضوع شائك وجيمل ولكن مساحة الرد في هذا البورد لاتتيح الاسهاب
    عموما في بداية الكتاب اورد الشهيد الاستاذ فرج عدة اسئلة تكشف عري صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان
    له المعزات مادمنا حيين ولك التحية صديقي ولينا ميعاد بالتلاقي
                  

01-20-2003, 05:42 AM

Yasir Elsharif
<aYasir Elsharif
تاريخ التسجيل: 12-09-2002
مجموع المشاركات: 50057

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فرج فوده \ الحقيقه الغائبه\ (٢) (Re: smart_ana2001)

    up
                  

01-20-2003, 06:03 AM

ABUKHALID
<aABUKHALID
تاريخ التسجيل: 07-07-2002
مجموع المشاركات: 1386

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فرج فوده \ الحقيقه الغائبه\ (٢) (Re: Yasir Elsharif)

    التحية لاسمارت والرحمة لفرج فودة
    ان فرج فودة احد المفكرين الذين اصابوا كبد الحقيقة فى موضوع الشريعة الاسلامية واود هنا ان اطلب من الاخوة مدتا ان كان ممكننا بهذا او التخلف لجربوع
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de