المحكمة الجنائية ....وسيناريوهات تقرير المصير فى السودان
أسماء الحسينى
[email protected]
لم يكن إمتناع الرئيس السودانى عمر البشير عن الذهاب إلى ليبيا قبل أيام لحضور القمة الأفريقية الأوروبية بسبب تحفظ الدول الأوروبية على خلفية قرار المحكمة الجنائية الدولية الصادر بإعتقاله بتهمة إرتكاب إبادة وجرائم حرب وضد الإنسانية فى دارفور إلا تعبيرا عن المشهد السودانى العام الذى تقف فيه قضية المحكمة الجنائية فى زاوية ما من كل أحداثه وقضاياه لتزداد تعقيدا فى هذا البلد العربى الأفريقى الهام الذى يواجه إستحقاقات مصيرية ستؤثر على بقائه ككيان موحد .
وبعدها أعلن البشير أنه سيزور أفريقيا الوسطى فإذا بالمحكمة الجنائية تسبقه إلى هناك بمطالبة القبض عليه فيمتنع عن الزيارة ،كما حدث من قبل أسابيع عندما طالبت المحكمة كينيا بذات الطلب قبيل إنعقاد قمة الإيجاد بشأن السودان بها ،مما اضطر كينيا إلى نقلها إلى العاصمة الأثيوبية أديس أبابا ،ووقعت أزمة فى وقت سابق بين أوغندا والسودان لطلب الأولى ألا يحضر البشير القمة الأفريقية الأخيررة بكمبالا ،أما القاهرة فقد طلبت من باريس إستضافة القمة الفرنسية الأفريقية عوضا عنها تجنبا للحرج .
وبغض النظر عن الموقف الليبى الأخير وما إذا كانت طرابلس قد طلبت من البشير عدم الحضور أم أنه إمتنع عن الحضور بسبب الضغوط الأوروبية على طرابلس ،فإن هذا الموقف يكشف عن حجم التطور الذى حدث فى سياسة ليبيا الخارجية وعودة طرابلس بقوة إلى المسرح السياسى الدولى بصورة مغايرة عن حالة الصراع والحصار السابقة .
أما بالنسبة للسودان فإن هذه الأحداث تؤكد أن قضية المحكمة الجنائية الدولية تضيف مزيدا من التعقيدات لكل قضايا السودان وشئونه وأن عدم التوصل إلى حل بشأنها يعرقل التسوية السلمية والإستقرار فى جميع أنحاء السودان ،وأنه سيسهم بنصيب وافر فى تمزيق وحدة البلد وشرذمتها ،وقد أثبتت الأحداث أن المحكمة الجنائية لاتلاحق الرئيس البشير وتقيد حركته وحده بقدر ماتحاصر السودان كله وتحكم الخناق على مسيرته ،ففضلا عن تأثيرها على الأوضاع الإقتصادية فى السودان البلد الواعد الذى كان قد احتل قبل فترة المرتبة الثالثة عربيا وافريقيا فى جذب الإستثمارات الخارجية ،أثرت قضية المحكمة الجنائية أيضا على عرقلة التسوية السلمية لدارفور ،إذ ظلت قرارات المحكمة الجنائية ترسل لقيادات التمرد فى دارفور على الدوام إشارات واضحة بألا يتفقوا مع نظام يلاحق رئيسه ،وغالبا ماكانت الخرطوم ترى أن تحركات المحكمة الدولية تجاهها مقصودة بهدف النيل منها والضغط عليها أو إرهابها وإبتزازها فى كل محطات التفاوض بشأن دارفور .
أما فى جنوب السودان فإن قضية المحكمة الجنائية تلعب دورا أخطر،وقد تكون عاملا حاسما فى رسم معالم المستقبل فى السودان ،وهناك رؤيتان لمدى تأثير قرارات المحكمة فى تعامل الخرطوم مع قضية إستفتاء تقرير المصير المرتقب لأبناء جنوب السودان فى التاسع من يناير المقبل ،الرؤية الأولى ترى أن هناك قطاعا نافذا على الأقل داخل حزب المؤتمر الوطنى الحاكم الذى يتزعمه الرئيس السودانى عمر البشير لن يرضى التسليم بإنفصال الجنوب بسهولة ،خشية أن يستدير المجتمع الدولى إليه غدا للمطالبة بإستحقاقات المحكمة الجنائية الدولية وأيضا فى قضية دارفور وقضيتى جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق ،وهو مايعنى أن إنفصال جنوب السودان لن يكون خاتمة المطاف فى نظر أطراف عديدة فى المجتمع الدولى ،وأنهم أى المتشددين داخل المؤتمر الوطنى ربما لجأوا من أجل ذلك إلى محاولة تعطيل الإستفتاء بأى طريقة ،وهذا هو ماتتهم به الحركة الشعبية لتحرير السودان المؤتمر الوطنى الذى ترى أنه يسعى لعرقلة الإستفتاء عبر إثارة القلاقل لها واستخدام العناصر الموالية له فى الجنوب والعرب المسيرية فى أبيى وغيرها من الوسائل ،وهذا الأمر ذاته ماتخشاه القوى الدولية النافذة التى صعدت فى الفترة الماضية ضغوطها المكثفة على الخرطوم لتنفيذ الإستفتاء فى موعده المقرر ،كما حاولت أيضا إغراء الخرطوم ببعض الوعود ،إلا أن الوعود الدولية ونعنى بها الأمريكية فى المقام الأول ليست كافية بالنسبة للخرطوم ،كما أن الضغوط عليها تراه أيضا جماعات الضغط فى الولايات المتحدة غير كافية .
فماتريده الخرطوم هو مطلبان لم تتم الإستجابة لهما حتى الآن ،وقد عبر عنهما على عثمان طه فى إجتماعات نيويورك بشأن السودان مؤخرا ،أولهما إلغاء قرار المحكمة الجنائية بشأن البشير ،والثانى هو إسقاط الديون والعقوبات الإقتصادية ،وهو مايدل على أن قضية المحكمة هاجس رئيسى للخرطوم ،ولم تتم الإستجابة للطلبين فى الإجتماع أو الإشارة إليهما من قريب أوبعيد ،وكل ماحدث بعد ذلك هو رفع الحظر عن بعض الآلات للخرطوم أو وعود برفعها بعد أشهر من قائمة الدول الراعية للإرهاب ورفع العقوبات .
وهناك رؤية ثانية بشأن تأثير قضية المحكمة الجنائية فى التأثير على صياغة مستقبل الأوضاع فى السودان ، ترى أن إستخدام القضية كورقة ضغط من قبل المجتمع الدولى ستثمر ،وستدفع الخرطوم التى لاقبل لها على المقاومة للإستجابة للمطالب الدولية بتسهيل إستفتاء يؤدى إلى إنفصال سلس للجنوب ،قد يكون بدون مقابل ،أومقابل صفقة ما يتم بموجبها تأجيل قضية ملاحقة المحكمة للرئيس السودانى لمدة عام وفقا للمادة 16 من ميثاق روما المؤسس للمحكمة الجنائية ، تجدد بعد ذلك أو لاتجدد.
ومايزيد قضية المحكمة الجنائية تعقيدا أن لاأحد من أقطاب النظام السودانى يضمن أن إتهاماتها ستتوقف عند الرئيس البشير وأحمد هارون والى ولاية جنوب كردفان وعلى كوشيب أحد قادة الميليشيات الموالية للحكومة فقط ،فهناك حديث عن قوائم متهمين قد تطال أسماء أخرى كبيرة فى النظام،وهو الأمر الذى يوحد المؤتمر الوطنى .
ولعل سخط قطاعات واسعة داخل المؤتمر الوطنى يعبر عنه الدكتور غازى صلاح الدين مستشار الرئيس السودانى يقول " جرد حساب الحوار السوداني الأميركي في الأشهر الماضية، كما عبرت عنه بعض البيانات الرسمية وفصلته الصحافة الأميركية، يتلخص في العطية التالية التي تبدو كأنها قد صاغها مجموعة من الناشطين المتذاكين إلى حد السخف:أقيموا الاستفتاء في موعده دون أدنى نظر إلى نتائجه وشروطه الجوهرية، وحتى إن أدى إلى انفصال وحرب في آن واحد، على الرغم من أن الاستفتاء إنما اقترح في المقام الأول لترسيخ الوحدة ولتجنب الحرب. وبمقابل ذلك سنعطيكم الآن ست رخص تصدير لشركات أميركية في مجالات الزراعة والصحة؛ وعليكم مواصلة التعاون في مكافحة الإرهاب؛ وسننظر في رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب وفي رفع العقوبات الاقتصادية في يوليو المقبل من عام 2011 عندما تستكمل إجراءات الانفصال؛ أما محكمة الجنايات الدولية فعلى الرئيس أن يلتزم بمطالبها وأن يسلم نفسه لها (لاحظ أنه هو الرئيس ذاته المطلوب منه الوفاء بالالتزامات أعلاه).
ويضيف صلاح الدين :لسبب لا يخفى على ذوي الألباب ذكرني هذا العرض بعرض قريش لأبي طالب أن يسلمهم ابن أخيه محمدا (صلى الله عليه وسلم) وأن يسلموه بالمقابل أنهد فتى في قريش، عمارة بن الوليد، فكان رد أبي طالب الذكي: «والله لبئس ما سمتموني: تعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه».
ويرى صلاح الدين :أخطر من ذلك على الجنوب والجنوبيين هو أن تقديم مثل هذا المقترح ينتقص من حق الاستفتاء بجعله عرضا من عروض التجارة. بتعبير آخر، فإن المقترح يعني أن الاستفتاء قد تنزل من كونه مبدأ وحقا ليصبح ورقة مقايضة تخدم السياسة الأميركية في المقام الأول.
وقد جعلت قضية المحكمة الجنائية حزب المؤتمر الوطنى أو حكم الإنقاذ سابقا الذى حكم السودان على مدى أكثر من عقدين من الزمان موضع لضغوط وإبتزاز ليس من المجتمع الدولى فحسب بل أيضا من أطراف داخل السودان ،وفى مفاوضات الدوحة كان الدكتور خليل إبراهيم رئيس حركة العدل والمساواة يتفاوض مع وفد الحكومة فى القاعات المغلقة ثم يخرج أمام كاميرات الفضائيات ليطالب البشير بتسليمه نفسه للمحكمة الجنائية ويتعهد بأن قواته ستساعد المحكمة فى تنفيذ إعتقاله ،ومثله كان يطالب عبد الواحد محمد نور رئيس حركة تحرير السودان عشية أوغداة أى جولة مفاوضات يصر على عدم المشاركة فيها قبل تنفيذ قرار المحكمة ،أما الحركة الشعبية شريك المؤتمر الوطنى فى الحكم التى مافتئت تطالب البشير وحزبه بالتعامل مع المحكمة ،فقد إستقبلت مظاهرات لجنوبيين فى جوبا وفد مجلس الأمن الدولى مؤخرا تطالب بإعتقال البشير ،وهو ما أثار غضب الخرطوم وساهم فى تزايد توتر العلاقة بين الجانبين ،ولم يتوانى الدكتور حسن الترابى زعيم الحركة الإسلامية وشريك البشير فى الغنقلاب الذى قاده عام 1989 قبل أن يفترقا عام 1999عن مطالبة البشير بتسليم نفسه للمحكمة حتى قبل صدور قرار الإعتقال ،بينما طالب الصادق المهدى بحل للقضية يوازن بين العدالة والحفاظ على الإستقرار والسلام فى السودان .
ويرى الكاتب السودانى ثروت قاسم أن إلغاء أمر إعتقال الرئيس البشير هى المشكلة الحصرية للخرطوم الأن والأولوية الوحيدة لها ،وأن الوعد بإزالة إسم السودان من لائحة الإرهاب لايعنى لها شيئا ،وأن رفع العقوبات بالنسبة للخرطوم تحصيل حاصل ،وأن السماح للخرطوم بإستيراد معدات زراعية وأجهزة كمبيوتر كما فعلت واشنطن مؤخرا هو بالنسبة للخرطوم نكتة سخيفة،وأن إلغاء أمر القبض على البشير أو على الأقل تجميده هو الجزرة الوحيدة النى يشتهيها المؤتمر الوطنى ،وهو يرى أن هذا الأمر لن يحدث إلا بعد عقد صفقة مع الخرطوم للسماح بالإستفتاء فى موعده والإعتراف بنتائجه أو بمعنى آخر تسهيل ميلاد الدولة الوليدة فى جنوب السودان والإعتراف بها،ويرى قاسم أن دارفور مستبعدة من هذه الصفقة ،وأن نظام الإنقاذ سيضطر للإستجابة لتلك الصفقة لأنه إذا لم يفعل سيكون مصيره الهلاك .ويضيف قاسم :"إن تصريحات البشير بأن ضياع الجنوب لايعنى يوم القيامة يعزز ذلك التوجه ،ويضيف :أن ضياع الجنوب لايعنى يوم القيامة فعلا ولكنه يعنى تجميد أمر القبض عليه وتأمين بقائه فى السلطة".
ولكن هذه الصفقة قد يعرقلها بعض الشىء أو يحول دونها لوبيات وجماعات ضغط هائلة تشكلت فى الدول الغربية لمساندة المحكمة الجنائية الدولية من ناحية وهذه تريد أن تثبت عمل المحكمة أول مايكون على أكتاف السودان ، فضلا عن جماعات ضغط ولوبيات أخرى تدعم قضايا السودان فى دارفور والجنوب وغيرهما ،وتتخذ هذه المجموعات من جماعات حقوق الإنسان والأمريكيين من أصل أفريقى واللوبى اليهودى واليمين المتطرف مواقف عدائية من نظام حكم فى الخرطوم يرونه عربيا إسلاميا يضطهد مجموعات أفريقية غير مسلمة ،وجماعات الضغط هذه قد تحول دون الوصول لهذه الصفقة مع الرئيس البشير المتهم بالإبادة وإرتكاب الجرائم فى دارفور .
ويبقى أن قضية المحكمة الجنائية ظلت تلقى بظلالها القاتمة على كل قضايا السودان ،وهاهى اليوم يتوقف مستقبل السودان على كيفية التعاطى معها ،وهو الأمر الذى مازال حتى اللحظة محل خلاف بين القوى السودانية ،وهو ما ينذر بأخطار شديدة لن يكون أى طرف بمنجى عنها .
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة