زفرات حرى
الطيب مصطفى
هذا أو الطوفان... مشروع الشمال الجديد!!(1-3)
هل سألتم أنفسكم قرائي الكرام لماذا يتهافت المؤتمر الوطني على الوحدة بينما تعمل الحركة للانفصال؟ بل هل سألتم أنفسكم لماذا تحرص الحركة على إجراء الاستفتاء بدون أدنى اكتراث لقضية ترسيم الحدود بين الدولتين اللتين بات انفصالهما بعضهما عن بعض مسألة وقت ليس إلا بينما يطالب المؤتمر الوطني بالترسيم ونظراً لأنه لا يجيد غير تقديم التنازلات التي أدمنها منذ ما قبل نيفاشا فإنه يقبل مضطراً إجراء الاستفتاء ويكتب تعهداً بذلك لأمريكا يحمله الأمريكي جون كيري في حقيبته ويعلنه على رؤوس الأشهاد قبل أن يقفل راجعاً إلى بلاده!!
بالطبع فإن المفترض أن تحرص الحركة على ترسيم الحدود بين الشمال والجنوب بنفس درجة حرصها على إجراء الاستفتاء ذلك أنه من غير المعقول أو المقبول أن تنفصل دولتان بعضهما عن بعض بدون أن تعرف كلٌّ منهما حدودها.
نرجع إلى السؤال مرة أخرى: لماذا لا تحرص الحركة على ترسيم الحدود؟!
لا يشك عاقل أن الحركة وراعيتها أمريكا ما تجاهلتا أو قل تعمدتا تجاهل ترسيم الحدود إلا لشيء في نفسيهما لم تُبدياه وبالقطع لو كانت الحركة تخشى من عدم الترسيم لحرصت عليه بذات درجة حرصها على الاستفتاء لكنها والله العظيم «راقدة فوق راي» هو أنها بعد أن ضمنت أرض الجنوب فإنها وأمريكا التي تدعمها وترعاها تطمع في أرض الشمال.
لماذا لا تطمع الحركة في أرض الشمال وهي التي تعلم أنها قد تمددت بالفعل ـ جراء نيفاشا ـ في بعض أراضيه الحدودية مثل النيل الأزرق التي تحكمها اليوم وجنوب كردفان التي مُنحت 54% من السلطة فيها بموجب كارثة نيفاشا وربما ترتفع هذه النسبة إلى حكمها بالكامل من خلال الانتخابات كما حدث في النيل الأزرق.. تلك الولاية الغنية التي تحتضن خزان الروصيرص الإستراتيجي فقد كانت الحركة قبل الانتخابات تستولي على 54% من السلطة بموجب نيفاشا ولكن الانتخابات حملت مالك عقار نائب رئيس الحركة إلى منصب والي الولاية «حتة واحدة» ولا أستبعد نتيجة لحالة الانهزام التي تتلبّس المؤتمر الوطني أن يحدث ذات الشيء في جنوب كردفان التي من المتوقع أن تُجرى فيها الانتخابات في أبريل القادم!! وبالطبع هناك أبيي وما أدراك ما أبيي والمناطق الحدودية الأربع الأخرى المتنازَع عليها مثل حفرة النحاس وكافيا كنجي وغيرهما.. هل فهمتم لماذا لا تحرص الحركة على الترسيم؟!
إن الحركة تعلم ثقافة الاستسلام ونفسية الهزيمة أو قل الانهزام التي تسري في جسد المؤتمر الوطني الذي بات يحسب كل صيحة عليه والتي جعلته يمنح الحركة نصراً بلا حرب في نيفاشا بعد أن بات مقتنعاً ـ بلا سبب ـ بأنه أصبح منطقة ضغط منخفض حتى ولو كان الواقع غير ذلك مما سأكشفه غداً بمشيئة الله من خلال شهادة شاهد أو شهود من أهلها.
هل تذكرون تصريحات ياسر عرمان وبعض قيادات الحركة الذين تحدثوا عن الجنوب الجديد؟!
من أسفٍ فإن الحركة لم تُخفِ في يوم من الأيام إستراتيجيتها فقد والله تحدث جون قرنق منذ عام 2002 عن إستراتيجية التفاوض التي صُمِّمت عليها نيفاشا وكانت الحكومة تعلم ذلك من خلال الوثائق التي أعلم يقيناً أنها كانت بيديها بل من خلال محاضرة شهيرة قدمها قرنق في مدينة فيرجينيا في الولايات المتحدة الأمريكية ولكن برغم ذلك فقد مُنح قرنق أكثر مما طرح في تلك الإستراتيجية ولديَّ الدليل ورب الكعبة!!
بنفس المنطق تتحدث بعض قيادات الحركة عن الجنوب الجديد الذي كان قرنق يسميه الجنوب المحارِب المجاور للجنوب الجغرافي وليس الجنوب الجغرافي الذي كانت الحركات المتمردة السابقة تقاتل في سبيله.. إنه الجنوب الجديد الذي أرادت أمريكا والحركة أن يتمددوا فيه ويجعلوه نواة لمشروع السودان الجديد.
صحيح أن مشروع السودان الجديد كان في مخيلة قرنق وأولاده باقان وعرمان وألور وغيرهم يشمل السودان جميعه شماله وجنوبه لكن فقدان الحركة للانتخابات في الولايات الشمالية ما عدا المناطق الثلاث «النيل الأزرق وجنوب كردفان وأبيي» جعلها تُخرج الخطة والتكتيك البديل «خطة الجنوب الجديد» الذي يضم الجنوب الجغرافي والجنوب الجديد الواقع في أرض الشمال والذي سيكون نواة لالتهام الشمال كله لإقامة مشروع السودان الجديد.
هذه هي خطة أمريكا التي انتدبت الحركة للقيام بها خاصة من أولاد قرنق الوحدويين «بقيادة باقان» الذين لايزال الأمل يراودهم بأن حلم دولتهم لا يزال قائمًا.
أرجع لأقول إن ما ذكرته آنفاً يوضح السبب الذي جعل الحركة تغض الطرف عن ترسيم الحدود بل تتعمد ذلك استجابةً لأهدافها وأهداف راعيتها «أمريكا» الإستراتيجية بعد أن رأت فينا ضعف الإرادة والهزيمة النفسية التي تمهِّد لقيام مشروعها التوسعي الاستئصالي لكن هذه المرة بتكتيك جديد هو الذي أشرت إليه وذلك أسوة بما فعلته بالشهيد صدام حسين الذي لم ينقذه انكساره وتراجعه وتودده لأمريكا خلال سنواته الأخيرة من أن تطحنه طحناً.
أود أن أسأل بين يدي هذه المقدمة: أين تكمن العلة وهل ما تفكر فيه أمريكا نتيجة منطقية لحقائق موضوعية وواقعية على الأرض أم أن العكس هو الصحيح.. بمعنى آخر هل نحن في حقيقة الأمر ـ وليس في مخيلة ونفسية المنهزمين مكسوري الإرادة ومسلوبيها في قيادتنا ـ هل نحن مؤهلون واقعاً لذلك وهل نحن من الضعف بحيث يجوز في حقنا أن نسمح لأمريكا وحركتها الشعبية بأن تطمع فينا وهل واقع الحركة وجنوب السودان وداعموه بتلك القوة التي تجعلهم محقين ومؤهلين للعمل على إنفاذ مشروعهم العنصري الاستئصالي على أرضنا؟!
أقول إن الأمر عكس ذلك تماماً مما سأبينه غداً بإذن الله ثم أنطلق من ذلك لأقول إننا في حاجة إلى إزالة الهزيمة النفسية واطّراحها تماماً وإلى الانقلاب على مشروع نيفاشا الانهزامي الاستسلامي وإبداله بالمشروع الجهادي الذي خاضت به الإنقاذ معاركها ضد أمريكا ودول الجوار المعتدية قبل أن تحط نيفاشا وأبناؤها بكلكلها على أنفاسنا.. مشروع التحدي والاعتداد بالنفس.. مشروع العزة والكرامة.. مشروع أن النصر من عند الله وليس من عند أمريكا.. مشروع أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده المؤمنين خاصة.. مشروع علي عبدالفتاح و«الجنا المكحل بالشطة» اللواء عبدالمنعم الطاهر ود. محمد أحمد عمر ود. محمود شريف ـ ممن كانوا يتحدَّون أمريكا ويوقنون أن الله العزيز أكبر منها ويرددون «الطاغية الأمريكان ليكم تدربنا.. بي قول الله وقول الرسول ليكم تسلحنا» وليس مشروع المتهافتين على أمريكا ممَّن يظنون أنها تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وممّن استبدلوا حلم الفردوس الأعلى بالحلم الأمريكي أو حلم التطبيع مع أمريكا.
إن المؤتمر الوطني في حاجة إلى أن يخلع عنه رداء الاستسلام والتراجع الذي جاءت به نيفاشا وإبداله برداء هجومي يعمل على إقامة الشمال الجديد أو مشروع السودان الجديد «الشمالي» كبديل مصادم لمشروع الحركة وأمريكا ولا يفل الحديد إلا الحديد.
المشروع الجديد الذي يتعين على المؤتمر الوطني أن يتبناه بعد أن يخلع رداء الاستسلام انطلاقًا من قاعدة «فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم» ينبغي أن يستهدف ضم الولايات الجنوبية الحدودية إلى الشمال وعلى الحركة أن تعلم وأوقن أن أمريكا تعلم أن بيت الحركة مصنوع من زجاج بل هو أضعف أنواع الزجاج وأن كثيراً من القبائل الجنوبية ترفض هيمنة القبيلة الواحدة ويكفي للتدليل على أن بأسهم بينهم شديد ما قاله رئيس الجنوب سلفا كير «كبير الدينكا» في حق نائبه رياك مشار «كبير النوير» وليس أسهل من التحرك في الجنوب للحيلولة دون هيمنة القبيلة الواحدة ذلك أن القبائل الجنوبية خبرت التعامل الرحيم للشمال والشماليين وخبرت ما تفعله الحركة وجيشها «المغول الجدد» بهم منذ أن جثمت على صدورهم وما تمردات الفريق أطور واللواء قلواك قاي واللواء ياو ياو إلا أكبر دليل على بيت زجاج الحركة الشعبية.
إننا في حاجة إلى مشروع انقلابي داخل الإنقاذ سيأتي تفصيله لاحقاً إن شاء الله يزيل حالة الوهن ويرمي بمشروع نيفاشا في مزبلة التاريخ ويأتي برجال يعيدونها سيرتها الأولى وحينها لن يجدي الحركة الاستعانة بخليل إبراهيم وغيره من متمردي دارفور الذين باعوا آخرتهم بدنياهم ودنيا غيرهم وتحالفوا مع الشيطان الرجيم.
زفرات حرى
الطيب مصطفى
هذا أو الطوفان(2-3)
سعدنا كثيراً بنشرة «دايجست» التي يصدرها «مركز سلام للدراسات الإستراتيجية» الذي يرأس مجلس إدارته الفريق الفاتح عروة ويديره الأستاذ صالح محمد علي، وقد تناول المحور الذي يدور حوله العدد الأخير الصادر في أكتوبر 2010 بعنوان: «الجنوب بين ممارسات الحركة الشعبية وسياسات دول الإقليم»... تناول بين دفتيه عدداً من المقالات والتقارير المنتقاة بعناية ومن بينها تقرير مترجَم من مجلة الإيكونوميست البريطانية الشهيرة الصادرة بتاريخ 23/9/2010 بعنوان: «هل يتجه سكان جنوب السودان إلى الصدام؟» ثم: «خارطة طريق من أجل وحدة انفصاليي جنوب السودان» وهو مقال طويل أعده القانوني والمحامي الجنوبي «يوهانس أكول أجاوين» شقيق د. لام أكول أجاوين، وقد ترشح الرجل مستقلاً لمنصب والي أعالي النيل في الانتخابات الأخيرة «أبريل 2010» وفشل بالطبع، ثم احتوت الإصدارة على تقارير معدّة من قبل مجموعة الأزمات الدولية بتاريخ 6/5/2010 وكانت تتناول كلاً من الدور المصري واليوغندي والليبي في مشكلة جنوب السودان وهي عبارة عن تقارير متميِّزة تشير إلى دور كل من الدول الثلاث وإستراتيجياتها المتعلقة بجنوب السودان.
سأتناول في مقالين أهم ما ورد في تقرير مجلة الإيكونوميست مع تعليق مني حول بعض ما ورد في التقريرين ورأيي بعد ذلك.
تقول الإيكونوميست إنه «ليس من المؤكد أن تسمح حكومة الخرطوم بإجراء الاستفتاء كما خُطِّط له وإذا ما سمحت به فسوف يتسم بفوضى كبيرة بالإضافة إلى ذلك فإن الوضع خارج جوبا مريع»!! ثم قال التقرير إن مفوضية الاستفتاء تم تشكيلها قبل أربعة أشهر فقط من الاستفتاء «وحتى لو افترضنا أن الجميع يعمل بأقصى طاقته فإنه بالكاد يمكن إدراك الموعد النهائي في التاسع من يناير 2011، وإذا لم يُجر الاستفتاء في موعده فسوف يتشكك الجنوبيون في نيات الشمال وسيتهمونه بإنكار حقهم في التصويت مما سيزيد الضغوط لإعلان الاستقلال من جانب واحد عبر البرلمان الجنوبي وهذا من شأنه أن يثير البشير ويدفعه إلى عدم الاعتراف بالدولة الجديدة وفي هذه الحالة سوف تقف العديد من الدول إلى جانبه خاصة الدول الإفريقية».
ثم قال التقرير إن هناك سُبُلاً أخرى يمكن أن يعرقل بها الشمال عملية الاستفتاء وهى إذكاء المعارضة والتمرد للتقليل من فرص ما يسميه بالاستفتاء النزيه.. وذكر التقرير ما سمّاه بأساليب الشمال التي لجأ إليها على مدى عقود من الزمان من أجل إضعاف الجنوب وضرب مثالاً بجيش الرب، ثم ذكر اتهامات الحركة للشمال بأنه يدعم التمردات التي حدثت بعد الانتخابات الأخيرة مثل تمرد جورج أطور وغيره واتهم الشماليين «يقصد الحكومة بالطبع» بزعزعة استقرار الجنوب وإفساد عملية الاستفتاء وبأنهم يمكن أن يقوِّضوا إعلان شرعية الدولة الجديدة.
تناول التقرير كذلك نقلاً عن الأمم المتحدة قائمة بعنوان: «إحصائيات مخيفة» تكشف «تدهوراً خطيراً حيث يسجل الجنوب أعلى معدلات الوفيات أثناء الولادة ووفيات الرُضع» وقال: إن نسبة الأمية تبلغ 85% من الراشدين، وقال إن أكثر من نصف سُكان الجنوب يعيشون الآن على إعانات طارئة ويواجه مليون ونصف مليون شخص فجوة غذائية.. وقال: «لقد تم إنقاذ الجنوب من المجاعة فقط بالأموال الأمريكية التي ضُخّت إلى برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة وفي الوقت الذي تزايدت فيه حالات سوء التغذية خلال السنوات الخمس الماضية صرفت حكومة الحركة الشعبية أكثر من 6 مليارات دولار استلمتها في إطار اتفاقية قسمة الثروة من عائدات البترول إضافة لمئات الملايين من الدولارات حصلت عليها كمساعدات... يتساءل الناس أين ذهبت هذه الأموال؟... الإجابة هي: إلى الجيش حيث أنفقت حكومة جوبا 60% من دخلها على الأسلحة ومخصصات الجيش تحوطاً لاحتمالات تجدُّد الأعمال العدائية مع الشمال.. كما أن الفساد بات معضلة»!!
ينقل التقرير صورة عن الأوضاع في بعض مناطق الجنوب التي تعاني من التهميش واعتراف حاكم جونقلي كوال جوك المقاتل السابق «بأن المشاريع التي تركزت في المركز بجوبا تمت على حساب المناطق الأخرى وهذا يذكره بمرارة توصيف قرنق بأن تركيز مشاريع التنمية في الخرطوم على حساب المناطق المهمَّشة في الجنوب والغرب هو السبب الرئيسي للحروب الأهلية»!!
تحدث التقرير عن انعدام الديمقراطية وعن الصراع القبلي وختم بأن «كراهية العرب والشماليين التي يُجمع عليها الجنوبيون لا تكفي وحدها لتحقيق وحدتهم»!!
أقول معلقاً بأن أهم ما ورد في التقرير الضافي والعميق هو حالة البؤس التي يعاني منها الجنوب والفساد والتمردات والصراع القبلي وغير ذلك من مظاهر الضعف الذي يعتري الجنوب اليوم قبل أقل من خمسين يوماً من استفتاء تقرير مصيره الأمر الذي يجعل الحكومة في وضع جيد في مواجهة الحركة الشعبية التي تسعى على الدوام لتعويق استقرار وتقدم الشمال وتتعاون مع أمريكا وغيرها في سبيل الضغط على الشمال لتقديم تنازلات في أبيي وغيرها من القضايا العالقة مثل ترسيم الحدود والمناطق الخمس المتنازَع حولها والجنسية والحريات الأربع والديون.
أمريكا لو تلحظون ترفع العصا وتقدم العلف الذي تسميه بالجزرة للحكومة وتغريها من أجل ضمان تعاونها في سبيل إجراء الاستفتاء لأنها تعلم تماماً حال الجنوب الذي تحدثت عنه مجلة الإيكونوميست ولذلك تمارس الضغط على الخرطوم بينما تغدق على الحركة والجنوب واضعة في الاعتبار أوراق الضغط الكثيرة المتاحة لحكومة الخرطوم والتي تحدثت المجلة في تقريرها عن بعضها.
ذلك كله يقودنا إلى التأكيد على ما ظللنا نقوله وهو أن الحكومة والشمال في وضع جيد مقارنة بالوضع الذي تعاني منه الحركة وجنوب السودان وتستطيع أن تجعل الحركة وأمريكا تجثوان على ركبتيهما لاسترضائها وتقديم كل ما تطلبه مهراً لإجراء الاستفتاء وهذا ما ينبغي أن يجعلنا نعيد النظر في إستراتجية التفاوض بحيث نقدم مطلوباتنا كلها بدون أدنى تنازل فإذا كانت أمريكا تضع شروطاً كثيرة مهراً للتطبيع فإننا في حاجة إلى أن نقلب الطاولة في وجهها ونُفرِط في وضع الشروط ومن بين تلك الشروط إلغاء قرار الجنائية التي تعلم أمريكا أنها مسيّسة وأنها عبارة عن عصا ترفعها في وجه السودان وما اخترعتها من أول يوم إلا لتهشّ بها في هذه الأيام كورقة ضغط تستخدمها لتحقيق أجندتها في السودان.
زفرات حرى
الطيب مصطفى
هذا أو الطوفان(3-3)
خلصنا في مقال الأمس الذي استعرضنا خلاله تقرير مجلة الإيكونوميست البريطانية الذي كان عنوانه: «هل يتجه سكان جنوب السودان إلى الصدام» والذي ورد في نشرة دايجست التي يصدرها «مركز دراسات سلام للدراسات الإستراتيجية»... خلصنا إلى أن الوضع المزري الذي يتخبط فيه جنوب السودان من جوع وخوف واقتتال قبلي وتمردات تعصف بكيانه ورعب وفساد مستشرٍ وغير ذلك مما استعرضت المجلة بعض تفاصيله يجعل الحكومة في وضع جيد يتيح لها أن تستخدم أوراق الضغط التي في يدها لجعل كلٍّ من الحركة وراعيتها أمريكا تجثوان على ركبتيهما وتتوسلان للحكومة لكي تسهل من قيام الاستفتاء وتساعد في تخفيف أو إنهاء العقبات والظروف غير الملائمة التي تحول دون إجراء الاستفتاء الذي يعتبر هدفاً إستراتيجياً للحركة وأمريكا تحرصان على تقديم كل شيء في سبيل تحقيقه ذلك أن أمريكا تعلم تماماً أنه بدون تعاون الحكومة السودانية فإن قيام الاستفتاء يصبح أمراً مشكوكاً فيه وربما مستحيلاً.
هذا يجعلنا نطلب من الحكومة أن تُنهي حالة أو عهد المسكنة والعطاء بلامقابل، فأمريكا لا تدفع ثمن ما يُهدى إليها كما ظللنا نردد ولا تحترم إلا الأقوياء أما المساكين فإنها تدوسهم بالأقدام ولعل طريقة تعاملها المهادن أو قل العاجز مع كلٍّ من كوريا الشمالية وإيران وسوريا يدلل على أنها لا تحترم إلا من يقول لها «لا» ومن يستخدم أوراق الضغط التي في يده في مواجهتها، فأمريكا التي نراها تهرول هذه الأيام نحو هدفها الإستراتيجي الذي توقن أنه لن يتحقق ما لم تتعاون معها حكومة السودان تعاني من حالة ضعف أمام الحكومة ولذلك تجدها ترفع العصا ثم تقدم الجزرة والوعود برفع العقوبات ورفع السودان من قائمة الإرهاب وإلغاء الديون وغير ذلك في مقابل تعاون الحكومة السودانية في قيام الاستفتاء الذي توقن أنه لن يتم ما لم تفعل الحكومة ذلك كونها تعلم تماماً حالة الضعف الذي يمسك بخناق الحركة والجنوب مما بيّنته مجلة الإيكونوميست وتقارير الأمم المتحدة والمخابرات الغربية في كثير من تقاريرها.
لقد والله جلس إليَّ أحد سفراء الدول الغربية التي تتكالب علينا هذه الأيام لمعرفة ما يفكر فيه منبر السلام العادل واعترف لي بأن الجنوب يعاني من مشكلات لا حصر لها مقارنة بالشمال وذلك ما يجعل الغرب من خلال تقارير سفاراته يدرك حقيقة الأوضاع في جنوب السودان الذي يعتبر لدى بعض أجهزة المخابرات الغربية دولة فاشلة.
والله الذي لا إله غيره إن الحكومة في وضع متميِّز ينبغي أن يُستغل ويُستخدم من قِبل مفاوضين أقوياء وأذكياء لا مرعوبين ومنهزمين وإني لأحذِّر الحكومة من أن تقع في الخطأ الذي ارتكبته في نيفاشا حينما رمت كل أوراقها في قارعة الطريق ولم تستخدمها بينما كانت أحرص ما تكون على تقديم التنازلات المجانية، وهل أدل على ذلك من أن الحكومة قدمت لقرنق ولأمريكا من التنازلات ما لم يكن يحلم به مما كشفته إستراتيجية التفاوض التي كانت ــ ويا للهول ــ معلومة للحكومة وبالرغم من ذلك «انبرشت» الأمر الذي جعل الحركة تحصد ثمار نصر بلا حرب وجعل الحكومة المنتصرة في ميدان القتال تخسر معركتها في مائدة التفاوض مما جعلنا نقول بكبد تقطر دماً إنه عطاء من لا يملك لمن لا يستحق بل إنه تحويل الانتصار في ميدان القتال إلى هزيمة نكراء على مائدة التفاوض.. هذا يجعلنا نطلب من الحكومة أن تعيد النظر هذه المرة في إستراتيجية التفاوض وأن تُولي الأمر من يحسنون اقتلاع أسنان الخصم «ويخلفون أرجلهم» بطريقة د. غازي صلاح الدين التي أعلمها في وجه من يحاورهم ويتحدثون من عل بثقة واعتداد بالنفس حال المنتصر وهو يخاطب خصمه المنهزم الساعي لاسترضائه بأي ثمن.
درجت أمريكا ـ غير المحايدة ـ على أن تقدم الأوراق التي يجلس حولها طرفا التفاوض وكانت الحكومة تدخل القاعة لتقوم بقراءة النص المطروح أمامها وإجراء بعض التعديلات الطفيفة التي لا تغيِّر من جوهر الأوراق التي تقدَّم من قبل الوسيط الأمريكي غير المحايد، أما الآن فقد آن الأوان في ظل التهافت الأمريكي الذي نعلمه لأن تدخل الحكومة قاعة التفاوض بأوراقها هي وأن تطلب من الطرف الآخر ومن الوسيط الأمريكي غير المحايد أن يقرأها وينصاع لها وإلا...!! وهذا ما يجعلني أطلب من الرئيس أن يُمسك بالملفات في يده فقد جرَّب تسليمها للآخرين ولات حين مندم!!
لقد طرحت مذيعة قناة الجزيرة على الأستاذ علي كرتي وزير الخارجية الموجود في أمريكا سؤالاً يقول: إن أمريكا تعرض على الحكومة حزمة من الحوافز في مقابل قيام الاستفتاء وكان ينبغي أن يقول لها إننا ملتزمون بقيام الاستفتاء في مواعيده أما إذاكان عدم قيامه ناشئًا عن أسباب لا علاقة لنا بها فإننا أيضاً مستعدون للإسهام في حلها بشرط أن تكف أمريكا أذاها وظلمها عنا وتعاملنا باحترام وترضخ لشروطنا، ولا أرى سبباً واحداً يجعل كرتي لا يشترط، ذلك أن من يشترط هو القوي ولعل أسلوب العصا التي ترفعها أمريكا في وجهنا أمام فضائيات الدنيا والجزرة التي تقدمها لنا في مقابل شروط علينا الانصياع لها يُثبت صحة ما أقول أما أن يقول كرتي بأننا ملتزمون سواء قدمت لنا أمريكا جزرتها أم لم تقدم فهو أسلوب ينبغي أن يُغيَّر وإلى الأبد.
إن أول شرط ينبغي أن تضعه الحكومة للتعاون في مسألة الاستفتاء هو أن يُلغى قرار الجنائية في حق الرئيس الذي تعلم أمريكا أنه وحده من يستطيع أن يُنجح أو يُفشل قيام الاستفتاء وتعلم كذلك جماهيريته التي لاتدانيها جماهيرية من تهشُّ في وجوههم «وتتكرم» بمقابلتهم بينما تقاطع الرئيس داخل بلاده رغم أنه الضامن الوحيد لقيام الاستفتاء.. أمريكا التي ترفض الجنائية حتى تحمي مجرميها قطاع الطرق الذين ارتكبوا أبشع الجرائم في العراق وأفغانستان والتي تستخدم الجنائية التي تقاطعها عصا في وجه الرئيس البشير وتتجاهل بل تدعم مجرمي الكيان الصهيوني... أمريكا هذه عليها أن تعلم أن الرئيس الذي تقاطعه داخل بلاده يعتبر احترامه الشرط الأول لتعاون الحكومة.
عجيبٌ والله أننا لا نولي هذه القضية المرتبطة بكرامة السودان وسيادته الوطنية الاهتمام الذي يليق بها وعجيبٌ أمرنا والله أننا نسمح لهؤلاء الأنجاس بمقاطعة الرئيس داخل بلاده بينما نستقبلهم بالأحضان ونقدم لهم الوعود المكتوبة!!
إن قضية ترسيم الحدود بما في ذلك الاتفاق حول المناطق الحدودية الخمس المتنازَع عليها شاملةً أبيي أرض المسيرية ينبغي أن تكون من الثوابت التي لا مجاملة فيها ولا مساومة، وعلى الحكومة أن تعلم أن مسؤوليتها التاريخية تتمثل في الحفاظ على كل ذرة تراب من أرض الشمال أما الجنوب فإنه موطن آخر يخص شعباً آخر وهو ما أتناوله غداً بمشيئة الله.
كذلك على الحكومة أن تعلم أنه لا تنازل في قضية الجنسية ولا يجوز لها أن تعطي أي وعد حول أيٍّ من الحريات التي تطالب أمريكا وبريطانيا بمنحها لأبناء الجنوب عند الانفصال فذلك خارج تفويضها ولن نقبل البتة بأن يُمنح عملاء دولة أجنبية معادية حق الإقامة في دولتنا ليكونوا شوكة حوت مغروسة في رقابنا وحصان طروادة للنيل منا.
بالنسبة لبقية القضايا بما في ذلك العقوبات الأمريكية الظالمة وقائمة الإرهاب فإنها ينبغي أن تكون من التعهدات المكتوبة والمقدَّمة أمام مجلس الأمن أو الأمم المتحدة ذلك أننا جرَّبنا كذب أمريكا في نيفاشا وأبوجا.
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة