البحر الأسود المتوسط !
كان ذلك الليل حالكاً بشكل إستثنائي، فلا قمر ولا نجوم ولا شهب، لا شيء سوى ظلام دامس أسدل أستاره الكثيفة على تلك الكتلة المائية الهائلة التي تُسمى بالبحر الأبيض المتوسط، لا شيء يمكن سماعه سوى صوت الأمواج الهادئة وهي تداعب ذلك القارب القديم الذي تكوم على متنه خمسة عشرة شاباً إفريقياً وضعوا كل أموالهم وأرواحهم في أيدي ثلاثة من المهربيـن الذين لا يحلو لهم أكل العيش إلا عبر المجازفات الخطرة، تحدي القوانين الدولية والمضاربة بأرواح البشر!
كان الإنهاك والإعياء البالغين يبدوان بجلاء على ملامح الشبان الأفارقة، كان الصمت المطبق يخيم عليهم ، بينما كان لسان حالهم يقول: نحن الآن معلقون بين السماء والأرض عبر خيط مهتريء، نحن الآن بلا أسماء أو هويات أو انتماءات فلقد قذفنا بجـوازات سفـرنا في أعمـاق البحر حتى لا تتمكن أي جهة رسمية في العالم من إعادتنا إلى أوطاننا التي هربـنا منها سيراً على الأقدام، نحن الآن لا نحمل سوي خوفنا من الماضي وأملنا في المستقبل في تلك الجنة الأرضية التي تقع إلى الشمال من قارتنا المنكوبة، تلك القارة التي نهبها المستعمرون الأوربيون سابقاً عبر تكالبهم على نهب مواردها ودمرها الوطنيون الأفارقة بعد الاستقلال عبر الإنقلابات العسكرية والحروب الأهلية!
استطرد لسان حالهم قائلاً: لا شك أن الوضع الراهن ينطوي على مفارقة تاريخية كبرى، فقبل أكثر من قرن كانت السفن الأوربية القوية تبحر صوب القارة الإفريقية فتستولى على خيراتها وتسترق شبابها بقوة السلاح وتجلبهم لأراضيها مكبلين بالسلاسل من أجل استغلال قوتهم في أشق الأعمال، وها هي الآن تُسخّر كل طاقاتها الأمنية من أجل منع أحفاد الأرقاء السابقين من الوصول إلى تلك الشواطيء الذهبية الناعمة!
الأوربيون يسمون قواربنا بقوارب الموت لكننا نسميها قوارب النجاة لأنها قد تمكننا بشكل أو بآخر من التسلل إلى الجّنة الأوربية عبر الأبواب الخلفية، نحن نعرف جيداً حجم المخاطرة التي نقوم بها، ندرك تماماً أننا نواجه احتمالين لا ثالث لهما هما الموت الجماعي بسبب غرق القارب المتهالك أو الاعتقال من قبل حرس السواحل في البلدان الأوربية لكن كلا الإحتمالين أفضل لنا ألف مرة من العودة إلى جحيم الحروب الأهلية، المجاعات والأمراض المهلكة!
فجأة كف لسان حال الشبان الأفارقة عن الثرثرة الصامتة، كادت العيون تقفز من محاجرها الواسعة حينما بدأ القارب القديم يترنح بصورة خطرة وسط جبال هائلة من الأمواج الهادرة التي أثارتها عاصفة بحرية مرعبة هبت من اللامكان دون سابق إنذار.
في نفس الوقت كان عدد كبير من رجال حرس السواحل الأوربيين المزودين بأحدث الأسلحة والمعدات يمتطون قواربهم الحديثة، يذرعون السواحل الأوربية جيئة وذهابا ويقومون باستكشاف الأفق الجنوبي على مدار اللحظة بحثاً عن القوارب المتسللة عبر البحر الأبيض المتوسط الذي صار بعضهم يطلق عليه لقب البحر الأسود المتوسط على سبيل الدعابة السوداء!
كان أغلب حرس السواحل الأوربيين يمارسون مهامهم الأمنية في صمت بينما كان لسان حالهم يقول: حقاً أن بعض الدول الأوربية كانت وما زالت تحتاج لعدد محدود من الشبان الأفارقة للقيام ببعض الأعمال الهامشية لكنها لا تحتاج مطلقاً لهذا الطوفان البشري القادم من الجنوب والذي يمكنه تحويل الإتحاد الأوربي إلى اتحاد إفريقي في غضون سنوات قليلة!
نحن نقوم بواجباتنا الأمنية على أكمل وجه، لكن هؤلاء الشبان الأفارقة لن يكفوا مطلقاً عن الهجرة غير الشرعية لأن حلمهم أكبر من خوفهم، إنهم قادمون من الخلف في صمت، إنهم ينظرون إلى الشمال فقط وقد قرروا عدم الالتفات جنوباً بأي حال من الأحوال، كيف يمكننا صد كل هذه الأمواج البشرية الكثيفة المتسللة تحت جنح الظلام والباحثة عن الحياة عبر لجج الموت ؟!
في اليوم التالي، وعند الساعة الثامنة ليلاً تم بث نشرة إخبارية ما عبر إحدى القنوات الفضائية الشهيرة، قدمت المذيعة الحسناء أخبار الحروب والكوارث الطبيعية وغير الطبيعية بالصورة والصوت وبالتفصيل الممل ثم في آخر النشرة تلت خبراً صغيراً جاء على النحو الآتي: لقي عدد غير معروف من الشبان الأفارقة حتفهم إثر غرق قارب من قوارب الموت في البحر الأبيض المتوسط، واختتمت المذيعة النشرة المأسوية بابتسامة ساحرة وكأنها زفت لأمهات الشبان الأفارقة أسعد خبر في العالم، في ذات اللحظة وبعناد إسطوري عجيب، انطلقت عدة قوارب من سواحل شمال إفريقيا تحت جنح الظلام متجهة صوب الشواطيء الأوربية وعلى متنها المزيد من الشبان الأفارقة المصممين على الاتجاه شمالاً رغم أنف الموت!
فيصل على سليمان الدابي/ المحامي/الدوحة/قطر
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة