Dal Dam "Dammu ". دال "دام" "دامو "
و (دام بهاك مشمول بالنظام)، (يا أرض أجدادي وياكنزى العزيز المقتنى).
يقول الكاتب الصحفي المصري عادل حمودة، فى كتابه، "كيف يسخر المصريون من حكامهم"، أن النكتة السياسية هي سلاح الشعوب المقهورة، وترياقها المضاد لصلف واستبداد وظلم قاهريها. فالشعوب فى مواجهة الطغاة، تلجأ إلى الضحك من رمز القهر والاستبداد، والهزء به حتى تجعل منه أمثولة ومثار تندر، وذلك للنيل من تماسك بنية ذهنية الطغيان والاستبداد عندهـ، وذلك بتوظيف السخرية اللاذعة، كوسيلة لتجريدهـ من مظاهر القوة والهيبة الكاذبة، التي يضفيها على ذاته، ووفقا لتطورات الصراع، تتصاعد وتائر استهداف الشعوب للتماسك النفسي للطاغية، إلى درجة الاغتيال المعنوي، عند الضرورة والاقتضاء، وتمثل هذه الدرجة فى نظر الكاتب، المعادل الموضوعي، للقهر والقمع المادي الذي يمارسه الحكام ضد شعوبهم .
ولعل الناس يذكرون كيف صاغ الوعي الجمعي لشعبنا، عشرات بل مئات النكات السياسية، وكيف ذاعت وانتشرت بين الناس، فى أول هذا العهد والشمولية وقتها فى أوج طغيانها لا تزال، تأخذ الناس بالشدة والعسف، وتسومهم سوء العذاب بشططها وغلوائها، ومن ذلك ما شاع وقتها من أن الناس، وجدوا أنفسهم فى صبيحة يوم من تلك الأيام العصيبة، يتراكضون فى شوارع الخرطوم، ركضاً محموما، وقد بلغ الهلع والذعر بهم مبلغاً عظيما. وفى تسابقهم هذا المذعور، صادفهم قادم من أطراف المدينة، لم يكن قد ألم بالنبأ المفزع بعد، فسألهم عن سبب هذا التدافع المجنون؟
فأجابوهـ بأن سبب فرارهم هذا هو ما تناهى إلى علمهم، بأن الحكومة أصدرت قراراً يقضى، باستئصال (فردة) من (فردتي) عضو حساس من أعضاء (ذكورة)، أي رجل يثبت الفحص عليه أن له ثلاث (فردات) من ذلك العضو.
فازداد عجب الرجل، فسألهم وفيما الفزع والهروب إذن إذا كان الرجل بطبيعة الحال، لا يملك غير (فردتين فقط) من هذا العضو بالذات؟؟!
فجاءهـ الرد الصاعق الذي لم يدر بباله، ولا يخطر بقلب بشر !
وهو أن القرار يتضمن شرطاً بإجراء عملية الاستئصال أولاً، ثم إجراء الفحص تالياً، للتحقق من واقعة ما إذا كان للرجل ثلاث (فردات)، أم (فردتين فقط) لا غير.
وضحك الناس من شر البلية هذهـ، ولكنه كان ضحكا كالبكاء، على قول المتنبي.
ويبدو أن إدارة السدود تطبق ذات سيناريو الاستئصال أولا، ثم الفحص والبحث تاليا، وذلك فيما يتعلق بالسدود التي تصر على إنشائها بكل من كجبار ودال، وتسعى باستغلال سلطاتها الاستثنائية الواسعة والشاملة، سعيا محموما للبدء فى تنفيذ الخطوات العملية لإقامة السدين، رغم اعتراض ومقاومة مواطني تلك المناطق ورفضهم المسبب للسدين، دون أن تبيّن لهولاء المواطنين مصدر وطبيعة سلطاتها التي تدعيها، لإغراق أرضهم وممتلكاتهم جبراً ولو كرهوا، ودون أن تبذل أى جهد،أيا كان مقدارهـ من الضاءلة، لإقناع هؤلاء المواطنين بجدوى مطالبتهم بغير مسوغ أو مقتضى، بتقديم تضحية بجسامة وبهظ فقدانهم أرضهم وما عليها من نخيل وشجر وزرع، وكامل مواردهم المادية والمعنوية، وتشمل
فيما تشمل مآثر الآباء والجدود وآثار أقدم الحضارات التي عرفتها الإنسانية.
وهكذا تتجاهل إدارة السدود إرادة النوبيين، وتظن توهماً أن فى وسعها إقامة السدود حتف أنف المتضررين من إقامتها، وإذا اعترض المواطنون النوبيون وناهضوا إقامة السدود، و رفضوا إغراق أراضيهم وسائر ممتلكاتهم، فيما لا طائل من ورائه، وعبروا عن هذا الرفض بأي شكل من أشكال التعبير السلمي، المكفولة لهم كحقوق دستورية وفقا لأحكام دستور السودان الانتقالي لسنة 2005م، قابلت إدارة السدود تظاهراتهم السلمية، بالرصاص الحي وجندلتهم تقتيلا كما حدث فى مجزرة كجبار، أو بإلحاق الأذى بأنواعه بهم ضرباً بالعصي وإطلاق القنابل المسيلة للدموع والاعتقال كما حصل فى صاى و عبري و أرضوان، وبالقمع والملاحقة والاعتقال كما يحدث للناشطين فى لجان وقواعد المناهضة والمقاومة على طول الأرض النوبية وفى الخرطوم وخلافها من مدن السودان.
علاوة على كل ذلك تحظر السلطات نشر كل ما يتعلق برفض ومقاومة ومناهضة إقامة هذهـ السدود من أنشطة وحراك شعبي واسع، بينما تسمح لمؤيدي إقامة السدين رغم ضاءلة عددهم بالترويج للسدين من منابر إعلام الدولة وأجهزة الحزب الحاكم.
النوبيون لمن لا يعرفهم أهل حضارة وحملة علم ووعى، وفضلا عن ذلك فهم أصحاب إرث تاريخي طويل فى ممارسة الديمقراطية، ولم يقفلوا باب الحوار مع أى جهة، لإيمانهم الراسخ بعدالة قضيتهم، وهم عبر لجانهم وممثليهم على استعداد للجلوس مع السلطات المعنية، لمناقشة أسباب رفضهم ومناهضتهم إقامة السدود فى منطقتهم، وقد أعلنوا عن استعدادهم هذا إلى السلطات المعنية، مرارا وتكراراً، ولكن يبدو أن هذهـ السلطات تراهن على فرض رأيها وإنفاذه بغير وسيلة الحوار والتداول الرأي مع مخالفيها، وفى اعتقادنا أن ما تراهن عليه مجرب، وللسلطات المذكورة درس ماثل فيه، لم يجف مدادهـ بعد، ومن جرب المجرب حاقت به الندامة.
والنوبيون شيبا وشبابا، رجالاً ونساء وأطفالاً سيمضون فى طريق نضالهم فى رفض السدود ومناهضة إغراق أراضيهم ومقاومة تهجيرهم حتى انتصار قضيتهم العادلة تحت شعار دال دام دامو، وقد صاغه هكذا وعيهم الجمعي المبدع والمبتكر، مع غيرهـ من الشعارات، الدالة على رفض ومناهضة ومقاومة استكمال مخطط، إغراق وطمر أرض آبائهم وجدودهم. ولا يساومون فى ذلك والشاهد أنهم كللوا هام كل حوائط وجدران المنازل والمدارس والمتاجر والزوايا وغيرها من المباني، بالسكوت من لأقصاها إلى أدناها، بهذا الشعار، كترجمة فعلية لنضالهم شيباً شباباً، رجالا ونساء وأطفالاً، يجسد وحدتهم وتراصهم صفا واحدا، واحتشادهم وتناصرهم فى أتون معركتهم المصيرية، وفى وجه القوى التي تسعى قصدا وعمدا، لإغراق أرضهم ، ونفى آثار جدودهم، وطمس معالم حضارتهم، واقتلاعهم من جذورهم وتشريدهم فى المنافي. ولن ينسى النوبيون تفريط أولى الأمر المتعمّد من قبل فى وطنهم، وتقديمهم مدينة وادي حلفا وجزء عزيز من الأرض النوبية، كقربان لكهربة مصر، وتنميتها صناعيا وزراعياً، ولعلنا لا نفارق الحقيقة قيد أنملة، إذا قلنا أن الإقدام على إغراق حلفا، وتهجير أهلنا النوبيين، تم باستغلال غياب الحريات الديمقراطية، والحقوق الدستورية الأساسية، واعتماداً على عنف الدولة البوليسية المتمثل فى الحكم الشمولي وقتها، وبالقمع المباشر لحركة المقاومة والمناهضة النوبية، التي اشتعلت فى حلفا والخرطوم، ولو لا ذلك ما كان للكارثة أن تقع، لتصبح حلفا جرحنا النازف الذي لن يندمل أبدا، مهما تقادم عليه الزمن، وتصرمت السنوات، لذلك فالنوبيون لن يقبلوا بإغراق أي جزء من أرضهم، مهما كانت الأسباب والمبررات، ولن يسمحوا بتكرار مأساة وادي حلفا ثانية أبدا.
وهكذا جمع الشعار "الدالي" المموسق، بين قرية دال بمركز عبري، وهى فى الغالب كلمة ذات دلالات نوبية، سواء كتبت بحروف عربية أم إنجليزية، وكلمة دام الانجليزية وترجمتها السد، ثم كلمة "دامو" النوبية وتعنى حرفيا (لا يوجد) أو (معدوم)، وفى سياق الشعار، تفيد (لا) الرافضة والناهية عن منكر إغراق جزء عزيز أخر من بلاد النوبة (أرض البطولات، وميراث الحضارات)، وطمرها بالمياهـ بدعاوى وحجج كاذبة ظاهرها رحمة التنمية، وباطنها عذاب النفي والاقتلاع من الجذور، وكأنما التنمية معلقة بشرط لازم من كل بد، ولا محيض عنه ولا بديل له،هو إقامة السدود على طول الأرض النوبية، وتهجير أهلها إما إلى بيئة غريبة عنهم كما فعلوا بأهلنا بوداى حلفا، أو إلى بيئة صحراوية بعيدة عن مجرى النيل وبيئته التي ألفوها وكيفوا حياتهم عليها منذ آلاف السنين، كما فعلوا بأهلنا بأمري والحامداب والمناصير.
ونقول بهذا الشعار ونرفعه ونتمترس تحت رايته الخفاقة فى مناهضتنا ورفضنا إقامة سدى دال وكجبار أو أي سد فى المنطقة النوبية لأسباب لا حصر لها منها:
أولاً: الغموض والكتمان والسرية المطلقة التي تتحرك به الدولة فى كل مستوياتها لتنفيذ إقامة السود، دون تحديد الغرض أو الجدوى الاقتصادية أو غيرها من إقامة السدود والإغفال والتجاهل الكامل لرأى من ستغمر أراضيهم وممتلكاتهم مياهـ السدود، وكلها عوامل تفاقم من أزمة الثقة القائمة بينهم وبين الحكومة أصلاً، وتزيد من شكوك المواطنين فى نوايا الحكومة الخفية، وتؤكد لهم تعويل الدولة، فى تنفيذ مخططها لا على قبول ورضاء وثقة المواطنين، بل على آليات قمع الدولة، والضرب بيدها الباطشة لمن يجروء على مجرد التعبير عن رفضه بالتظاهر السلمي وغيرهـ مما هو مكفول بدستور 2005م الانتقالي (شهداء كجبار) .
ثانياً: عدم جدية دعوى تنمية المنطقة وإنسانها التي تدعيها الحكومة، فالتنمية فى الأساس يقصد بها ترقية وتعزيز تطوير الموارد المادية والمعنوية الاقتصادية المكتشفة والكامنة فى طبيعة وجغرافية الأرض، واستثمارها وتسخيرها وتوظيفها على الوجه الأمثل، لمصلحة الإنسان ومنفعته فى بيئته المحيطة به، بحسبانه أغلى رأسمال والهدف الأوحد للتنمية، ولا جدوى للتنمية القائمة على نفى الإنسان من أرضه وتهجيرها منها بغير مقتضى أو مسوغ.
ثالثاً: التجاهل المتعمد للبدائل المجرّبة محليا وإقليميا وعالميا لإنتاج الطاقة الكهربية ، كالطاقة الشمسية أو الهوائية أو الحرارية باستغلال ما يوفرهـ تكرير البترول السوداني من وقود كالفيرنس أو الغاز وكهرباء سد الحامداب. وكذلك تجاهل بدائل الري المتاحة كمياهـ سد الحامداب ومخزون المياه الجوفية وهى كافية لإحداث أى تنمية مرجوة. رابعاً: انعكاسات الأزمة السياسية وتداعيات الاستقطاب الاجتماعي الحاد، فى آلية ومبررات اتخاذ القرار، مما يثير شبهات ومظنة الكسب المادي أو المعنوي (السياسي) غير المشروع، ويفاقم من آثار هذا الوضع تعويل الدولة كما أسلفنا القول، على الرأي الآحادى المسنود بالقوة والعنف، فى اتخاذ وتمرير وتنفيذ أخطر القرارات، بدلا عن الحوار واحترام حقوق وإرادة المتضررين منها، وأخذ رأيهم فى الاعتبار، والسعي لكسب ونيل رضائهم، خاصة إذا كانت القرارات ذات آثار سالبة وضارة.
خامساً: وعلى ذكر الحقوق المكفولة بموجب دستور 2005م الانتقالي فإننا نورد على سبيل المثال ما ناله إخوتنا فى جنوب أرض الوطن من مكاسب مستحقة لا يجوز جحدها أو إنكارها وفى مقدمتها حقهم تقرير مصيرهم إذا هموا أرادوا ذلك، وهو ما يعنى انفصال عن جزء مقدر من أرض الوطن عنه، وتأسيس دولة مستقلة كحق منصوص عليه فى الدستور. فكيف يسعى من يسعى لجحد النوبيين فى ظل هذا الدستور، الحق الكامل غير المنقوص فى رفض أو قبول قرار يقضى بغمر أرضهم بالمياهـ وإزالتها من الوجود وتهجيرهم إلى تخوم الصحراء، والعاقل من يتعظ بغيرهـ، ما لكم كيف تحكمون.سادساً: من مخلفات تجارة الشمولية الكاسدة وبضاعتها البائرة التشكيك فى قدرة الناس ومنهم النوبيين فى اتخاذ ما يلائم مصالحهم ويحمى حقوقهم من قرارات ومواقف، واتهامهم بأنهم فى رفضهم ومقاومتهم للسدود ينفذون أجندة سياسية لقوى سياسية أخرى مسماة أو غير مسماة، وهو ادعاء باطل بطلان مطلقاً، ولا يضاهيه فى ذك إلا زعم من يدعيه، ً بحقه فى الوصاية على الآخرين، تخرصاً وبغيا وبلا سند أو وجه حق. والصحيح أن من يطلقون هذهـ المزاعم فهم من يتخندقون وراء أجندتهم السياسية والاجتماعية الضيقة، ومصالحهم الحزبية التي صارت بفضل نهمهم وأنانيتهم، على طرفي نقيض من مصلحة الوطن وحقوق الشعب. أما النوبيون فيرفضون ويقاومون ويناهضون السدود وإغراق أراضيهم أصالة لا وكالة عن أحد، وبصرف النظر عمن يصدر منه مثل هذا القرار حتى ولو كان من بني جلدتهم العاقين و(كفيفي الإنسانية) كما فى قول صديقنا الشاعر حميد ونضيف إليه مجزومي الولاء و ناقصي الوطنية.
بقلم/
أمين محمد ابراهيم. المحامى.
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات ,الاخبار و البيانات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
أعلى الصفحة