حول قرار مجلس الأمن 1593
إلى الشعب السوداني
إننا نوجه إليكم هذا البيان وبلادنا تدخل في مواجهة خطيرة مع المجتمع الدولي، بعد أن أفلتت الأزمة في دارفور من سيطرة الحكومة السودانية .. فقد عجزت الحكومة عن احتواء آثار الحرب المستعرة في الإقليم، والتي خلفت مواطنا منتهكا دمه، وماله، وعرضه، ومشردا، خائفا بلا مأوى، وجائعا، مريضا يترقب الموت عند حافة القبر!
هذه المأساة! والتي فقد فيها عدد كبير من الناس حتى حق التمتع بالحياة البسيطة على ظهر الأرض، كانت سببا قويا لأن يتدخل المجتمع الدولي، تدفعه مصالحه وأغراضه النبيلة وغير النبيلة، لإيقاف الحرب، ومساعدة المنكوبين في الإقليم .. ولذلك فإن تدويل المشكلة كان حتميا في مقابل التراخي والعجز عن حلها داخل حدود البلاد ..
إننا ندرك أنه من الطبيعي أن يكون رد الفعل التلقائي للحكومة، وحزبها الحاكم، ومؤيديها غير متوازن، كما رأينا عند صدور قرار مجلس الأمن 1593، والذي يقضي بمحاكمة متهمين سودانيين، رسميين وغير رسميين، في جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، أمام المحكمة الجنائية الدولية بلاهاي .. كما ندرك، أيضا، أنه من حق الحكومة أن تسعى بكل قواها العددية والمادية لحشد الدعم الشعبي لموقفها الرافض للقرار، بحجة انتهاكه للسيادة الوطنية، وطعنه في كفاءة القضاء السوداني، وتعقيده للمشكلة في دارفور، ولمعاييره المزدوجة في استثنائه للأمريكيين من المحاكمة أمام نفس المحكمة .. غير أننا لا نرى أنه من المبرر أن تبادر الحكومة بخلق جو من الإرهاب السياسي، يجعل الشعب أغلبية صامتة، ولا يسمح إلا للأصوات المؤيدة للحكومة بالحق وغير الحق .. فنحن نعتقد أنه كان من الأصوب ألا تدعي الحكومة تأييد الشعب لقرارها إلا بعد توعيته بكل أبعاد الأزمة، أو تعدل عن قرارها إن لم تستطع جمع الناس حوله!
ولأننا نزن الأمور بمعايير غير التي تستعملها الحكومة وحزبها الحاكم، فإننا نعلن، في وضوح تام، عدم تأييدنا لموقف الحكومة في رفضها لقرار مجلس الأمن 1593، واختلافنا معها في كل تبريراتها التي ساقتها لهذا الرفض، كما سنبين لاحقا في هذا البيان .. ونحن إذ نتخذ هذا الموقف، نرجو أن يكون رأينا خالصا لوجه الله تعالى، من أجل المصلحة العامة لشعبنا، ومن أجل المساعدة في الخروج من حبائل الأزمة الشائكة التي تمر بها البلاد ..
هيئة الأمم المتحدة نتيجة للصراع بين الأقوياء
ليس من الفهم الصحيح لطبيعة الأشياء أن يحاول الناس الحكم على مؤسسة عظيمة كهيئة الأمم المتحدة خارج سياق التطور التاريخي للصراع البشري .. فقد أنشئت هيئة الأمم المتحدة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية مباشرة، كتتويج طبيعي لذلك الصراع الطويل، والذي كان، دائما، ما يدور بين الأقوياء في محاولاتهم لبسط نفوذهم على الضعفاء، وتنافسهم حول موارد الأرض وثرواتها ..
وعلى عكس سابقتها، عصبة الأمم، والتي كان هدفها الأساسي هو الاتفاق على توزيع المستعمرات بين الدول القوية بعد الحرب العالمية الأولى، فإن هيئة الأمم المتحدة قد ظهرت الحاجة اليها لحفظ الأمن والسلام، وتنمية التعاون بين دول العالم .. ولكن ما أن تكاثر عدد الدول المستقلة عن الإستعمار، حتى بدأت الأمم المتحدة في التحول تدريجيا من الإهتمام برعاية مصالح الدول القوية إلى الإهتمام بتقديم العون الإنساني للدول الضعيفة في العالم .. ثم توسع ميثاق الأمم المتحدة ليشمل مواثيق حقوق الإنسان الموقع عليها بواسطة السودان .. واستطاعت الأمم المتحدة، بالرغم من قصورها الحالي، ومن خلال مجلس الأمن، أن تلعب دورا بارزا في فض النزاعات الدولية، وتصفية الحروبات الأهلية ..
معايير مزدوجة لمجلس الأمن وكذلك حكومة السودان!
إننا نعتقد أن رفض الحكومة لقرار مجلس الأمن بحجة إزدواجية معاييره، لا يضيف جديدا للرأي العام العالمي، إذ أن مجلس الأمن في نظامه الأساسي، يعطي وزنا زائدا، مما يعرف بحق الفيتو، لخمسة من أعضائه، على رأسهم، بالطبع، الولايات المتحدة الأمريكية .. وهذا الأمر الواقع مبني، أساسا، على منطق القوة .. فكما هو معلوم، لكل الناس، أن هذه الدول هي التي تمتلك السلاح الأقوى في العالم! وهذا التفضيل مبني، أيضا، على حصر ذلك السلاح المدمر في نطاق الدول الكبيرة، من أجل إحداث التوازن اللازم لمنع نشوب حرب عالمية ثالثة، بسبب الإنتشار العشوائي لأسلحة الدمار الشامل في العالم .. وتلك هي الحكمة من التفضيل، وازدواجية المعايير!! ولذلك، فإنه لا يعقل، على سبيل المثال، أن يجمع أعضاء مجلس الأمن على حل عسكري، لإخراج القوات الأمريكية من العراق! فنتيجة هذا الصدام بديهية لكل إنسان!!
ونحن، في هذا السياق، يحق لنا أن نعجب من اعتراض الحكومة على قرار مجلس الأمن لتفضيله القوى على الضعيف! أحقا لايعلم الناس أن هذه الحكومة الحالية هي حكومة الأمر الواقع؟ وهي التي استلمت السلطة بقوة السلاح! وفرضت برنامجها السياسي على كل الشعب، بمختلف قناعاته، ومعتقداته! وهي الآن تتحدث باسم الشعب دون تفويضه لها! وهي التي ظلت تحكم البلاد، بمنطق القوة، طيلة الأعوام السابقة! فلماذا، إذن، تعترض الحكومة على ازدواجية المعايير ، وهي قد مارستها وما زالت تمارسها الآن؟ فلتعلم الحكومة، والشعب جميعه، أن العدل الإلهي سنته: " كما تدين تدان"!!
السيادة للشعوب
إن على الحكومة ألا تشغل الناس بموضوع السيادة الوطنية، فتلك حجة مقضي عليها بالفشل!! فإذا كانت السيادة، لدى الحكومة، تعني الدولة والحدود الجغرافية للبلاد، فهي، أصلا، قد انتهكت! فماذا عن المراقبين العسكريين في جبال النوبة؟ وماذا عن القوات الأجنبية في دارفور؟ وماذا عن حظر الطيران في مناطق محددة بدارفور؟ وماذا عن العشرة ألف جندي لمراقبة تنفيذ اتفاقية السلام ، والذين لهم صلاحيات واسعة تشمل، أيضا، حماية المواطنين في دارفور؟ وماذا عن اللجنة الدولية، نفسها، والتي أجرت التحقيقات في دارفور؟ ألا يعني كل ذلك انتهاكا للسيادة بالمفهوم الذي أرادت الحكومة أن توصله للشعب؟
إن السيادة، كما نفهمها نحن، في شكلها المتطور، يجب أن تكون للشعوب وليس للحكومات!! فالشعب السوداني هو صاحب السيادة على أرض السودان، بكل مواردها وثرواتها .. وهو الذي يجب أن يعين الحكومة لتخدم مصالحه هو، لا مصالحها هي! وهو الذي يراقبها، ويحاسبها، كما يحق له أن يعزلها!
لا يتم العدل القضائي إلا بتوفر الحريات الأساسية
إن النظر السليم في موضوع إحالة المتهمين في قضية دارفور إلى المحكمةالجنائية الدولية لا يؤدي إلى الإستنتاج البسيط، بأن ذلك يطعن في كفاءة القضاء السوداني، كما زعمت الحكومة، فكفاءة القضاء السوداني ليست هي موضوع التشكيك! إنما يقع الشك على دقة الإجراءات في التحقيقات الجنائية، ويقع، أيضا، على قدرة المواطنين من التعبير بحرية كاملة عن مظالمهم، وتوصيلها إلى منصات القضاء العادل! وهذا أمر لا يمكن الوثوق من تحقيقه في غياب الديمقراطية، وعدم الفصل بين السلطات، في الوضع الحالي للبلاد، وهي تعيش في حالة مستديمة في ظل قوانين الطوارئ المقيدة للحريات!!
نحو نظام عالمي موحد
ورغم علمنا بأن الشعب السوداني قد تابع الإنفعالات، والشعارات، والهتافات الغاضبة التي نظمتها الحكومة، ومؤيدوها ضد قرار مجلس الأمن، إلا أننا نعتقد أن أسوأ ما سمع وسط هذا الضجيج لهي الأصوات التي نادت بخروج السودان من هيئة الأمم المتحدة، وتكوين هيئة للأمم الإسلامية!! وهو فهم متخلف للإسلام! مصدره تطرف عقائدي، فات على دعاته، في غمرة الحماس، أن حكومتهم قد وافقت على تكوين الدولة السودانية الموحدة للمسلمين وغير المسلمين!
وبالرغم من ثقتنا العظيمة في الشعب السوداني، الذي عودنا على النأي بنفسه عن مثل هذه الخطرفات، إلا أننا نحب أن نؤكد أن واجب المسلمين، اليوم، أن يكونوا قادة لتوحيد البشرية حول القيم الإنسانية الفاضلة، لا أن يكونوا دعاة للإحتراب والتخريب! فالبشرية، اليوم، أحوج ما تكون إلى دين السلام، الذي يجمع الناس ولا يفرقهم! هذا الدين هو المستوى العلمي للإسلام! وهو دين الناس جميعا! وهو سنة النبي، صلى الله عليه وسلم، لا شريعته! وهو في أصول القرآن لا في فروعه! كما بشر بذلك الأستاذ محمود محمد طه، في الفكرة الجمهورية!
رأينا للحكومة والشعب
• إننا ندعو الحكومة للإلتزام المبدئي بقرار مجلس الأمن 1593، وأن تسعى بالوسائل الدبلوماسية، والقانونية، فقط، لتخفيف آثاره السالبة عليها ..
• وعلى عاتق الحكومة تقع مسؤولية إبعاد البلاد عن أي مواجهات، مهما كان نوعها، مع المجتمع الدولي، لأن نتائج تلك المواجهات لا تحتاج منا لاجتهاد عقلي، فالتجارب الماثلة تكفي للإعتبار!
• وعلى الحكومة ألا تضيق بالرأي الآخر، لأن التأييد الحقيقي لمواقفها لا يخرج إلا من الأحرار!
• كما ندعو الحكومة، أيضا، أن تجعل من السودان بلدا نموذجا في الإلتزام بالشرعية والمواثيق الدولية، بغض النظر عن تجاوزات الآخرين لها ..
• وعلى الشعب السوداني أن يعلم أن إقامة المحاكمات في لاهاي أو الخرطوم! لن تكون سببا لتعقيد مشكلة قد تجاوزت، أصلا، حدود البلاد! وعلى كل حال، فإن المحاكمات ضرورية لإعادة الأمن والإستقرار للمجتمع، وإعادة حقوق الأفراد، وإزالة المرارات من الصدور!
• وعلى الشعب السوداني أن يدرك أن مؤسسات الأمم المتحدة، رغم قصورها المعلوم، هي نواة لعالم السلام والمؤآخاة بين الشعوب .. وهي، في الوقت الحالي، خير معين للشعوب المستضعفة لاسترداد حقوقها من حكوماتها المتسلطة! ونحن، في دول العالم الثالث، نحتاج لها أكثر من الشعوب المتقدمة في العالم الأول، حيث يتمتع الأفراد، هناك، بالحرية الكافية لاسترداد حقوقهم وإن كانت عند أعلى المستويات الحكومية!
• وعلى الشعب السوداني أن يدرك أنه مؤهل، لمعدنه الطيب، ليجعل من القيم الإنسانية العليا حقائق تسري بين العالمين! وهو مؤهل لذلك باتباعه الواعي لصاحب الخلق العظيم! محمد، الأمين! عليه أفضل الصلوات، وأتم التسليم ..
والله هو الحافظ للبلاد .. وهو نعم المولى، ونعم النصير ..
الجمهوريون – التنظيم الجديد
16 أبريل 2005