أهل أبونعامة يستنكرون نقل جامعتهم ويهددون باتباع أساليب (خشنة)
مقر شركة صينية لتعدين الذهب تحول إلى ثكنة للجيش الشعبى
التعليم فى مدينة الكرمك باللغة الإنجليزية ويتبع المنهج الكيني
تحقيق: هنادي عثمان
مشاهد ومواقف ظلت ترافقنى طوال رحلتي في عمق غابات النيل الأزرق حتى قدومي الى الخرطوم. كانت مشاهد تعكس تناقضات وواقع مرير وبساطة. توق إلى سلام وخوف من مجهول وسط أهل الوازا... كان التوق الى السلام حذرا. وكانت بساطة الناس تتجلى فى بحثهم عن الذهب الذي ترقد تحت أقدامهم الحافية. قصص بعضها اقرب الى الخيال، لكنها هى الحقيقة المؤلمة.. وهناك تلاميذ يتعلمون بمناهج غير سودانية، وحديث حول مصير منطقة الفونج ما بين العودة الى سنار وقيام السلطنة الزرقاء، او الانضمام الى جنوب جديد، او ربما الى اثيوبيا. أو لم نقل انها قضايا مثيرة؟. كانت الرحلة التى استمرت تسعة ايام بلياليها بين أبو نعامة والدمازين وباو والكرمك بحثاً عن واقع السلام فى مناطق الحرب الملتهبة.. وكانت رحلتنا بصحبة السيد مالك عقار، وزير الاستثمار، والدكتورة آن ايتو وزيرة الدولة بوزارة الزراعة.
جامعة أبو نعامة اللغز المثير
عند وصولنا إلى مدينة أبو نعامة كانت أولى القضايا الساخنة التى فتحت ملفاتنها فى وجوهنا كانت قضية تحويل الجامعة إلى سنار مثار غضب السكان. وهذا ما جعلهم يتدافعون لاستقبال القائد مالك عقار. وبالطبع لا يعنى هذا أن تلك القضية الوحيدة. كما أن السكان مدفوعون بشلالات من المشاعر تجاه زعيمهم عقار ابن النيل الأزرق الذى يزور المنطقة رسميا للمرة الأولى منذ تقلده منصب وزير الاستثمار. و قد رفع أهل أبو نعامة مذكرة للوزير مالك عقار طالبوه فيها بإرجاع الجامعة إلى مقرها الأصلي والقانوني والشرعي. وقالت المذكرة إن مدينة أبو نعامة قد أفرغت من كل المؤسسات التنموية والحكومية.. بدءً من مشروع الكناف ومحطة أبحاث كنانة ومركزي إكثار البذور والتدريب، وكذلك تحويل الأسواق لتقليدية والمحاصيل الزراعية. وأضافت المذكرة أن نقل إدارة الجامعة لها أثر واضح على أهل المنطقة لما تقوم به إدارة الجامعة من دعم كثير من الخدمات التعليمية والصحية والخدمية، إضافة إلى أن كثيرا من العاملين قد اضطروا اضطراراً للذهاب إلى سنار.
واعتبرت المذكرة أن نقل الجامعة دليل على التسلط السياسي وسياسة العهود المظلمة التي مرت وما تزال تسيطر سيطرة كاملة على مقدرات الولاية مما أدى إلى الإحساس والغبن والتهميش وعدم تمثيل أهل المنطقة فى المناصب الحكومية، حتى ولو بمنصب مدير واحد لمكتب وزير. ولم يكتف السكان بأسلوب المذكرات السلمية لكنهم حذروا من اللجوء إلى أساليب (خشنة). لقد أثار القرار موجةً من الغضب بين أهل أبو نعامة الذين هددوا باللجوء إلى باتخاذ مواقف حادة حال عدم إعادة الجامعة إلى مقرها الأصلى.
لكن ما كان مثيراً هو أن الدكتور أحمد البشير، أحد اساتذة الجامعة، عزا تمسك المدير بنقل الجامعة من مقرها والذى يحمل اسمها.. "لأسباب شخصية جداً".
تخبط إدارى وإسراف
دكتور أحمد البشير شكى لنا مما تمر به الجامعة من تخبط إدارى وصرف فى غير محله للأموال وإصرار على تخطى قرارات وزارة التعليم العالى. وذكر أن ذلك يعنى الإصرار على نقل الجامعة رغم توجيهات وزير التعليم العالى الدكتور بيتر نيوت كوك بإبقاء الجامعة فى مقرها الأصلى. وهو ما أيده الأساتذة بالجامعة دكتور أحمد بشير وعبد الرحمن الطيب وصلاح الدين عبد القيوم وتمسكهم بقرار وزير التعليم العالى وإرجاع إدارة الجامعة إلى مقرها.. وقد تلقى الأساتذة والسكان عهداً من الوزير مالك عقار بنقل الرغبات والمطالبة الشعبية إلى جهات الاختصاص. وقال "من ناحية قانونية القرار معكم ومن الناحية القانونية فهو لكم".
الكرمك تخرج من الحرب إلى سلام حذر
كلنا يعرف مدينة الكرمك التى اشتهرت أول ما اشتهرت بالحرب، وتقع تحت سيطرة الجيش الشعبى منذ عام 1997. حين دخولنا إليها استقبلنا السكان بحفاوة وكرم. كانوا يهتفون لمالك أبونا وليس مالك الوزير. ومالك كان قائد المنطقة حتى إبرام اتفاق السلام فى عام 2005، لذا عاد إلى المدينة عودة رجل البيت لا الضيف الوافد. لكن كانت المعاناة بادية على وجوه الآلاف من من خرجوا إلى استقبال الوفد الحكومى. هم بسطاء.. كرماء كانوا يغنون للسلام، ويعزفون الوازا أغنية السلام والأمان. كانوا قد ملوا الحرب واصوات المدافع وصاروا يحلمون بالسلام.
كانت المنطقة كلها تقع فى دائرة القصف المدفعى إبان جولات الكر والفر والدخول والخروج المتبادلين بين الجيش الحكومى والجيش الشعبى. لذا لا تزال الدهشة تلازم أهل المنطقة حين رؤيتهم حمائم السلام تحلق فوق سماوات النيل الأزرق تطير فى حرية لتشرب من مياه النيل الخالد الذى يعزف لحن صيرورة الحياة. نحروا الذبائح ابتهاجاً، وغنوا طربا ورقصوا انتشاءً.. رجالا ونساءً وأطفالا وتلاميذ مدارس. لكن كانوا حذرين، أحسوا أن السلام كان ورقا لم يترجم على أرض الواقع.
وربما التقط الوزير تساؤلاتهم الحائرة فخاطبهم فى حماس بقوله: "نحن منكم وإليكم. ونحن مع السلام من أجلكم.. وسنناضل إلى أن تستردوا حقوقكم"، وطالب الجميع بالصبر وقوة الاحتمال. ولاحظت أن كل مسؤولى الحركة كانوا يتحدثون عن السلام بحذر وتشكك. هذا ما لمسناه من السكان ومن الجيش.. وفى كل مكان، يطالبون بتنفيذ السلام واتفاقه دون مماطلة. وقد هدد معتمد محلية الكرمك مأمون حماد من "العودة إلى المربع الأول"، فى إشارة إلى الحرب.
رحلة الذهب
مقر شركة الذهب يتحول إلى ثكنات للجيش الشعبي
فى منطقة خور البودى، حيث ثكنات الجيش الشعبى، كانت المنطقة مقراً لإحدى الشركات الصينية العاملة فى تعدين الذهب، إلا أن العمل توقف بسبب الحرب التى حاولت سد كل شرايين الحياة. كان عائد الإنتاج السنوى من الذهب يقدر بحوالى 12 مليونا إلى 15 مليون دولار حتى عام 1984.
ولكن تعدين الذهب استمر بشكله التقليدى.. حيث هناك فى منطقة جروت التى تقع جنوب الكرمك، وتبعد منها حوالى الثلاثة كيلومترات قريبا من الحدود مع إثيوبيا. وحين وصولى إلى هناك كان السكان المحليون يتوافدون زرافات ووحداناً. وحين سألت أحدهم عن سر هذه التجمهرات قال "إنها رحلة البحث عن الذهب"، هؤلاء يأتون إلى هنا للفوز بجرامات من الذهب.. كان البحث مضنياً.. رحلة شاقة نحو جبل الذهب أملاً في وجود كنز تحت الأرض ربما يزيل الفقر والبؤس. ومنذ أن يرسل الفجر أولى خيوطه الضوئية تبدأ الرحلة سيراً فوق ظهور الحمير، أو مشياً على الأقدام، وتتواصل رجلة البحث المضنى وتبلغ أوج رهقها مع بدء عملية الحفر فى الصخور عمق ثلاثين متراً. هذا يعنى احتياج البحث إلى العمل الجماعى.. حفر وإزالة التراب والطبقات الجيرية وحمل كميات من التربة خارج الحفرة، وغربلة الكمية الترابية بعد خلطها بالماء. ويستمر المشوار المضني حتى حلول الظلام. تستمر عملية التعدين أياما، أو ربما شهورا لكن النتيجة ربما تكون جراماً واحداً من الذهب.
الرسالة فرح، امرأة فى أواخر الثلاثينات من عمرها.. قالت لنا "كل يوم آتى لهذا المكان ومهمتى حمل المياه فوق رأسى لمسافة ثلاثة كيلومترات. هو البحث عن العيش".
أما ثريا محمد المأمون، فقد وجدناها تطبخ وجبة الغداء. كانت الوجبة عصيدة وملاحاً من اللالوب. تكسر اللالوب لتأخذ قلبه وتطبخه.. قالت: "هذه هى وجبتنا الرئيسية وربما نغيرها بالويكة إذا وجدت". وللحصول على التبر، أو الذهب المفترض يحتاج الأمر الدخول إلى عمق تلك الحفرة العميقة، كانت النساء يقمن بذلك فى خفة ونشاط.
وأخبرنا حسن موسيه، أحد رجال المنطقة، أن النساء يقضين أربع ساعات ذهاباً ومثلها إياباً من أجل الماء. أشار إلينا أنه جاء إلى الوزير كى يساهم فى حل مشكلة المياه.
والماء سر الحياة هو أزمة أخرى. لا توجد مضخات أو بيارات أو أى شكل من أشكال توفيير المياه أو توزيعها. يعتمدون فقط على مياه الخيران والأمطار حين حلول الخريف. لكن سكان المناطق المتاخمة للنيل وضغها لا شك أفضل بكثير.
ومن جانبه أكد لنا معتمد محلية الكرمك مأمون حماد أن الحكومة الجديدة بدأت فى حل المشكلة جزئياً، "وقد وفرنا فى الآونة الأخيرة حوالى ثلثي طلمبات لضخ المياه لسكان المدينة".
تعليم بالمنهج الكيني
ذهبنا إلى المدارس. التعليم فى مدينة الكرمك مستقر، لكن فى القرى والضواحى؛ القريبة والبعيدة، يحتاج التلاميذ إلى السير بضع كيولمترات يومياً من أجل الدراسة. وما لفت النظر أن التعليم كان باللغة الإنجليزية وأن المنهج هو منهج كينى. الكتب أيضاً من وزارة التعليم الكينية. وبرروا لنا السبب "لظروف الحرب وصعوبة التواصل مع الجهات الواقعة تحت سيطرة الحكومة". أيضاً لهم رأى واضح فى المناهج التعليمية الحكومية، "إنها لا تعبر عن الواقع". ويشير معتمد المحلية إلى أن عدد مدارس المجلية يبلغ أربع مدارس فى الكرمك وفى يابوس.. وذكر لنا أن منظمة فازوغلى للإغاثة (ROOF) هى الجهة التى تشرف على التعليم.
أمراض منتشرة واشتباه فى الحمى الصفراء
يشكو السكان من انتشار بعض الأمراض. وتشير التقارير إلى وفاة حوالى الثمانين شخصاً خلال شهر فى منطقة ودقة القريبة من الكرمك، كما ينتشر بما يشتبه أنه حمى صفراء. الأمراض هى ضيف وزائر ثقيل على الناس، لكنه دائم الحضور فى مناطق جنوبى النيل الأزرق. هناك المعاناة فى كل شئ، والأمل معقود على السلام. فالفقر مدقع، والسكان يعتمدون على الزراعة التقليدية والرعى واستخراج الذهب بصورة تقليدية.. وحركة النشاط التجارى محدودة للغاية، حيث لم تطبّع الحركة شمالاً للتواصل مع المناطق التى كانت تقع في السابق خارج سيطرة الحركة الشعبية، ويكتفى الناس في حركتهم التجارية على تجارة الحدود مع إثيوبيا، لكن شح الموارد جعل الحركة محدودة.
منطقة تجارة حرة تستخدام أربع عملات للتبادل التجاري
لفت نظرنا ونحن نطوف على الأسواق البائسة وندخل الدكاكين الصغيرة أن الكرمك منطقة حرة. يمكن أن تستخدم فيها عدد من العملات الأجنبية والمحلية. يمكنك أن تدفع بالدولار، مع تفضيل للبر الإثيوبي، لكن لا بأس من أن يتم التبادل بالشلن الكينى إضفة إلى الدينار السودانى. كلها عملات مرغوبة، وقبل كل ذلك لا يزال نظام المقايضة قائماً.. وينتقل هذا الوضع بالطبع إلى داخل الحدود الإثيوبية، حيث ترقد شقيقتها: الكرمك الأخرى. هناك بحفنة من الملح يمكنك شراء حفنة من السكر أو الزيت أو الملابس، والعكس صحيح. تتداخل الحدود الجغرافية، وتتشابك العوامل الثقافية والعرقية خاصة فى مناطق بنى شتقول المشتركة بين السودان وإثيوبيا.
واصلنا تجوالنا وطوافنا داخل مناطق الفونج فى جنوب النيل الأزرق. لكننا لم ننسَ أن نلتقى بالمسؤولين هناك لا سيما الوافدين الجدد على الحكم. وغداً نرى رأيهم فى اتفاق السلام.. وكيف يفسر قيادات الحركة الشعبية هناك المشورة الشعبية التى نصت عليها اتفاقية نيفاشا بالنسبة لسكان النيل الأزرق وجبال النوبة... ولماذا يلوِّح بعضهم بالانضمام إلى إثيوبيا؟؟.