الدبلوماسية السودانية: المنهج العقيم
إذا كان دخول الحركة الشعبية لتحرير السودان كشريك رئيسي في الحكم و التجمع الوطني كشريك هامشي قد خلق لدى البعض أوهاما بإمكانية تغيير الشريك المهيمن للمناهج التي أتبعها المؤتمر الوطني طوال 17 عاما في إدارة السياسة الخارجية للبلاد، فإن الأزمة مع تشاد جاءت لتذكر هؤلاء بأن شئ لم يتغير حتى و إن كان على قمة الدبلوماسية السودانية أحد كوادر الحركة الشعبية. و قبل تناول مواقف الحكومة السودانية و ردود أفعالها هناك عدة ملاحظات و لنقل حقائق لابد من إعادة التأكيد عليها لأنها تعتبر أسبابا رئيسيا لكل المصاعب التي تواجهها الدبلوماسية السودانية منذ سنوات و ليس أقلها صدور 8 قرارات من مجلس الأمن الدولي بحق السودان و تحت البند السابع الخاص بتهديد الأمن و السلام الدوليين.
أولا، تعدد مراكز اتخاذ القرار الخارجي من دون أن تمثل وزارة الخارجية مرجعية و مركز لتوحيد المواقف بين الجهات المختلفة المشاركة فيه. رئاسة الجمهورية، مستشارو رئاسة الجمهورية، حزب المؤتمر الوطني، وزارة الخارجية، جهاز الأمن و المخابرات، الاستخبارات العسكرية، الخ.
ثانيا، لم تعد وزارة الخارجية تمثل الأداة التنفيذية للسياسة الخارجية بل مجرد واجهة إدارية لها و تحولت صلاحياتها في هذا الجانب سواء إلى المبعوثين الخاصين للرئاسة كما هو الحال في ملف العلاقات مع تشاد الذي ظل يواليه كل من الشريف بدر و مجذوب الخليفة منذ وقت طويل أو ممثليات جهاز الأمن في الخارج أو حتى في بعض الحالات كوادر المؤتمر الوطني.
ثالثا، الدور المهيمن لجهاز الأمن و المخابرات في متابعة العلاقات مع الدول المجاورة باعتبارها قضايا أمن داخلي و ليست سياسة خارجية كما هو الحال مع مختلف العواصم العالمية و إنعكس ذلك في فرض عناصره في مواقع حساسة داخل وزارة الخارجية و ليس أقلها وكيل الوزارة الدكتور مطرف صديق و غيره من الكوادر في السفارات و البعثات الخارجية.
رابعا، أن الأزمة في دارفور مثلها مثل الحرب في جنوب السودان أو النزاع في شرقه هي بالنسبة للنظام الحاكم في السودان نتاج تدخل و تأمر خارجي وليست وليدة سياسات داخلية غير سليمة اتبعت على مدى سنوات طويلة و جاءت سلطة الإنقاذ لتؤججها بسياسات خرقاء.
إذا كان هذا واقع العمل الدبلوماسي و التحرك الخارجي قبل توقيع اتفاقيات السلام و تشكيل حكومة الوحدة الوطنية فإن الأوضاع شهدت مزيد من التعقيد و الصورة أصبحت أكثر ضبابية بسبب ظهور بؤر جديدة تمثلها وزارات الحركة الشعبية في الحكومة المركزية و حكومة جنوب السودان تنازع المراكز المهيمنة على العمل الدبلوماسي على الصلاحيات الأمر الذي انعكس ازدواجية في الخطاب الدبلوماسي الخارجي مترادفة مع ازدواجية في التحرك الخارجي. النتيجة الأولى لذلك كانت مزيد من التهميش للدور المؤسسي لوزارة الخارجية و محاولات لاحتواء دور الدكتور لام أكول في مرحلة أولى تمهيدا لتهميشه. و لا نحتاج إلى التدليل على ما نقول إذا رصدنا تحركات الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل و عدد آخر من المستشارين مثل السيد بونا ملوال و غازي صلاح الدين. كما تلاحظ ارتفاع صوت وزيري الدولة في وزارة الخارجية [ علي كرتي و السماني الوسيلة ] و معهما وكيل أول الوزارة مطرف صديق في تحديد توجهات و تبني مواقف خاصة بالمؤتمر الوطني باعتبارها مواقف الحكومة السودانية دون اعتبار للتوجهات الجديدة التي تفرضها الشراكة مع الحركة الشعبية.
و إذا أخذنا الأزمة مع تشاد فأنها تعكس بوضوح هذا الواقع. ففي الوقت الذي سعى فيه وزير الخارجية الدكتور لام أكول لاحتواء التصعيد الكلامي و محاولة حلحلة الخلافات عبر القنوات الدبلوماسية من خلال تبني خطاب متوازن يركز على مبادئ حسن الجوار و عدم التدخل في الشؤون الداخلية لكل دولة. كانت مراكز قوى العمل الدبلوماسي تمد لسانها للوزير من خلال تنظيم لقاءات لقيادة المعارضة التشادية لتوحيدها تحت قيادة محمد نور عبد الكريم الذي وقع خيار الخرطوم عليه لقيادة المعارضة في المرحلة القادمة. أكثر من ذلك، تواترت التقارير حول الدعم اللوجستي الذي يقدم للمعارضة التشادية و توفير مدربين لها لتستعد للإطاحة بالنظام الحاكم في تشاد. أخيرا، تحركت قنوات اتصالات موازية مع أنجمينا بغطاء من رئيس الجمهورية الفريق عمر البشير مما دفع الحكومة التشادية لعدم إعطاء أي اعتبار لما يقوله وزير الخارجية الدكتور لام أكول و التعامل مع ما تقدر أنه مقابض السلطة الحقيقية.
هذه الأوضاع دفعت القيادة التشادية لبدء اتصالات مع النائب الأول لرئيس الجمهورية في محاولة للعب على أوتار الخلافات "المفترضة" بين مكون المؤتمر الوطني و الحركة الشعبية في الحكم. لكن السيد سلفا كيير أبدى عدم اهتمام واضح بهذه الأزمة مذكرا الجميع بأن أولوياته هي حل مشاكل الجنوب و أن على الشمال أن يعالج قضاياه بنفسه. هذا الواقع أضعف كثيرا مواقف و مصداقية الدبلوماسية السودانية و دفع الحكومة التشادية للتصلب في مواقفها و طرح شروط غير مقبولة للتفاوض مع الخرطوم على تطبيع الأوضاع.
ولعله لم يفت على أحد أن نفس الازدواجية في الخطاب و التحرك الدبلوماسي قد أطلت برأسها من جديد في أزمة اللاجئين السودانيين في مصر مما يضعف أيضا موقف السودان في مطالبته بالتحقيق في مذبحة ميدان مصطفى كامل بمدينة المهندسين. إذن الدرس الرئيسي بالنسبة للدبلوماسية السودانية من الأزمة مع تشاد يبقى ضرورة توحيد مراكز اتخاذ القرار الخارجي ليكون لوزير الخارجية و ليس بعض من مساعديه الدور الرئيسي في تحديد إحداثياتها ومن ثم تنسيق و توزيع الأدوار على مختلف الجهات التي تشارك في إعداد و تنفيذ هذه السياسة. و يترتب على ذلك أن تستعيد وزارة الخارجية كل صلاحيتها كأداة تنفيذية لهذه السياسة و مستشار للحكومة في كل ما يتعلق بقضايا السياسة الخارجية. هاتان المهمتان يتعلق أمر تنفيذهما بالدكتور لام أكول وزير الخارجية شخصيا. فجانب تأكيد صلاحياته و دوره في هذا المجال، فإن إعادة الاعتبار لوزارة الخارجية سيكون خطوة متقدمة على طريق بناء جزئية هامة من مشروع السودان الجديد و هي العلاقات الخارجية.
رشيد سعيد
مراسل الأيام / باريس