الحضارة الفرعونية هي امتداد للحضارة النوبية في شمال السودان
في قلب جنيف النابض بالهدوء و في فندق Warwick Hotel تناولت قهوة الصباح مع عالم الآثار Archaeologist السويسري شارلي بونيه التقينا على موعد مسبق الترتيب هرولت إلى الفندق قبيل الموعد بدقائق مع عدم مراعاة فرق الوقت و عند وصولي إلى الفندق ظننت أن ضيفي سيتخلف عن الموعد أو ربما سيتأخر قليلاً خاصة و أن صديقي البروفيسر شارلي بونيه قد عاش في السودان ظننت أنه أصابته عدوى إنفلونزا التأخير السودانية والتي هي أخطر من إنفلونزا الطيور الآسيوية ولكن ما طمأنني هو أن السويسريين منضبطين على عقارب الساعة السويسرية لا يؤخرون ساعة ولا يقدمون و عند الموعد المحدد وصل البروفيسور وعالم الآثار و الأستاذ بجامعة جنيف سابقاً و عضو إتحاد الآثارالأوربية باريس و الحائز على الدكتوراة الفخرية من جامعة الخرطوم و جامعة النيلين و جامعة دنقلا و جامعة كريمة والحائز على وسام النيلين بعد أن تبادانا التحايا و تحدثنا عن الطقس المتقلب المزاج داهمته بتلك الأسئلة التي أجاب عليها بكل صراحة وجراءة.
البرفيسور شارلي بونيه رغم غضب الطبيعة في السودان و شغف الحياة في شمال السودان لكنك قضيت أكثر من أربعين سنة في منطقة كرمة في شمال السودان كيف اهتديت إلى هذا المكان؟
البرفيسور شارلي بونيه: قبل أربعين سنة ذهبت مع مجموعة من طلاب جامعة جنيف في رحلة علمية إلى مصر في إطار دراسة الآثار الفرعونية هناك وذلك بعيد تخرجنا من جامعة جنيف قسم الآثار و أثناء وجودي في مصر لأداء تلك الفريضة العلمية لا حظت أن تاريخ الفراعنة قد أشار إلى مملكة النوبة في شمال السودان و كنت دائماً أبحث عن إكتشاف جديد قررت الذهاب إلى السودان و عندما افصحت لزملائي بهذا السر وصفوني بالجنون . ذهبت للسودان عن طريق النيل للوقوف على الآثار التي تقع على ضفتي النيل استعملت جميع وسائل المواصلات عدا الطائرة بما فيها ( الركوب على ظهر الحمير) و بعد شق الأنفس وصلت إلى دنقلا وهناك في دنقلا استقبلني الشيخ الزبيرالملك و أكرم مثواي مكثت معه أيام وشرحت له فكرة قدومي إلى السودان رحب بالفكرة وبعدها عدت إلى سويسرا بعد أن أخذت إذن التنقيب من السلطات السودانية آنذاك ولم أبق كثيراً في جنيف حيث حزمت حقائبي لرحلة البحث عن المجهول في السودان. وأ ضاف البروفيسر شارلي بونيه قائلاً: ما شجعني على التنقيب والبحث عن الفرعون الأسود في السودان هو يقيني التام أن أصل الحضارة الفرعونية بدأ في مملكة النوبة شمال السودان حيث مكثت حوالي 40 عاماً أو ما يزيد أنقب عن الآثار في منطقة كرمة رغم غضب الطبيعة وصعوبة الحياة و كنت أرى في بحثي وتنقيبي متعة البحث عن حقيقة مؤمن بها وهي أن أصل أصل الحضارة الفرعونية جاء من السودان وبالفعل توصلت إلى حقيقة الحضارة الفرعونية التي مر عليها 27 قرن من الزمان واكتشفت أن كلمة نوبة تعني بلغة الفراعنة هي الذهب وهذا يؤكد أن الفراعنة هم ملوك مملكة النوبة عندما كانت مملكة النوبة في أوج مجدها لم تخرج مصر إلى الوجود ( A cette époque l`Egypte ne vit pas encore )و أن كرمة أول مدينة حضرية أنشئت على ضفاف النيل قبل 27 قرن. وهي مدينة الكنز المجهول والحضارة الهائلة العظيمة التي دمرها فراعنة مصر ودفنها التاريخ لقرون طويلة و أن الحضارة الفرعونية في السودان سبقت الحضارة المصرية حيث كانت هناك مواجهات بين ممالك النوبة والمصريين والشاهد على ذلك القلاع التي شيدها المصريون ما بين الشلال الأول والثالث ولكن ملوك النوبة أو الفراعنة السود اجتاحوا مصر قبل 700 عام قبل ميلاد المسيح عليه السلام وسيطروا عليها وحكموها حتى أرض فلسطين وكان ذلك إبان الإضرابات في منطقة الدلتا المصرية ومن خلال سيادتهم على أرض مصر نشروا ثقافتهم و ولغتهم كان ذ لك قبل وجود الفرعون نارمر Narmer التي حكمت سلالته مصر من بعد وفاته وبعد قرون من الزمان حكم مصر الفرعون بساميتك Psammétique وسيطر على منطقة النوبة ودخل مدينة كرمة ودمر حضارة الفراعنة السود و هدم القلاع والمعابد و منها معبد الشمس المشهور آنذاك وتماثيل الفراعنة السود وكان ذلك في عام 664 قبل الميلاد.
في الوقت الذي كانت تغرق فيه الصحف السودانية وتلفزيون السودان في السياسة حتى النخاع استضافت محطة تلفزيون TSR السويسرية يوم الخميس 30-6 -2005 و صحيفة Le Temps في عددها الصادر بتاريخ 6/28/2005 السويسرية الناطقة بالفرنسية البروفيسور شارلي بونيه الذي تحدث عن حضارة السودان بكل فخر واعزاز وقال : أن فراعنة السودان حكموا مصر حتى أرض فلسطين... وسألناه عما إذا كان قد ذكر هذه الحقيقة في منابر أخرى؟
فراعنة السودان حكموا مصر حتى أرض فلسطين ...
قال البروفيسور شارلي بونيه: قدمت محاضرة في نيويورك من ضمن سلسة من المحاضرات التي قدمتها في كثير من المدن الأوربية بحكم أنني عضو إتحاد الآثارالأوربية في باريس وتحدثت في تلك المحاضرة التي حضرها عدد كبير من الأفارقة الأمريكان عن الحضارة السودانية و عند فراغي من الحديث عن الحضارة السودانية الذي انبهر له عدد كبير من الحضور قال لي بعض الأفارقة الأمريكان: أن أصولنا من شمال السودان. قلت لهم : شمال السودان لم يشهد هجرة في تلك القرون إلى أمريكا ولكن كانت الهجرة من سواحل غرب إفريقيا إلى أمريكا حينذاك. و لكن عند دراستي لتاريخ سيناء في مصر والتنقيب هناك اكتشفت أن هناك علاقة ما بين سكان منطقة سيناء و الأفارقة البدو الذين ربما نزحوا من السودان أو عن طريق السودان . و أضاف شارلي بونيه أن حضارة وثروات السودان كانت منذ قرون طويلة مطمع للمصريين وشهد التاريخ دخول المصريين للسودان بحثأ عن الذهب والعاج والأبنوس والرجال الأقوياء الأشداء لحماية حكمهم. وشهدت كرمة أول حضارة في التاريخ حيث بنيت قصورها وقلاعها بالطين (الجالوص) على ارتفاع 20 متر آنذاك وكانت تسمى المباني العالية في لغة النوبة ب( deffufa ) ومدينة كرمة تبعد حوالي عشر كيلومترات من نهر النيل العظيم .
ماذا أضاف السودان لمسيرة حياتك العلمية والعملية بعد هذه السنين الطوال التي قضيتها في هجير كرمة؟
السودان وطني الثاني
البرفيسور شارلي بونيه: عندما قررت أن أذهب إلى السودان ليس بحثاً عن المال و لكن بحثاً عن اكتشاف حضارة دفنتها الأيام والسنين و أنا فخور جداً بأنني اكتشفت هوية السودان الحضارية . طيلة فترة وجودي في السودان ( حيث أنني أذهب إلى السودان لقضاء ثلاثة أشهر كل سنة منذ السبعينات شهر نوفمبر حتى فبراير) لم أجد غير المعاملة الكريمة التي جعلتني دائماً أقول وأردد في مناسبات كثيرة أن السودان وطني الثاني حقيقة لأن الشعب السودان كريم رغم شغف الحياة و شعب طيب و تعرفت على أناس في السودان لم أجد صفاتهم في كثير من الشعوب ( حاول البرفيسور شارلي بونيه أن يعبر عن حبه وامتنانه للسودانيين ولكن كلمات التقديرو الإعجاب كانت أقل من ما يحمله شارلي بونيه في ثناياه من إعجاب وتقدير للشعب السوداني). و تحدث شارلي بونيه عن مجهود السودانيين الذين كافحوا معه من أجل إحياء هذه الحضارة العظيمة وهم جاد عبد الله وصالح المليح وإدريس عثمان قال شارلي بونيه من الطرائف أن هذه المجموعة آتت إلى جنيف في عام 1985 بدعوة مني لزيارة بعض المتاحف هناك و بينما كنا نتجول في إحدى المتاحف بجنيف كان هناك عدد من السواح اليابانيون منشغلون بإالتقاط الصور التذكارية و عندما شاهد هولاء السواح مجموعة السودانيين الذين كانوا يرتدون الزي السوداني ( جلابية و عمامة ) تركوا المتحف وأخذوا يلاحقون بكميراتهم من أجل أخذ صور تذكارية مع السوداينين و وقتها كان نادراً أو منعدماً أن يرتدي السودانيين الزي السوداني في شوارع جنيف.
البرفيسور شارلي بونيه بعد اكتشاف هذه الحضارة العظيمة هل تتوقع أن يصبح السودان قبلة للسواح؟
شارلي بونيه : نعم ... إذا اهتم السودانيون بتلك الحضارة و أصبحت حضارة تدرس في المناهج السودانية بصورة موسعة حتى يعرف أولاً السوداني تلك الحضارة وقيمتها ويقوم ببثها للآخرين و كذلك اهتمام المعنيين بأمر الآثار والحضارة و الآن هناك متحف تم بناءه في منطقة كرمة و لم يتم الفراغ من بنائه حتى الآن وقد ساهمت الحكومة السويسرية في بناء تلك المتحف الذي من شأنه سيكون مرجعية لطلاب وعلماء الآثار في القارة الإفريقية و سيجلب هذا المتحف عدد كبير من السواح و من المعروف أن السياحة هي الوجه المشرق للبلد, مثلاً مصر تستقبل في السنة حوالي تسعة مليون سائح و السودان يستقيل ما بين ثلاثة وأربعة ألف سائح في السنة فلا بد من الإهتمام بهذا الجانب الذي سيعرف السودان لدى الشعوب الأخرى.
كلمة ختام لأهلك في وطنك الثاني السودان
شارلي بونيه : اتمنى التوفيق الإزدهار للسودان لأنه وطني الثاني الذي أقضي فيه ثلاثة أشهر في كل سنة باستمرار منذ أكثر من أربعين سنة. من الأشياء الجميلة التي أحملها دائماً في ذاكرتي هو سوق – تابو- وههو سوق أسبوعي (أي مرة واحدة في الإسبوع ) وكنا دائماً أتردد عليه.
تحياتي لجميع أهلي و أصدقائي بكريمة و لأسرة الشيخ الزبير الملك في قرية إيماني ولجميع من ساهم معنا في هذا الإنجاز العظيم . و كذلك هناك جنود تكبدوا معي مشقة العمل في رحلة البحث عن الآثار في السودان وهم ثمانية باحثي آثار من بينهم الأستاذة بجامعة السوربون الأستاذة دومينيك قلييل و الأستاذ السويسري بجامعة نيو شاتل ماتيو هونيغير وهو مدير الآثار حالياً وسيكون خليفتي في العمل في السودان و أخيراً الشكر لكل الشعب السوداني الذي وجدنا منه كل الأخلاق الكريمة و المعاملة الحسنة.