منذ دخول الباخرة النيلية التي أقلت اللورد كتشنر الى الخرطوم للقضاء على الدولة المهدية في سبتمبر 1898م لم يثر ماعون نهري عائم ما أثاره اليخت الرئاسي ( القصر) فقد شغل الناس، وظل حديثهم منذ ان وصل الى ميناء بورتسودان ، حتى لحظة (تعليقه) على ظهر بنطون ضخم في المرسى الرئيسي للنقل النهري بالخرطوم بحري استعداداً للدفع به الى الماء صبيحة الغد.
وبالأمس تلقينا دعوة كريمة من القصر الجمهوري لزيارة اليخت الذي تجري الاستعدادات لإنزاله في مجرى النيل غداً الثلاثاء وكانت الرحلة سهلة وسريعة عبر رفاص نهري من أمام واجهة القصر الجمهوري الشمالية حتى مرسى النقل النهري بالخرطوم بحري.
رحلة قصيرة وسريعة عبرنا خلالها النيل الأزرق ، من الشاطئ الى الشاطئ لنجد انفسنا أمام جسم عملاق يواجهنا في الضفة الأخرى ، يبدو معلقاً على ظهر بطاح ضخم .. أو يكاد يطير !
قام بالزيارة مصطفى أبو العزائم الصور بالهاتف
ورافقنا في هذه الرحلة المهندس كمال أحمد محمد صالح مديرالشئون الادارية والمالية بالقصر الجمهوري والاستاذ ناجي علي بشير من المكتب الصحفي بالقصر وعند الشاطئ الآخر كان لنا لقاء مع اللواء مهندس عوض الكريم بابكر الحسن والمهندس عبد المنعم عوض سلامة ، الأول من الذين تابعوا اليخت منذ ان كان فكرة إلى ان أصبح ماعوناً يمخر عباب النهر غداً ، بينما الثاني يعمل مديراً للادارة الفنية بالنقل النهري وكان الى جانبهما ضياء الدين محمد عبد الرحمن من مراسم الدولة والمهندس عبد الله حامد ،هو المهندس المقيم الذي بقي بموقع بناء اليخت في مدينة ايزولا . بسلفانيا لمدة تسعة اشهر يتابع البناء والاعداد .
صعدنا الى اليخت المعلق - او هكذا بدا لنا وشاهدناه قبل الصعود الى بطنه وتفقد صالوناته وصالاته وغرفه ، لازال يجثم على ظهر بطاح ضخم والبطاح نفسه يقف على ظهر ماعون نهري عائم بالغ الفخامة ، قيل لنا انه بنطون تابع للنقل النهري او عوامة بالغة العظم تحمل السفن والبواخر ، وتدفع بها الى النهر بعد ان تغطس بما يكفي لتعويم السفن والبواخر واليخت الجديد.
لفت نظرنا بداية علامات الأكف من دماء ذبيحة وسألت المشرفين ان كانت هذه الدماء لذبائح أو كرامة ، فقالوا : (نعم انها دماء كرامة ذبحناها يوم ان نزل اليخت لهذا الحوض العائم ، كرامة ذبحنا فيها كبشا وعجلاً فرق لحمها على كل الذين تراهم امامك (!
اذن لماذا تعطل نزول اليخت الى هذا الحوض العائم !؟ هكذا بادرت بالسؤال ، فكانت الاجابة حاضرة ، فقد كان السبب هو وجود مابين ( 11-12) متر تقف عقبة لدخول البطاح الضخم الى بطن الحوض العائم ، وهذا امر يتطلب ردم الفاصل المائي ، وقام مهندس سوداني بفريق كامل بذلك العمل الجبار ، لقد قاموا بردم الفاصل المائي بطول 13 متر وعرض تسعة امتار تسمح بدخول البطاح الى ظهر الحوض العائم او البنطون العملاق لقد تم ردم تلك المساحة بـ«173» دور حجر ردمية ، حوالي 500 متر مكعب سمحت بدخول البطاح ومايحمل الى ظهر الناقل العائم العملاق.
صعدنا عبر سلالم البنطون الضخم الى أعلى لنجد انفسنا في مستوى ممرات اليخت القصر ، عشرات المهندسين والفنيين والعمال يضعون اللمسات الأخيرة ، ويسابقون الزمن حتى يتم انزال اليخت وتعويمه في النيل يوم غدٍ الثلاثاء.
تجولنا داخل اليخت الرئاسي الجديد ، عرفنا ان الاتفاق على تصنيعه لاعلاقة له بالقمة الافريقية الاخيرة التي عقدت بالخرطوم لقد بدأت الفكرة منذ العام 2001م ونبعت في عهد الوزير الفريق اول صلاح محمد محمد صالح وتم كوين لجة آنذاك برئاسة المهندس صلاح احمد علي ، الذي كان يعمل بالقصر في ذلك الوقت ، ويتولى الآن منصب وزير الشؤون الهندسية بولاية نهر النيل، وطُلب من اللجنة ان تضع تصوراتها لمواصفات اليخوت الرئاسية ووقع على عاتق اللجنة ترشيح كل الجهات التي تعمل في مجال تصنيع هذه اليخوت ، وتحددت كرواتيا وسلفانيا وهولندا ومصر ، وأرسلت اللجنة المواصفات للشركات العاملة في تلك البلدان ثم استقر الأمر على اربع شركات كانت تعمل على تقديم عروضها ثم قدمت اللجنة المواصفات الموحدة والمحددة حتى يكون السعر مبنياً على قاعدة تمكنها المفاضلة من حيث التكلفة والتقانة والجودة ، ومدة التسليم ، فكانت كراوتيا أول من خرج بسبب التكلفة ، وتقدمت هولندا على الجميع من حيث الجودة لكن السعر العالي والقيمة المرتفعة والفترة الزمنية الطويلة أخرجتاها من المنافسة ووضعت اللجنة حداً اقصى للتصنيع لايتجاوز العام ، فتقدمت شركة ايزولا السلفانية في المنافسة بسبب السعر الذي بلغ (3.8) مليون يورو ، ثم جاءت بعد ذلك شركة مساهمة البحيرة المصرية لتنافس بسعر (4.5) مليون دولار الا انها حددت فترة التصنيع بعامين ثم خفضته الى عام ونصف الامر الذي اشّر بوضوح الى ان الذي سيكسب عطاء التصنيع هو الشركة السلفانية التي اجبرت على تخفيض سعرها الى ثلاثة ملايين وثلاثمائة وثمانية واربعين الف يورو.
مدير الشركة السلفاني الذي التقيناه أمس وهو المستر توماس ، يقول ان العملية باكملها غير مربحة لان العقد الموقع بين الطرفين ينص على ان يتم تسليم اليخت على النيل ، فقد تضمن العقد تكفل الشركة المصنعة شحن ونقل وترحيل وانزال اليخت الى الماء لكنه يقول ان دافعهم لهذا العمل هو الأمل في بناء علاقة عمل جيدة وجديدة مع السودان ،ويؤكد على ثقته في أن سوق العمل في صناعة المواعين النهرية سيكون مفتوحاً ومبشراً ، وابتسم وهو يشدد على ان عمر هذا اليخت سيصل إلى أكثر من مائة عام اذا تمت صيانته دورياً بصورة معتادة وقال إن احدى عشرة شركة اوروبية تم التعاقد معها في تجهيز هذا اليخت بدءاً من شركة كاتربلر التي صنعت ماكينات اليخت ومولداته الكهربائية ، وانتهاءً باحدى اكبر الشركات النرويجية المختصة في تجهيز وتأثيث صالونات اليخوت والسفن الكبرى.
بالسين والجيم والاستفسارات والملاحقات عرفنا ان اليخت مصمم أصلاً ليمخر في عباب المياه الحلوة غير المالحة أي الانهار ، وهو مؤمن تماماً بالأطواف العائمة واطواق وبدل النجاة ، ويتم انتداب طاقم كامل من البحرية السودانية لتشغيله ، إذ أن الفريق الاجنبي التابع للشركة المصنعة لن يبقى أكثر من أسبوع بعد أن يسلمه للقصر الجمهوري عائماً على سطح النيل.
وهناك غرفة قيادة للكابتن هي عبارة عن غرفة تحكم كاملة تتضمن اساسيات الإبحار وأجهزة الاتصال الداخلي وجهاز لكشف الاعماق ، وعلمنا ان هذا اليخت الضخم يمكنه ان يمخر في مجرى يبلغ عمقه 95 سم فما فوق ، وتبلغ سرعته اكثر من 18 كيلومتر في الساعة ، في حين ان المطلوب في السودان لايتجاوزالـ11 كيلومتر ، وباليخت غرفة تحكم لرصد كل اجزاء اليخت ، ويضم غرفة مولدات ضخمة بها مولدان ينتج الواحد منهما (105) كيلوواط في الساعة بينما تضم غرفة مجاورة لها ماكينتين رئيسيتين قوة الواحدة 205 حصان ، وغرفة أخرى لوحدات التكييف وتنقية المياه ، وهناك في كل هذه الغرف التي تقع في الطابق السفلي لليخت نظام بخاخ اتوماتيكي لاطفاء الحرآئق ، مع وجود أجهزة انذار واشعار مبكر ، يضمن توفير الاتصالات عن طريق الاقمار الصناعية .
ويجمع المهندسون على أن الغاطس لهذا اليخت يعتبر مثالياً وهو اقل من أي غاطس وابور عائم بالسودان ، ويمكنه المرور من تحت كل الكباري .
غداً الثلاثاء يتم إنزال اليخت وتعويمه على ماء النيل ، وربما يستقبل مجموعة من الصحفيين والاعلاميين وممثلي الفضائيات ، لكنه من المؤكد انه سيستضيف ملوك ورؤساء وزعماء الدول العربية في قمتهم المنعقدة بالخرطوم نهايات الشهر القادم ، ومن المحتمل ان يستضيف رئيس جمهورية سلفانيا الصديقة التي تم بناؤه داخل احواض سفنها ، والذي ربما يزور السودان قريباً .