الرابحون الثلاثة، وحسب تسلسل مقياس الربح كانوا: الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى الذي فاز بالتزكية، حيث لم يرشح أحد نفسه للمنصب وإن كان هنالك كثيرون يمنون النفس به. وبعدما تم التجديد لخمس سنوات فإنه لا أمل لأي طامح الى هذا المنصب إلا اذا سارت الامور فجأة في اتجاه فرط الصيغة الراهنة للجامعة والبحث في صيغة بديلة. والتجديد للأمين العام عمرو موسى ليس بذلك الأمر المستغرَب ذلك ان حالة التجديد والتمديد سائدة من المحيط الى الخليج. وما دام الأمين العام يقوم بتسيير الأمور وتيسيرها وبما ترتاح اليه الانظمة فلا موجب في هذه الحال للخروج على مبدأ الإبقاء على الشخص تجديدا أو تمديدا.
الرابح الثاني كان رئيس وزراء تركيا رجب طيب اردوغان الذي باغت أمة العرب بحضوره ضيف شرف في القمة. والمباغتة سببها ان هذا التقليد غير مسبوق، إذ أن الذين يشاركون عادة كمراقبين هم بعض أمناء المنظمات الاقليمية ويكون لحضورهم رونق عندما يلتئم الشمل العربي، أي بما معناه يكون كل ملوك الأمة ورؤسائها مشاركين في القمة وبذلك تترك المشاركة مظهراً توحدّياً من حق أهل المؤتمر التباهي به أمام الآخرين. اما ان يشارك الرئيس اردوغان، بينما ثلث أهل القمة غير مشاركين فهذا أمر أثار الاستغراب، وكانت له تفسيرات كثيرة من بينها ان رئيس تركيا التي تزداد صعودا، جاء يشهد على جيرانه العرب الذين يزدادون نفوراً، ومن بينها أيضاً ان تركيا هي التي يمكن ان تحاصر الطموح الايراني إلى جعل العراق جرماً يدور في الفلك الشيعي وبذلك تصبح هواجس اهل السُنة كوابيس وحالة من القلق، لا شفاء من الصُداع الذي ينشأ عنه، والذي قد يتحول الى تصدُّع في بنية المجتمع وتركيبته التقليدية. بل ان ما يزيد في الاستغراب أن اردوغان لم يكتف بالحضور التشريفاتي وإنما كانت له في الكواليس صولات وجولات.
ويبقى الرابح الثالث من القمة، هو السودان الذي خرج موعودا.. إنما من دون تحديد ارقام او مواعيد على نحو ما نالته مصر والاردن وسورية ومنظمة التحرير الفلسطينية من قمة الخرطوم صيف 1967 ومن قمم لاحقة. وهذا سببه ان المساندة المالية للخيار العسكري الافريقي في «دارفور» على نحو ما يفضل الحكم السوداني تختلف عن المساندة المالية العربية لقضايا اكثر سخونة. وهكذا فإن الذي حدث في هذا الشأن هو تقديم الأهم على المهم.
عدا ذلك، فإن كفة الخسارة كانت ملأى بالخاسرين بدءا بلبنان الذي أدى رئيساه، رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، وصلة كلامية لا علاقة لها بالديمقراطية والتنوع من قريب او من بعيد، وإنما هي من نوع الردح الذي يتم تبادله عبر هوانم الشرفات. وإلى لبنان كانت الجدية خاسرة هي الأخرى. وعندما يغادر عدد من رؤساء الوفود الخرطوم ومِنْ قبل ان يتم اختتام المؤتمر فهل هنالك ما هو اكثر استهانة بالاصول. ولكنه الضجر العربي والمشاركة في مؤتمر يتطلع الرأي العام اليه بأمل تغيير واقع الحال نحو الأحسن فإذا به يشكِّل صدمة للناس.
ويبقى امران: الاول هو أنني في لحظات من المقارنة بين القمة العربية الاستثنائية في الخرطوم صيف 1967 وبين القمة الدورية يومي28 و29 مارس، شعرتُ ببعض الأسى في النفس وأنا ارى الفندق الذي حل فيه ملوك ورؤساء الأمة خلال انعقاد قمة 1967 بات مسكوناً من خبراء النفط الصينيين بعدما اشترت بلادهم هذا الفندق الذي شهدت قاعاته معجزة النخوة العربية التي لم تتكرر، وباتت الاحرف الصينية مطبوعة بشكل مجسّم على واجهته. اما الفندق الآخر المجاور «الفندق الكبير» الذي شهد في ذلك العام صولات وجولات العشرات من نجوم الدبلوماسية العربية الذين صاغوا للملوك والرؤساء قرارات تاريخية، وبياناً ختامياً من نوع ما قل ودل، فقد بات مملوكاً من شركات النفط الماليزية التي تخوض مع الشركات الصينية والهندية وغيرها مغامرة العثور على ثروة القرن الواحد والعشرين من تحت أرض السودان الذي هو اذا جازت التسمية «القارة السادسة»، ومن مياه بحره الاحمر حيث تفيد التقارير أن الذهب والنفط موجودان بكثرة وينتظران المغامر... إنما الذي يصبر على الضيم الاميركي في صيغة المقارعة او التحرش. وكما «تصيَّن» فندق ملوك العرب ورؤسائهم، و«تمليز» الفندق الآخر المكمل دوره للفندق الذي خرجت منه القرارات الصعبة وحدثت في داخله المصالحة الناصرية ـ السعودية المستحيلة والتي كانت زمنذاك بمثل استحالة المصالحة السعودية ـ الليبية الآن، فإن هناك رابحاً كبيراً انما ليس من القمة وإنما من السودان، وهو العقيد القذافي الذي كان يريد أن ينجز له البناؤون الفندق الضخم الذي تبنيه جماهيريته على ارض حديقة الحيوان المجاورة للفندقين التاريخيين والتي تتوسط «قاعة الصداقة» التي احتضنت القمة الدورية. ولكن البنائين لم يلبوا رغبة القذافي الذي حصلت بلاده على ارض الحديقة مقابل تسديد ديون على السودان لأن مثل هذه التلبية تحتاج الى شخص مثل الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي أنجز في 11 شهرا فندقا في الطائف لمؤتمر قمة اسلامي استضافته المملكة العربية السعودية.
أما الأمر الثاني فهو أثار استغرابي واستغراب كثيرين من المشاركين في القمة الدورية لعدم اهتمام «أهل الانقاذ» بالفن التشكيلي السوداني الذي يدعو الى الاعتزاز وكيف انهم لم يغتنموا فرصة انعقاد القمة ومؤتمرات وندوات اخرى كثيرة، من بينها «ندوة التعاون العربي ـ الافريقي» التي رعاها بعناية ودقة ملحوظتين السفير صديق ابو عاقلة مدير الشؤون السياسية في وزارة الخارجية السودانية، وانتهت ناجحة بامتياز، لكي يزيِّنوا جدران القاعات بلوحات التشكيليين السودانيين. وبالنسبة الى الرئيس عمر البشير بالذات، فإنني كنت اتمنى ان يفعل ما كان يفعله الرئيس رفيق الحريري، رحمة الله عليه، الذي اغتنم مناسبة انعقاد القمة العربية الدورية الثانية في بيروت، وكذلك القمة الفرنكوفونية، وأهدى المشاركين العشرات من لوحات الفنانين التشكيليين، وهو تقليد يتبعه حيث أنه يقتني لوحات الرسامين ليقدمها هدايا الى كبار المسؤولين العرب والدوليين الذين يزورونه او يزورهم وبذلك يحقق لهؤلاء الاستمرارية، فضلاً عن انه يطعمهم من جوع الى العطاء ويأمنهم من خوف التوقف عن الإبداع.
وخلاصة القول، ان القمة الدورية العادية في الخرطوم، كان المطلوب بحكم واقع حال الأمة، أن تكون استثنائية، فإذا بها تنتهي نصف عادية كنتائج، وعادية من حيث التسمية... لا أكثر ولا أقل.