السودان

آخر ثلاثة أيام مع قرنق بنيوسايد

سودانيزاونلاين.كوم
sudaneseonline.com
8/2/2005 7:52 ص


بقلم:

حسن محمد زين

رجل غير عادي .. تهابه من بعيد.. تقف بينك وبينه هالة من الاحداث والحوادث.. ولكن عندما تقترب منه تجده انسانا رائعاً بمعنى الكلمة ودود ولطيف وحنون ايضا.. ليست هذه كلمات تأتي من باب اذكروا محاسن موتاكم ولكنها حقيقة عشناها على مدى ثلاث ايام قضيناها مع الدكتور الراحل جون قرنق واسرته الكريمة في رحاب نيوسايت «New site».

ورغم ان رحلتنا كوفد اعلامي مرافق للسيد النائب الاول لرئيس الجمهورية استغرقت تسعة ايام طوفنا خلالها بعدد من الولايات الجنوبية إلا ان رحلتنا معه إلى منطقة نيوسايت كانت فرصة تاريخية لنتعرف على هذا الزعيم عن قرب.

انطلقنا امامه من رمبيك مع حراسه كوفد مقدمة بالطائرة الانتنوف التي هبطت بنا لبعض الوقت في ياي ثم واصلت رحلتها الى «نيوسايت» التي وصلناها منتصف نهار يوم الثلاثاء 26 يوليو وعند الخامسة خرجنا مع سكان القرية النموذجية والقرى المحيطة بها لنستقبل الزعيم الراحل وحرمه مدام ربيكا وما ان وصلت عربته حتى ترجل منها واخذ يحي صف المستقبلين من أبناء التبوسا وتلاميذ المدارس من أبناء الشهداء والمعاقين وهم يردون اهازيج جميلة تفاعل معها دكتور قرنق وغنى معهم وكلما وجد طفلة صغيرة أو طفل انحنى مداعباً لهم أو ماسحاً على رؤوسهم. كانا في غاية السعادة.. التفتت الينا مدام ربيكا قائلة.. هذه هي القرية التي انشأتها لتكون نموذجا في التنمية ولتحقيق شعارنا المرفوع بنقل المدينة الى الريف ولتكون ملاذاً لأيتام الحرب والمعوقين وزادت بابتسامة عريضة ولتكون مكاناً التقى فيه زوجي..

على السجية

«ويبيا» .. هكذا كان يبادل قرنق المواطنين الهتاف والتلويح بالعصا ووقف عند مختلف حلقات الرقص مدندنا احيانا ومنفعلا احيانا أخرى فيما اقبلت بعض النساء يعانقن مدام ربيكا في شوق عظيم.. لم نلحظ وجود الحراس ولم يحولوا بينه وبين المواطنين حتى فرغ من تحيته إلى نهاية الصف الطويل.

عدنا مجدداً للقرية النموذجية وتفرق الجميع على الغرف وبعد استراحة قصيرة دعينا للقاء مباشر معه قام التلفزيون بتسجيله.. أروع ما في نيوسايت ان جميع سكانها وضيوفها كانوا سودانيين بلا اي وجود لاي اجنبي من اي جنس كان لقاء صحفيا اقرب لجلسة سمر توسطتها حديقة صغيرة د. قرنق امامه طاولة عليها علم السودان وعلم الحركة الشعبية.

أمثال قرنق

اللقاء بثه التلفزيون عدة مرات لذا لا نريد تكرار ما جرى فيه ولكن كواليس الحوار هي اروع ما فيه.. بدأها زميلنا مضوي خير الله من الاذاعة السودانية قائلا له لقد لاحظت عند زيارتي السابقة لرمبيك مع مفوضية الدستور انك كنت بدينا ولكنني الاحظ ان وزنك قد نقص كثيرا ضحك الدكتور ملء شدقيه وقال يعني الريجيم نفع قول مبروك.. رحب بنا بمقدمة رقيقة وانهلنا عليه بالاسئلة الصعبة فلم يتبرم منها.. يعطي سائله كل اهتمامه يتوجه اليه بوجهة ويتابع السؤال باهتمام وبملامح تدعوك للاسترسال.. ثم يجيب عليه بذهن صاف وذكاء وقاد .. قرنق مولع بضرب الامثلة وعندما سألناه عن اريتريا قال لنا اذا الزول ما عمل الناموسية كويس والبعوض دخل .... يبقى الغلطان الزول ولا البعوض؟»

هذا التبسط في الحديث جعلني اذكر لقاءه بالامس مع مواطني رمبيك في أول لقاء له معهم بعد تنصيبه نائبا أول.. ماج الميدان بالفرح حين قدومه وقدمه القائد سلفاكير بكلمات قليلة عميقة اذ قال انا ما عندي كلام.. د. قرنق عندو كلام حلو في خشمو داير يقولوا ليكم كان الراحل يتكلم عربي جوبا ويتوقف لدقائق ليقوم المترجم بالحديث وعندما لاحظ قرنق ان حرارة الجو قد ارتفعت اعتذر للجماهير لوقفتهم الطويلة وقال لهم سأتكلم واترجم براي لتعودوا لمنازلكم عشان تفطروا.

هو حنو قائد يحب شعبه ويقدره وعندما اذنت شمس الثلاثاء بالمغيب اذن اللقاء بالانتهاء فتحلقنا حوله مباشرة تسامرنا لفترة وسألته مداعبا كيف سيكون حجم صندوق الشكاوى الذي قلت انك ستضعه للمواطنين فاشار بيديه صندوق صغير كدة فسألته هل يكفي فقال ضاحكا طيب نخت كونتينر؟ طلبنا صورة جماعية معه فاقترح علينا ان يكون ذلك في الصباح حيث يتبدى جمال الطبيعة من حولنا.. قال لنا وهو يتوجه نحو غرفته اخدوا راحتكم ونلتقي على العشاء.

بعد ساعة عدنا للعشاء في غرفة الطعام الكبيرة التي تتسع لاربعين شخصاً.. كنا أقل من عشرين.. جلس في صدر المكان وعلى يمينه ربيكا.. كانا يتبادلان حديثا هامساً ودوداً شعرنا ان الزعيم قد اتى الى هذه البقعة لينعم بشئ من الراحة بعد عناء عمل متواصل وحركة دؤوبة طيلة الأشهر الماضية.. مدام ربيكا تتحدث اليه وهو يصغي في اغلب الوقت ويجيب بابتسامة أو بكلمات بسيطة.. ابنه جيمس جلس بيننا كواحد منا.. شاب لطيف اطلق شعر رأسه على طريق بوب مارلي.. رغم ان الزعيم الراحل قد أكمل عشاءه قبلنا إلا انه لم يتحرك من مكانه ربما لاحظ ان بعضنا قد تأخر في أخذ طعامه من البوفيه فآثر ان يتأنى وعندما نهض لوح لنا مودعاً ان تصبحوا على خير.

كرم الضيافة

غير بعيد جاءنا مدير مكتبه وقال لنا إن الدكتور يقول لكم انكم ضيوفه وقد وجه بان نلبي كل طلباتكم.. ماذا تشربون.. هتفنا قائلين مياه غازية.. فتبسم ضاحكاً امشوا الغرف وكل واحد يطلب ما يريد ولم ينسى مدير مكتبه ان يسألنا ماذا تريدون من طعام في الغد.

هواء نيوسايت أو الموقع الجديد عليل يغري بالسمر الغرف غير مكيفة.. ولا توجد بها مراوح ولكنها باردة.. موقع رائع على المرتفعات معتدل جوه طيلة العام احسنت مدام ربيكا اختياره ولكن هذا موضوع آخر سنعرض له لاحقاً لنعرف هذا الانجاز الضخم الذي اقامته هذه المرأة غير العادية. ورغم أننا خلدنا للنوم متأخرين إلا أن السويعات التي نمناها كانت كافية لتريحننا من عناء الرحلة الطويلة... كنت حريصاً على تتبع الزعيم لاعرف تفاصيل يومه.. خرجت باكراً لمقره.. امام غرفته وتحت شجرة ظليلة وضع كرسي وثير أمامه طاولة.. خرج الرجل عند السابعة والنصف وجلس إلى الطاولة يقلب اوراق كثيرة أمامه يبدو انها تقارير لا أدري إن كان جلبها معه أم استخرجت من الانترنت الذي لاحظنا انه دائما هناك من يجلس امامه.

سألت المقدم جونسون جوك ديل قائد المنطقة هل هذا دأب السيد النائب الأول.. قال لي إن هذا دأب كل زعماء القبائل في الجنوب يجلسون في الصباح الباكر ينظرون شؤون رعاياهم.. كان الراحل منهمكاً في الأوراق التي امامه وفي خظ مواز وعلى طاولة أخرى جلست مدام ربيكا إلى بعض مساعديها تدير شؤون القرية حتى حانت التاسعة فتقدم ومدام ربيكا وهو يرتدي فنلة نصف كم ذات خطوط بيضاء وزرقاء وبنطلون «برمودا» يتوقف عند الركبة.. اقبلا نحونا وحيانا وسألنا عن ليلتنا الأولى ثم دعانا للافطار... كالعادة يأكل بيديه... كنت اظن الرجل قد تأثر بالغرب ولا يأكل إلا بالشوكة والسكين.. ولكنه كان سودانياً قحاً.. سألناه بعد الافطار ان كنا نستطيع ان نلتقط الصورة التذكارية فاخبرنا ان هناك نهر قريب من الموقع سيزوره عند العصر وسيكون من المناسب التقاط الصور التذكارية.

ربيكا والأسرة

بعد قليل اقبلت علينا مدام ربيكا وسألتنا ان كنا جاهزين للطواف على القرية فأشرنا بالايجاب.. لدهشتنا تقدمت لقيادة العربة بنفسها وركبنا معها ومضينا معها في جولة طويلة سنسرد تفاصيلها لاحقاً كما اسلفنا ولم ننس ان نسألها عن الأسرة.. فأكدت لنا ان أغلب أعباء التربية والتعليم كانت تقع على عاتقها بسبب أنشغال زوجها بالنضال، واخبرتنا انها علمت اولادها الذكور الطبيخ ليعتمدوا على انفسهم.. حديثها عن قرنق كان يتسم دائماً بمودة ظاهرة.. بعد الجولة الطويلة عدنا لداخل المنتجع دلفت الى مقرها وهي تقول لنا انا «عازماكم» اطلبوا اي مشروبات تريدونها.

خلدنا إلى الراحة حتى دعينا للغداء وأقبل الدكتور علينا وسألنا عن أحوالنا ورأينا في القرية ودلفنا جميعا لقاعة الطعام حيث وجدنا المفاجأة.. طلبنا تمت اجابته الكسرة في البوفيه إلى جانب ملاح البامية اقبل الدكتور على الكسرة بشهية مفتوحة وكان يضعها في طبقه «ويملح» وطلب زيادة ..لاحظت انه لا ينظر لضيوفه اثناء تناولهم الطعام حتى إذا فرغنا منه جال بناظريه فنحس باهتمامه بنا.

بعد الغداء علمنا ان برنامجنا جديداً قد طرأ اذا أقبل على نيوسايت وفد مكون من اللواء كلمنت واني مشرف بحر الجبل ودانيال اويت اكوت مشرف الاستوائية والسيدين لوال دينق وول وصمويل ابوجون كباشي مستشاري رئيس الحكومة فعلمنا ان جولتنا السياحية قد تأجلت.. كانت العربة اللاندكروزر التي قادتها مدام ربيكا في الصباح قد ذهبت في الكنفوي لاحضار الوفد وقد انقلبت عدة مرات حتى تهشمت تماماً.. تركنا الدكتور لضيوفه وذهبنا لمعاودة المصابين ثم ذهبنا إلى ميدان كرة القدم فوجدنا مجموعة من الصبيان يلعبون الكرة فانقسم الاعلاميون معهم وقد اخترت ان اكون حكما.. لقد سعد الاطفال ولعبوا بحماس وابدوا مهارات فائقة لتنتهي المبارة بالتعادل واحد لواحد.

آخر العهد

علمنا ان الدكتور ابدى سعادته بما قمنا به وبلغنا رضاؤه.. تأخرنا في الوصول لصالة الطعام لتناول العشاء... وعندما مررت من النافذة لاحظت مسحة حزن في وجه الرجل ومدام ربيكا تضع يدها على كتفه تمسح على ظهره بحنان كبير. انقبض قلبي.. شعرت كأنها تواسيه في أمر ما... على غير العادة لم يكن منشرحاً ولم يبادلنا الحديث بعد العشاء ولكنه القى علينا التحية قبل ان يذهب الى حجرته.

في صباح الخميس جلس كعادته في الصباح الباكر ينظر الاوراق والملفات التي امامه ثم دخل الى قاعة الضيافة وجلس مدة من الزمان مع الحكام والمستشارين ثم دعانا لتناول الافطار.. كان منشرح الصدر منفرج الاسارير.. ودعنا وذهب الى حيث الشجرة وجلسا سويا بمفردهما وعلمنا فجأة اننا سنغادر نيوسايت إلى جوبا مع المشرفين والمستشارين على موعد ان نلتقي معه بعد عدة أيام في جوبا.. كان يتابعنا ونحن ندلف إلى السيارات وهو يبتسم لنا ويلوح بيده مودعاً.. ولم نكن ندري انها لحظات لن تتكرر ابداً..

رحل الرجل وفي ذاكرتي كلمات لن تنسى.. اذا كانت إمرأة «مرة» واحدة عمل هذا القرية الكبير فكيف بنا اذ عملنا جميعا وان انسى لا انسى قوله سنعمل انا مع الرئيس البشير ومع زميلي علي عثمان في رئاسة الجمهورية من اجل هذا السلام ومن أجل الخير لهذا البلد... ولكنه يا لاقدار الله رحل قبل ان يكتمل الحلم الجميل.

اقرا اخر الاخبار السودانية على سودانيز اون لاين http://www.sudaneseonline.com............ للمزيد من الاخبار

للمزيد من هذه التحليلات الاخبارية للمزيد من هذه البيانات و المنشورات
الأخبار المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع


| اغانى سودانية | آراء حرة و مقالات | ارشيف الاخبار لعام 2004 | المنبر العام| دليل الخريجين | | مكتبة الراحل على المك | مواضيع توثيقية و متميزة | أرشيف المنبر العام للنصف الاول من عام 2005

الصفحة الرئيسية| دليل الاحباب |English Forum| مكتبة الاستاذ محمود محمد طه | مكتبة الراحل المقيم الاستاذ الخاتم عدلان | مواقع سودانية| آراء حرة و مقالات سودانية| مكتبة الراحل مصطفى سيد احمد


Copyright 2000-2006
SudaneseOnline.Com All rights reserved