أحداث اقليم دارفور السوداني!
تعطينا الاحداث الراهنة في اقليم دارفور السوداني صورة نموذجية عن المدى الذي يمكن ان يذهب اليه الاميركيون في مجافاتهم لابسط مبادىء المنطق وفي استعدادهم لجعل الحق باطلا والباطل حقا، فالاقليم مركز عريق من مراكز الترابط الاخوي بين العرب والافارقة، وثقت عراه ظلال الاسلام التي تضم بفيئها الجميع، فهو في السلم مركز التلاقي الخصيب المزدهر، وهو في الحرب ضد المستعمرين، وبخاصة البريطانيين الانكلوسكسون، جبهة الصمود العظيم والبطولات الرائعة، اما المشكلات الازلية فيه، الطبيعية، فابرزها ذلك التناقض الازلي الطبيعي بين مهنة الزراعة ومهنة الرعي، فهو اقليم زراعي رعوي، ولابد دائما من وقوع تجاوزات عفوية او مقصودة من مربي المواشي وقطعانهم على المزارعين ومزارعهم، وهذه المشكلة ليست وقفا على السودان وحده، بل تعرفها معظم بلدان العالم، وقد عرفتها الولايات المتحدة بالذات، منذ تأسيسها وحتى الأمس القريب مع فارق جوهري هو ان الصراعات الضارية الدامية بين المزارعين والرعاة الاميركيين كانت بلانهاية، لانها تركت فعليا وعن قصد بلاضوابط، ليربحها الاقوى برجاله واسلحته وماله، وهي لم تقتصر على المزارعين والرعاة، بل نشبت حرة طليقة بين المزارعين الصغار والمزارعين الكبار، وبين اصحاب الابقار واصحاب الاغنام، وقد اخرجت هوليوود ما لايحصى من الروايات السينمائية التي تؤرخ لتلك الصراعات والصدمات المبيدة لبلدات بأكملها، بسكانها ومزارعها وبيوتها، ولقطعان من المواشي جميعها برعاتها واصحابها! أما في اقليم دارفور السوداني فان المشكلة لم تبلغ في اي يوم من الايام حدود ما بلغته في الولايات المتحدة، حتى في ازمنة الحرب وفي مواسم الجفاف الشديد، فكانت التجاوزات والاعتداءات، وما يترتب عليها احيانا من حوادث قتل محدودة، تعالج روتينيا من قبل مجالس الشيوخ الحكماء، فيأخذ كل ذي حق حقه، وتنتهي المشكلة التي لابد ان تتكرر، والتي ينظر الناس اليها ويتعاملون معها مثلما ينظرون الى افعال الطبيعة ويتعاملون معها، غير ان الاميركيين يصرون على الانطلاق من هذا الاساس الواهي نحو عملية تمزيق السودان، واخضاعه وهم وجدوا للاسف الشديد من اندفع للخدمة في ركابهم، ولمحاولة تغطية اهدافهم الحقيقية الكبرى!
في مهب الرياح الاميركية العاتية!
كما ذكرنا في مقالة سابقة، فإن انبوب النفط الاميركي العملاق سوف ينطلق من منطقة الخليج العربي فيعبر البحر الاحمر الى اقليم دارفور، الى تشاد فالنيجر فجنوب الجزائر، ثم مالي وموريتانيا، ليصب في المحيط الاطلسي حاملا النفط العربي والافريقي الى حيث لايوجد بين المصب والولايات المتحدة سوى مياه المحيط، اي لاعوائق جغرافية ولاسياسية ولا اجتماعية!
لقد وضع مشروع الانبوب النفطي الاميركي ،عابر القارات مصير جميع البلدان الواقعة على طريقه في مهب الرياح الاميركية العاتية، وهذا هوالسبب الرئيس للاضطرابات التي يشهدها عدد من تلك البلدان وليس السودان وحده، وقد ارغمت مجموعة من الدول العربية والافريقية على ما يسمى «التنسيق الامني» مع واشنطن بحجة مكافحة الارهاب، بينما الهدف الحقيقي هواحداث تغييرات سياسية وبنيوية، وجغرافية إذا اقتضى الامر ذلك، تتفق مع الاحتياجات الامنية للانبوب النفطي، ومن هذه الدول على سبيل المثال لا الحصر:تشاد والنيجر ومالي وموريتانيا..الخ! إن «الارهاب» الذي يزعمون محاربته هو كل نزعة استقلالية ايا كان مذهبها تعوق مشاريعهم، واصحاب مشروع الانبوب يحرصون ، بالطبع على الفصل التام بينه وبين الاضطرابات المميتة التي يجب ان تحدث ويجب ان تعطى لها اسباب محلية دينية اوعرقية او سياسية، مع ان مثل هذه الاسباب في حقيقتها لاتصلح ابدا اساسا لتقويض الجذور التاريخية العميقة في البلدان المستهدفة، لكن الاميركيين يستلهمون تجربتهم التقويضية الابادية الناجحة في القارة الاميركية ويحاولون تكرارها في قارات اخرى!
سايكس/بيكو في السودان!
إن حاجة المجتمع الاميركي الصناعي الحربي الملحة الى طريق آمن يضمن له احتكار الجزء الاعظم والاجود والارخص من احتياطي النفط العالمي تستدعي تدمير البلدان الواقعة على هذه الطريق، وتستدعي ايضامحاصرة واستئصال اي وجود احتكاري آخر (مثل الفرنسي في افريقيا) الامر الذي يجعل الاضطرابات المسعورة اشد غموضا ورهبة، وما يفعلونه اليوم ليس جديدا، فقد جرى تمزيق بلاد الشام بعد الحرب العالمية الاولى الى اشلاء تقاسمها البريطانيون والفرنسيون، وكان السبب الرئيس هوالنفط وانابيب النفط القادمة من منطقة الخليج والجزيرة الى سواحل المتوسط الشرقية، ولم تكن اتفاقية سايكس /بيكو وتعديلاتهاومضاعفاتها الدولية والاقليمية سوى اتفاقية نفطية في جوهرها، وبعد الحرب العالمية الثانية كانت الاستقلالات الممسوخة لدويلات بلاد الشام من فعل الانكليز والاميركان الذين اقتضت مشاريعهم النفطية اخراج الفرنسيين واقامة دويلات ضعيفة لاتستطيع مقاوم مخططاتهم، وهذا عين ما يشير اليه واقعنا منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا، وهاهم يحاولون اليوم تكرار تجربة سايكس /بيكو في السودان، حيث لن نجد ابدا قضية واضحة، قابلة للنقاش والمعالجة في مواقف الاميركيين وفي تصرفات المتمردين في اقليم دارفور، بل ان الامر نفسه ينطبق على ما يحدث في جنوب السودان، اما الذين وقفوا مع وحدة واستقلال السودان وتصدوا للاضطرابات المريبة، فقد وصفوهم في دارفور بانهم من الجنجويت (وليس الجنجويد) قطاع الطرق اللصوص ، هؤلاء الذين ظهروا دائما في هذا الاقليم الشاسع، ولاعلاقة لهم بالذين يدافعون عن وحدة السودان واستقلاله، بل لعل الاميركيين يشجعون الجنجويت ويسلحونهم مثلما يشجعون ويسلحون قادة التمرد!
لاخلاص أبداً إلا بالمقاومة!
إن الثابت تاريخيا هوان الاميركيين لايعطون ابدا ابدا، بل هم يأخذون دائما ودائما، فتركيبتهم تجعلهم كذلك وتمنعهم من ان يكونوا غير ذلك، وهكذا فلاخيار سوى المقاومة، او الفنا ءمن دون مقاومة، وقد ادرك الفلسطينيون ذلك قبل فوات الاوان، واستفاد العراقيون من التجربة الفلسطينية فسلكوا الطريق الوحيد منذ اللحظة الاولى بلا ادنى تردد او تلكؤ وها هي مجمل مشاريع الاميركيين في المنطقة تعاني من التعثر ومن الخسائر المادية والبشرية، الامر الذي يمكن ان يتحملة الاميركي لبعض الوقت ولكن ليس لوقت طويل مفتوح، ويحدث هذا التعثر وتقع هذه الخسائر بفضل الثبات الفلسطيني الاسطوري حقا، وبفضل المقاومة العراقية التي اربكتهم واذهلتهم حقا، بينما فتحت في الوقت نفسه اعين العرب والمسلمين على الطريق الوحيد للخلاص من نظام الربا والاحتكار