وبين هذا. وذاك, انقسمت الحكومة السودانية إلي ثلاثة اتجاهات أحدها قابض علي السلطة ومؤمن بمنطق القوة والمناورة معا حتي النهاية, والثاني بات مقتنعا بأن المخرج الوحيد للأزمة هو تمتين الجبهة الداخلية وذلك بتوسيع المشاركة السياسية, والثالث دائما متعجل يؤسس مواقفه علي المكاسب الوقتية, ويري مصلحته في الاستعداد للمرحلة القادمة بأن يفكك علنا الخيوط التي تربطة بالنظام.
أدي هذا الواقع الخطير إلي ردود أفعال من جانب الحكومة السودانية, تمثلت في تحركات سياسية, وأمنية واسعة علي الصعيدين الداخلي والدولي, أحيانا متناقضة ومرات كثيرة متراجعة, ولكنها في الحالتين تجاهد لتحسين الأوضاع والاستمرار في الحكم. ويتناول هذا المقال ثلاثة محاور الحكومة وكل من المجتمع الدولي والمحيط الاقليمي والمعارضة الداخلية.
الحكومة والمجتمع الدولي
تحرك المسئولون السودانيون علي ثلاثة محاور رئيسية: الأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وذلك بغرض إقناع المجتمع الدولي بصدق مسعي الحكومة لحل أزمة دارفور, وبذلك الإفلات من العقوبات ومن التدخل العسكري الدولي في البلاد.
غير أن قرار مجلس الأمن الأخير رقم1564, الصادر في شأن دارفور, جاء صادما لها, حيث عالج الأزمة في إطار الفصل السابع من الميثاق, مما يعتبر خطوة نحو التصعيد علي عكس ماسعت إليه الحكومة السودانية في أروقة الأمم المتحدة, وجدير بالذكر أن هذا الفصل يعطي مجلس الأمن سلطة تقديرية غير محدودة في التدخل لمعالجة الأزمة, ويتدرج هذا التدخل من تخفيض التمثيل الدبلوماسي في الدولة المعنية بالقرار, إلي التدخل العسكري الدولي في تلك الدولة, وذلك مرورا بالعقوبات الاقتصادية بأنواعها, بما في ذلك مجال النفط.
وكما يعكس هذا القرار تشدد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ضد الحكومة السودانية, يشير إلي حقيقة أن الصين برغم تهديدها باستخدام الفيتو لإيقاف القرار, فإن لها حسابات مع القوي الكبري تفوق مالها من مصالح في السودان.
الحكومة والمحيط الإقليمي
نشطت الحكومة السودانية في هذا المجال علي مستويين: المنظمات الإقليمية والعلاقات الدولية الثنائية. فبالنسبة لجامعة الدول العربية, حققت الدبلوماسية السودانية نجاحا ملحوظا, فقد استطاعت أن تقنع الأنظمة العربية بضرورة مساندتها, للوقوف ضد الهجمة الأمريكية الصهيونية المسئولة ـ حسب رؤيتها ـ عن أزمة دارفور والتي تهدف في النهاية إلي تغيير الهوية العربية الإسلامية للسودان. هذا وقد سهل مهمة الحكومة أن خطر التدخل الدولي أصبح يهدد كل الأنظمة في المنطقة العربية.
جدير بالملاحظة أن الرأي العام العربي قد توحد مع حكوماته في الرؤية. وذلك في موقف نادر الحدوث. وقد تعود هذا الظاهرة إلي أن كثيرا من المحللين السياسيين العرب يرون الأزمات الأفريقية من خلال الصراع العربي الإسرائيلي, وذلك رغم اختلاف الظروف الداخلية واللاعبين الرئيسيين وأهدافهم من منطقة إلي أخري.
علي صعيد آخر, نجحت الحكومة السودانية في استقطاب الانتماء الإسلامي الغالب في المنطقة العربية وإيران, وذلك بحراك بسيط لدي اتحاد علماء المسلمين والهيئة الاسلامية العالمية للدعوة والأغاثة وغيرهما من التنظيمات الإسلامية. ولأن أهالي دارفور مسلمون بنسبة100%, لم تستنفر الدبلوماسية السودانية في مسعاها هذا, حمية الدفاع عن العقيدة الإسلامية في ذاتها, بل استنفرت الدفاع عن المشروع الإسلامي السياسي الذي تطرح نفسها حامية له. من عدوي العلمانية التي صارت قانونا معمولا به في الجنوب, ويتطلع إليه كثير من النخب الفكرية والسياسية في الشمال, ولاريب أن هذا المشروع الإسلامي السياسي يصادف هوي لدي بعض التيارات الفكرية والاجتماعية في المنطقة العربية.
غير أن هذا النجاح علي مستوي المحور الأسلامي في المنطقة العربية, لم يتمدد في الفضاء الأفريقي, فقد انحاز المسئولون والرأي العام في الدول الافريقية جنوب الصحراء إلي العنصر الافريقي في الأزمة السودانية, وذلك بغض النظر عن ديانته. لذلك وقف الاتحاد الافريقي موقفا مختلفا إزاء الأزمة في دارفور, فهو يلعب دور الوسيط المحايد وإن مال نحو إنصاف القبائل الافريقية.
علي ان الملاحظ هو محدودية تأثير الاتحاد علي الأزمة, رغم الدعم المالي واللوجستي الكبير الذي يأتيه من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. وقد يعود ذلك أولا إلي عدم ارتياح الجانبين المفاوضين لوساطته. ذلك أن الحكومة تفضل الظهير العربي, في حين تدعو الحركتان العسكريتان إلي التدخل الدولي المباشر. ثانيا, أن الاتحاد الافريقي في ذاته لا يملك العصا كما أنه لايملك الجزرة.
أما عن التحرك الدبلوماسي السوداني علي المستوي الإقليمي الثنائي, فقد أسفر عن الآتي: تولت مصر قيادة الخط العربي سابق الذكر نحو دعم الحكومة السودانية داخليا ودوليا, في حين يغلب الغموض علي الموقف الليبي نحو الأزمة, فيستطيع المراقب أن يلتقط عنه إشارات متناقضة سببها أن ليبيا مرتبطة ارتباطا مؤثرا بجميع أطراف الأزمة رغم الخلافات الواسعة التي تفرق بينها, وقد تعاظم دورها في الأزمة حتي استطاعت ان تستقطب في طرابلس قمة خماسية تهدف إلي تسوية النزاع في دارفوار بالطرق السياسية. أما تشاد فمازال موقفها أقرب إلي مساندة الحكومة السودانية, وذلك بسبب الروابط الاجتماعية والمصلحية المركبة بين الجانبين, وتقف اثيوبيا موقفا مشابها, وإن تمسكت بالمظهر المحايد حفاظا علي وضعها كقوة إقليمية في شرق إفريقيا, أما إريتريا فهي دائما في موقع الاتهام بمساعدة المعارضة السودانية لإسقاط نظام الإنقاذ.
الحكومة والداخل
تواجه الحكومة السودانية معارضة داخلية متصاعدة في المركز والأطراف, وقد عالجت هذا الموقف بوسائل مختلفة وليكن هذا موضوع مقالنا القادم.