* لماذا قدمت استقالتي للترابي؟
* بعد معرفتنا بقرار الرئيس البشير، حل المجلس الوطني حاولت أنا والاخ علي يس اقناع الرئيس بعدم اعلان او تنفيذ القرار، ولكن دون جدوى، فقد كان رأي الرئيس انه لا بد من حسم الصراع لصالح الشرعية الدستورية وتوحيد القرار ووضع المصالح العليا فوق كل اعتبار.
وبعد ذلك انتقلت برفقة الاخ علي يس الى منزل الدكتور حسن الترابي بالمنشية، وهناك طلبنا ان نتحدث اليه على انفراد، وبدأنا نشرح التطورات التي حدثت، وفي هذه اللحظة وبينما نحن نشرح ملابسات الموقف السياسي، قال لي الدكتور الترابي: «انا افهم، لماذا تتحدث بهذه الصورة باعتبارك جزءا من الحكومة»، وجاء قولي ان «للرئيس البشير بيعة في عنقي في أداء واجبي ومهامي بأمانة وتجرد في الجهاز التنفيذي وعليّ التزام تنظيمي باعتبارك الامين العام للمؤتمر الوطني، وحتى اتحلل من هذا وذاك، فقد قررت ان اقدم استقالتي من الموقعين»، وكنت قد كتبت بالفعل استقالتي من عضوية المؤتمر الوطني، واخرجتها من جيبي وقدمتها اليه، وقلت له غدا اقدم استقالتي للرئيس البشير من موقعي كوزير للخارجية.
وعقب الدكتور الترابي على ما طرحته بالقول: «هذا معقول او فيه عدل»، وبعدها طرحت وجهة نظري في وجوب ان يتحرك معنا فورا الى منزل الرئيس البشير ليعلن من جانبه ارسال المجلس الوطني في عطلة لتفادي قرار الحل وما ينجم عنه من آثار وتداعيات، ونعالج بعده بهدوء المشكلة للوصول للحل الصائب، الذي يجمع ولا يفرق. ورد الدكتور الترابي «ولكنك تعلم انني لن افعل هذا وليست هذه طبيعتي في مواجهتي لمثل هذه المسائل»، وبينما نحن نتحاور في هذه القضية للوصول الى مخرج، دخل علينا الدكتور علي الحاج والاخ ابراهيم السنوسي، وقد كان رأيهما مغايرا لما طرحته واحتد النقاش ثم دخل علينا المهندس الطيب مصطفى وشارك في الحديث بشكل عاطفي ليحثه في محاولة لاقناع الدكتور الترابي لمعالجة الموقف.
وبينما نحن كذلك جاءنا احد الاخوة ونقل الينا ان وكالة «سونا» بثت قرار رئيس الجمهورية بحل المجلس الوطني، فقطعت جهينة قول كل خطيب وانفض على الفور ذلك اللقاء العاصف.
* رفض الاستقالة من الخارجية
* وبعد احداث الليلة العاصفة في الرابع من رمضان 1999، ذهبت للسيد رئيس الجمهورية عمر البشير في مكتبه بالقصر الجمهوري صباح اليوم التالي، واستأذنت في الدخول اليه، ووجدته بمقره هادئا ومطمئنا كعادته، وكأن لا عواصف أمامه ولا حوله، لقد اعتاد عليها والتعامل معها بتعقل وثبات وبدأت حديثي بمقدمة شرحت له خلاله علاقتي منذ ان كنت طالبا بالدكتور حسن الترابي، فرد عليّ قائلا «انا اعلم ذلك، بل اعلم تفاصيل علاقتك بالدكتور الترابي». وقلت له، ولكن وقد حدث ما حدث واتجهت الامور لفراق، فإني لن استطيع قطع علاقتي بالدكتور الترابي، وحتى اجنبكم الدخول في حرج فها انا اقدم الاستقالة من موقعي. وقال الرئيس البشير، «ومن الذي طلب منك ان تقطع علاقتك بالدكتور الترابي، بل نحن نريد ان تستمر علاقتك معه، وحل البرلمان يجب ان لا يفسر بأن ما كان يجري بيننا هو نهاية المطاف، و«أنا لن أقبل الاستقالة»، وعلى كل حال انت قدمتها». وخلاص واصل عملك» ولا اخفي انني قدمت رجاءات مؤثرة لكي ينظر في أمر الاستقالة، غير انني خرجت منه مقتنعا، ان الرئيس لن يفعل ذلك، ولن يقبل بما قدمت. ورغم توجيه الرئيس بأن أذهب الى عملي، اتجهت الى منزلي، كنت بحاجة ماسة للتفكير والتمعن في هذه التطورات وانعكاساتها في الداخل والخارج.
وفي اليوم التالي فوجئت بأن اجهزة الاعلام الخارجية اخذت في ترديد نبأ تقديم الاستقالة من الحكومة، وكانت المسؤولة الوطنية والواجب يجعل الاتجاه والخيار واحدا وهو مغادرة المنزل فورا الى مكتبي بوزارة الخارجية واصدرت بيانا نفيت فيه الاستقالة او التخلي عن ما كلفت به وواصلت عملي كالمعتاد في الوزارة.
* حسم الصراع وتأثيره على الانفراج الخارجي
* الواقع ان ارهاصات الانفتاح السياسي والتحول في العلاقات الخارجية بدأت اصلا قبل قرارات 4 رمضان وقبل حل البرلمان واعفاء الدكتور الترابي، ولكن طبقا لتقديراتي، فان بعض الدول خاصة دول الجوار: مصر وليبيا واثيوبيا واريتريا كانت تبحث عن ظرف مناسب، او فرصة مواتية او لحظة مناسبة لاحداث نقلة في علاقاتها مع السودان، ووجدت في هذا الحدث ما يوائم هذه الرغبة في تحقيق ما هو مطلوب، وحدثت انطلاقة قوية في علاقتنا مع دول الجوار وتحركت للامام العلاقات مع العديد من الدول العربية والافريقية والآسيوية وحتى الاوروبية، واظهر قرار رئيس الجمهورية ان حل المجلس الوطني برئاسة الدكتور حسن الترابي قد يسرْع بعودة علاقات السودان مع دول عديدة من بينها مصر والمملكة العربية السعودية ودول الخليج وكان مرجعه المأخذ الخاص بأزمة الخليج عام 1990، وكذلك تونس والجزائر حيث كانتا تعتقدان بارتباط الجماعات الاسلامية بالدكتور الترابي. ان ازاحة الدكتور الترابي وابعاده من موقع القرار السياسي والتشريعي أدت الى تسريع عودة العلاقات الى مسارها الطبيعي مع العديد من الدول بعد ان ظلت فاترة او متوترة او مقطوعة، الامر الذي بدا وكأن وجود الدكتور الترابي كان هو العائق الرئيسي لعودة هذه العلاقات.
* واشنطن واختفاء الترابي
* بالنسبة للولايات المتحدة، فان التحول او التحسن او التقدم في اتجاه الحوار الثنائي بدأ لدى لقائي مع الرئيس بيل كلينتون (ادارة الديمقراطيين) في نيويورك، حيث جاء التأسيس لحوار ثنائي، حدث ذلك بعد ضربة مصنع الشفاء في 20 أغسطس (آب) 1998 واستطاعت الدبلوماسية السودانية محاصرة الولايات المتحدة في المنظمات الاقليمية ولدى الرأي العام الدولي، بما في ذلك الرأي العام داخل الولايات المتحدة، ونقل القضية لمجلس الامن. وبدأت ادارة الديمقراطيين مراجعة موقفها من السودان، ولكن هذه الخطوة جاءت مع انتخابات الرئاسة الاميركية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2000، حيث رحلت ادارة الديمقراطيين، وجاءت ادارة الجمهوريين برئاسة جورج بوش حيث توصلوا منذ الفترة الاولى في ولايتهم الى اهمية فتح حوار مع الخرطوم وفق دراسات لمراكز البحث التي رأت ان النظام استخدمت ضده كافة انواع الخنق والتطويق والعقوبات اعلاميا وسياسيا ودبلوماسيا حتى العمل العسكري لاسقاطه ولكن من دون جدوى ولم يتبق سوى خيار الحوار، والتعامل معه على اساس وقف اطول حرب عرفتها افريقيا وتحقيق سلام السودان.
* التعامل مع النائب الأول الزبير
* كنت وقتها، اعمل وزير دولة في الخارجية حيث كان الاخ علي عثمان محمد طه وزيرا للخارجية وكان ذلك في فبراير 1998، لقد صدر قرار التعيين بعد ايام قليلة من استشهاد الفريق الزبير محمد صالح النائب الاول لرئيس الجمهورية، وكنت في حالة اقل ما يمكن ان توصف به «انها حالة حزن شديد لفقدان شخص له مكانة مميزة»، كانت صلتي به غير عادية، فبجانب اننا ننتمي الى منطقة واحدة على ضفاف النيل بالشمال، وكنا نلتقي في اطارها، كان الفريق الزبير محمد صالح هو النائب الاول لرئيس الجمهورية، وكنت اتولى مسؤولية الملفات التي يتعامل معها في الشأن الخارجي مثل العلاقات مع مصر، والجماهيرية الليبية وغيرها، بل وحتى عندما كان يتولى منصب وزير الداخلية، كنت ارافقه في رحلاته الخارجية خاصة مؤتمر وزراء الداخلية العرب، التداخل في العلاقات بين العام والخاص والتعامل المباشر، والسفر وجلسات العمل الطويلة شكلت علاقة ذات نسيج انساني خاص، فقد كان يأتينا في المنزل بدون موعد، ويتعامل مع اسرتي وأطفالي كأسرته تماما ويتعامل معي معاملة الاخ الكبير مع الاخ الاصغر بكثير من الود والاحترام المتبادل، وبشكل اسري اكثر من كونه رسميا.
* قصة الرحلة الأخيرة
* ان قدرات الانسان محدودة، يستطيع ان ينظم وقته ويعمل ويخطط ولكن ليس ابعد مما يرى او ما هو متاح وممكن، لا يستطيع ان يقطع بأمر الا اذا حدث ووقع بالفعل، لا يستطيع ان يتنبأ بأمر فلا يعلم الغيب الا الله. تأتي هذه الاشارة على خلفية احداث فبراير 1998، فعندما اعتزم الفريق الزبير القيام برحلة للجنوب، كنت ضمن قائمة الوفد المرافق له، وكان ثمة برنامج آخر لا يقل اهمية عن رحلة الجنوب، فقد كلف الفريق الزبير برئاسة اللجنة العليا للتحضير للمؤتمر الوطني، وحدد له يوم 17 فبراير تاريخا لانعقاده، وكلفت بالاشراف على مشاركة الوفود الخارجية، وخطر لي امكانية تأجيل رحلة الجنوب لصالح التحضير للمؤتمر الوطني لاقتراب موعده، وقابلت النائب الاول شارحا الاعباء والمهام المطلوبة بالنسبة للمؤتمر العام، مما يتطلب تأجيل هذه الرحلة، لكنه كان مصرا على الرحلة لاهميتها، وحينئذ طلبت منه التخلف عن مرافقته لمواصلة الاعداد للمؤتمر العام فوافق.
وفي اليوم السابق لسفر النائب الاول للجنوب، زرت الاخ علي يس الذي كان يعمل حينها وزير دولة بديوان الحكم الاتحادي ووجدته مرهقا ومهموما فلما سألته، رد بأنه يعاني من ارتفاع السكر، وان زوجته على وشك الوضع، كما انه مسافر مع النائب الاول للجنوب، ولما قلت له لماذا لا تستأذن للتخلف عن السفر؟ قال: انه محرج، ولا يريد الحديث في هذه المسألة، ودون ان ابلغ الاخ علي ذهبت للنائب الاول ونقلت اليه ما دار في مبنى ديوان الحكم المحلي وقدمت رجائي اليه باعفاء علي يس من رحلة الجنوب، فعقب بطريقته العفوية المحببة «يا أخي انت لا عاوز تسافر، ولا عاوز الآخرين يسافروا»، فرددت عليه مازحا: «يا سيادة النائب الاول، عليك الله علي يس ده يشبه رحلة للجنوب، خذ معاك الدكتور الطيب ابراهيم، والدكتور لام اكول وآخرين، فقال لي، طيب خلاص، احنا حنسافر وانتم اقعدوا ورانا وخلصوا شغلكم». وتخلفت عن الرحلة كما تخلف علي يس.
* صفاته السودانية أدخلته قلوبهم
* اللواء الزبير محمد صالح الذي اعتقل قبل انقلاب 30 يونيو 1989(حزيران) الذي قاده العميد عمر البشير لاتهامه بالتخطيط والتدبير لانقلاب عسكري، عينه البشير نائبا له حيث استطاع عبر اللقاءات الشعبية وادارته لحوارات نظمت في الخرطوم وغيرها من مدن السودان الدخول الى قلوب السودانيين بأحاديثه السلسة والعفوية التي كانت تجد طريقها الى جموع المواطنين، وبهذه الصفات المقبولة والجذابة وذات البعد الانساني لعب دورا مهما في العديد من القضايا الحيوية، واستطاع تحقيق التقارب السوداني ـ المصري بعد ازمات حادة عانى من جرائها كافة مواطني شطري وادي النيل، وكان الرئيس حسني مبارك لا يخفي ارتياحه له، وقد نقل مرة ان اللواء الزبير على غير عادته طالت غيبته عن القاهرة، فلما التقاه الرئيس حسني مبارك كان اول ما بادره به هو القول «كده يا اخ الزبير تطول غيبتك عنا»، ولانه جاء وقتها ليوم واحد، وقد كانت الاخيرة فان الرئيس مبارك تمنى عليه الاقامة لعدة ايام في الاسكندرية ومعه الدكتور مصطفى عثمان وزير الدولة بالخارجية، ورغم الارتباطات الملحة في الخرطوم فان اللواء الزبير لم يشأ رد رغبته وتجاوب معها بذات الود والتقدير وكان الدكتور مصطفى يذكره طوال الوقت بارتباطات الخرطوم، وانه جاء معه ببدلته اي بدون حقيبة وغيار باعتبارها «زيارة ليوم واحد»، فكان يرد عليه همسا «أنا عارف مشكلتك وسأحلها لك لدى الوصول للاسكندرية، حيث اشترى له هنالك بدلة جديدة كغيار للبدلة الوحيدة، ونقل وقتها ان الرئيس حسني مبارك ظل على اتصال يومي به اثناء اقامته بالاسكندرية وحتى عودته للخرطوم، وكانت تلك آخر زيارة له لمصر.
وكان يوصف بالداخل حسبما نقل علي عثمان محمد طه، «انه رجل الموازنات»، اي الذي يستطيع التوفيق بين وجهات النظر مهما اشتد الخلاف او احتد النقاش، ويحقق الصيغة المقبولة، كما عرف بنشاطه الجم فما من حدث في اي موقع او منطقة او مدينة الا وكان اول من يصل اليه، وهكذا كان حتى جاءت حادثة رحلته في منتصف فبراير 1998 حين سقطت الطائرة في مطار الناصر ودفعتها الرياح الى نهر السوباط ولقي اللواء الزبير محمد صالح وعدد من المرافقين حتفهم غرقا.