المحطة الخامسة:
اورد الاستاذ حسن نجيلة في كتابه " ملامح من المجتمع السوداني" بان: " الانجليز لم يخفوا حنقهم ومقتهم للخريجين بعد ثورة 1924م اذ أخذوا يناصبونهم العداء جهرة، وأحس الخريجون في كل المكاتب التي يعملون فيها بكراهية رؤساهم الانجليز لهم وتحقيرهم لشأنههم .. وبادلهم الخريجون نفس الشعور .. ولكنهم لم يكونوا في موقف يمكنهم من التجمع واتخاذ خطوة ما، كانوا يتوقون لليوم الذي يجتمعون فيه في صعيد واحد ليجمعوا أمرهم علي خطوة ما تظهر قوتهم وترصد أعداءهم" هذا وقد كانت جريدة " حضارة السودان" المملوكة للسيد علي الميرغني والسيدين عبدالرحمن المهدي ويوسف الهندي، بوقا لحكم المستعمر، وتوطيدا له ولدعم سياساته وفي نفس الوقت ترياقا للحركة الوطنية ممثلة في مؤتمر الخريجين وقتها.
لملاحقة منافسه السيد عبدالرحمن المهدي، وليس لهدف أصيل في حد ذاته، ادخل ( الصحيح حشر) السير علي الميرغني نفسه جزء في خلافات الخريجين التي الهبت نيرانها وزكتها مطامع "السيدين" التي حذرت منها مجلة الفجر ( في رأينا انها بمثابة اللبنة الاولي لادبيات الحركة الوطنية الاتحادية) ودعت الخريجين الي اليقظة وتفويت الفرصة علي سدنة الاستعمار ومخالبه المتمثلة في "السيدين".. وتلاقحت الافكار عبر " الفجر" ومنذ " جماعة الابروفيين" الي ان اثمرت " مؤتمر الخريجين" الذي تأسس في 12 فبراير 1938م وانتخبت عضويته باغلبية الاصوات اسماعيل الازهري سكرتيرا عاما للمؤتمر ورئيسا فيما بعد. وبحسب وجهة نظر المؤتمر فان مسئولية الانقسام والشقاق في الجبهة الوطنية يتحمل وزرها " السيدان" وخصوصا السير علي الميرغني الذي حاول لفت نظر المستعمر الي ضرورة كبح جماح المؤتمر ( هل هي بداية جذور الخلاف بين الختمية والاتحاديين الذين عبر عنهم المؤتمر ؟ ). والغريب في الامر ان السيد عبدالرحمن اتخذ موقفا مغايرا وأيد الخريجين نكاية في منافسه اللدود والذي كان وقتها بمثابة الزوجة الصغري والمدللة في نظر الاستعمار الذي اغرقها بالهدايا والعطايا، وانتبه المستعمر للامر، فتقرب من السيد عبدالرحمن المهدي، مما أغضب السير علي الميرغني، والذي بدوره كظم غيظه طويلا خوفا من وقف عطايا المستعمر ووجلا من تزايد نفوذ غريمه ( تري هل كان البعض محقا وهو يصف تلك العلاقة بالزوجة وضرتها).. الا ان حانت لحظة راي فيها زعيم الختمية ان مصالحه تتطلب منه التقرب من مصر لعل ذلك الامر يجعل البريطانيين يرجعون عن دعم غريمه ويقربونه من جديد ويجزلون له العطاء اكثر من قبل. وكانت نتيجة تلك " اللعبة " حرمان السيد عبدالرحمن المهدي من مرتبه لمدة عام، والموافقة علي طلب العون المالي المقدم من السير علي الميرغني، ومنح لقب سير لابنه محمد عثمان الميرغني... وحقق السير الميرغني ( الأب) انتصارا ماديا علي غريمه لم يدم طويلا!!
المحطة السادسة:
قبل اول انتخابات برلمانية في السودان كان الحزب الجمهوري الاشتراكي هو حزب طائفة الختمية، الا ان السير علي الميرغني خاف " سقوط " حزبه وآثر ان يدعم الحزب الوطني الاتحادي لعل ذلك يتيح له فرصة للتخلص من غريمه المهدي وليس هدفا اصيلا في حد ذاته، ولم يمضي العام حتي تبين له خطأ حساباته.
بدأت اول انتخبات برلمانية في الثاني من نوفمبر 1953م وكان الفوز فيها من نصيب الحزب الوطني الاتحادي الذي حقق اغلبية كبيرة أهلته منفردا لتكوين اول حكومة وطنية في البلاد ( 56 مقعدا للحزب الوطني الاتحادي، 22 لحزب الامة، 7 لحزب الجنوب، 7 للمستقلين، 3 للحزب الجمهوري الاشتراكي، مقعدا واحدا للجبهة المعادية للاستعمار)، وكانت المهام الكبري لأول حكومة وطنية برئاسة الازهري تتمثل في سودنة الوظائف، وجلاء القوات الأجنبية وأعداد مسودة قانون يتم بموجبه انتخاب جمعية تأسيسية. ولقد بدأت الحكومة مهمتها بروح وطنية عالية وجهد كبير أدي الي انجاز السودنة في وقت قياسي ( بقيادة مبارك زروق )، وبينما الحكومة مشغولة باجلاء جنود المستعمر، بادر "السيدين" اللذان التقيا بعد قطيعة طويلة، بتسديد أول طعنة في ظهر الحركة الوطنية ( بداية تاريخ الصراع الحزبي المرتكز علي الذاتية والمصالح الطائفية الضيقة)، وتمثلت تلك الطعنة في محاولة سحب الثقة من حكومة الازهري في العاشر من نوفمبر 1955م عندما اسقط البرلمان بفارق اربعة اصوات فقط مشروع الميزانية، وتم ذلك بعد تحالف "السيدين"، نتيجة لان مصالحهم التقت علي طريق واحد، مغزاه ان تطور القوي الحديثة ممثلة في الوطني الاتحادي يعني تراجع القوي التقليدية وتعريضها لخطر الفناء والزوال لذلك كان لقاء "السيدين" ( هل لازالت المصلحة واحدة ؟ ). يسرد المرحوم الاستاذ عبداللطيف الخليفة محمد عبدالعال في الجزء الثاني من مذكراته القيمة الاحداث عقب مؤامرة السيدين، فيقول: " قدم اسماعيل الازهري استقالة حكومته واصدر بيانا للشعب اوضح فيه تمسكه بالديمقراطية والنظم الدستورية، وما كاد الخبر يصل الجماهير حتي خرجت التظاهرات تجوب الطرقات في العاصمة والاقاليم تهتف ضد المتأمرين" ليعود الازهري بعد المؤامرة باقل من اسبوع رئيسا للحكومة، عبر ضغط الجماهير علي نوابها، وعاد الازهري بالشعب مما يعني اول هزيمة شعبية " للسيدين" ( حكم الشعب بالشعب وللشعب)، اللذان اصبحا اكثر يقينا بالخطر الداهم الحزب الوطني الاتحادي، علي تطلعاتهم ومصالحهم وبالتالي ارتباطاتهم الداخلية والخارجية. وشكل هذا الموقف هاجسا للازهري ورفاقه الذين رأوا في تحالف "السيدين" خطرا يتهدد نيل الاستقلال الوطني، بل ان تحشيد "السيدين" لاتباعم وتشقق الصف الوطني قد يكون مبررا للمستعمر بالبقاء بحجة عدم استتباب الامن. وبروح تنم عن ذكاء نادر وهمة وطنية عالية قطع الازهري طريق "السيدين" الملئ باشواك ( الرغبات الجامحة) بقرار دوت لها أرجاء الوطن، فقد أعلن في 15 ديسمبر 1955 م بان البرلمان سيشهد اعلان الاستقلال في جلسته بتاريخ 19 ديسمبر 1955م. فلم يجد احد مناصا غير الوقوف معه. خصوصا "السيدين" اللذان " تأبطا شرا " قبلها ببيان يدعو الي حكومة قومية وهي في الأصل دعوة حق اريد بها باطل، فقد كان "السيدين" يشعران بان دورهما في تناقص وان رفع الازهري لعلم استقلال السودان لا يعني نهاية الحقبة الاستعمارية فحسب بل يحمل بين طياته رسالة ذات مغزي ومعني، في الحاضر والمستقبل، وهي بمثابة ضربة البداية لانتصارات القوي الوطنية التي تنادي بالحداثة والتنوير علي القوي الطائفية المدعومة بالاستعمار ( وهنا تكمن رمزية الاحتفال برفع علم الاستقلال، وهو ليس من الاستعمار وحده، بل بداية الطريق للتخلص من الجهل والطائفية والتبعية العمياء). وعلم الاستقلال الذي اقترحه زعيم الاغلبية الراحل المقيم استاذ الوطنية مبارك زروق، "علم" له معزته عند الاتحاديين، ولا يطيقه "السيدين" ومن شايعهم الي هذه اللحظة ( برزت اعلام الختمية وشاراتها بكثافة مؤخرا مما يبشر بقرب الخلاص للاتحاديين ).
لقد اصبحت لحظة الاستقلال الذي رفع علمه الرئيس الشهيد اسماعيل الازهري، تمثل قمة " المأسأة " بالنسبة "للسيدين" اللذان اصبحا علي اتفاق تام بضرورة اقصاء الحزب الوطني الاتحادي. وبعد ستة أشهر فقط من لحظة رفع العلم اي في مطلع يوليو 1956م، تآمر "السيدين" مرة أخري وتم وأد الحكومة الوطنية الأولي علي يد "السيدين" اللذان أدوا خدمات كبيرة للاستعمار ورأو في انفسهم ورثته في الحكم والسلطة. وبالفعل تألفت حكومة "السيدين" ( التحالف غير المقدس ) في يوليو 1956 م وانتقل الازهري وزملاؤه الي صفوف المعارضة ولقد فتح ذلك التحالف الانتهازي بابا واسعا للمؤامرات والفتن دفع ولازال الوطن ثمنا لها دما ودمعا وخرابا وتعاسة .. وجلب المزيد من المال والجاه المدعوم بالسلطة لقادة ذلك التحالف اللئيم. وقد جاء في كتاب " تاريخ السودان الحديث " في صفحة 174 لمؤلفه البريطاني ب. هولت: " كان الائتلاف بين الامة وحزب الشعب الديمقراطي اصطناعيا وانتهازيا في طبيعته. فقد تم بقصد ابعاد الازهري ونوابه او الذين ساروا خلفه من الحكم. ذلك لانه لكل من الحزبين راي مخالف او معارض للاخر في كل مسالة من المسائل الكبري. فقد كان الامه يتهم حليفه الشعب الديمقراطي بخدمة المصالح المصرية، بينما الاخير يتهم الاول بخدمة المصالح البريطانية"، هذا وقد وصف السياسي المخضرم وقطب حزب الامة الراحل محمد أحمد محجوب ذلك اللقاء بانه " أعظم كارثة في تاريخ السودان الحديث" .. تري هل لازالت طائفة الختمية تخدم المصالح المصرية في السودان ونصب اعينها مصالحها الاقتصادية والاستفادة من الدور الاقليمي والعالمي لمصر .. وهل لازالت مصر تراهن علي حليفها "المزدوج" الملتزم دوما بالطاعة كمدخل للسياسة السودانية وخصوصا فيما يتعلق بعلاقتها بمشكلة الجنوب وقلقها غير المبرر علي " مياه النيل" ؟ وهل لازالت مصر الرسمية تشعر بحنق علي الحركة الوطنية الاتحادية.. ولكن ماهو سبب ذلك الحنق ؟؟. وقبل وداع تلك المحطة نذكر بان موقف الحزب الوطني الاتحادي بشان العلاقة مع مصر كان سببا رئيسيا في انتصاره علي "السيدين" وبالتالي زيادة عزلتهما قبيل الاستقلال، فقد ايد الراي العام الزعيم الازهري في تلك الرؤية التي اجازتها اللجنة البرلمانية للحزب ونشرتها صحيفة ( الأيام ) في 26 ديسمبر 1954م ونلخصها فيما يلي*:
- ان السودان جمهورية برئيسها ومجلس وزرائها تماما مثل مصر.
- التعاون بين الدولتين تنظر فيه لجنة مشتركة تضم مجلسي الوزراء في البلدين ( المجلس الأعلي)، يجتمعون مرة او اكثر كل عام لبحث المسائل المشتركة.
- تعرض قرارات المجلس الاعلي علي البرلمان لاقرارها.
وفي ختام هذه المحطة نترك المجال لقلم د. المعتصم احمد الحاج وهو يصف مجهودات "السيدين" لوقف المد الوطني، ودرجة التنسيق الكبير بينهما الذي تكلل بتحالف ومن ثم تكوين حكومة ائتلافية ( يوليو 1956م – نوفمبر 1958)، اضحت بعد ان تسيطرت علي الموقف تشاكسية تشرذمية، وحتي انها لم تبلغ سن الفطام بعد عندما سلمت مقاليد الحكم للفريق عبود في اعلان صريح لفشلها ( تري ما هي أوجه الشبه بين الماضي والحاضر؟)..يروي د. المعتصم الوقائع وقتها: " لقد اصبحت العلاقة بين السيدين جيدة وعلي اتفاق تام علي اقصاء الحزب الوطني الاتحادي، وكان للختمية دور كبير في تقطيع اوصال الوطني الاتحادي ( لقد حدث ذلك عقب انتفاضة ابريل 1985م ولازال – الكاتب)، فمنذ شهر يوليو 1955م بدأت طائفة الختمية تعد عدتها لقيام واجهة سياسية للطائفة والانسحاب من الوطني الاتحادي، وتقرر قيام حزب الشعب الديمقراطي سراً منذ ذلك الوقت علي ان يبقي أعضاؤه ورئيسهم الشيخ علي عبدالرحمن في الوطني الاتحادي الي حين اللحظة المتفق عليها". وكأني بدكتور المعتصم يسجل احداث الشهر الماضي وليس احداثا قبل نحو نصف قرن من الزمان.. فهاهي الختمية تحشد قواها في يناير 2004م في ميدان ود البشير بامدرمان وتعلن صراحة الحزب الاتحادي الديمقراطي واجهة لها، بقصد تمويه جماهير الاتحاديين الذين تحتاجهم في مسيرتها بقيادة المرشد السير محمد عثمان الميرغني. ويبرز سؤالي المتكرر من جديد وفي لحظة مخاض جديد للوطن: أما آن أوان العودة الي الجذور .. الي الوطني الاتحادي الجديد ؟؟ اما ان لهذا الليل البهيم ان ينجلي .. وللفجر ان يشرق من جديد من اجل الوطن وللوطن.
فخرالدين عوض حسن عبدالعال
سياسي وباحث اكاديمي
لندن – المملكة المتحدة
المراجع ( باللغة العربية):
احمد خير: كفاح جيل – تاريخ حركة الخريجين وتطورها في السودان. القاهرة 1948م
المعتصم أحمد الحاج: لمحات من تاريخ السودان في عهد الحكم الوطني 54-1969م. مركز محمد عمر بشير للدراسات السودانية بجامعة ام درمان الأهلية (1997م).
أمين التوم: ذكريات ومواقف في طريق الحركة الوطنية السودانية, دار جامعة الخرطوم للنشر (1987م).
بشير محمد سعيد: خفايا وأسرار في السياسة السودانية, دار جامعة الخرطوم للنشر (1993م)
تمام همام تمام: السياسة المصرية تجاه السودان 1936 – 1953م . الهيئة المصري العامة للكتاب (1999م)
عبداللطيف الخليفة: الجزء الثاني من مذكرات عبداللطيف الخليفة. مطبعة جامعة الخرطوم (1992م)
حسن نجيلة: ملامح من المجتمع السوداني (2). دار جامعة الخرطوم للنشر (1991م)
محمد أحمد المحجوب: الديمقراطية في الميزان . دار جامعة الخرطوم للنشر (1986م).
محمد عامر بشير ( فوراوي): الجلاء و الاستقلال. الدار السودانية للكتب (1975م)
محمد عمر بشير: تاريخ الحركة الوطنية في السودان 1900 – 1969م. المطبوعات العربية (1987م)
محسن محمد: مصر والسودان: الانفصال بالوثائق السرية البريطانية والامريكية. دار الشروق (1994م)
محمد ابراهيم أبوسليم: أدباء وعلماء ومؤرخون في تاريخ السودان. بيروت – دار الجيل (1991م)
محمد ابراهيم أبوسليم: بحوث في تاريخ السودان. بيروت – دار الجيل (1992م)
مراجع باللغة الانجليزية:
Holt, P. M : A modern History of The Sudan, London, (1961) -
- Holt, P. M : Holy Families and Islam in The Sudan, London ( PNEP) No. 4
- Henderson, K. D : The Making of the Modern Sudan, London ( 1953)
- Mc Michall, Sir Harold: The Sudan, London ( 1954)
- S.g.A: Sudan Intelligence Reports.
مصادر أخري:
- دار الوثائق المركزية الخرطوم ( اعداد من صحيفة الحضارة & مجلة الفجر & مداولات اللجنة التنفيذية لمؤتمر الخريجين)
- وثائق المخابرات البريطانية & مراسلات وزارة الخارجية البريطانية
- شبكة المعلومات ( الانترنت )، عنوان الصفحة:
http://www.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=296&CID=19
______________________________________________________________