"تأييدي للأشقاء تحالف مؤقت، مثل تحالفكم مع السوفيت
اثناء الحرب العالمية الثانية، فلم يكن يعني تأييدكم للشيوعية
وكذلك مساندتي للاشقاء فلا تعني البته اتفاقي معهم"
السيد علي الميرغني مخاطبا الانجليز قبيل استقلال السودان
المقدمة أو الخاتمة ( صور غامضة وقاتمة):
القطار يمر بسرعة هوجاء .. لا يتوقف ولو لبرهة في المحطات الكبيرة ، ناهيك عن السندات التي ينتظر اهلها مرور القطار لنقل مرضاهم الي المركز .. الاشارات ترسل : القطار في خطر عظيم .. اشارة المرور مغلقة.. ولكن القطار تزداد سرعته وعجلاته الحديدية اصبح يتطاير منها اللهب والشرر وهي تحتك بالقضبان.. يا للهول المنظر مروع .. اين العلة هل هي في فرامل القطار ام في السائق ولكن اين مساعدوه ... لعلهم يغطون في نوم عميق!! .. لا احد يدري ماذا يحدث .. القطار يسرع والموت يحدق من كل جانب ...وفجأة يتوقف القطار وتصيب الحيرة الجميع . وتدفن رمال الزمن الحدث!!..
وتصبح كارثة القطار التي " أوشكت " حديث المدينة لزمن طويل طويل طويل: المؤتمرات تعقد والحديث يطول والهامات تعلو وتثبط .. والألسنة تتشابك .. والأيدي تتعارك .. والكيمان تنشطر وتتكاثر .. وتنصب سلالم مجد مزيف يصعد منها بعضهم علي عجلة ليسقط في منتصف الطريق، ولكن البعض يصل الي السقف ليجد انه في حيرة من امره لان السلم سقط بفعل فاعل وصوت الجاهير يتواري وهي تهتف عاش عاش .. وتنصب المحاكم والمشانق .. وكارثة أخري تقترب اكثر فاكثر .. والفتوي تتصارع: والله مشكلة قيادة..بل تنظيمية، ورب السماء انه سوء تخطيط .. لا بل العلة في البرامج ولكن من أين التمويل .. ومن بين الصفوف يبرز حكيم: ان لب القضية اختلاف مبدئ ذو جذور ضاربة في تاريخنا، ولن تصمد امامه كل الحجج واليكم خلاصة البراهين:
المحطة الأولي:
كان دخول محمد عثمان الميرغني الي السودان متزامنا مع الاستعمار التركي – المصري، وازدهرت الطريقة الختمية في ذلك العهد الاستعماري المعروف بطغيانه وظلمه. نتيجة لتبعيتها للمستعمر وتنفيذ سياساته في تخذيل الجماهير وتمكين سياسة فرق تسد الاستعمارية. ولقد تميزت تلك الحقبة الاستعمارية بالظلم والجبروت المصحوب بفرض الضرائب الباهظة التي إثقلت كاهل المواطنين، بل وكانت من الأسباب الرئيسية لقيام الثورة المهدية. والأمر هكذا كان لزاما علي سدنة الاستعمار الرحيل خشية ان يفتك بهم قائد الثورة المهدية بسند الجماهير الحانقة علي عونهم ومساندتهم للمستعمر. فاسرع مرشد الختمية بشد الرحال الي مصر عقب هزيمة الاستعمار وانتصار الثورة المهدية في يناير 1885م . و لكنه عاد مرة اخري للسودان عقب انهيار الدولة المهدية واعادة احتلال السودان الذي تم في عام 1898م، عاد السيد محمد عثمان الميرغني وفي معيته ابنه السيد علي الي السودان في حماية فرقة استعمارية بقيادة البمباشي البريطاني مكريل وولكنسون عن طريق سواكن. ومنحته حكومة المستعمر ارضا ومعاشا ( عطاء من لا يملك لمن لا يستحق )
المحطة الثانية:
عند نشوب الحرب العالمية الاولي في عام 1914م أعلن السيد علي الميرغني تأييده لبريطانيا، وساند المستعمر في اجهاض ثورة علي دينار بدارفور، والذي كان قد اتخذ موقفا مغايرا للميرغني ووقف الي جانب تركيا في الحرب لكونها في رأيه تمثل الخلافة الاسلامية وقتها.
لقد اتخد الحكم الاستعماري من السيد علي الميرغني اداة لتخذيل الجماهير وتثبيط همتها وذلك عن طريق استغلال الدين وتوظيفه لخدمة اهداف المستعمر .. والذي بدوره قمع بعنف شديد كل الثورات في جميع انحاء الوطن نذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر: ثورة الدينكا 1901 – 1910م، ثورة النيام نيام 1903 – 1914م، ثورة النوير والانواك والبوير 1907 – 1912م، ثورة النوبيين 1903 – 1918م، التبوسا في عام 1926م، الحلاويين في 1908م .
وعند نهاية الحرب قاد السيد علي الميرغني وفدا لتهنئة بريطانيا بالانتصار في الحرب لينال بعدها لقب سير من قبل ملك بريطانيا اعترافا بدوره (المقدر) في خدمة الامبراطورية التي (كانت) لاتغرب عن أراضيها الشمس..
المحطة الثالثة( بداية الصراع بين القوي الحديثة والقوي التقليدية):
في رأينا ان جمعية اللواء الأبيض تعتبر أول تنظيم وحدوي سوداني وطني أصيل، وبنظرة سريعة الي قيادتها ممثلة في البطل علي عبداللطيف نجد ان والده دنقلاوي من الخندق وامه دينكاوية، وعبدالفضيل الماظ والده من قبيلة النوير وامه من قبيلة المورو الاستوائية، اما سيد فرح فهو محسي من دلقو، وهكذا كان عبيد حاج الامين وبقية العقد الفريد من ثوار 1924م ينحدرون من بقاع شتي من أرجاء الوطن، ولكن كانت القضية الوطنية هي قبلتهم الواحدة. هذا وقد شكلت ثورة اللواء الابيض اللبنة والنواة الأولي للحركة الوطنية الاتحادية. ومنذ نعومة أظافر جمعية اللواء الابيض أسفرت القوي المعاونة للاستعمار عن عدائها الصريح للحركة، مما يشكل في رأينا أولي المواجهات بين القوي الحديثة والقوي التقليدية.
ولعل التاريخ لن يصفح للسير علي الميرغني وقوفه ضد ثورة 1924 م ومساندة المستعمر في اجهاضها والدعاية ضدها. ولقد بدا العداء واضحا بين ثوار اللواء الابيض والسير علي الميرغني في التصريحات التي نشرتها جريدة الحضارة في 27 ابريل 1922م للسيد علي الميرغني والتي كانت ردا علي مقال كتبه علي عبداللطيف طالب فيه بحق تقرير المصير للسودان مثل ما يطالب المصريين في بلادهم، واستنكر السير علي الميرغني ان يطالب علي عبداللطيف بحق تقرير مصير السودان وجدد اعلان تأييده ودعمه للسياسة البريطانية. وكانت نتيجة تلك المساجلات ان زجت سلطة المستعمر البريطاني بالبطل الثائر علي عبداللطيف في السجن لمدة عام، ولقد اتخذت صحيفة الحضارة المملوكة للسيد علي وصحبه موقفا عدائيا ضد علي عبداللطيف ومؤيديه ( هل مؤتمر الخريجين ومن ثم اعلان حزب الاشقاء في 1944م الذي خرج من رحمه الحزب الوطني الاتحادي امتدادا طبيعيا لجمعية اللواء الابيض )، ولعل الاجابة في ثنايا تقرير ( الوثائق البريطانية) الذي كتبه البريطاني ايورات وقد جاء في الصفحة السابعة منه ما يلي: " ان المقال الذي ادين علي عبداللطيف لكتابته لم ترد به كلمة واحدة لمصالح مصر، بل ذهب الي الدعوة لقيام حكومة للسودان بواسطة السودانيين وانهاء الحكم الاجنبي .. ومهما يكن من امر، فان معظم محتويات المقال، كانت تعبيرا عن مشاعر كانت ومازالت هي المشاعر التي يفيض بها وجدان أبناء الجيل الجديد المتعلم بل حتي كبار الموظفين".
عقب اجهاض ثورة اللواء الابيض الوطنية، اودعت حكومة الاستعمار البريطاني، البطل الخالد علي عبداللطيف سجن كوبر هو ورفاقه، وامعانا في تعذيبهم وتعريضهم للخطر ارسلتهم بعدها الي سجن واو، ونتيجة للتعذيب والمعاملة القاسية استشهد في عام 1938م سكرتير الجمعية البطل عبيد حاج الامين، وتأثرت أعصاب قائد الثورة البطل علي عبداللطيف نتيجة الإفراط في تعذيبه واصيب بمرض نفسي عنيف تهاون الانجليز في علاجه، الي ان جاء عام 1938م حيث نقل للمستشفي بمصر وذلك بمقتضي اتفاقية 1936م بين مصر وبريطانيا، حيث مكث فيها يغالب المرض، الي ان لقي ربه في أواخر الأربعينات. وكان قائد ثورة يوليو اللواء محمد نجيب، والمعروف عنه حبه للسودان، حيث نشأ وترعرع، قد قرر عقب انتصار ثورة يوليو 1952م في مصر، نقل رفات البطل علي عبداللطيف الي مقبرة الشهداء، وقد تم ذلك في جنازة رسمية وشعبية تقدمها الرئيس محمد نجيب و جمال عبدالناصر وبقية رفاقهم من أعضاء مجلس الثورة وجمع غفير من المصريين والسودانيين.
المحطة الرابعة:
وافق الختمية علي مبدأ قيام مجلس استشاري لشمال السودان، وقاطع الأشقاء فكرة المجلس لقناعتهم بان الفكرة تعني فصل الجنوب عن الشمال. هذا وقد شارك السيد علي الميرغني في اول اجتماع للمجلس في مقر الحاكم العام في 15 مايو 1944م وقد تم اختياره عضو شرف. رغم انه تنكر للجمعية فيما بعد نتيجة خلافه القديم مع منافسه السيد عبدالرحمن المهدي. وكان الأخير اغني من الميرغني، مما اقلقه ودعاه الي طلب المزيد من الدعم من الانجليز، وعندما ترددوا واحس بان المهدي اصبح الأقرب لهم، ازداد وجلا ان يصبح المهدي ملكا علي السودان بعد رحيل المستعمر، فغمز للانجليز بانه لربما يقترب من مصر، عن طريق التحالف مع الوطنيين الاتحاديين. وراي الميرغني ان التقرب من مصر او ادعاء ذلك قد يحسن موقفه في اتجاهات عدة: فهي لهجة للتهديد مع اولياء نعمته السابقين والترغيب لاولياء نعمته اللاحقين، ومحاولة استمالة الراي العام في السودان بادعاء الخلاف مع المستعمر ومن ثم اللحاق بقطار الحركة الوطنية الاتحادية وادعاء شرف النضال ضد المستعمر!!.
وفي سفره القيم " بحوث في تاريخ السودان" يصف العلامة د. محمد ابراهيم ابوسليم، السير علي الميرغني بانه: " لو رسمت صورة لوجهه .. لكان الوجه بلا اي تعبير.. يتميز بالازدواجية . يبارك الاستقلال وفي الوقت نفسه يتعاون مع المصريين، ويساند المطالبين بالاتحاد" ويقطع ابوسليم بان السير علي الميرغني تعاون باخلاص مع الانجليز مما حدا بالناس ان اطلقوا علي الطريقة الختمية " الطريقة الحكومية" لتعاونها مع المستعمر... ولذلك كان له (شرف) ان يكون اول سوداني ينال لقب سير في عام 1915م. ليراس بعدها وفدا لتهنئة ملك بريطانيا ( سفر الولاء ) بالانتصار في الحرب، وإمعانا في تثبيط الهمة الوطنية وتكريسا للولاء الأعمي، أعلن للملك تبرئهم عن ثورة 1919 في مصر ( تلك الثورة العملاقة التي تأثرت ايجابيا بها الحركة الوطنية في السودان)، وكان قد قدم مذكرة ضد الحركة الوطنية في مصر وعبر عن إدانتها، الي الحاكم العام في السودان !!.
فخرالدين عوض حسن عبدالعال
سياسي وباحث اكاديمي
لندن – المملكة المتحدة
المراجع ( باللغة العربية):
احمد خير: كفاح جيل – تاريخ حركة الخريجين وتطورها في السودان. القاهرة 1948م
المعتصم أحمد الحاج: لمحات من تاريخ السودان في عهد الحكم الوطني 54-1969م. مركز محمد عمر بشير للدراسات السودانية بجامعة ام درمان الأهلية (1997م).
أمين التوم: ذكريات ومواقف في طريق الحركة الوطنية السودانية, دار جامعة الخرطوم للنشر (1987م).
بشير محمد سعيد: خفايا وأسرار في السياسة السودانية, دار جامعة الخرطوم للنشر (1993م)
تمام همام تمام: السياسة المصرية تجاه السودان 1936 – 1953م . الهيئة المصري العامة للكتاب (1999م)
عبداللطيف الخليفة: الجزء الثاني من مذكرات عبداللطيف الخليفة. مطبعة جامعة الخرطوم (1992م)
حسن نجيلة: ملامح من المجتمع السوداني (2). دار جامعة الخرطوم للنشر (1991م)
محمد أحمد المحجوب: الديمقراطية في الميزان . دار جامعة الخرطوم للنشر (1986م).
محمد عامر بشير ( فوراوي): الجلاء و الاستقلال. الدار السودانية للكتب (1975م)
محمد عمر بشير: تاريخ الحركة الوطنية في السودان 1900 – 1969م. المطبوعات العربية (1987م)
محسن محمد: مصر والسودان: الانفصال بالوثائق السرية البريطانية والامريكية. دار الشروق (1994م)
محمد ابراهيم أبوسليم: أدباء وعلماء ومؤرخون في تاريخ السودان. بيروت – دار الجيل (1991م)
محمد ابراهيم أبوسليم: بحوث في تاريخ السودان. بيروت – دار الجيل (1992م)
مراجع باللغة الانجليزية:
Holt, P. M : A modern History of The Sudan, London, (1961) -
- Holt, P. M : Holy Families and Islam in The Sudan, London ( PNEP) No. 4
- Henderson, K. D : The Making of the Modern Sudan, London ( 1953)
- Mc Michall, Sir Harold: The Sudan, London ( 1954)
- S.g.A: Sudan Intelligence Reports.
مصادر أخري:
- دار الوثائق المركزية الخرطوم ( اعداد من صحيفة الحضارة & مجلة الفجر & مداولات اللجنة التنفيذية لمؤتمر الخريجين)
- وثائق المخابرات البريطانية & مراسلات وزارة الخارجية البريطانية
- شبكة المعلومات ( الانترنت )، عنوان الصفحة:
http://www.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=296&CID=19