في يوم الأحد الموافق 12 كانون الأوَّل (ديسمبر) 2004م، وفي غيهب الغسق – أي بعد شميس المغرب الممحوق – رحل عنَّا بغير وداع الرَّفيق محمد جمعة نايل إلى مثواه الأخير، وذلك عن عمر ناهز ال47 عاماً. كان قلب الفقيد في وجهه لكل المناضلين الشرفاء، وكان في عينيه وهج لا نعرف سرَّه، غير أنَّ الذي كنَّا نعرفه أنَّه كان وهجاً يضئ لكي يبدِّد زوايا الظلم وخفايا الضَّيم؛ فلا ريب أنَّ مزايا العقل تخلق الحساد الأعداء، ومزايا القلب تجلب الأصدقاء الأوفياء. ومثلما بكى النُّوبة في جميع الأصقاع انتحاباً ووفاءاً – وإنَّ الوفاء لحق واجب للأوفياء على الأوفياء - عند فقدهم للمناضل الجسور يوسف كوة مكي – يرحمه الإله بسعيه - في آذار (مارس) 2001م، هاهم اليوم يبكون الفقيد الصنديد محمد جمعة نايل. كيف لا يبكون وقد اختطف الموت السحاب الذي ظلَّ طوال سنوات النضال يمطرهم فداءاً واستبسالاً في ساحات الوغي، مغواراً كان لا يخشى في قول الحق لومة لائم؛ ولم يفزع من ركوب المخاطر في زمن المهازل، ومن يركب البَّحر لا يخشى من الغرق. وإنَّ هذا الحزن الأليم الذي يكتنف النُّوبة اليوم لصادق، وإنَّه لصادر من هاتيك القلوب النُّوباويَّة، التي تفجَّرت تأساءاً وتعزية، إثر انفعالات حزينة مؤلمة حقَّاً، ونابع مما يعانون من أسى وحسرة. لعمرك لقد كان الفقيد بنضاله ضد الاضطهاد ناهضاً، ولظلم أهل الحكم للنُّوبة رافضاً، وإنَّا عند ذكرى الفقيد – ولم يمت الإنسان ما حيي الذكر – لترانا تفيض شجوننا ويعترينا الأسى، وتغمرنا حرارة الفقدان.
وحين نتحدث عن محمد جمعة نايل كعسكري قوي وقائد فذ نجد أنَّ الفقيد قد خدم في قوات الشَّعب المسلَّحة السُّودانيَّة، فكان مثالاً للجنديَّة والتَّضحية والفداء، إلاَّ أنَّه رفض الظُّلم وغادر السُّودان ممتطياً جواد النِّضال من أجل التَّحرير؛ فإلى ليبيا ولَّى وجهه، ثمَّ تلقاء أثيوبيا مضى، فالمناطق المحرَّرة قائداً ميدانيَّاً يُشهَد له بالبنان، فكان جرَّاراً لكل كتيبة معوَّدة إن لم يخل بها النَّصر، ومعركة تُلُشي من شباط (فبراير) إلى أيار (مايو) 1992م خير شهيد على ما نقول، حيث كان الفقيد قائداً وحاملاً لواء نصرها. ففي تلكم الوقيعة أبلى الجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان بلاءاً حسناً، وكان شعارهم - بعدما تقطَّعت بهم السُّبل - لنا الصَّدر دون العالمين أو القبر، ولم يدفعوا الرَّدى بمذلَّة كما ردَّها يوماً بسوءته عمرو بن العاص؛ فلم تثنيهم فاقة، ولم تحل دونهم ودون النَّصر مسغبة. لقد كانت النِّساء النُّوباويَّات يشقن خطوط النيران ليرحن ويأتين بالماء إلى المقاتلين، فلم يجزعن من دوي المدافع، ولم يصبن بالهلع من ضراوة القتال، ولم تفزعهن مخاطر الهلاك. وفي ملحمة تأريخيَّة تجسِّد بسالتهنَّ، وبعد أن قامت القوات الحكوميَّة بتسميم موارد المياه بالمبيدات الحشريَّة، أصرَّت إحدى النِّساء أن تكون هي المبادرة في الشراب، ورفضت كل محاولات الإثناء عن عزمها وعزيمتها، وقد قالت لنفسها في نفسها وللشَّباب من حولها: "إنَّي لتراني شاربة من هذا الماء التَّهيم، فإن متُّ فليحيا الرِّجال من بعدي ليواصلوا النِّضال؛ فماذا عساني أن أهاب وقد بلغت من الكبر عتيَّاً، ولم يبق لي من العمر كثير". فغرفت غرفة بكأسها وشربت، وشاءت مشيئة الله أن تحيا وشرب الرِّجال من بعدها آمنين. هذه القصص أشدَّ وقعاً في النُّفوس من طعنات الرِّماح، وقد سارت هذه النِّسوة في السَّبيل الذي سلكته قبلهن مندي – إبنة السُّلطان عجبنا الذَّائعة الصيت، والتي خُلِّدت ذكراها في المعزوفة العسكريَّة الشهيرة في السُّودان. وفي نهاية أم المعارك في منطقة تُلُشي أخفق النِّظام "الإنقاذي" في عمليَّتيه العسكريَّتين، وهما "طير الأبابيل" و"بشاير الخير" حول لقاوة والدَّلنج، وانقلبت الطُّيور على أعقابها عائدة إلى الخرطوم وهي تجر ذيول الهزيمة وتحتسي مرارة النَّكسة. فقد هُزِمت قوات الحكومة "الإنقاذيَّة"، التي تراوحت بين 25,000-30,000 جندي ومجاهد، بواسطة فئة قليلة من قوات الجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان، التي لم يبلغ تعدادها ألف مناضل ومناضلة. على أي، فقد أعلن النِّظام، الذي نجح فقط في حشر ومنادة أهل السُّودان إلى الجِّهاد ضد النُّوبة، بعد ذلك وعبر أجهزته الإعلاميَّة – المرئيَّة المسموعة والمقروءة – إنَّهم لمنتصرون! ويحكم، كلا إنَّكم لكاذبون!
ولد الفقيد العام 1957م بقرية حجر سلطان (ريفي الدَّلنج)، وهو حفيد السُّلطان عجبنا، الذي عرفه الأعداء قبل الأقرباء كما أسلفنا الذكر، فكان جسوراً ضد الاستعمار البريطاني-المصري لا يُشقُّ له غبار حتَّى استأسد عليه البريطانيُّون والمصريُّون بكتائب من شندي في شتاء العام 1917م، وحينما جئ به إلى ساحة الإعدام والقوم ينظرون والملأ من حوله وجلون صاح فيهم قائلاً: "أي زول (شخص) لم ير السلطان عجبنا من قبل فليأتي ليري كيف يموت الرِّجال!"، ثمَّ إلتفت إلى جلاديه قائلاً بسخريَّة وتهكُّم: "لم تودون قتلي بحبل وإني لست بكلب عقور، أنا راجل (رجل) ويمكنكم إطلاق النَّار علي!"؛ فقد عملت قولته في نفوس أعدائه عمل النَّار في الهشيم، مما اضطروا إلى عزف الموسيقى العسكريَّة قبل إعدامه، وذلك وقاراً وتبجيلاً وتشريفاً لشجاعته، لذلك لم نندهش حين علمنا أنَّ الفقيد لسليل السُّلطان عجبنا. لقد كان لكاتب هذه السُّطور من الشَّرف أعظمه في الالتقاء بالفقيد في رحاب مؤتمر عموم النُّوبة في كاودا بجبال النُّوبة في تشرين الثَّاني (نوفمبر) – تشرين الأول (ديسمبر) 2002م، وتجالسنا تحت ظل ممدود، وتجاذبنا أطراف الحديث، وإنَّه لشخص لطيف، وإنَّ له من القول ما هو ظريف. وقد طلبنا منه كتابة سجله النِّضالي في لوح محفوظ منذ خروجه من السُّودان صوب ليبيا والتحاقه بالحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان، غير أنَّه ما لبث أن حان أجله عاجلاً، فواأسفاً علينا كيف خيَّم فوقنا البؤس حين لم تهلة العلة زمناً طويلاً ليشرع في تدوين ما كنا منه طالبين حتَّى يكون عبرة ودرساً لأجيال النُّوبة أجمعين. فقد حارب الفقيد في أغلب المواقع في السُّودان، وتدرَّج في قيادة الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان وكان في آخر أيَّامه في هيئة القيادة العليا التَّابعة لمكتب قائد الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان الدكتور جون قرنق دي مابيور. وقد باغتته المنية في العاصمة الكينيَّة، نيروبي، إثر علَّة لم تمهله زمناً طويلاً، حيث ترك الفقيد زوجين وسبعة أطفال. رحل عنَّا محمد جمعة نايل ولسان حاله يردِّد قول الشَّاعر أبي فراس الحمداني:
سيذكرني قومي إذا جدَّ جِدَّهمُ، وفي اللَّيلة الظلماء يُفتَقد البدرُ
وإن مُتُّ فالإنسان لا بدَّ ميِّتٌ وإن طالت الأيَّام، وانفسح العمرُ
هذا هو الموت، وما الموت إلاَّ روضة من رياض الأبرار، فأنعم يا محمداه بماضيك المحمود، ولقد لمسنا منك أفعالاً عُجاباً بالرَّغم من أنك غادرت وخطو النَّصر لم يكتمل بعد، ولم نطو اليباب. هذه هي الحياة، فكل نفس ذائقة الموت، وإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، وماذا عسانا غير ترداد بيت أبي فراس الحمداني:
ولكن إذا حُمَّ القضاء على إمرئ فليس له بَرٌّ يقيه، ولا بحرُ
ألا رحم الله الفقيد، وأسكنه فسيح جنَّاته، وألهم آله وذويه ومريديه وأحبابه الصَّبر الجميل.