1) النوبيون وقضايا التمركز والتهميش:
تميّز السودان عبر تاريخه الطّويل بالتّنوع والتّعدّد إثنياً، ولغوياً، وثقافياً ودينياً. وقد تمكّن من الحفاظ على وحدته الوطنية منذ أزمان سحيقة وإلى العصر الحديث من خلال الاعتراف بهذا التّنوّع، حيث كانت كل مجموعة ثقافية تتمتّع في إطار الدّولة الواحدة باستقلالية إدارية وسياسية داخل حدودها الخاصة بها. ذلكم هو منظور "الوحدة في التّنوّع"، حيث يحتفظ كل إنسان بثقافته ولغته في تعايش سلمي تحت ظل دولة واحدة. في هذا الوضع تتكامل الثقافات مع بعضها البعض دون إزاحةٍ أو استيعاب (أي تذويب). وقد ظلّ السّودان يُدار بهذه الطريقة (التي نعرفها الآن بعدة أسماء مثل اللامركزية، الحكم الإقليمي، الحكم الذّاتي، الفدرالية، الكونفيدرالية ... إلخ) منذ أقدم العصور حتى دولة الفونج ثم الاستعمار التركي ـ المصري (1821م) الذي انتهج أسلوب المركزية الباطشة، ثم جرّب اللامركزية، ففشل فيها أيضاً لسيطرة الأسلوب المركزي على عقليته. ورثت الدّولة منذ الاستقلال هذه العقلية المركزية والمُقارَبة الأحاديّة لمعالجة أوضاع التّعدد والتّنوّع، الأمر الذي تبلور فيما يُعرف بمنظور "بوتقة الانصهار"، حيث ظلّت الدّولة تعمل بكل ما تملك من قوّة على إزاحة ومن ثَمّ تذويب اللغات والثّقافات الأخرى بتهميشها تنموياً وثقافياً. وقد استخدمت الدّولة في ذلك سلاحاً خطيراً تمثّل في تمرير سياساتها عبر أجندة الثّقافة العربية والإسلامية، والتي لا ينبغي أن نُحمّلها مسئولية ذلك، فهي منها بريئة. فالثقافة العربية ـ الإسلامية لعبت في السودان دوراً مجيداً، إذ دخلت البلاد في فترة كانت المجتمعات السودانية تعاني من الانغلاق، فكسرت طوق الانعزال. في ظل كل هذه المعطيات نشأت مؤسسة الدولة وفق حرائك الأيديولوجيا العروبية وما تبع ذلك من تمركز وتهميش ومن ثمّ استقطاب أيديولوجي للطبقة المثقّفة من أبناء المجموعات المتعرّبة وتلك المستهدفة بالاستعراب وما تبع ذلك من هوس ديني. وهذا هو مردّ اللبس في النظر إلى المجموعات العربية أو التي تعرّبت تماماً باعتبارها مسؤولة عن واقع التمركّز والتهميش، في الوقت الذي تعيش هي نفسها في تهميش مريع.
بهذا الفهم لا يصبح الهامش في جهة جغرافية بعينها (شمالاً كانت أو جنوباً، شرقاً أو غرباً أو وسطاً) دون غيرها، بل هو في كل مكان، ومن يغالط في هذا عليه أن يخرج مما يسمّى بالمناطق الحضرية عدة كيلومترات فقط ليرى التهميش بأم عينه. كما لا يصبح الهامش وقفاً على مجموعات إثنية بعينها دون أخرى. وهذا هو مناط القول بأن التهميش ليس جغرافياً ولا عرقياً، بل هو سلطوي. لقد كان التهميش الثقافي مدخلاً للتهميش التنموي، إذ جعلت مؤسسة الدولة الاستعراب مقابلاً للأفرقة، ومن ثمّ قامت بإعلاء الهوية العربية وإزراء الهوية الأفريقية. إننا ضد هذا الوعي الأيديولوجي الذي يتخذ من العروبة والإسلام قناعاً لتسويغ القهر والاضطهاد الثقافي والعرقي.
وهكذا تكوّن المركز من طبقة متباينة الأعراق والثقافات، متلاقية في الأهداف المتمثّلة في الثروة والسلطة. هنا لا يهمّ من أي مجموعة ثقافية أو عرقية ترجع أصولك، طالما كنت مستعدّاً للتضحية بأهلك تحت شعار الإسلام أو العروبة، وكلاهما بريئ من ذلك. في الواقع فإن أغلب الرموز القيادية التي قام عليها المركز من أبناء المجموعات الموغلة في التهميش. مما دعم هذا تقسيم السودانيين إلى مجموعات خطية متقابلة: الأفارقة السود مقابل العرب الشرفاء؛ ثم العرب نفسهم يتم تقسيمهم إلى عدة مجموعات متقابلة، مثل الأشراف و أبناء القبائل العاربة مقابل العرب من البدو. هذه التقسيمات الخطية القائمة على العرق تقابلها تقسيمات أخرى قائمة على الجغرافيا بتحميلات عرقية لا تخفى: الشمال (عربي، مسلم) ضد الجنوب (أفريقي، مسيحي)، أولاد الغرب ضد أولاد البحر. روّج المركز الذي سيطر على مؤسسة الدولة لهذه التقسيمات حتى أصبحت بمثابة مفاهيم نمطية. إن الغرض من هذه التقسيمات هو تحييد أكبر قدر من المجموعات المهمّشة، ريثما يتمكن المركز من احتواء مجموعات بعينها تشكّل تهديداً مباشراً. استمرت هذه العملية لزمن طويل حتى وصلت حد التمييز العنصري والاضطهاد. ولهذا تنهض المناطق التي تصل حدّاً لا يمكنها معه تحمّل المزيد من هذا الاضطهاد، فتقاوم بضراوة بلغت الآن مستوى الحرب الأهلية. إن وتيرة اندلاع الحرب الأهلية تتساوق طرديّاً مع درجة التهميش والاضطهاد، فقد بدأت في الجنوب فجبال النّوبة والإنقسنا، فالشرق ثم دارفور و عموم الغرب. ولنلاحظ أن الحرب في الجنوب بدأت عام 1955م، بينما لحقتها جبال النوبة والأنقسنا بعد ذلك بأكثر من ثلاثة عقود. هذا لأن جبال النوبة والإنقسنا كانتا لا تزالان تحت التحييد، فالتقسيم الخطي (شمال ضد جنوب) كان لا يزال تأثيره عليهما سارياً ... وهكذا إلخ. والآن هاهم النوبيون والمناصير قد بدأوا في حراكهم، وحتماً سيلحق بهم آخرون إلى أن يكتمل تفكيك ماكينة التمركز والتهميش.
لقد كان من نتائج التهميش الذي حاق بالنوبيين مضاعفة الإفقار التنموي والتهجير القسري إلى درجة إفراغ المنطقة من السكان. من جانب آخر، تكرّس تهميش النوبيين في أماكن استقرارهم وسكناهم بأطراف العاصمة المثلثة. إن النوبيين اليوم على حافة الاستيعاب التام داخل مجتمع وسط السودان المتعرّب، فضلا عن كون لغتيهم (المحسية والدنقلاوية) على وشك الانقراض. وهذا قمة التهميش. لقد توالت المذكّرات من النوبيين مؤخراً تشير إلى المخاطر التي تحيق بهم. ففي هذا العام 2004 رُفعت عدة مذكّرات من تنظيمات نوبية متعددة؛ من ذلك المذكّرة التي رُفعت للسيد الأمين العام للأمم المتحدة باسم مجموعة العمل النوبي، ثم المذكّرة التي رُفعت للسيد رئيس الجمهورية باسم حسم، ثمّ مذكّرة ثالثة رُفعت للمنظمات الدولية بتوقيعات نوبية ودولية عبر شبكة الإنترنت، فضلاً عن عدد كبير من المذكّرات رفعها أشخاص بصفتهم الشخصية لجهات مسؤولة، حكومية ودولية.
لقد نهضت مجموعات الهامش، كلٌّ على حدة، مطالبةً بحقوقها دونما تنسيق، محكومةً في ذلك بعوامل موضوعية وأخرى ذاتية. ولا تزال حتى الآن ينقصها هذا التنسيق. والآن، عندما ننضمّ ـ نحن النّوبيين ـ إلى رّكب المجموعات المهمّشة ، فإننا نعمل كيما نلعب دوراً حاسماً في كسب هذه المعركة عبر وسائل النّضال المدني كأولويّة. إن مقاربة هذا الهدف تتمّ عبر توحيد قوى الهامش. هذه الوحدة ينبغي أن تنهض على أرض صلبة من المبادئ قوامها المواطنة والديموقراطية القائمة على الاعتراف بحق المجموعات الثقافية في التنمية والحفاظ على هويتها.
2) في معرض الرد على التّهجم:
في مساء الأربعاء 10 نوفمبر 2004 استضافت قناة الجزيرة في برنامج "لقاء اليوم" (http://www.aljazeera.net/channel) الدكتور خليل إبراهيم، رئيس حركة العدل والمساواة، لإلقاء الضوء على ما يجري بدارفور وما يحيق بأهلنا العزّل هناك من جرائم ودور الجنجويد فيما يجري هناك من مذابح. وبقدر ما كانت دهشة المشاهدين من السودانيين كبيرة، كانت صدمتنا نحن النوبيين أكبر عندما قام د. خليل إبراهيم بتحميل النوبيين مسئولية ما يجري الآن بدارفور، وما يجري بالسودان منذ 1956م. ثمّ راعنا أكثر أن ما ورد في حديثه من عدم حصافة لم يكن سوء تعبير وزلّة لسان قاد إليها الارتجال، فضلاً عن تملّق ومداهنة للعرب لا تشبه أهل دارفور ـ كما سنورد من أقواله أدناه. لقد بنى د. خليل حججه وأسانيده منذ البداية بطريقة تدلّ أنه كان على وعي تام بما سيخلص إليه. فهو يذكر في بداية حديثه كل المجموعات المهمّشة في الجنوب والشرق والغرب، ثم يتحامى عن ذكر النوبيين بأقصى الشمال: "نحن حركة العدل والمساواة أو شعب دارفور أو شعب شرق السودان أو شعب الجنوب هل احتكرنا السلطة؟ هل احتكرنا الثروة؟ هل قفلنا المدارس على أنفسنا؟ هل إن إحنا حرمنا أنفسنا ممن الخدمات الصحية من خدمات مياه الشرب؟"
وهكذا يتعمد ألاّ يشير إلى النوبيين! أبفتراض أنهم هم الذين فعلوا تلك الأفاعيل؟ إذن كيف انتهى بهم الحال في غالبيتهم الساحقة إلى هجرة قراهم والسكنى بأطراف العاصمة من كلاكلة وحاج يوسف وسامراب وأم بدة، بالضبط كما فعل أهلنا من دارفور والجنوب والأنقسنا وجبال النوبة والشرق وباقي السودان؟ كيف يجوز أن من يحتكر السلطة ومن يحتكر الثروة ومن يقفل المدارس والخدمات الصحية ومياه الشرب على نفسه، هو نفسه ضمن الذين هجروا قراهم وجاءوا إلى العاصمة لا لشيئ إلاّ لأن قراهم تفتقد عين هذه الامتيازات جرّاء التهميش والإفقار التنموي؟ وإنما لهذا السبب نجد أن حوالي 85% من النوبيين يعيشون الآن خارج الإقليم النوبي. فماذا وجدوا في شتاتهم هذا غير فقدان الأرض والهوية متمثّلة في اللغة، وهم الآن أكثر المجموعات الإثنية المهددة بالاندثار إذا ما فقدوا لغاتهم. فأي تهميش أكثر من ذلك؟ فكيف بالله نحتكر السلطة والثروة ونستأثر بالخدمات، ثم نعجز عن أن نقيم بموطننا التاريخي بأقصى الشمال مكتفين بدلاً عنه بالسكن في أطراف العاصمة وقلوبنا مشدودة نحو قرانا المهجورة، نناضل من أجل أن نحافظ على هويتنا؟ وكأنما لم يكفِ هذا النظام الحاكم، ها هو قد باع مثلث الحوض النوبي لمصر، وهو ما كنا عقدنا عليه الآمال في مشروع عودتنا ونهضتنا التنموية والثقافية.
هذه هي حقائق الواقع، ولكن د. خليل لا يريد أن يراها، فهو يتّجه خطوة نحو تأسيس الأرضية التي سيجرّم عليها النوبيين، وذلك عندما يقول بأن البلاد: "... تعيش حالة استعمار داخلي منذ عام 1956 السودان وقع بعد أن خرج من الاستعمار الخارجي وقع تحت استعمار داخلي من قبل مجموعة صغيرة جدّاً من الإقليم الشمالي، الآن المواطن السوداني في هذا القرن الواحد والعشرين يعيش في ظلام دامس ما فيش كهرباء في هذه الأقاليم في الأرياف نهائي في السودان". إن هذا القول ينطوي على فهم مغلوط لمسألة التمركز والتهميش. ونشير بدءً إلى أن الريف السوداني أينما كان، في الشرق، الغرب، الجنوب، الشمال أو الوسط، يعيش في ظلام دامس. إلاّ أن حركة العدل والمساواة لا تذهب إلى هذا بقولها: "... ما فيش كهرباء في هذه الأقاليم في الأرياف نهائي في السودان"، فهي تعني كل الأقاليم إلاّ الشمال، وهي في ذلك إمّا خاطئة أو كاذبة. ولكن هل النوبيون هم الذين استعمروا السودان بعد 1956م؟ هل يمكن للنوبيين الذين هجر معظمهم قراهم بحثاً عن لقمة عيش كريمة في الشتات أن يتحمّلوا فشل أحزاب بعينها، خاصةً الجبهة الإسلامية التي دبّرت وخططت لهذا النظام الذي استقدم إلى دارفور قبائل عربية مطرودة من تشاد لقتل الآمنين وحرق قراهم انحيازاً للعرب وكراهيةً لأهل دارفور بحجة أنهم أفارقة؟ فمتى أنكر النوبيون أنهم أفارقة، والحضارة النوبية أول حضارة أفريقية بحتة، ثم متى ادّعوا العروبة كما ادّعاها د. خليل زاعماً أنهم في دارفور من العرب العاربة؟ الأدهى أن يأتي هذا القول من شخص كان وإلى وقت قريب من منسوبي هذا النظام، ولا يزال ـ وإن أنكر ـ من منسوبي الجبهة كما هو حال أغلب أعضاء العدل والمساواة. إن متعلّمي دارفور ممن سلخوا سنيّ شبابهم في تبعيةٍ عمياء لحركة الترابي يتحملون وزر ما حاق بأهلهم الكرماء الأبرياء على يد هذه الحركة.
أما الفهم المغلوط لمسألة التمركز والتهميش، فيكمن في النظر إليها من إحدى زاويتين: جغرافية أو عرقية؛ وأوغل كفراً من ذلك الجمع بينهما، وهو ما عليه حال حركة العدل والمساواة وتنظيم الجبهة الإسلامية. مرجعنا في هذا سفرهم الموسوم بالكتاب الأسود، وهو ما يشير إليه د. خليل بقوله: "... وقد بدأنا الحوار لم يقتنعوا بالحوار ولم يقتنعوا بوجود مشكلة أصدرنا كتاب أجرينا بحث علمياً دقيقاً جدّاً أسمينا الكتاب اختلال ميزان السلطة والثروة وطرحنا هذا الكتاب للقيادة في السودان ...". فالمركز كما ذكرنا ليس مركزاً جغرافيّاً أو عرقيّاً، بل هو مركز سلطوي؛ والهامش فيما نراه ليس هامشاً جغرافياً أو عرقياً، بل هو هامش سلطوي. إن غالبية الأشخاص الواردة أسماؤهم في هذا الكتاب هم ممن ركب قطار الإسلاموعروبية العاطب، وهم في كل هذا لا يمثّلون الجهات التي أُحيلوا إليها، بل يمثلّون المركز. إن الكتاب الأسود بكل ما يحتوي من معلومات، ينطوي على خلل منهجي قاتل يكمن في تبنّيه للجغرافيا والعرق كأساس لقضايا التمركز والتهميش. فقول د. خليل: "السودان بلد غني ... هذه المجموعة التي تحكم تسيطر على مقاليد الأمور في البلاد فشلت في إدارة هذه الإمكانات وفي توظيف هذه الإمكانات" يصبح فارغ المحتوى طالما أن منهج الكتاب الأسود سيجعلنا نتلمّس هذه المجموعة بين ثنايا العرقيات والمناطق الجغرافية. ففي حال د. خليل نجد أن النوبيين هم هذه المجموعة التي تتحكم في مقاليد الأمور؛ وفي حال د. حسن الترابي نجد أن الشايقية هم هذه المجموعة ... وهكذا دواليك.
يدعم د. خليل إبراهيم هذه التأسيسات والمقدمات بقوله معرّضاً بالحكومة إنها: "... قالت هي حكومة عربية وهذا ليس صحيح لأن الآن العالم العربي يتوهّم أن الحكومة السودانية هي حكومة عربية ليس صحيح العرب الأُصال [الأُصلاء] الآن يتواجدون في دارفور في كردفان في شرق السودان الرشايدة الآن يحملون السلاح ضد الحكومة السودانية ... وفي وسط الجزيرة ...". إذن العرب بما فيهم الرشايدة، وهم أصرح الأقوام عروبةً، يحملون السلاح ضد الحكومة، وأي حكومة؟ نفس الحكومة التي رفعت شعار الإسلام وطبقت الشريعة وانحازت للعرب، وجعلت من العرق العربي عرقاً سامياً مصطفىً لديها لدرجة أن سمحت لبعض شُذّاذ الآفاق ممن يُسمّون بالجنجويد بقتل وحرق وتشريد أهلنا الآمنين بدارفور واغتصاب النساء والفتيات. أنظر كيف خانته الفطنة جرّاء الغرض المريض عن أن يستنتج أن الهامش ليس هامشاً عرقياً كما إنه ليس هامشاً جغرافياً من حقيقة بسيطة يذكرها بنفسه، ألا وهي مشاركة صرحاء العروبة كالرشايدة في حمل السلاح ضد هذه الحكومة. بدلاً عن هذه الرؤية الناهجة، يضلّ د. خليل سواء السبيل فنجده يبحث عن العامل العرقي لغرض في تفسه. فجانباً عن زعمه عروبة الفور والزغاوة والميما والداجو والمساليت إلخ (العرب الأُصال)، فما تُراه قائلاً في الدينكا والنوير والشلك وباقي أهلنا الكرام بالجنوب، فضلاً عن أفارقة جبال النوبة، ممن حملوا السلاح ضد هذه النظام؟ أهُم من عرب قحطان، أم من عرب عدنان يا تُرى؟ أم ليسوا من العرب "الأُصال"؟ فكيف حملوا السلاح إذن؟ إنه يقع في هذا التناقض لسبب بسيط، ألا وهو اتّباعه لمنهج الكتاب الأسود في جعل العرق والجغرافيا مناطاً للتمركز والتهميش. وفي جانبٍ آخر يقع في مغالطة تاريخية عندما يزعم بعروبة الفور والزغاوة والمساليت والميما والداجو والفولاني إلى آخر القائمة من كريم الأعراق الأفريقية بدارفور. فهو نفسه غير مقتنع بما يزعم، وإلاّ ففيم قوله: "... حتى لو سلّمنا جدلاً أن الذين يُقتلون في دارفور هم الزنوج هل الزنوج ليسوا في العالم العربي ...".
وفي خضم نفاقه وتملّقه للعرب يصل د. خليل إبراهيم إلى النقطة التي يسمّي فيها هذه المجموعة التي تتحكم في مقاليد البلاد مدّعيةً أنها من العرب والعرب منها براء: "... ولكن هذه المجموعة مجموعة من المجموعة النوبية ..." ويتواصل مسلسل التناقضات: "... حقيقة العرب الأُصال الآن خارج دائرة الحكم وخارج دائرة الثروة، العرب الأُصال الآن ينزحون [يرزحون] تحت الاستعمار في كل الأقاليم الآن العرب الأُصال الآن على ظهور الجمل وعلى ظهور الثيران مع البهائم رحلة الشتاء والصيف ليس لهم ماء ليس لهم تعليم ليس لهم صحة ...". ثمّ يبلغ به الأمر درجة استجداء صكوك العروبة من مقدّم البرنامج ليقنعه بأنه هو د. خليل إبراهيم الواقف أمامه من العرب العاربة، فيقول عن العرب باكياً مستعطفاً إنهم: "... الآن هم يقودون ثورة وهم يجلسون أمامك [كذا] العرب الأُصال في دارفور ضد هذه الحكومة ولكن العجيب العالم العربي لا يتقصى الحقائق ولا يقترب من الحقائق بس الحكومة هذه استطاعت أن تغشّ العالم العربي يا لا العجب ...". إذن فالذين يُقتلون في دارفور من العرب الأُصلاء، بينما الحكومة التي يسيطر عليها النوبيون الذين ليسوا عرباً هي التي أتت بالعرب الجنجويد لقتل الأبرياء بدارفور من العرب الأُصلاء. كيف يستقيم هذا؟ إن أهل دارفور يستحقّون أفضل من هذا وهم بذلك حقيقون؛ إن آخر ما يحتاجه أهلنا بدارفور مع ما يعانونه من قتل واغتصاب وإبادة، أن تُقتل وتُغتصب الحقيقة وعلى يد واحد من أبنائهم الذين يتصدّون للدفاع عنهم. فهل يُعقل أن نحيل قوله التالي إلى النوبيين باعتبارهم أهل الحكومة: "كانت الحكومة تستغلّ الدين وتستنهض الناس وتستنفر الناس من كل .. من الأقاليم وتدخل بهم الثورة في الجنوب الآن في دارفور الحكومة أعجزت أن تحرك الناس بالدين لجأت إلى وسيلة أخرى هي تحريك العرقيات البغيض من العرائق بين البشر لذلك الحكومة حركت هذه القبائل"؟ كيف يُتّهم النوبيون بأنهم هم الذين أشعلوا فتيل الهوس الديني في البلاد؟ من الذي جيّش أطفال المدارس وطلاب الجامعات تحت مظلة الدفاع الشعبي وزجّ بهم في أتون الحرب في الجنوب؟ الجبهة الإسلامية التي لا زال د. خليل إبراهيم يكنّ لها الولاء وإن أنكر، أم النوبيون؟ وهل نسي د. خليل أنه هو بالذات كان يحمل لقب "أمير المجاهدين" في دارفور؟
أخيراً يبلغ د. خليل إبراهيم درجةً من الاستجداء والخنوع يربأ عنها شعب دارفور وذلك عندما يقول عن أهل دارفور إن ولاءهم للعرب: "... نحن نتكلّم اللغة العربية نحن صرافتنا صرافة عربية [كذا!] قيمنا قيم عربية نحن لا نستطيع أن نغيّر الألوان والأشكال ولكن الثقافة واللسان والولاء للعرب ...". إن من تبلغ به المهانة هذه الدرجة لا يُقبل منه قوله: "... العلاقة بين الحكومة وبين المواطنين ... في السودان هي علاقة العبد والسيّد نحن نعيش هذه العلاقة ونحن نريد أن نكسر هذه العلاقة ...".
لن يكون مقبولاً من جماعة العدل والمساواة التخلّص من تبعة هذه الأقوال الركيكة، وانحجاب الحصافة عن رئيسهم، بردّها إلى قدرة بائسة في استخدام اللغة العربية والتعبير بها. لقد أقبل عامة النوبيين على أحداث دارفور بقلبٍ منفطر، كما أعلنوا تضامنهم مع أهلنا بدارفور. فما من محفل جرت فيه المداولات بشأن دارفور، إلاّ وكان النوبيون هناك مشايعين ومظاهرين ومشاركين. وعندما برزت المجموعتان المتحدّثتان باسم دارفور "العدل والمساواة" و"جيش تحرير السودان"، اتّصل العديد من النوبيين بهما، شارحين لموقفهم المناهض لما يحدث هناك، ومتضامنين في نفس الوقت. إضافةً لذلك شرح النوبيون لإخوتنا بدارفور قضايا التهميش التي تحيق بمناطقهم. لكل هذا لا يجوز لجماعة العدل والمساواة الزعم بأنهم لم يُبلّغوا بالموقف النوبي. فلماذا إذن هذا التجنّي المجّاني على النوبيين من قبل رئيسهم؟ إن قضيّة دارفور لا يمكن أن يخدمها أبداً مثل هذا الموقف المغلوط، ناهيك عمّا فيه من تجنٍّ. ما مصلحة أبناء دارفور في الاستغناء مجّاناً عن دعم أي مجموعة ثقافية مهما صغر شأنها، وهم الذين في أمسّ الحاجة لكافة أشكال الدعم المعنوي والمادي بحكم أنهم يقعون مباشرةً تحت نيران الحرب؟ لكن يبدو أن هذا الاستغناء ليس مجّاناً. فالدكتور خليل إبراهيم كأنما يسعى لتبرئة ذمّة العرب مما يجري بدارفور وذلك لمواجهة حملة التشهير المناوئة للعرب في وسائل الإعلام الغربي. أنظر إلى قوله في خاتمة البرنامج: "... نحن مضطهدون الآن في هذه البلاد ليس من العرب ولكن نحن مضطهدون من زنوج من قبائل ومن أخلاط من البشر ...". وهكذا من المتاجرة في الدين إلى المتاجرة في قضايا البشر الذين يُقتّلون ويُشرّدون ويُغتصبون، فلا ربح البيع.
إن التحلّي بالمصداقية أمر لا مناص منه لأبناء دارفور في أزمتهم هذه. لهذا يصبح من غير المقبول أن يتّبع بعض أبناء دارفور من قادة حركة العدل والمساواة هذا الأسلوب الذي لا يخدم قضيتهم. فدماء أهلنا في دارفور الذين يُقتّلون ويُشرّدون تنادي بعدالةٍ ومساواة ذات مصداقية. إن دارفور تستحقّ منهم أفضل من هذا.
فلنناضل جميعاً من أجل دارفور ومن أجل كل المهمّشين في السودان
في سبيل بناء سودان جديد معافى
مجموعة العمل النوبي بالمملكة المتّحدة
30 نوفمبر 2004