تراجع الإنقاذ، وسيرها في طريق النهاية، يعكس ويشابه الخصائص العامة لبرنامجها الأصلي. وقد كان لبرنامج الإنقاذ، المسمى بالمشروع الحضاري، في سخرية جارحة من المشاريع والحضارات، ثلاث دوائر أساسية: دائرة محلية تتمثل في إخضاع السودان وأهله لقبضتها المحكمة، عن طريق النهب الإقتصادي الذي لا يعرف القواعد أو الحدود، وعن طريق القمع الدموي الذي لا يتوقف عند أية قيمة أخلاقية، أو إنسانية؛ ثم دائرة إقليمية تتمثل في بسط سلطة الجماعات الإسلامية المتطرفة،في كل الدول الإسلامية، بدء بالعربية منها، وفي كل الدول الإفريقية، بدء بالجيران، كما أوضح الدكتور غازي صلاح الدين لوزراء خارجية الإيغاد عام 1994. أما الدائرة الثالثة فهي العالمية، حيث يغزو المشروع الحضاري كل العالم، عن طريق الإرهاب، وتصدير الثورة، وتدشين الألفية، أم أنها المليونية؟، السعيدة لامبراطورية أرضية يحكمها أشياخ فوضتهم العناية الإلهية.
ولم تدخر الإنقاذ وسعا في تدشين حروبها على كل هذه المستويات، وفي نفس الوقت. وإذا تأملنا هذا المشروع بمنطق العقل، لقلنا أن القائمين عليه مجموعة فقدت رشدها، ولكننا إذا قلنا ذلك، وقد قلناه، فإن الرد علينا، من قبلهم، سهل وميسور، وهو أننا لا نفهم في الرياضيات السياسية العليا والدقيقة، التي تجعل فئة قليلة، في بلد فقير، وبإمكانيات قريبة من الصفر نسبيا، تتمكن من هزيمة قوى الإستكبار في كل العالم، بمحض الإرادة والتصميم. وإذا كنا نسخر، وقد سخرنا، من شعارات أن أميركا قد دنا عذابها، فما ذلك إلا لأن بصائرنا، فيما ظنوا وتوهموا، رانت عليها غشاوة تمنعها من رؤية القوى الهائلة، الكوكبية، المتأهبة لنصرة المشروع الحضاري.
على المستوى المحلي، إنتصر المشروع الحضاري، وما كان له أن ينتصر، بالمكر الثعلبي الذي يحمل بعض اصحابه إلى الأسر ويحمل الآخرين إلى القصر، وبالغفلة المفضية بأهلها إلى الإنتحار السياسي، من قبل حكام تلك الفترة، ومعارضيهم على السواء. وانتصر بإخلاء الساحة الإقتصادية من الرأسمالية العريقة، ومصادرة الثروات العامة والخاصة إنتصارا لمفهوم دولة الغنائم والجبايات، دولة الطفيلية المصاصة للدماء، والتي وصل عنفها ضد من جمعوا أموالهم وفق قواعد النشاط التجاري المحترمة، والمعترف بها، إلى درجة القتل والتصفية الجسدية، لحيازتهم قدرا قليلا من الدولارات. كما أخلت الساحة الفكرية والثقافية، من خيرة ممثليها، بكل ألوان طيفهم، لتفسح المجال، لصوت واحد مشروخ، يدعي احتكار الحقيقة ومعرفة الأسرار، ويعتقد أن الخطاب الإنساني إن لم يعتمد لغة العنف والإقصاء، والحرب والدمار، لا يكون جديرا باسم الخطاب..
إنتصرت الإنقاذ على المستوى المحلي، ولكنها هزمت هزيمة فادحة على المستوى الإقليمي نتيجة لأعمالها الإرهابية التي توجتها بمحاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك عام 1995، كما هزمت هزيمة لا تقل فداحة على المستوى العالمي، نتيجة لأعمالها الإرهابية التي تمثلت في محاولة تفجير مبنى التجارة الدولي عام 1993، ومحاولة تفجير مبنى الأمم المتحدة في نفس العام، وأنتهت المهزلة بأحداث 11 سبتمبر 2001، عندما ووجهت السلطة العابثة بنتائج أعمالها، وبإيوائها لأسامة بن لادن وحركته الإرهابية، فخضعت خضوعا منكرا، وسجدت سجودا لا يصاحبه السهو، لقوى الإستكبار التي كان قد دنا عذابها، ولكن بالمعنى الصحيح للشعار، أي العذاب الذي توقعه هي على الإنقاذ وليس العكس.
وإذا كانت الهزيمتان على المستويين الإقليمي والدولي كاملتين ، فإن الأنقاذ بتوقيعها على أتفاقيات نيفاشا لإقتسام السلطة والثروة، وتقرير المصير، وإعطاء وضعية مميزة للمناطق المهمشة الثلاث، قد منيت بنصف هزيمة. وإذا أعطينا نسبا لهذه الدوائر الثلاث، من حيث أثرها على سقوط الإنقاذ كنظام: ولنقل 10% للدائرة العالمية، و15% للدائرة الإقليمية، و75% للدائرة الوطنية المحلية، فإن المشروع الكلي للإنقاذ يكون قد خسر بالنقاط. ومع أن هذه النسب اعتباطية إلا أن أي تعديل لها سيؤدي إلى نفس النتيجة. ولكن ذاكرة الإنقاذيين القصيرة، وهوائية شعاراتهم، تسعفهم هنا أيضا، إذ أن خطاباتهم الحالية توحي بأنهم ربما نسوا كليا، الأبعاد الأصلية لمشروعهم. فليس منهم من يتحدث الآن عن بناء الإمبراطورية الأصولية الشاملة، وحتى عندما تحرك أخيلة الأندلس ألسنة بعضهم، حلما وتمنيا وسلوى، فإنهم سرعان ما يسحبون تصريحاتهم. صار هم الإنقاذيين، بكل مجموعاتهم، هو هم الضبعة التي انفردت بالطريدة، ولا تريد أن يشاركها أحد في التهامها. ومع أن الهم مشترك بينهم جميعا، فإنهم يدافعون عنه بطرق وأساليب غاية في التباين. فمنهم من يقبل إتفاقات نيفاشا، مع محاولة جعلها التنازل الأخير الذي تقدمه الإنقاذ، ومنهم من يريد أن يقدم تنازلات أخرى طفيفة، لتوحيد الشمال ضد الجنوب والمهمشين، أقاليم وفئات، ومنهم من يمنى النفس بالبقاء عن طريق صفقة مع الحركة الشعبية تزور فيها الإنتخابات ويقهر فيها الخصوم، ومنهم من يتبنى موقفا أكثر جذرية فينادي بفصل الجنوب نفسه، باعتباره مصدر الهزيمة الداخلية للإنقاذ.
سأتناول هنا مواقف الداعين إلى انفصال الجنوب وعلى راسهم الناطق باسمهم السيد الطيب مصطفى، الذي كان وما يزال، أحد المشرفين على إعلام الإنقاذ وخطابها، والذي يستمد أهميته من موقعه ذاك، ومن علاقاته المباشرة بقمة السلطة. وأول ما لفت إنتباهي في طروحات السيد الطيب مصطفى، هو أنه بينما كان مع أخوته، يستخدم خطابا دينيا في ضرورة تعريب الجنوب وأسلمته، وإخضاعه عسكريا وسياسيا، وكسب أرضه "للإسلام" ، ويتبنى لغة دينية في وصف مآلات موتاه من الإسلاميين، الذين يسميهم الشهداء، فإنه يستخدم لغة علمانية صرفة في الدعوة إلى فصل الجنوب! وقد جاء "المنفستو" الذي نشره في يناير الماضي، داعيا فيه إلى فصل الجنوب، خاليا كليا من الإعتبارات الدينية. وليس ثمة إيحاء هنا، بأن السيد الطيب مصطفى قد تخلى عن خطابه الديني الأصولي، إذ سرعان ما يعود إليه عندما يصطدم بمعارضين لمشروعه، ولكن الإشارة تتعلق بإخضاعه الخطاب الديني للآخر العلماني، إذا أقتضت أغراضه الآنية ذلك، مثبتا أن " فقه الضرورة" لا تحده الحدود ولا تقف أمامه الحواجز بما في ذلك الدينية منها.
ويمكن تلخيص حجج الطيب مصطفى، ودون التورط معه في مكرور القول، في حجج قليلة هي التالية:
* نحن نحتاج إلى نهج جديد في التعامل مع قضية الجنوب، يجعلنا " نتجاوز العصبيات الصغيرة سواء كانت فكرية أو جهوية في سبيل الخروج من نفق الأزمة إلى بر الأمان."
* الجنوب هو السبب في تخلف الشمال، وذلك للخسائر البشرية والإقتصادية والإجتماعية والسياسية التي نجمت عن حرب نصف القرن. ولولا حرب الجنوب لكان الشمال حاليا في وضع متفرد، على الأقل إفريقيا، من حيث نموه وتقدمه، لان كل الأموال والمقدرات التي اهدرت في الحرب كان يمكن أن تنصرف إلى التنمية.
* ليست هناك أية مقومات للوحدة بيننا وبين الجنوبيين وذلك لاختلاف " العرق والدين واللغة والعادات والتقاليد والوجدان والمشاعر المشتركة". وربما لوعي الجنوبيين أنفسهم بهذه الإختلافات فإنهم يسعون عمليا إلى الإنفصال رغم كل ما يردده زعماؤهم، من باب المكر والتكتيك، عن إيمانهم بوحدة البلاد. ويشهد على ذلك لقاء الأخ عبد العزيز الحلو بولاية أريزونا مع فرع الحركة الشعبية هناك، والذي دعت فيه مقاتلة من الجيش الشعبي، إلى طردالعرب من الجنوب. وقال فيه عبد العزيز الحلو، أن المحال التجارية والبارات لم يعد يملكها الجلابة او الإغريق بل يملكها تجار من المنطقة.
* بناء على تلك الحيثيات يدعو الطيب مصطفى إلى فصل الشمال عن الجنوب، وينادي بالإسراع في ذلك، لأن من الحكمة بتر العضو المصاب بالسرطان من الجسم، بدلا من تركه يعدي كل الجسم، ويؤدي إلى الفتك به في نهاية المطاف. وعلينا أن نتحلى هنا بحزم الجراحين، فلا نتردد في بتر الجزء المريض، حتى إذا كان بتره يؤدي بالضرورة إلى بتر أجزاء أخرى، وذلك عملا بنفس مبدأ التضحية بالجزء في سبيل الكل. أي أن احتمالات إنفصال جبال النوبة، على سبيل المثال، والمصير المجهول للمسلمين في الجنوب، يجب ألا يثنينا عن منهجنا في الجراحة القاسية. بل علينا أن نسرع بالإنفصال: " إنقاذا لمستقبل أجيالنا الجديدة وتكفيرا عن جريمة كبرى ارتكبناها في حق وطننا وأهلينا."
وسأحاول في هذا المقال أن أتعرض لحجج السيد الطيب مصطفى وتوضيح أنها بما تظهره وتبطنه، تعبر عن الإنهيار الذاتي للمشروع الحضاري، في دائرته الثالثة، والأخيرة، وهو عرض لا تخطئه العين، للهزيمة الكلية التي تنتظره.
يقول السيد الطيب مصطفى أننا في حاجة إلى نهج جديد، في التعامل مع الجنوب، وتصل به الصراحة إلى القول بأن علينا أن" نتجاوز العصبيات الصغيرة سواء كانت فكرية أو جهوية في سبيل الخروج من نفق الأزمة إلى بر الأمان." وعندما يتحدث السيد الطيب مصطفى عن "عصبيات فكرية" فإنه يقصد أولا وأساسا، الفكر الذي قاد إلى إشعال الحرب في الجنوب بغرض اسلمته وتعريبه. وهو جوهر منهج المشروع الحضاري نحو الجنوب. وحينما يدعو إلى ذلك فإنما يدعو بصريح العبارة، ودون لف أو دوران، للتنازل عما ظلت الإنقاذ تصرخ من جميع أبواقها، وبأفواه كل دعاتها، بأنه واجب ديني لا يمكن التنازل عنه حتى إذا اجتمع على رفضه الثقلان. وعبأت الإنقاذ كل موارد البلاد، وجيشت الآلاف المؤلفة من زهرة شباب السودان، شمالا وغربا وجنوبا وشرقا ووسطا، لتحقيق ما أسمته واجبا دينيا مقدسا. بل أدرجت في حربها تلك من أجل نشر"الإسلام"، ليس الملائكة وحدهم، بل القرود والأشجار. ولم يبخل السيد الطيب مصطفى على هذه الحرب،بوسائل إعلامه وساحات فدائه، بل لم يبخل عليها حتى بفلذات كبده الأربعة، والذين توفي منهم أحبهم إليه. مما يوضح مدى إيمانه بتلك الفكرة، ومدى استعداده للتضحية من أجلها، كما يوضح في نفس الوقت، والحق أحق أن يقال، درجة من الإتساق الفكري، وتلازم القول والعمل، لم تتوفر للكثيرين من أخوته. مشكلة الطيب هي أن الموقف الفكري، المتمثل في التفسير الأصولي، الحرفي، للإسلام، والذي أعطاه كل شيء، وجاد له بأعز ما يملك، كان فكرا خاطئا، وعدوانيا، مجانبا لمقتضيات الرشد، ومتنكبا لطريق الوطنية ومصلحة الوطن. إن أي مشروع يعبيئ شباب أمة ما، ليس من أجل التنمية والخير والنماء، والإحتفال بالحياة والإقبال عليها، وإنما لقتل أخوة آخرين في الوطن، أو حملهم قسرا على الإيمان بأفكار يراها ولا يرونها، وتمجيد الموت والفناء، في غير معترك، لا يمكن أن يكون فكرا رشيدا. ولن تكون نتيجته سوى هذه المرارة الطاغية والمسمومة التي يعبر عنها السيد الطيب مصطفى في كل حرف يكتبه. ولا يرجى من الثاكلين والثاكلات إتزانا، إلا بعد لأي وحزم كبير وصبر جميل.
نحن فعلا في حاجة إلى منهج جديد نحو الجنوب، ومنهج جديد نحو الوطن، ومنهج جديد نحو السياسة. وإذا كان السيد الطيب مصطفى قد طوح من قبل، إلى جانب الإخضاع والقهر وفرض الصغار (بفتح الصاد) على الآخرين، فإنه بدعوته لانفصال الجنوب، وعدم مبالاته بانفصال أجزاء أخرى، إنما يطوح، في رد فعل نفسي قاهر، إلى الجهة المعاكسة تماما، ويدعو إلى تقليص الوطن، ليناسب قدرته هو ، وقدرة الإنقاذ على التحكم والسيطرة.
هذا المنهج الجديد، الذي تحتاجه بلادنا، أرسيت قواعده في نيفاشا، حيث طرحت القضايا الحقيقية التي تهم الشعب، وهي الديمقراطية، وإقتسام السلطة، والثروة، وإعطاء الناس حقهم في تقرير مصيرهم، واتخاذ القرارات المحددة لحيواتهم، بواسطتهم هم أنفسهم، وعلى أدنى المستويات إليهم. ورؤية نيفاشا ليست رؤية إنقاذية، إنها رؤية معاكسة لتوجهات الإنقاذ ومفروضة عليها، ليس من قبل المجتمع الدولي وحده، وإنما بواقع البسالة الاسطورية التي حاربت بها الحركة الشعبية، محاولات قهر شعبها وإذلاله وإبادته، على يدي دعاة المشروع الحضاري. وربما تحاول الإنقاذ حاليا، ومن خلال خلق منافذ جانبية، تنكرها عندما تشتد الضغوط، مثل دعوة الإنفصال، إلى تجريب بعض الحيل التي ربما تعينها على التنصل عن بعض ما التزمت به ولكن هيهات.
ولا يتورع الأستاذ الطيب مصطفى عن قلب الحقائق بصورة كلية، عندما يقول أن الجنوب هو سبب تأخر الشمال، لأن المقدرات البشرية والإقتصادية التي ضاعت هدرا في الحرب ضد الجنوب، كان يمكن أن تسخر لتنمية الشمال. صحيح بالطبع أن ضياع المقدرات والموارد كان يمكن، مع تغييرات أخرى جوهرية، أن تؤدي إلى تنمية الشمال والجنوب كليهما، إذا لم تقم تلك الحرب اللعينة. ولكن هل سعى الجنوب إلى إشعال تلك الحرب؟ هل استجدى الجنوب الإنقاذيين ليمطروه بالقنابل، ويرسلوا إليه الدبابين، والمهووسين والمأجورين لحرق الأخضر واليابس وقتل الأعزل والبريئ؟ هل كان الجنوب يستصرخ الرساليين ليهدوه إلى جادة الحق والصواب؟
لا تتحججوا بتمرد أغسطس 1955، فتلك حادثة إجرامية ومؤسفة، جرت فيها التحقيقات وحوكم فيها البعض، ولقوا جزاءهم. وكان يمكن لحكومة مسئولة أن تتخذها عبرة تستقي منها الدروس، وتحاول رفع الحيف التاريخي الذي ألم بشعب الجنوب، وبناء جسور الثقة بين الإخوة في الوطن، ورتق النسيج الوطني بما يؤلف الناس ويوحد أهدافهم. وما يزال السودان في انتظار مثل أولئك الحكام، وربما تكون نيفاشا قد وضعت أقدامه بصورة نتمنى لها الرسوخ، على هذا الطريق.
شعار أن حرب الجنوب هي السبب في تخلف الشمال، كلمة حق أريد بها باطل، كما قال على بن أبي طالب. وباطلها هو أن الحرب دمرت الجنوب واضرت به وآذته بأكثر من عشرات المرات مما فعلت ذلك بالشمال، وباطلها أن بعض المهووسين أرادوا عن طريقها فرض رؤاهم القاصرة على كل الوطن، وتشكيله على صور ذهنية كونوها في مرحلة المراهقة الفكرية والعمرية، ولا يريدون التنازل عنها، للمكاسب الدنيوية البحتة التي عادت عليهم عن طريقها، وباطلها أنها يمكن أن تتجاهل موت أكثر من مليونين من أهل الجنوب، شيوخا ونساء وأطفالا، لتتحدث عن ظلم الجنوب للشمال.
يقول الطيب مصطفى أنه لا توجد مقومات لتوحيد الجنوب والشمال، لاختلافات العرق والدين واللغة والعادات والتقاليد والوجدان والمشاعر المشتركة. وهب أن عبارته هذه صحيجة بصورة كاملة، وهي ليست كذلك كما سنوضح، فهل يمنع هذا من عيشنا معا؟ لا أعتقد ذلك، لأن قيام الحقوق على أساس المواطنة، والديمقراطية، وضمان المساواة، والعدالة، وتكافؤ الفرص، وحكم القانون والمساواة أمامه و في حماه،،و توفر الخدمات، وحماية الكرامة الإنسانية، ومحاربة التمييز والعنصرية والإستعلاء العرقي والديني، كفيلة باقناع الناس المختلفين بالعيش في كينونة جامعة لأن مصالحهم تقتضي ذلك، وليست مصالحهم سوى حقوقهم نفسها.
ولكن ، ولحسن الحظ، فإن عبارة السيد الطيب مصطفى ليست صحيحة. وهو نفسه يشهد بذلك. فقد قال هنا أن هناك اختلاف في الأعراق، ووضعه كعائق أمام الوحدة. ولكنه يقول في مقاله ذاته أن الزنوجة تجري في دمه ودماء أبنائه. وهذا قول عظيم، يوضح أن الطيب مصطفى قادر إذا أراد، أن ينطق بالحق وينشره بين الناس. فالزنوجة تجري في دمائنا جميعا، أنكرنا ذلك أم أقررناه. الزنوجة تجري في دمائنا جميعا، بصورة لا نستطيع أن نخفيها عن الناس، حتى ولو توهمنا أننا يمكن أن نخفيها عن أنفسنا. وقد صحا السودانيون صحوا مزلزلا على تلك الحقيقة في أقطار الشتات، عندما رفض العالم تمييزهم على أساس الشمال والجنوب، أو الغرب والشرق، ورأى فيهم شعبا واحدا، بينه تمايزات طفيفة في الألوان والقسمات، تكاد لا تراها العين الأجنبية، ولا تخرج عما ألفه هؤلاء الأجانب من أختلافات من هذا النوع بين شعوبهم نفسها. رفض العالم المتخلف حضاريا ان يميز بينهم معتبرا إياهم متساوين كليا في العبودية، ورفض العالم المتحضر أن يقبل أن سواد بعضهم مختلف عن سواد الآخرين، وتصرف أفضل ممثليه على أساس أن اللون لا يمكن أن يستخدم لسلب الكرامة الإنسانية، أو الإنتقاص من الحقوق.
وحدة الأعراق، إذن، وليس اختلافها، هي الواقع الحقيقي للاغلبية الساحقة من أهل السودان. وقد آن الأوان للاعتراف بهذه الحقيقة التي هربنا منها كثيرا، وطاردتنا مطاردة النعمان للنابغة:
وإنك كالليل الذي هو مدركي وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
وقد طالبت زعماءنا السياسيين، الذين " فلقونا" بأنسابهم الشريفة، أن يثوبوا إلى الحق، ويخرجوا لنا أشجار أنسابهم الإفريقية، ففي ذلك رتق لجروح غائرة حفروها في الجسد السوداني بالغرور والإستعلاء والأكاذيب.
ولان السيد الطيب مصطفى لا يستطيع أن يأكل تمره ويحتفظ به، في نفس الوقت، فإنه لا يمكن أن يقول أن الزنوجة تجري في دمه ودماء أبنائه ويتحدث في نفس الوقت عن اختلاف الأعراق. أما اختلاف الدين، فتلك حجة لا تصمد أمام الفحص الدقيق. ودعوني أشير هنا إلى نقطة ذكرتها في بداية هذا المقال، حول علوية نوع معين من الخطاب العلماني، سأبين أنه ليس صحيحا، على أي خطاب آخر في دعوة السيد الطيب مصطفى للإنفصال. فبحسب المشروع الحضاري فإن اختلاف الدين ، يدعو إلى الجهاد، وإلى توحيد الدين، ليكون كله لله، عن طريق السيف وغير السيف. ولكنه هنا، وفي مفارقة أخرى لذلك المشروع، الذي بانت شروخه الداخلية العميقة، يقول أن اختلاف الدين مدعاة للإنفصال.
اختلاف الدين ليس مدعاة للإنفصال، لأن قيام الحقوق على أساس المواطنة يعني مساواة الناس في المجالات التي ذكرتها، وفي غيرها مما لم أذكر، بصرف النظر عن أديانهم. وإذا نظرنا إلى خارطة العالم اليوم، وطبقنا قاعدة أن أختلاف الدين يبرر تفكيك الأوطان، لما أبقينا إلا على أربع أو خمس نظم، في كل العالم، يمكن أن تستوفي شرط وحدة الدين. وقد تخطت البشرية، ومنظماتها، ومشاريعها لحقوق الإنسان، ذلك الوعي البدائي الذي يجعل وحدة الدين شرطا لوحدة الأوطان. ووصلت البشرية إلى ذلك من خلال ويلات وحروبات وخسائر لا يحصيها العد. وهذه في الحقيقة هي حجة العلمانية القاهرة في التمييز بين السياسي والديني، لمصلحتهما كليهما، ولمصلحة الإنسانية كلها، وشرط بقائها على هذا الكوكب. والعلمانية لا مهرب منها ولا مفر، لأنها حركة مجتمعات من أجل التحكم في مصائرها، بعيدا عن الأوصياء الأرضيين والسماويين، ولن ترد الإنسانية عن ذلك مواقف بعض الناطقين عن الهوى، والمتشبثين بأهداب الماضي البعيد.
ومع ذلك فإن القول بأن هناك اختلافات دينية مطلقة بين الشمال والجنوب، لا يسنده الواقع. ومن المفارقات العجيبة، ألا ينتبه السيد مصطفى إلى حجم المسلمين الجنوبيين، ولا يتعامل معهم إلا كلاجئين، في جمهورية الشمال التي تريد ضبعة الإنقاذ أن تنفرد بها كليا.
وربما يكون موقفه ذاك ناتجا عن يأس شديد، من واقع تجربة الإنقاذ في نشر الإسلام في جنوب السودان. وإذا أخذنا ما أورده المؤرخ دوغلاس جونسون، في كتابه عن الأسباب العميقة لحروب السودان الأهلية، فإن الإنقاذيين كانوا مبشرين ممتازين بالمسيحية في الجنوب، لأن عدد الذين اعتنقوا المسيحية في الجنوب خلال عقد واحد من حكمهم، يفوق عدد الذين اعتنقوا ذلك الدين في كل الحقبة الإستعمارية بكل مؤسساتها الكنسية المتعددة، والكبيرة الإمكانيات، والطويلة المكث.
وفي تطور معاكس، وبالغ الدلالة على خطل توجهات الإنقاذ، وعلى المستوى الثقافي ككل، فإن الحركة الشعبية لتحرير السودان، قد ساهمت مساهمة ضخمة في نشر اللغة العربية، باعتمادها لغة رسمية للخطاب بين جنودها ومؤسساتها، وهي المتهمة بمعاداة الإسلام واللغة العربية. وقد أبان الدكتور منصور خالد، في أكثر من واحد من مؤلفاته القيمة، كيف تصرفت الحركة الشعبية في هذه القضية، بأفق واسع، وروح وطنية عميقة، على عكس متهميها الذين لا يجيدون إلا التضليل. وما تهجمات الطيب مصطفى، على منصور خالد، بما تنطوي عليه من العنف اللفظي، والتصغير، والتي هي عينة معبرة عن خطاب الإسلاميين الأصوليين الذين يضلون طريقهم دائما إلى المجادلة الحسنة، ما تلك التهجمات سوى ضيق بمثل هذه الحقائق الجارحة التي يعبر عنها الدكتور منصور خالد.
بعبارة أخرى فإن إيراد اختلاف اللغة كداع من دواعي الإنفصال، يعبر هو الآخر عن تجاهل مسبق، من أدعياء الحدب على العربية، لعملية تحدث أمام أعيننا تتمدد فيها اللغة العربية، لتصبح بالفعل لغة التخاطب المشترك في كل أنحاء هذه الوطن. أما العادات والتقاليد، فبصرف النظر عن تشابهها الصاعق للعين البصيرة، فإنه ليس سببا للإنفصال، بل هو مصدر للغنى ودعوة للتفاعل، ومستودع للنهوض الثقافي المتعدد الوجوه. وإذا تحدثنا عن المشاعر المشتركة فإنها تنشأ من خلال التجارب والمشاريع الوطنية التي يمكن أن يجمع أهل البلاد على إعطائها تفسيرا واحدا وإيجابيا: مثل التنمية، وإنتشار المدارس، والمستشفيات، وامتداد الطرق، وزيادة الدخول، وتوفر العمل، ونظافة الإنتخابات وعدالتها، وتولي الناس من جميع الأقاليم للوظائف الوطنية الكبرى لاعتبارات الكفاءة وحدها، وعلوية القانون على تمايزات الأفراد، كما توحد المشاعر كذلك بالنهضة العلمية، والثقافية، والأدبية، وتفجير ينابيع الفرح الشعبي والترفيه، وتسوية ميادين المنافسة الشريفة في كل أنواع الرياضيات، وفتح المجال أمام ظهور رموز وطنية موحدة، رول موديلز، في كل مجالات الحياة، ومن كل قوميات السودان. وليس غريبا أن تكون مثل هذه الرؤية غريبة كليا على أهل الإنقاذ، لأن ضخامة أنواتهم لا تسمح لخيالهم بالإنطلاق. ولأنهم كونوا مفاهيمهم الأولى عندما كانوا مسجونين في قفص الندرة الحديدي، الذي يولد الشراهة المفترسة والمتوحشة، وما يصاحبها من عواطف الكراهية والرغبة في الإقصاء .
الأسباب التي يوردها السيد الطيب مصطفى تحت باب الإختلافات، والتي يسوقها كدواع للإنفصال، أوهى في الحقيقة من خيوط العنكبوت، وهذا ما يحمله على مطاردة الهنات والأخطاء، ليثبت أن الحركة الشعبية، وليس هو ومنبره، هي التي تدعو إلى الإنفصال. ومن هنا أورد ما ذكرته تلك المقاتلة المجهولة في الجيش الشعبي، حول طرد العرب من الجنوب وبعض مناطق الشمال. وليس من شك أن عبارة تلك "المقاتلة"، هي عبارة خاطئة كليا، ولكنها لا تعبر في حقيقة الأمر عن الرأي الرسمي للحركة الشعبية لتحرير السودان، كما يعرف ذلك الطيب مصطفى دون ريب.
موقف الحركة الشعبية تعبر عنه بروتوكولات نيفاشا، وبروتوكول مشاكوس الإطاري، وهي بروتوكولات تغلب الخيار الوحدوي، وتضعه فوق كل الخيارات الأخرى، ولكنها تشير في نفس الوقت إلى ضرورة جعل الوحدة خيارا جذابا لأهل الجنوب ولكل أهل الأقاليم والمناطق والفئات المهمشة. وأضيف من جانبي إلى ضرورة جعل الوحدة جذابة لأهل الشمال أنفسهم، وتوضيح أن مصلحتهم تتمثل في إعادة صياغة المعادلات السياسية والثقافية التي قام عليها السودان المعاصر، بما فيها من اختلالات عميقة، جعلت فئة قليلة من الطفيليين العتاة، المنقادين لشهواتهم الضخمة وشهيتهم غير المحدودة للتملك والملذات، تستأثر بثروات البلاد وتدفع الملايين في الشمال إلى العيش تحت سقف الفقر والإملاق. ولا تكون الوحدة جذابة إلى على أنقاض الإنقاذ وإلحاق هزيمة كاملة بها عن طريق صناديق الإقتراع، وعن طريق تمسك المهمشين بقضاياهم والدفاع عنها بكل مرتخص وغال.
ولم ترد عبارة جعل الوحدة خيارا جذابا، إلا لأن أهل الجنوب لن يقبلوا الوحدة، بأية حال، إذا استمر النهج القديم، نهج الإنقاذ، كصيغة وحيدة للتعامل معهم من قبل الشماليين. ولا يكفي هنا أن يقول الشماليون أن الإنقاذ لا تمثلنا، بل هم مطالبون بأن يطرحوا بصورة إيجابية مثالا آخر للتعامل بين الشمال والجنوب. وهم مدعوون إلى ذلك بكل تنظيماتهم السياسية والاهلية ومنظمات مجتمعهم المدني. وعليهم أن يبدأوا في ذلك اليوم قبل الغد. وأن يكشفوا عن هذه الروح الجديدة في التعامل مع ملايين الجنوبيين الذين يعيشون الآن في الشمال. ولا ننسى أن الشباب، باستعدادهم الخير لقبول التوجهات الجديدة والتعبير عنها، يمكنهم أن يلعبوا دورا رائدا في هذا المجال.
ليس سرا كذلك أن قيادة الحركة الشعبية نفسها، يمكن أن تختار الإنفصال، إذا استمرت المعادلات والعقليات القديمة، عقليات الإستعلاء والإقصاء والتحقير والقمع، على ما كانت عليه قبل التوقيع على اتفاقات نيفاشا. وهذا هو جوهر ما عبر عنه عبد العزيز الحلو، في تلك الندوة بأريزونا التي أوردها الطيب مصطفى كدليل على حقد الحركة الشعبية وعنصريتها. ربما نجد ما نحتج عليه في خطبة الأخ عبد العزيز، من حيث استخدامه لتعميمات مثل الجلابة، التي يمكن أن يفهم منها البعض كل أهل الشمال، كما حاول الطيب مصطفى ان يثبـت، وربما ننبه عبد العزيز إلى ضرورة استخدام لغة ومصطلحات دقيقة عندما يتحد\ث عن هذه القضايا المعقدة، وأن يقاوم النزعة الشعبوية، ليطرح موقف الحركة الشعبية الواضح، وهو أنها تدعو إلى الوحدة كخيار مقدم، إذا حدثت التغييرات المحددة التي تعبر عنها بمصطلح السودان الجديد. ولكننا لا يمكن أن نقبل ما حاول أن يوحي به الطيب مصطفى حول أن الخطاب لم يكن سوى نفث حار للأحقاد العنصرية. فهو عندما يتحدث عن سيطرة الحركة الشعبية على الجنوب وبعض الأقاليم، وحول إقامة علاقات سياسية مع الأحزاب السياسية في الشمال، وحول محلية التجارة في تلك الأقاليم، وعدم حيازة الجلابة هناك على البارات والمحلات، إنما يعبر عن واقع ماثل أمام عينيه، وهو واقع التحرير. وإذا كان في فقه الضرورة ما يسمح للجلابة بامتلاك البارات في المناطق المحررة، فلا أعتقد ان الأخ عبد العزيز سيمانع في ذلك! كما يعبر كذلك عن أمان مشروعة للمهمشين في أن يصيروا أطباء ومهندسين، مثلهم مثل الطيب مصطفى، وأن يسكنوا الصافية أو المنشية، بناء على كدحهم وتفوقهم وليس عن طريق النهب والجباية. وهو أمر كان على عبد العزيز أن يكون صارما في توضيحه، لمقاومة التوجهات والنزعات الشعبوية، التي يمكن أن تكون تدشينا لطفيلية جديدة.
وبما أعرفه شخصيا عن عبد العزيز الحلو، فإنني أستطيع أن أقول أنه، على الأقل، أكثر وحدوية من الطيب مصطفى. ولذلك فإن إيراد خطابه في سياق التبرير للإنفصال ، محاولة غير موفقة. ومن النقاط الهامة التي أريد أن أنبه لها قادة الحركة الشعبية هنا، أن يحذوا حذو الدكتور قرنق نفسه، في الرد على التهجمات، سواء على الحركة ككل، أو على مواقفهم الشخصية. وقد توقعت من عبد العزيز الحلو، أن يتصدى لما قيل عنه ويفنده أمام الناس جميعا. وهو أمر يقوم به على خير وجه بعضهم، من سياسي السودان الجديد، مثل باقان أموم وياسر عرمان. ولكن الحركة تحتاج إلى النزول بكل ثقلها إلى معركة كسب العقول والقلوب الدائرة الآن شمالا وجنوبا، وتحتاج إلى كل كوادرها المقتدرة، وهي ليست بالقليلة.
وبناء على نقاطه السابقة، والتي أوضحنا تهافتها، يدعو الطيب مصطفى إلى فصل الجنوب عن الشمال، ويورد حجة طبية، هي أن الحكمة تقتضي بتر العضو المصاب بالسرطان حتى لا يعدي بقية الجسم. ولا أريد أن أدخل في حجاج مع السيد الطيب مصطفى حول أن هذا ربما لا يكون الخيار الوحيد. ولكني أجيب عليه بسؤالين: هل أصيب الجسم السوداني، بسرطان بالجنوب، أم بسرطان بالإنقاذ؟ وهل الأسهل بتر الجنوب أم بتر الإنقاذ؟
حول هاذين السؤالين يدور الصراع الآن.
ظللت أعتقد طوال السنوات الماضية أن هولاكو المغولي، يحكم السودان منذ الثلاثين من يونيو 1989، حتى قرأت مقال الطيب مصطفى الذي يحذر فيه من هولاكو آخر في طريقه إلى الخرطوم. وقد كنت صبورا فسمعت وقرأت حجج الطيب مصطفى حتى نهايتها، وتأكد لي تماما أن ما ظللت اعتقده طوال تلك السنين، كان صائبا وصحيحا، وأن تحذيرات الطيب مصطفى لا هدف لها سوى إعطاء هولاكو العجوز فرصا أخرى للحياة. وهذا ما سأوضحه في مقالة لاحقة.
الخاتم عدلان