تحليلات اخبارية من السودان
أراء و مقالات
ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام

تأملات وخواطر فى تاريخ دارفور القديم بقلم د. حسين آدم الحاج

سودانيزاونلاين.كوم
sudaneseonline.com
16/12/2005 9:29 ص


[email protected]د. حسين آدم الحاج

تقديم:

المعلومات المتوفرة عن تاريخ دارفور القديم، وأوضاع السلطنات والقبائل المختلفة التى سادتها، تعتمد بالأساس على الروايات الشفاهيّة التى تناقلها أهل البلاد جيلاً بعد جيل، معتمدة على الذاكرة فقط وأقاصيص التراث وقليل من كتابات المؤرخين المتأخرين، وهى مصادر تكتنفها الغموض كثيراً بل والتناقض أحياناَ أخرى. غير أنً الدارس المتفحّص لتاريخ دارفور إجمالاً يكتشف بسهولة أنّ هناك الكثير عن تاريخ هذا الإقليم فى إنتظار الكشف عنه، ونفض غبار الزمان من ناحيّة، ودحض التجاهل المتعمد تجاهه، وهو الأهّم، من ناحيّة أخرى. وإنّ تمّ ذلك فقد يصاحبه أيضاً تفاسير جليًة ومؤكّدة لكثير من الأحداث والمواقف ليس على مستوى دارفور فحسب وإنّما يمتد ذلك ليشمل الدولة السودانيّة ومحيطها من العوالم الأفريقيّة والعربيّة والإسلاميّة وكذلك العالميّة.

الهدف من هذه الدراسة هو مراجعة ما ظلّ معلوماً عنه، ومعمولاً به، بل ومتداول عن تاريخ دارفور القديم، وذلك من خلال إعادة قراءته قراءة متأنية مقارِنة، أى مقارِنةً بسياق المراحل التاريخيّة للسلطنات والممالك التى حكمت دارفور نفسها وما جاورتها من ممالك، إضافة إلى الأحداث التى ضجت بتلك المناطق خلال تطوراتها الزمنيّة المختلفة، وملاحظة حركة القبائل التى قطنتها عبر بواكير تاريخها، وهى الأهّم، ومن ثمّ إستكناه التحولات التى أدت إلى نشؤ السلطنات، وما تبعها من تطور إدارى وحكمى، حتى إستقر على نظام ثابت تقريباً للحكم فى الألف سنّة الأخيرة، متمثلة فى السلطنات من ناحيّة وتطور الإدارة الأهليّة بهدؤ من ناحيّة أخرى. ولعلّ القراءة الهادئة والواعيّة من خلال كل ذلك قد توفر مداخل ناقدة لما هو معلوم من تاريخ، بجانب أنّها قد تفتح نوافذ داحضة لبعض المعلومات التى تحوّلت، بفعل عدم البحث والتقصى، إلى شبه حقائق يلوكها المؤرخون والعوام على السواء كحقائق مسلّم بها. لكنّنا نود عبر إثارة مثل هذه النقاشات أن نفتح بعض النوافذ مشرعة لسبر آفاق كل ذلك بطرق علميّة منهجيّة ندعو إليها المهتمين بأمور التاريخ والثقافات الشعبيّة بدارفور وطلاب الدراسات العليا للتصدى لها، كمجالات مرغوب فيها بشدة، خاصة وأنّ قضايا التاريخ والهويّة السودانيّة ما زالتا تنتظران إعادة قراءات عميقة، ولملمة أشتات مبعثرة، وجمع صور متقطعة، لعكس الصورة الحقيقيّة للوطن.

لقد بدأت فى كتابة هذه التأملات قبل أكثر من عام لكن شغلتنى عنها ظروف العمل والترحال وها قد وجدت الفينة المناسبة لأدفع بها إلى هذا الموقع الجميل. ولقد إعتمدت فى إعدادها على قراءات مختلفة ومصادر تاريخيّة كثيرة لم أشر إلى أغلبها فى هذه النسخة من المقال كى أفسح المجال قليلاً لسلاسة القراءة على حساب الجانب الأكاديمى المحض والذى يمكن إيراده فى مقام آخر. لكننّى أود أن أشير فى صدر هذا المقال إلى حقيقة هامة وهى أنّ الكثير من المراجع التاريخيّة النادرة عن تاريخ دارفور إحتفظ بها مالكوها من الأهالى ضمن ما إقتنوه من أجدادهم قد تمّ فقدانها فى السنوات الماضيّة، ولم يطّلع عليها الباحثون الاكاديميون، وذلك بفعل الحرائق التى إلتهمت قرى دارفور فى الآونة الأخيرة أو بفعل السرقة أو الضياع. لقد زارنى أثناء زيارة لى بالفاشر فى مطلع التسعينات شيخ من شيوخ الفور من قريّة صغيرة بالقرب من جبل سى، بوسط غرب دارفور، وأخبرنى بأنّه كان يملك مخطوطاً قديماً مكتوباً باليد عن تاريخ الفور منذ مطلع القرن السادس الهجرى (الثالث عشر الميلادى) توارثها أسرته خلفاً عن سلف إلى أن إنتهت إليه، وعلم بذلك أحد المدرسين من الذين وفدوا للقريّة للتدريس فى مدرستها فى أواخر السبعينات فأخذ يلح عليه فى أستلاف ذلك المرجع للإطّلاع عليه، ولمّا كان الشيخ نفسه هو شيخ القريّة ورئيس مجلس آباء المدرسة فقد عزّ عليه أن يرفض رجاءات وإلحاحات ذلك المدرّس الضيف، فأعطاه المخطوط فى وقت شارف نهايّة العام الدراسى، ويا ليته لم يفعل، وفى غفلة منه غادر المدرس القريّة خلسة ومعه ذلك المخطوط النادر. أخذ الشيخ يبحث عن ذلك المدرس دون أثر له، وتوقع أن يعود للقريّة عند مطلع العام الدراسى الجديد ولكنّه لم يعد، وعندما تمّ تعيين دريج حاكماً لدارفور عام 1981 إتصل به الشيخ وأطلعه على القضيّة، وقام دريج مشكوراً بتسخير كل إمكانياته كحاكم للإقليم فى سبيل معرفة مكان ذلك المدرس وإسترجاع المخطوط ولكنّه لم يوفق وكأنّ الأرض قد إنشقت عنه وإبتلعته، نتمنى أن يكون ذلك الشيخ قد حالفه التوفيق، هذا مثال ذكرناه هنا كدليل لفقدان الكثير من مثل هذه الوثائق النادرة إحتفظ بها مالكوها كجزء من تراث غالى نعتقد أن غالبيتها قد تمّ حرقها فى السنوات القليلة الماضيّة، ولقد حزنت حزناً عميقاً عندما علمت مؤخراً بأنّ قرية ذلك الشيخ نفسها والتى ترقد على منحنى وادى وتحفها أشجار المانجو والفواكه قد تعرضت لحرق كامل قبل نحو سنتين، ضمن عشرات من القرى الأخرى بتلك االمنطقة الجميلة، والتى لم تعرف العنف طوال تاريخها، ولذلك يجب محاولة جمع ما تبقى من تلك الكنوز النادرة من خلال حملة منظمة للتوثيق أحسب بأنّ رابطة دارفور العالميّة قد رصدتها سلفاً كجزء أصيل من أهدافها.

التركيب القبلى لمجتمع دارفور القديم:

يلف تاريخ دارفور القديم الكثير من الغموض والضبابيّة حيث لا تتوفر معلومات موَّثقة يمكن الإعتماد عليها فى رسم صور أكيدة لحقيقة الأوضاع آنذاك، ونتيجة لذلك فقد ظلّت الروايات الشفاهيّة وقصص التراث والأساطير التاريخيّة المتواترة عبر الأجيال، وما كتبه الرحّالة والمؤرخون لاحقاً، تمثل أبرز المصادر المتوفرة. وحقيقة يمكن القول بأنّه فى حال عدم وجود أيّة معلومات مستجدة وموثّقة، مع غياب البديل، تستحيل تلك الروايات إلى ما يمكن إعتبارها حقائق مقبولة يمكن الأخذ بها، خاصة إذا تواجدت إشارات تاريخيّة تسندها حتى وإن كانت تتسم بالضعف. لكن من المؤكّد من ناحيّة التركيب القبلى لمجتمع دارفور القديم أنَّ سكانها قبل نزوح العرب إليها كانوا يتكونون أساساً من عناصر السود وشبه السود. ويشير نعوم شقير فى كتابه "جغرافيّة وتاريخ السودان" إلى أنَّ عناصر السود هى العناصر أو القبائل التى هاجرت أليها من الإقليم الجنوبى، وهى عناصر زنجيّة بالأساس، بينما يقول البروفيسور مندور المهدى فى كتابه "مختصر تاريخ السودان" إنَّ عناصر شبه السود هى من أقدم السكان أصولاً فى البلاد، وقد أتت إلى دارفور نتيجة لهجرات مختلفة من جهات الشمال والشرق والغرب لأنَّ إقليم دارفور كان وما يزال يمثل منطقة عبور بين الشمال والجنوب، بين الصحراء والأدغال، وبين السودان النيلى والسودان الأوسط وغرب أفريقيا.

عهد السلطنات:

يشير بعض المؤرخين أنّ حكم السلطنات الأسريّة فى دارفور قد بدأ فى الظهور بدءاً من القرن الثانى عشر الميلادى، إفتراضاً على قيام سلطنة الداجو خلال تلك المرحلة، وبالرغم من الشكوك التى تكتنف ذلك إلى أنّه من المحتمل أيضاً أنََّ يكون ذلك قد سبقه، وفى ظل التطور الطبيعى للمجتمعات، وجود أنظمة قبلية عشائريّة، وربما ممالك، متفرقة تواجدت فى الإقليم منذ أزمان باكرة، ويشير أحمد عبدالقادر أرباب فى كتابه "تاريخ دارفور عبر العصور" (1998)، والذى سأعتمد عليه كثيراً فى دعم هذه الدراسة، إلى أنّه قبل أن يحكم الداجو والتنجر والكيرا دارفور كانت هناك سلطنات وزعامات صغيرة شبه إقطاعيّة إنتشرت فى ربوع الإقليم قبل القرن الحادى عشر الميلادى، وكانوا خليطاً من قبائل شتى من العناصر الزنجيّة والحاميّة والساميّة، بل إنَّ الباحث والمؤرخ الشعبى الشيخ/ شيخ الدين عثمان ولد البشيرى (والد القانونية الشهيرة البروفسيرة دينا شيخ الدين) يؤكّد ذلك ويشير فى مؤلفه "تاريخ وأصول سكان جنوب دارفور الخضراء" (المطبعة العسكريّة، الخرطوم، 1999م) إلى وجود مملكة قديمة فى وسط جنوب دارفور سابقة لسلطنة الداجو عرفت بإسم مملكة "الفراوجين"، غزاها الداجو ودمروها وأقاموا سلطنتهم على أنقاضها. هذه معلومة جديدة لم ترد فى أى من المراجع التاريخيّة وتمثل مجال بحث محتمل للدارسين. وتشير مصادر أخرى، كما سنرى لاحقاً فى هذا المقال، إلى أنَّ معظم النواحى الشماليّة لدارفور كانت خاضعة لسلطنة الزغاوة فى فترة من الفترات سبقت قيام سلطنة الداجو، الشيئ الذى قد يشى أيضاً بتواجد نفوذ سلطوى من قوى مختلفة سيطرت على أجزاء واسعة من دارفور قبل ظهور سلطنة الداجو وسنلاحظ ذلك خلال مجرى هذا المقال أيضاً، بجانب إنّ ذلك قد يثبت حقيقة أنّ قبيلة الزغاوة قد لعبت دوراً حقيقياً ومباشراً فى صياغة تاريخ دارفور القديم بل وحكمت أجزاء واسعة منها كسلطنّة مبكرة سابقة لسلطنة الداجو.

وبينما دامت سلطنة الداجو من القرن الثانى عشر إلى منتصف القرن الثالث عشر، (هذه الفرضيّة مشكوك فيها وسنراجعها فى ثنايا هذه الدراسة)، قامت سلطنة التنجر من منتصف القرن الثالث عشر إلى النصف الأول من القرن الخامس عشر، وخلال ذلك تواجدت مملكة الفور "التورا" والتى يبدو أنّها قد إنقسمت إلى قسمين بعد أن عمرت طويلاً إلى مملكتين فى إطار الأسرة الواحدة هما مملكة الفور "الدالى" ومملكة الفور"الكنجارة"، أعقبهما علو سلطنة الفور الأخيرة متمثلة فى أسرة "الكيرا" إبتداءاً من منتصف القرن الخامس عشر، وربما عام 1445م, ودامت حتى منتصف النصف الثانى من القرن التاسع عشر، حين أسقطها الزبير باشا عام 1874م، قبل أن يحييها السلطان على دينار مرة أخرى فى الفترة من 1898 إلى 1916م.

غير إنّة تجدر الإشارة إلى ملاحظة لغط كثير حول الأزمنة الحقيقيّة لنشؤ وزوال هذه السلطنات، حيث أشرنا أعلاه إلى طبيعة الغموض التى تكتنف تاريخ دارفور القديم، لكن، ومن خلال القراءة الهادئة، تبدو لنا وجود شروخ وتساؤلات فى المعلومات المعتمدة حالياً عند المؤرخين تسمح بإثارة درجات من الشكوك حول طبيعة صحتها، والشكوك بطبيعة الحال تمثل بداية المعرفة، من خلال إعادة قراءة ما هو متاح من معلومات بآفاق أرحب وزوايا عريضة.

مراجعة تاريخ السلطنات المبكرة فى دارفور:

تشير المصادر التاريخيّة المتعلقة بأصول قبائل دارفور بأنّها كلّها وافدة عدا قوم يطلق عليهم "التورا" وهم أجداد قبيلة الفور الحاليّة. ويورد المرحوم أحمد عبد القادر أرباب بأنَّ التورا هم أول من تواجد على أرض إقليم دارفور وكانوا طوال القامة ذوى أجسام ضخمة سكنوا فى جبل مرّة فى بيوت دائريّة مبنيّة من الحجر تعرف عند الفور اليوم ب"تورنق تونقا"، أى "بيوت العمالقة"، وأشار إلى أنّه توجد اليوم قرية صغيرة فى جبل مرّة تحمل ذات الإسم، وإنَّ بعض الفور يطلق على تلك البيوت الدائريّة الأثريّة بيوت أبو قنعان (ينطقونها بالقاف اليمنى أو العجمى)، أى بيوت بنى كنعان، والمعروف عن بنى كنعان، الذين عاشوا شمال الجزيرة العربيّة قبل الإسلام، أنَّهم قوم إشتهروا بطول القامة وضخامة الأجسام وكان يطلق عليهم العمالقة، وقد إهتدت الإستكشافات الأثريّة الحديثة بجبل مرّة إلى جماجم وعظام للأرجل والأذرع طويلة جداً، وأيضاً المقابر طويلة وكبيرة فى حجمها إذ يزيد طول الهيكل العظمى عن مترين، وتنتشر تلك البيوت الدائريّة اليوم على طول سلسلة جبل مرّة إبتداءاً من عين فرح فى شمال دارفور إلى جبل سى وجبال كاورا فى وسط دارفور وعلى قمم جبل مرّة وسفوحها الجنوبيّة، لكن لم يتضح بعد ما إذا كانت هنالك علاقة ما بين قوم التورا والكنعانيين، أو إنّ الأمر لا يعدو أكثر من مجرد تشبيه، بجانب أنًه لا توجد فترة أو تاريخ محدد تؤكد حقيقة تواجدهم بدقة فى تلك الأنحاء الشيئ الذى يستدعى تحليل تلك الهياكل العظميّة عن طريق التحليلات الآركيولوجيّة الحديثة لتحديد أعمارها الزمنيّة مما يمكّن من أن يعطى تقديرات مقاربة للفترة الزمنيّة التى عاش فيها أولئك القوم. وفى الغالب فإنَّ مناطق سكنهم لم يخرج عن نطاق منطقة الجبل بل ربما أنَّهم قد وجدوا هنالك منذ الأزل، أو كما تقول العبارة الأمريكيّة (From day one!). ويبدو أنّهم إستعصموا بالجبال حول قمم جبل مرّة الجنوبيّة وقامت لهم مملكة فى تلك البقاع يمكن تسميتها مجازاً فى هذا المقال بمملكة "الفور التورا"، وقد تكون أقدم مملكة نشأت فى دارفور، لكنّها وبالرغم من ذلك فأنّها قد عمرت طويلاً وربما تكون قد ظلّت معاصرة لكلا سلطنتى الداجو والتنجر ولم تندثر تماماً، بل ربما تكون قد إنقسمت إلى قسمين أيضاً: قسم فى الشعاب الوسطى والجنوبيّة لجبل مرة بقيادة الملك دالى (أو دليل)، وهو صاحب قانون دالى المشهور فى تاريخ دارفور، يمكننا تسميتها مجازاً فى هذه الدراسة ب "مملكة دالى"، وكانت عاصمته فى "جبل نامى"، والقسم الآخر يملكه أخوه من أمّه وهو شاودروشيت متمثلاً فى "مملكة الكنجارة" وكانت عاصمته فى "طرّة" فى جبل سى، شرق بلدة كبكابية الحاليّة على الهضاب الشماليّة لجبل مرّة.

مراجعة تاريخ قيام مملكة الزغاوة:

تأثرت دارفور القديمة بالممالك والسلطنات التى نشأت حولها من النواحى الغربية والشمالية، وتحديداً مملكتى الزغاوة والكانم، وما قامت بعدهما ممثلة فى مملكتى البرنو وودّاى وهى كلها مجاورة لدارفور من النواحى الغربيّة. هذه الممالك كانت أنظمة الحكم فيها متطورة نسبياً عمَّا كان سائداً فى دارفور فى تلك الفترات. لقد وردت الإشارة لإسم مملكة الزغاوة وشعب الزغاويين فى عدد من المصادر التاريخيّة، فقد ذكرهم اليعقوبى فى القرن الثالث للهجرة/التاسع الميلادى أثناء حديثه عن الكانم (تاريخ اليعقوبى، مطبعة العزى بالنجف، العراق، 1939)، كما وصفهم المهبلى فى القرن الرابع للهجرة/العاشر الميلادى "كمملكة واسعة تمتد بين بحيرة تشاد وحدود النوبة"، ويدل ذلك إلى أنَّ مملكتهم كانت تشتمل أصلاً على كل من كانم وأجزاء واسعة من دارفور، إذ يصفها البغدادى بأنّها "مملكة عظيمة من ممالك السودان تشمل أمماً كثيرة وتحدها من الشرق مملكة النوبة" (معجم البلدان، الإمام شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت البغدادى، دار صادر للطباعة والنشر، بيروت 1957)، ولا يمكن جغرافياً أن تمتد حدود تلك المملكة من أطراف بحيرة تشاد، فى الجزء الغربى من دولة تشاد الحاليّة، إلى شواطئ النيل شرقاً دون أن يشمل ذلك منطقة دارفور، خصوصاً القسم الشمالى منها، ويشير الإدريسى كذلك، والذى عاش فى القرن السادس للهجرة/الثانى عشر الميلادى، إلى إمتداد بلاد الزغاوة إلى الشمال حتى فزَّان الليبيّة، وفى الجنوب إلى حدود بلاد الكانم بحيث لم يكن بين إنجيمى عاصمة بلاد الكانم وبين مدينة زغاوة إلا مسافة مسيرة 6 أيام (نزهة المشتاق فى إختراق الآفاق، أبو عبدالله محمد بن عبدالله بن إدريس الحمودى الحسنى المعروف بالإدريسى، عالم دار الكتب، بيروت، 1989)، لكن نعتقد أنّ هذا يمثل وصف متأخر قليلاً للزغاوة بعد إنحسارهم ناحية الشمال والشرق نتيجة لضغوط الكانم والملثمين.

ويورد الدكتور رجب محمد عبدالحليم وقوع منطقة دارفور فى فترة من الفترات ضمن مملكة الزغاوة، ويشير إلى أنَّ الزغاوة إنتشروا منذ ما قبل القرن التاسع للميلاد وكونوا مملكة على مساحة رحبة تمتد فى الجنوب إلى دارفور حتى بحيرة تشاد، وتمتد فى الشمال حتى تصل إلى المنطقة الممتدة بين الواحات المصريّة والنوبة من ناحية الشرق، وتتمدد غرباً إلى الخط الذى يمتد ما بين فزَّان فى الشمال وبحيرة تشاد فى الجنوب (العروبة والإسلام فى دارفور فى العصور الوسطى، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الفجالة، 1992). وترجح مصادر أخرى إلى أنّ وجودهم سابق لذلك بفترة طويلة حيث تشير إلى وجود مملكة للزغاوة وإستقرارهم فى النواحى الشمالية لبحيرة تشاد منذ القرن السابع الميلادى وأنهم قد تمكنوا بعدها من تأسيس مملكة فى تلك الأرجاء عام 872 م (أى القرن التاسع)، تطورت لاحقاً إلى مملكة الكانم. وبالأساس يبدو أنّ شعب الزغاوة قد إنطلقوا فى بادئ أمرهم من مناطق الشام الحاليّة شمالى الجزيرة العربيّة فى القرن الأول للهجرة/السابع الميلادى وإضطروا للنزوح تدريجياً صوب الغرب عابرين مصر إلى أن إنتشروا فى المناطق آنفة الذكر، وقد يكون ذلك سبب قيام بعض المؤرخين بنسبتهم إلى الطوارق. وعلى العموم يبدو أنَّ سلطنتهم تلك حول بحيرة تشاد قد أخذت تضعف تدريجياً مع نهاية القرن العاشر الميلادى حيث حلَّت محلها مملكة الكانم، وهم أبناء عمومة الزغاوة على أيّة حال، والتى تحولت إلى مملكة إسلامية عام 1085م كما أشار إليها الدكتور أحمد شلبى (موسوعة التاريخ الإسلامى والحضارة الإسلامية، مطبعة النهضة المصرية، القاهرة، 1975), وقد يشير ذلك إلى تسرب الإسلام إلى دارفور واللغة العربيّة منذ ذلك الوقت، أى قبل نزوح القبائل العربيّة التدريجى إليها. وتبعاً لذلك يبدو أنَّ الزغاوة قد أُضطروا للنزوح جنوباً من مناطق الواحات المصرية وفزَّان جنوبى ليبيا، وشرقاً من مناطق شمال بحيرة تشاد، نتيجة لتعرضهم للضغط من هجرات الطوارق والملثمين من شمالى أفريقيا، وهؤلاء هم الذين ساعدوا فى تأسيس مملكة الكانم، ليتركز الزغاوة بعدها نهائياً فى الجزء الشمالى الغربى من دارفور والأجزاء الشماليّة الشرقيّة من تشاد الحاليّة فى بداية القرن الثانى عشر الميلادى (تاريخ إبن خلدون، مؤسسة جمال للطباعة والنشر، بيروت)، ولما إستقروا فى تلك المناطق كونوا سلطنة تسمى سلطنة الزغاوة حيث وصفها التونسى بأنها كانت لها سلطان وكانت تشتمل على خلق لا يحصون كثرة.

مراجعة تاريخ قيام سلطنة الداجو:

وبينما تشير المعلومات التاريخيّة المتوفرة عن تاريخ دارفور القديم إلى أنَّ سلطنة الداجو كانت أول سلطنة متكاملة نشأت على أرض الإقليم إلاَّ أنَّ ذلك يجب أن يؤخذ بحذر ولسبب بسيط هو أنَّ سلطنة الداجو قد تكون قد سبقتها سلطنات باكرة، بجانب أنّه لم يثبت أنَّها قد سيطرت على كل دارفور أو حتى منطقة جبل مرّة، بل فى الغالب تواجدت على رقعتين من الأرض أولاهما شرق وجنوب شرقى جبل مرّة، أى حول مدينة نيالا الحالية وشرقها، وثانيهما فى جنوب غربى جبل مرّة أى مناطق بلدة كبم وجنوبى وادى صالح وإلى الحدود مع جمهورية أفريقيا الوسطى الحالية، أى منطقة أبوديماً فى تقسيمات دارفور التقليديّة، وكانت عاصمتهم الأساسية فى "أمكردوس" شرقى مدينة نيالا إضافة إلى عواصم أخرى مثل "سيميا"، وإذا كان الأمر كذلك فإنَّه قد يوحى أيضاً بوجود سلطة أخرى سيطرت على منطقة جبل مرّة تزامنت مع فترة حكم الداجو بل و تجاوزتها فى العمر، سابقاً ولاحقاً، حتى بعد إندثار سلطنة الداجو، وغالباً ما تكون تلك السلطة هى مملكة "الفور التورا" والتى قد تكون هى أول سلطنة على الإطلاق قامت فى دارفور على القمم الوسطى والجنوبيّة لجبل مرّة وظلّت متماسكة لفترة طويلة إلى أن حلّت محلها أحفادهم ممثلة فى مملكتى الفور (الدالى) والفور (الكنجارة)، كما رأينا أعلاه. لكن يمكن القول بأنّ الداجو، حتى وإن لم يتمكنوا من السيطرة على كل دارفور، إلاّ أنّه من المؤكّد أنّهم قد تمكنوا من وضع الأساس لأول سلطنة منظمة، وقد ذكر بعض المؤرخين بأنَّ قبيلة الداجو قد هاجرت لدارفور من منطقة جبال النوبة بكردفان وأنّهم ينتمون للنوبيين وما تزال لهم بقايا هناك إلى اليوم، وهناك من قرنهم بالتاجويين فى شمال أفريقيا، وقد أيد ذلك كل من الإدريسى وأبو الفدا وإبن خلدون بينما ذهب آركل إلى أنّهم قد ينتمون إلى الزغاوة الذين كانوا بالصحراء والواحات الغربيّة، وعلى كل يظل ذلك مكان بحث جيّد للمهتمين بالتاريخ وأنساب القبائل فى دارفور.

وبالرغم من أنَّ بعض المؤرخين يشيرون إلى أنه من المحتمل أن تكون سلطنة الداجو قد قامت فى منتصف القرن الثانى عشر إلا أن آخرون يرون بإحتمال قيامها قبل ذلك بكثير، فيشير المؤرخ الشاطر بصيلى عبد الجليل إلى وجود مملكة واسعة للداجو والزغاوة تقع بين النوبة وكانم قبل ذلك التاريخ (تاريخ وحضارات السودان الشرقى والأوسط, الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1972), ولكن بمراجعة ذلك من بعض المؤرخين شكّكوا بأنّه ربّما يكون الأمر قد إختلط عليه فأشار إلى مملكة واحدة بدلاً عن مملكتين متجاورتين، ويبدو أنَّ تلك هى الحقيقة إذ يشير الدكتور رجب إلى أن دولة النوبة قد قامت بغزو سلطنة الداجو وتحطيم عاصمتهم المعروفة بإسم "سيميا" فى حوالى عام 1150 م (أى منتصف القرن الثانى عشر)، ولم نسمع أبداً بغزوة للنوبة لمملكة الزغاوة، وبالقياس فلا يمكن أن تكون سلطنة الداجو قد قامت فى منتصف القرن الثانى عشر ثمَّ خربتها غزوة النوبة فى نفس تلك الفترة، خاصة وأنً هناك ملاحظات تشير إلى قيام هذه السلطنة فى القرن العاشر الميلادى. ولذلك فمن الأرجح أنَّها تكون قد نشأت باكراً حتى أضعفتها غزوة النوبة تلك بحيث تفككت بعدها إلى دويلات فى نهايات القرن الثانى عشر لتخلق الظروف المناسبة لقيام سلطنة التنجر.

لكن التونسى، من ناحية أخرى، يذكر أنَّ دولة الداجو قد تعرضت لتهديد من دولة الكانم حوالى العام 1240م بهدف السيطرة على طرق التجارة التى تمر عبر الصحراء وتمتد من شمال دارفور وتتجه إلى مصر عبر درب الأربعين، وقد أكدَّ أركل ذلك فى مقالاته عن تاريخ دارفور(Arkell, A. J.: The History of Darfur 1200-1700, SN&R, I-IV, 1942) حين أشار إلى تمكن الماى دوناما دياليمى سلطان الكانم (1221-1259م) من أن يؤمن السيطرة على طريق درب الأربعين، وينشئ عليها محطات للمراقبة والحراسة على قوافله التجاريّة على مرتفعات جبل تقابو ووادى الكعب، وهذه مناطق فى وسط شمال دارفور، وبالطبع لا يمكنه فعل ذلك إلا إذا كان له سلطان على شمال دارفور، لكن، من المحتمل أيضاً قد يكون ذلك الإختراق لسلطان الكانم قد حدث على طول المنطقة الفاصلة ما بين سلطنتى الداجو فى الجنوب والزغاوة فى الشمال، إذ لم يثبت وجود سيطرة قوية لسلطنة الداجو على الأجزاء الشماليّة من دارفور، بينما لم تثبت باليقين سيطرة الزغاوة على الأجزاء الجنوبيّة من دارفور، يدل على ذلك نشؤ وقيام سلطنة التنجر فى تلك المناطق البينيّة بين السلطنتين تحديداً فى خلال النصف الأول من القرن الثالث عشر الميلادى وبسط سيطرتها تدريجياً جنوباً على حساب سلطنة الداجو نفسها التى بدأت تتراجع نتيجة لتلك الضغوط إلى المناطق الجنوبيّة الشرقيّة والجنوبيّة الغربيّة من جبل مرّة بينما ظلّت مملكة الفور التورا متمركزة فى منطقة جبل مرّة. وعلى العموم يمكن الإستنتاج بأنَّ دولة الداجو كان لها وجود قوى قبل تلك التواريخ المذكورة أعلاه، وربما إمتد باكراً إلى القرن السابع أو الثامن الميلادى كما يرى الدكتور رجب محمد عبدالحليم، بجانب إنَّها لم تنهار سريعاً، فبالرغم من تحطيم النوبة لعاصمتهم "سيميا" عام 1150م إلاَّ أنَّها حافظت على وجودها، ولأكثر من قرن، بدليل تهديدات دولة الكانم لها عام 1240م، الأمر الذى يشى بإحتمال إضمحلالها ببطء وإندثارها نهايات القرن الثالث عشر نتيجة ضغوط مختلفة مثل بروز دولة التنجر فى الشمال بجانب النزوح التدريجى للقبائل العربيّة إلى داخل الإقليم عبر الحدود الغربيّة.

مقارنة تزامن سلطنة الداجو مع بعض السلطنات التى جاورتها قد تكشف لنا أيضاً أنّّ هذه السلطنة قد نشأت فى وقت مبكر مقارنة بالتواريخ التى تشير لغير ذلك. إنّ تزامن سلطنات الداجو والزغاوة والكانم، كما أشار إليها المؤرخ الشاطر بصيلى عبد الجليل أعلاه، يجب التوقف عندها للتأمل. إنّ الزغاوة قد إستقروا فى النواحى الشماليّة لبحيرة تشاد منذ القرن السابع الميلادى، وأسسوا مملكة فى تلك الأرجاء خلال الربع الأخير من القرن التاسع والتى يبدو أنّها لم تدم طويلاً بدليل الروايات التى تشير إلى قيام مملكة الكانم فى تلك المناطق فى القرن العاشر الميلادى، والتى أزاحت الزغاوة من حول بحيرة تشاد. ويبدو أنّ مملكة الكانم كانت وثنيّة فى بادئ أمرها بدليل أنّها تحولت إلى مملكة إسلامية عام 1085م، وهناك روايات أخرى تشير إلى أنّها قد تحولت فى عهد حاكمها (هو، أو حوّى) (1067 1071م)، ويقال أنّها إمرأة، مما يشى بنشوئها باكراً. هنا يتجلى نوع من التزامن وهو أنَ سلطنة الداجو كانت أيضاً وثنيّة فى بادئ أمرها، بدليل أنّ سلاطينها الستّة الأوائل كانوا وثنيين، مما يشى بأنّها كانت قائمة خلال تلك الفترات التاريخيّة أيضاً أقلّها منذ نهايات القرن العاشر وبدايات القرن الحادى عشر والتى شهدت إستقرار الزغاوة فى مناطقهم الحاليّة حول الرقعة ملتقى الحدود التشاديّة السودانيّة الليبيّة اليوم.

مقارنةً من ناحية أخرى، تشير المصادر إلى أنّ مملكة الكانم فى أقصى إتساعها فى عهد السلطان دياليمى (1221-1259م) قد تمددت من ليبيا شمالاً إلى بلاد الهوسا ونهر النيجر جنوباً إلى مناطق ودّاى شرقاً ولساناً فى شمال دارفور ساعدته فى السيطرة على درب الأربعين لفترة قصيرة، لكنه لم يتمكن من التمدد فى بقيّة الإتجاهات الشيئ الذى قد يعنى أنّه كانت هنالك سلطات قويّة تمركزت فى المناطق الشماليّة والجنوبيّة من ذلك اللسان منذ وقت مبكر لم تقدر عليهما مملكة الكانم، فى حين كان تأثيرها لافتاً فى المناطق البينيّة بين تلك القوتين كما أشار آركل، تلك القوتان قد تكونا سلطنتى الزغاوة والداجو.

يقول المؤرخون أنّ سلطنة الداجو كانت قويّة جداً إمتدت أطرافها لتشمل بعض أجزاء كردفان ودار سلا بالأراضى التشاديّة حتى إنّ البعض أطلق عليها لفظ الإمبراطوريّة. وقد بلغ عدد سلاطينهم واحد وعشرون سلطاناً أولهم يدعى (قيتار)، كما إنّ السلاطين الستّة الأوائل كانوا يقطنون قريباً من جبل مرّة قبل دخول الإسلام وكانوا وثنيين. والحال كذلك فإذا عرفنا بأنّ مملكة كانم قد تحولت إلى مملكة إسلاميّة عام 1085م، أو قبل ذلك بقليل، وإنّ الإسلام قد بدأ ينداح تدريجياً شرقاً إلى دارفور، خاصة مع عدم وجود أى موانع طبيعيّة تمنع تواصل الناس، لتأكد لنا بأن سلطنة الداجو ربما كانت موجودة قبل ذلك التاريخ وقد تكون نشأتها فى أو قبل القرن العاشر الميلادى كما أشارت العديد من المصادر.

مراجعة تاريخ قيام سلطنة التنجر:

بعد سقوط متدرج وبطئ لسلطنة الداجو، وغالباً ما تم ذلك نتيجة لضغوط مملكة الكانم من جهة الغرب فى مسعاهم الدؤوب للسيطرة على درب الأربعين، أو النزوح العربى البطيئ إلى داخل الإقليم من جهة الغرب، أو على أيدى التنجر من النواحى الشماليّة والغربيّة، نجح هؤلاء الأخيرون، أى التنجر، فى السيطرة على مقاليد الحكم فى أجزاء واسعة من شمال دارفور حيث أسسوا سلطنتهم بدايّة هناك وإتخذوا من بلدة "أورى" فى جبل أورى عاصمة أساسيّة لهم، بالرغم من أنَّهم، مثل الداجو، أنشأوا عواصم أخرى فى كل من "عين فرح" و"جبل ماسا" و"جبل حريز". وقد رجّح التونسى وناختيقال وماكمايكل وآركل وأوفاهى إلى أنَّ أصل التنجر يرجع لعرب بنى هلال وأنّهم أول من أدخل اللغة العربيّة إلى دارفور، بل إنّ الدكتور رجب محمد عبدالحليم يقول بأنّ كلمة "تنجر" قد تكون مشتقة من كلمة "تجار" ولا نعتقد بأنّ ذلك صحيحاً. لكنّه فى ذات الوقت تقول روايات أخرى بأنّهم من منطقة النوبة قدموا إلى دارفور مع عرب بنى هلال عن طريق وادى المقدّم بعد الإنهيار النهائى للممالك النوبيّة شمال السودان، بينما تشير مصادر مكتوبة وشفويّة بأنّهم من الفور وأنّهم أبناء عمومة الكنجارة والمسبعات والتورا، وكلهم فروع مختلفة من الفور، وهناك قول رابع ينسبهم إلى البديات بمنطقة التبو بجبال أنيدى شمال غرب دارفور، هذا مجال بحث ثر، لكنّ الأقرب حسب ما فهمناه من مراجعاتنا التاريخيّة يشير إلى أنّه ربما تكون هنالك علاقة رحم ما بينهم والفور الكنجارة، حسب ما يشير إليه التحليل أعلاه بأنّهم أبناء عمومة، والسبب يتمثل فى الروايات التى تشير إلى أنّ شاودروشيت، ملك الكنجارة هو بالأساس جد الملك سليمان سولونج )سولونقا( مؤسس سلطنة الفور الكيرا، بينما يزعم التنجر فى ذات الوقت إلى أنّهم ينتمون لملك بذات الإسم يقولون إنّ سلطنتهم قد سلبت جزافاً منه، وحداداً على ذلك ظلّوا قديماً يلبسون العمامة السوداء تعبيراً لحزنهم على تلك السلطنة الضائعة، ولمّا كان من غير المعروف فى تاريخ دارفور وجود شخصيتان مختلفتان يحملان ذات الإسم )شاودروشيت( فإنّ هذه الشخصية ربما تكون واحدة تنتمى إليها كلا المجموعتين، وهما التنجر من ناحية والكنجارة وإمتدادهم الكيرا من الناحية الأخرى. لكن للأسف هذه الفرضيّة قد لا تتناسق مع المعطيات التاريخيّة المتوفرة ومقارنة السياق الزمنى كذلك اللّهم إلاّ إذا كان التنجر هم بالأساس كنجارة إغتصب الكيرا الملك منهم عن طريق سليمان سولونج، ذلك يتماشى مع السياق التاريخى، أمّا إذا كان التنجر يقصدون شاودروشيت آخر، كجدّهم الحقيقى، فإنّ هذه النظريّة قد لا تصمد خاصة إذا ما عرضناها للقياس الزمانى حيث أنّ هناك فارق قد يزيد عن القرنين بين نشؤ السلطنتين، التنجر والكيرا. هذا مجال بحث تاريخى مهم ندعو إليه المهتمين بذلك، لكن يظل الشاهد هنا هو الإشارة إلى الفرضيّة التى تشير إلى علاقة الرحم ما بين التنجر والفور الكنجارة.

لقد عاصرت سلطنة التنجر ثمانى ممالك أحاطت بها من كل جهاتها فى خلال فترات متفاوتة من عمرها التى إمتدت زهاء المأتى سنة تقريباً، هى مملكة الكانم فى نهاياتها ووريثتها مملكة البرنو فى بداياتها من جهة الغرب، ومملكة الزغاوة بعد إنحسارها شرقاً من مناطق شمال بحيرة تشاد وتمركزها النهائى بمناطق شمال غربى دارفور من جهة الشمال، ثم سلطنة الداجو فى نهاياتها من جهة الجنوب، ثمَّ سلطنة الفور "الكنجارة" فى نهاياتها فى هضاب جبل سى فى وسط دارفور حيث تزامن ذلك أيضاً مع إضمحلال متدرج لمملكة الفور "الدالى"، وريثة مملكة الفور "التورا"، فى قمم جبل مرّة وسلاسلها الجنوبيّة، ثمَّ بروز مملكة الفور "الكيرا" فى بداياتها فى منطقة "طُرَّة" على السلاسل الشماليّة من جبل مرّة فى وسط دارفور، ثم قيام سلطنة "المسبعات"، أبناء عمومة الكنجارة، الذين تأسسوا فى تلك الفترة فى مناطق كردفان الحالية هجروا إليها باكراً بعد خسارتهم السيطرة على عرش المملكة بدارفور لصالح الكنجارة، إضافة إلى تواصل الإنهيار التدريجى للممالك النوبيّة شمالى السودان. لقد ظلّت سلطنة التنجر فاعلة لقرابة قرن من الزمان بعد نشؤ سلطنة الفور الكيرا إلى أن غزتها هذه الإخيرة وأستولت على عاصمتها "أورى" عام 1535م منهيّة حقبة تاريخيّة هامة شكّلت وبأثر عميق ملامح ثقافة أهل دارفور وإلى يومنا هذا.

مراجعة تاريخ قيام سلطنة الفور الكيرا:

أورد السير توماس آرلوند رواية يقول فيها أنَّ هجرة حدثت لجماعة من عرب بنى هلال قادها أحمد المعقور من تونس إلى دارفور عبر بلاد الكانم والبرنو، أى تشاد الحاليّة، ولقى أحمد هذا حفاوة عظيمة عند وصوله إلى ملك الفور (وربّما كان يقصد الفور "الكنجارة")، فأحبه ذلك الملك وأكرمه وجعله مشرفاً على شئون ملكه، ولما كانت خبرة أحمد بأساليب الحكم أكثر رقياً من تلك التى وجدها فى دارفور فقد تمكن من أن يدخل إصلاحات عديدة فى البلاط وإدارة حكم البلاد وشئون الملك الإقتصاديّة (توماس آرلوند، الدعوة إلى الإسلام، ترجمة د. حسن إبراهيم حسن، د. عبدالمجيد عابدين، إسماعيل النجراوى، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1970). إذا صحَّت روايّة السير توماس آرلوند من أنَّ مسيرة أحمد المعقور من تونس إلى دارفور كانت مروراً عبر بلاد الكانم والبرنو، وهما مملكتان متتاليتان فى السياق الزمانى، تداخلتا زمنيّاً أثناء فترة إضمحلال الأولى ونشؤ الثانيّة، ورغم تعدد الروايات حول تلك المسيرة، فإنَّ ذلك قد يشير ضمناً إلى أنَّه ربما يكون الرجل قد إستصحب نظام الحكم والإدارة من تلك المناطق وطبقها فى خدمة ملك الفور الكنجارة. كما إنّه من غير المعروف المدة الزمنيّة التى إستغرقها أحمد المعقور فى رحلته تلك، أو ما إذا كان بالأساس قد قصد الوصول إلى مملكة الفور، وربما يكون قد تعرض لضغوط أو طرد من بلاد الكانم فلم يجد بداً من مواصلة رحلته شرقاً إلى دارفور وهو على أيّة حال كان هائماً على وجهه بعد فراقه المثير لأهله بتونس كما تقول الروايات. ولكن الشاهد فى الأمر أنَّه قد قضى فترة طويلة فى مسيرته تلك ربما تكون قد إمتدت لسنوات طويلة بدليل قول السير آرلوند بأنّ تلك المسيرة من تونس إلى دارفور كانت مروراً عبر بلاد الكانم والبرنو، والحال كذلك فلا بد من أن يكون أحمد المعقور قد درس نظام الحكم فى تلك الممالك شمال بحيرة تشاد خلال رحلة تشرده تلك وخبرها جيداً، خاصةً وأنَّه منذ خروجه مع أهله من الجزيرة العربيّة يكون قد مرَّ ببلاد الشام ومصر وليبيا وقرطاج، وهى كلها بلاد تحتوى على أنظمة حكم متقدمة جداً مقارنة بما كان عليه الحال فى بلاد الكانم ودارفور، وتبعاً لذلك فلا بد من أن يكون قد أفاد ملك الفور بتجربته تلك وما يتعلق بتلك البلاد من نظم الحكم والإدارة.

ويتناول نعوم شقير قصة أحمد المعقور فيقول إنَّه عندما حلَّ ضيفاً على ملك الفور الكنجارة، فإنَّ الملك أعجب به لرجاحة عقله فزوجَّه بنته "خيرة" )كيرا باللهجة المحليّة( فجاء منها لأحمد ولد أسماه سليمان، والذى لقب بسولونج )سولونقا(، أى الأحمر اللون، ولمَّا لم يكن لذلك الملك وريث من الذكور فقد تمَّ تنصيب سليمان خلفاً له، على عادة أهل ذلك الزمان فى تنصيب إبن بنت الملك زعيماً على قومه إن لم يكن لجده خلف ذكر، ولقد شبَّ سليمان وخلف جده فى الملك وربما كان ذلك عام 1445م، لكن السير آرنولد يورد تاريخاً مختلفاً لتولى سليمان سولونج الملك ويشير إلى عام 1596م، أى بعد قرن ونصف من التاريخ الأول، وهى فترة طويلة قياساً بالتواريخ الأخرى حول هذه النقطة تحديداً وهى مجال بحث غنى، كما لم يؤكد السير آرلوند ما إذا كان سليمان سولونج حقيقة هو إبن أحمد المعقور حسب ما تثبته الروايات الأخرى، وهذا أيضاً مجال بحث مهم خاصة وأنّ نعوم شقير قد أورد إسم سليمان الأول وسليمان الثانى، الشيئ الذى يثير غباراً كثيفاً ليس فقط حول هذه النقطة تحديداً بل وحول تاريخ دارفور القديم إجمالاً. وعلى العموم فقد تضاربت الروايات حول السنة التى تولى فيها سليمان السلطة إذ أشارت مصادر أخرى إلى قيام سلطنة الفور الكيرا بقيادة سليمان سولونج عام 1664م، وهو زمن أكثر بعداً بحوالى قرنين من التاريخ الذى أورده الدكتور رجب محمد عبدالحليم والذى أشار لقيامها عام 1445م، وعُرفت بسلطنة الفور الكيرا، ولقد حللَّ الدكتور رجب كل تلك التقديرات بتأنّى وتركيز وتوصل إلى قيام سلطنة الفور الكيرا بزعامة السلطان سليمان سولونج عام 1445م، يؤيد هذا الإستنتاج مقارنة بسيطة لتوالى وتزامن الممالك والسلطنات حسب ما توصلنا إليه أعلاه الشيئ الذى يجعلنا نعتمد تحليل الدكتور رجب بيقين كامل رغم إختلاف الكثير من المؤرخين السودانيين فى ذلك بالرغم من عدم غوصهم فى تاريخ دارفور بالقدر الكافى الشيئ الذى يعنى أنّ تقديراتهم تلك تظل خبط عشواء. بناءاً على هذه المعلومة تكون سلطنة الفور الكيرا قد سبقت فى الوجود قيام السلطنة الزرقاء (سلطنة الفونج) بأكثر من نصف قرن إذ نشأت الأخيرة عام 1505م.

مقارنة تاريخ هجرة أحمد المعقور مع تاريخ إنهيار مملكة الكانم من ناحية ونشؤ مملكة البرنو من الناحيّة الأخرى قد تكشف لنا مقدار صحة تقديرات الدكتور رجب بقيام سلطنة الفور الكيرا عام 1445م. تقول الروايات التاريخيّة بأنَ مملكة الكانم كانت عبارة عن كونفدراليّة بين سلطات القبائل المختلفة التى قطنت تلك المملكة، لكن بحلول القرن الرابع عشر أخذت الخلافات تعصف بها فأصابها الضعف والإنهيار البطئ ما لبثت إن إنهارت فى مطلع القرن الخامس عشر نتيجة لتمركز القوة والثروة لدى البرنو الذين سيطروا على الأجزاء الجنوبيّة الغربيّة من بحيرة تشاد وقامت مملكتهم فى تلك المناطق. تزامن ذلك الإنتقال التريجى للسلطة نحو مائة عام، أى فى الفترة بين مطلعى القرن الرابع عشر (بعد عام 1300م) والقرن الخامس عشر (بعد عام 1400م)، ومراجعة لرواية السير توماس آرلوند التى تقول بأنَّ مسيرة أحمد المعقور من تونس إلى دارفور كانت مروراً عبر بلاد الكانم والبرنو فلا بد من أنّ تلك الرحلة قد حدثت خلال نهايات تلك الفترة تحديداً إذ كانت المملكتان، الكانم والبرنو، ما زالتا فاعلتين، إنهيار متدرج فى الأولى وقوة تصاعديّة فى الثانيّة. بناءاً على ذلك يمكننا ترجيح وصول أحمد المعقور لسلطنة الفور الكنجارة، فى مطلع القرن الخامس عشر (أى عقب العام 1400م) ثمّ تزوج خيرة وأنجب منها سليمان الذى شبّ وتمّ تنصيبه سلطاناً عام 1445م، ليشكل ذلك نقطة فاصلة فى تاريخ دارفور متمثلةً فى نهايّة حكم سلالة أبناء عمومتهم الفور الكنجارة وبدء سيطرة سلالة الفور الكيرا التى أمتدّت لنحو أربعمائة وثلاثين سنة، إضافة إلى سبعة عشر سنة أخرى فى بدايّة القرن العشرين.

التسلسل التاريخى لسلطنات دارفور وما حولها من ممالك:

إذا إفترضنا بأنَّ مملكة الفور التورا قد تكون أقدم مملكة نشأت بأرض دارفور ضمن العديد من ممالك أخرى إندثرت بأكملها، وأنّ سلطنتى الداجو والتنجر قد عاصرتا مملكة الكانم التى قد قامت على أنقاض سلطنة الزغاوة الكبرى وإنهارت فى منتصف القرن الرابع عشر للميلاد لتحل محلها مملكة البرنو، وهى ذات الفترة التى نشأت خلالها مملكة الفور "الكيرا" التى قامت على أنقاض مملكة الفور "الكنجارة" وقضت على مملكة الفور "الدالى"، وريثة مملكة الفور "التورا"، لتأكد لنا تسلسل أنظمة الإدارة والحكم فى تلك المناطق وتطورها المضطرد من مملكة لأخرى. وعلى ضؤ التحليلات أعلاه يمكننا تلخيص الفترات الزمنيّة لتوالى تلك الأنظمة والممالك بصورة عامة دون تحديدها بدقة لعدم توفر المعلومات الكاملة عنها، وهذا هو الهدف الأساسى من هذه الدراسة لإثارتها ودعوة المؤرخين والباحثين لسبر أغوار تاريخ دارفور وتثبيتها بشكل أدق:

ما قبل القرن الخامس الميلادى: نشؤ مملكة الفور التورا على القم الجنوبيّة والوسطى من جبل مرّة.
القرن السابع الميلادى: إستقرار الزغاوة فى النواحى الشمالية لبحيرة تشاد.
872 م: قيام مملكة الزغاوة حول بحيرة تشاد وإتساعها.
بدايّة القرن العاشر الميلادى: تواجد مملكة الفراوجين بوسط جنوب دارفور.
بداية القرن العاشر الميلادى: قيام سلطنة الداجو.
نهاية القرن العاشر الميلادى: بدأت سلطة الزغاوة فى الضعف والإنهيار.
بدايّة القرن الحادى عشر الميلادى: قيام مملكة الكانم.
1085م: تحولت مملكة الكانم إلى مملكة إسلامية وأثّرت تأثيراً مباشراً على دخول الإسلام لدارفور.
بداية القرن الثانى عشر الميلادى: أضطر الزغاوة إلى للنزوح إلى الجزء الشمالى من دارفور حيث كونوا سلطنة محلية تسمى سلطنة الزغاوة.
النصف الأول من القرن الثالث عشر الميلادى: قيام سلطنة التنجر.
النصف الأول من القرن الثالث عشر الميلادى: إنهيار سلطنة الداجو.
منتصف القرن الرابع عشر الميلادى: تهاوى مملكة الكانم ونشؤ مملكة البرنو.
1445م: نشؤ سلطنة الفور "الكيرا" الإسلامية.
1535م: إستيلاء سلطنة الفور الكيرا على "أورى" عاصمة التنجر وزوال أخر ما تبقى من سلطنة التنجر.
1874م: سقوط سلطنة الفور الإسلاميّة فى يد الزبير باشا والحكومة التركية المصرية.
نهاية 1898م: إعادة قيام سلطنة الفور الإسلاميّة على يد السلطان على دينار.
1916م: سقوط سلطنة الفور الإسلاميّة بيد القوات الإنجليزية.
1 يناير 1917م: ضمِّ دارفور رسمياً لدولة السودان الإنجليزى المصرى.

خلاصة:

كما يتضح أعلاه، تظل الكثير من الحقائق غامضة بالنسبة لتاريخ دارفور القديم وتدور العديد من الأسئلة العالقة تبحث عن إجابات لتفاسير كثيرة، وكمثال على ذلك ما هى حقيقة مملكة "الفراوجين"؟ ومن هو الفراوجيون؟ وكيف نشأت مملكتهم؟ ولا بد أنّ تكون تلك المملكة كانت قويّة ومنظمة بدليل أنّ الداجو غزوها ودمروها وأقاموا سلطنتهم على أنقاضها. ثمّ ما حقيقة مملكة الكنجارة؟ وهل هناك دراسات تمّت حول تاريخها؟ إذ تقول بعض الدراسات أنّهم كسبوا الصراع على الحكم من أبناء عمومتهم المسبّعات ولذلك هاجر هؤلاء ليبتنوا لهم سلطنة فى كردفان. بالإضافة لذلك ما هى حقيقة سليمان الأول وسليمان الثانى اللذان أشار عليهما نعوم شقير بينما أغفل بقيّة المؤرخين ذلك؟ ثمّ هل هنالك تاريخ مكتوب عن سلطنة التنجر؟ ولماذا تعددت عواصمهم من "أورى" إلى "عين فرح" و"جبل ماسا" و"جبل حريز"؟ هذه مجرد أمثلة تحتاج إلى تفاسير مستفيضة ولعلّ الوقت قد حان لطلبة الدراسات العليا فى مجال التاريخ، وخاصة أبناء دارفور، سبر كل ذلك وتقديم صورة ولو مقاربة لما كان سائداً فى تاريخ دارفور القديم، إنّ حاضر دارفور اليوم لا ينفصل عن تاريخها أبداً وصياغة المستقبل يقف على كليهما كأساس صلب لا بد من ترسيخها بوضوح وثقة.

أخيراً أود أن أشير إلى أنّ إهتمامى فى هذه الدراسة قد تركّز فقط على جانب التسلسل الزمنى للسلطنات التى سادت دارفور وتلك التى أثّرت فيها من الممالك التى نشأت حولها. وبحساب مبدئى للفترات الزمنيّة التى مرّت بها تلك الممالك والسلطنات يمكن القول بإطمئنان أنّ دارفور قد عرفت الحكم المركزى المنظّم، فى أشكالها المختلفة، قبل أكثر من 1500 عام بدليل تواجد مملكة الفور التورا ربّما قبل ذلك التاريخ. وعليه أرجو من كل من له ملاحظة أو إضافة أن يتصل بى فى بريدى الإلكترونى فالعلم بحر لا تنتهى سواحله وفوق كل ذى علم عليم.


للمزيد من االمقالات

للمزيد من هذه الاخبار للمزيد من هذه البيانات و المنشورات
الأخبار المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع


| اغانى سودانية | آراء حرة و مقالات | ارشيف الاخبار لعام 2004 | المنبر العام| دليل الخريجين | | مكتبة الراحل على المك | مواضيع توثيقية و متميزة | أرشيف المنبر العام للنصف الاول من عام 2005

الصفحة الرئيسية| دليل الاحباب |English Forum| مكتبة الاستاذ محمود محمد طه | مكتبة الراحل المقيم الاستاذ الخاتم عدلان | مواقع سودانية| اخر الاخبار| مكتبة الراحل مصطفى سيد احمد


Copyright 2000-2006
Sudan IT Inc All rights reserved