ترحب سودانيزاونلاين بجميع الاراء الحرة و المقالات لنشرها فى هذه الصفحة.ويمكنك لزوارنا الكرام ارسالها الى [email protected] كما نرجو ذكر الاسم الحقيقى و الكامل و مكان الاقامة مدة بقاء المقال فى هذه الصفحة 10 اعوام
امدرمانيات بُرمة الثراء بقلم هلال زاهر الساداتي – القاهرة
سودانيزاونلاين.كوم sudaneseonline.com 16/12/2005 9:02 ص
هلال زاهر الساداتي – القاهرة حتى الأربعينات من القرن الماضي كان يوجد في امدرمان بقايا من بيوت المهدية وهي أكواخ أو قطاطي مستديرة مشيدة من الطين ويوجد في اعلي جدار القطية أو الكوخ فتحة أو كوة للتهوية أو قد تكون فتحتان كل منهما في جانب وهي ما نسميها (الطاقة) ولكل قطية باب منخفض صغير وهذه المنازل تسمي الدَردآر ووحداتها دُردُر , وكان الكثير منها مهجورا بعد أن تركها ساكنوها بعد احتلال الغزو الإنجليزي المصري لأمدرمان فمنهم من هاجر غربا مع خليفة المهدي عبد الله التعايشي ومنهم من رجعوا إلى أماكنهم الأصلية , وبقي قدرا من المدينة مليئاً بأشجار اللالوب والنباتات الطفيلية , ولذلك أغرى الحكام الجدد من بقي من السكان ليتملكوا الأماكن ويعمروها وقد اخبرني الوالد بأن متر الأرض كانت تبيعه الحكومة بمليم واحد فقط (يسوي الجنيه ألف مليماً) . وكانت المنطقة الممتدة مما يلي طوابي المهدية بجانب النهر والي بيت المال و ابوروف والتي تشغلها الآن جامعة القرآن الكريم للبنات ومدرسة امدرمان الثانوية للبنات و مباني الإذاعة والتلفزيون والمسرح القومي وحتى ابوروف وبيت المال منطقة ملأي بالحفر واشجار اللالوب والنبق والحنبق . أما البرمة فهي الإناء المعروف من الفخار والذي يوضع فيه العجين لعمل الكسرة , وكذلك يحفظ فيه اللبن أو الروب , وتوضع فيه المريسة وهذه الاستخدامات ما زالت موجودة حتى اليوم . والي جانب هذا كان للبرمة شأن وأي شأن في المهدية فقد كانت تستعمل كخزنة للذهب والحلي والنقود فيضع الواحد ثروته فيها ثم يدفنها في الأرض داخل منزله في مكان لا يعرفه أحد سوآه , ومن هنا جاء المثل القائل (أدآها البكما) أي باطن الأرض التي لا تتكلم بما فيها . وفي ذلك الزمان لم يكن هناك بنوك أو خزائن حديدية تحفظ فيها النقود والحلي , وقد وفق القوم في اختيار البرمة لأنها لا تصدأ ولا تبلي , وقد اكتشفت آواني فخارية في حالة سليمة وعمرها آلاف السنين . وكما ذكرت فان سكان أمدرمان بعد الغزو قد هربوا وأخلوها واستشهد الكثير من الرجال في سهول كرري تاركين ورائهم ذرياتهم وكل ما يملكون وكان عند البعض منهم البرام المليئة بالنقود والذهب والتي لا يعرف سرها سواهم , فقد استشهدوا وماتت معهم أسرارهم عن أماكن تلك الثروات المدفونة . وعند بناء المنازل مكان الدرادر وحفر أساساتها كان يصدف العثور على تلك البرام , وكانت الحكايات تتواتر عن أن ناس فلان وجدوا برمة وذلك بعد أن ظهرت عليهم فجأة علامات النعمة والثراء . وقد اشتهرت المنطقة التي وصفتها في بداية هذا المقال وكانت معروفة بمنطقة الحفر , اشتهرت بالبرام التي وجدت فيها , وكان يجري التنقيب فيها من الباحثين عن الثروة من البسطاء والفقراء الذين تداعب أشواقهم أحلام الثراء . وللمصادفة أنه بعد أكثر من أربعين سنة كانت المنطقة بجانب النهر وطوابي المهدية وحديقة الريفيرا مسرحاً للتنقيب , ولكنه تنقيب من نوع آخر , ففي عام 1983 عند تطبيق الشريعة أريقت زجاجات الخمر في النهر وحطم البلدوزر صناديق الخمر و زجاجاتها وأهال عليها التراب ولكن ظلت أعداد لا يستهان بها من الزجاجات سليمة . فكان الشاربون المحرومون يردون المنطقة للتنقيب عنها , حاملين معهم أدوات مختلفة للحفر مما دعا السلطات لفرض حراسة على المكان ومنع الناس من الاقتراب منه . ومما يذكر عن طلاب المال السهل وعن أي طريق كان أنه ظهر لأول مرة خلال سنين الحرب العالمية الثانية ( 1939 _ 1945 ) فئة عرفت بتجار الباراشوت وهؤلاء كانوا يشترون المواد التموينية من المواطنين الفقراء بأثمان بخسة ثم يبيعونها في السوق السوداء بأسعار غالية , وقد أغتني البعض منهم من هذه العملية وابتنوا الدور والمنازل والمتاجر . وبدايات الفساد هذه انتقلت إلى فئة كمسارية القطارات وظهرت فئة ركاب الباراشوت أيضاً وهؤلاء يركبون القطار بدون تذاكر و ( يغمتون ) للكمساري قدراً من ثمن التذكرة وبنفس الطريقة ( الغمتة ) يتحول الراكب من درجة أدنى إلى درجة أعلى أي من الثالثة أو الرابعة إلى الثانية , أو من الثانية إلى الأولى , وقد أغتني بعض الكماسرة واشتروا منازل في أمدرمان وافتتحوا دكاكين في الأحياء وودعوا السكة الحديد وخلعوا بدلة الكاكي ولبسوا العراقي والجلابية . وقد جارى قلة من كمسارية الترام زملاءهم في القطارات ولكن حظوظهم كانت هزيلة فالراكب كان يدفع نصف ثمن التذكرة نظير الركوب لمحطة أو اثنتين , وكان ثمن تذكرة الترماي زهيداً فالتذكرة من المحطة الوسطى بأمدرمان وإلى المحطة الوسطى بالخرطوم بقرش للدرجة الثانية وقرشين للدرجة الأولى , ( الجنية مائة قرشاً ) أما الاختلاسات فقد كانت نادرة إلى حد العدم , وأول حادث اختلاس حدث في أوائل الخمسينيات وأحدث أثراً كالزلزال في المجتمع , واشتهرت بقضية ود البدوي , وشغلت الصحف الناس زماناً طويلاً , وكان ود البدوي صرافاً استولى بالاختلاس على عشرين ألفاً من الجنيهات , وكانت القضية مثار استغراب واستهجان الناس لما كانت عليه الأمانة والعفة من المسلمات وبخاصة من الذين يتولون الخدمة المدنية والذين يلون حفظ وصرف المال , وتحدثت المدينة عن سفه ذلك المختلس فقد كان يشعل السيجارة للمومس بورقة من فئة الخمسة الجنيهات ! وانفق المال الحرام على النساء الساقطات والخمر والذبائح والليالي الحمراء , ولقد قدم للمحاكمة ونال حكماً رادعاً بالسجن لمدة أثنى عشر عاماً أن لم تخني الذاكرة . وإذا أراد المرء أن يعقد مقارنة بين الأمس واليوم فان المقارنة منعدمة , فالاختلاسات بالملايين والمليارات ولا حسيب ولا رقيب والمختلسون صاروا من علية القوم ويشار إليهم بالوجيه فلان والوجيه علان , وانقلبت الآية , فاللص مكرم والعفيف مهان , والشريف يقبض على جمر الفضيلة بينما يقبض الفاسق على ذهب الخزي والعار ويحكم ويتحكم في رقاب العباد . ومن أحلام بُرمة الثراء البريئة إلى مليارات الاختلاسات الإجرامية . [email protected]
للمزيد من االمقالات