نوعان من البشر يمثلان نقيضى بعضهما، ومصدر التناقض تحدده جغرافية المكان الذي
تنظر من خلاله لكل واحد منهما.. بعضهم عندما تنظرهم من على البعد تزدان لك
الملامح والطباع... وعندما ترغب في مزيد من المتعة البصرية والمعرفية، وتظن ان
اقترابك أكثر يوفر لك ذلك ومزيداً، سرعان ماتصفعك المفاجأة، وانت تجد ما
لايسرك، و تكتشف ان الفاصل الجغرافي الذي باعد بينكم قد قام بتضليلك!!
والتضليل الآخر هو معكوس الاول، بمعنى ان ترى شخصاً من على البعد فيوحي لك بما
يقلقك او يزعجك او بما لايريحك.. وعندما تقودك الصدفة للاقتراب منه، تكتشف فيه
محاسناً من الطباع غابت في الدكتور وجدي كامل ان قلت له انك من النوع الثاني؟؟
وجدي من على البعد يعطيك ا نطباعا بأن فيه شيئاً من غرور وصلف وبه حالة دائمة
من الامتعاض، وعلى تقاطيع وجهه مظاهرة النظر اليه من على البعد!!
هل ينزعج احتجاجية صامتة رافضة لكل شئ، وعندما يجتهد في المجاملة ويبتسم، تبدو
ابتسامته اقرب للسخرية!!
قد تكون الصدفة وبعض الترتيب ما وفرا لي فرصة ان اقترب من حفيد شاعر الحقيبة
وناظم اغنية بدور القلعة صالح عبد السيد ابوصلاح.. حفيده السينمائي المخرج وجدي
كامل واستاذ الاعلام بجامعة الخرطوم..عرفته اولاً عبر المقالات التي كانت تنشر
له بالصحف الخليجية، وعندما انتظم معنا بالصحيفة كمسؤول عن القسم الثقافي
اقتربت منه بحذر، فأنا لا اجيد التعامل مع المصابين بمس الغرور ولا مع فاقدي
الثقة في انفسهم ويريدون للآخرين ان يقنعوهم بأنهم جيدون..كنت اظن ان وجدي من
المغرورين..ولكن يوما بعد يوم وحاجزاً بعد حاجز ادركت ان الرجل على نفسية صافية
وعقل متقد, وماتوحي به شخصيته من على البعد هي رواسب تجارب يومية تراكمت لديه
بعد عودته للسودان، بعد اغتراب قارب العشرين عاماً نال فيها دكتوراة في السينما
من الاتحاد السوفيتي سابقا، فأراد ان يستثمر معارفه في السودان فعكف على انتاج
مجموعة من الافلام التسجيلية فاز احدها وهو «العقرب» عن الفيضانات في الشمالية
بالميدالية الذهبية في مهرجان الاذاعات والتلفزيونات الافريقية، و«الكمبلا» في
جبال النوبة و«الجمعة في حمد النيل»، كان عليّ ان اشاهد فلميه العقرب والكمبلا
في مكتب الصديق العزيز عادل الباز رئيس تحرير الصحافة الغراء فأدركت حينها ان
عالم السينما التسجيلية بالسودان يستقبل طاقة ابداعية نادرة.. مخرج يستنطق كل
مايقع في بؤرة عدسته.. يقول الكثير دون ان يفتح فمه او يحيلك الى اسفل
الصفحة!!
الزميل العزيز الخاتم محمد المهدي واحد من ابرز الكوادر السودانية بقناة
العربية التي تبث برامجها من دبي، جمعني والدكتور وجدي كامل على انتاج تجربة
تلفزيونية فريدة توثق لقصة الحرب والسلام في السودان منذ العام1955 الى نيفاشا
تحت اسم «السودان..وصمة حرب».. وكان الفيلم على ثلاثة اجزاء بثته قناة العربية
بعد ترويج اعلاني واسع قمت بكتابة نص الفيلم وقام وجدي بتحويل النص الى محاضرة
بصرية بليغة التعبير!!
ما جعل وجدي يبدو ممتعضا كأنه يعاني من زكام المكان، انه وجد الاجهزة الاعلامية
كأنها محصنة ضد المبدعين، الا من قلة قليلة من المخرجين تسربوا اليها عندما
نامت النواطير امثال الرائع سيف الدين حسن الحائز على عدة جوائز اقليمية
وعالمية والشابين المبدعين مجدي عوض صديق ولؤي بابكر صديق وبعض من آخرين من
امثال ابو بكر الهادي!!
وعند اقترابي اكثر من وجدي، اكتشفت ان جينات ابو صلاح قد نقلت اليه اسرار
القوافي ففي فيلمه قصيدة بديعة تحمل اسم تمارين فيما يخص العدو على الماء يقول
فيها:
على الثلج حافياً
امشي
برجل
وأعطس بالاخرى
مناسبة الحديث عن وجدي كامل ان سينما قاعة الصداقة ستعرض ثلاثة من افلام الرجل
، في محاولة لانصاف مبدع مصاب بالامتعاض!!