قضية دارفور تمثل عرضا مؤلما لمرض اجتماعي بليغ يصيب السودان، و هو الفشل في تحقيق التعايش الاجتماعي المؤسس على الشراكة العادلة الشاملة، و المساواة الفاعلة في الحقوق و الواجبات، و الاحترام الاجتماعي و الثقافي المتبادل.
وقد نجم عن تطاول هذا المرض عبر السنين نزوع أهل دارفور إلى الدائرة الأصغر (الإقليم) بحثا عن المنعة، و الثورة على النظام دفاعا عن حق الوجود و العيش الكريم. و رأت الحكومة في بادئ الأمر أن ما يجري في دارفور لا يعدو كونه شغبا لقطاع طرق، يمكن حسمه عسكريا أو أمنيا، و لا مجال فيه للسياسة، فنتج عن المواجهة المسلحة التي ارتضتها آنذاك إزهاق للأرواح و نزوح داخلي و لجوء خارجي و ترمل و تيتم و جراح و تشريد و تدمير للأخضر و اليابس في اقليم دافور، و تبعه تداع و استنفار دولي غير مسبوق بسبب أكبر الكوارث العالمية في الوقت الراهن.
و في ما يلي محاولة مختصرة جدا لعرض المحاور الرئيسة التي قد تكون سبيلا لحل مستدام لهذا المشكل السياسي، مستصحبين في ذلك قراءة للعقل السياسي الجمعي لأهل دارفور، و العقل السياسي للحكومة القائمة.
أولا: طبيعة القضية: دعوى بوقوع ظلم ناتج عن إهمال و تهميش:
هذا المحور معترف به لدى الحكومة، برغم الاختلاف على مقدار الظلم الناتج عن هذا الاهمال أو التهميش، و مقدار مساهمة الحكومة فيه، و ما إذا كان الأمر واقعا على كل أقاليم السودان. و يكفي الجزء المتفق عليه لاعلان مهمة رفع الظلم و سماع أهله كبداية صحيحة أتت متأخرة جدا في حالة دافور. هذه المعاني محلها ديباجة الاتفاق، و هي تعين على فهم روح الاتفاق السياسي و نصه.
ثانيا: طبيعة الظلم: نقص في المشاركة في السلطة و الثروة على المستوى القومي:
على الرغم من بعض المشاكل الاجتماعية و الاختلالات الثقافية إلا أن المشكل السياسي و المشكل الاقتصادي يشكلان العصب الأساسي في قضية دارفور، و ربما أدى التوصل إلى حل للمشكلين السياسي و الاقتصادي إلى تحسن طبيعي في البعدين الاجتماعي و الثقافي، بسبب اعتمادهما على أسباب التمكين السياسي و الاقتصادي. لهذا فان تحقيق القسمة العادلة و الفاعلة للسلطة و الثروة على نطاق السودان سيكون أساسا مباشرا لحل قضية دارفور.
ثالثا: المقدار المستحق من السلطة و الثروة:
بدلا عن السؤال عن (معيار) أو (معايير) قسمة السلطة و الثروة، يجب ابتداء السؤال عن المقدار المستحق منهما لأي اقليم. و الاجابة في غاية البساطة: فطالما أن "السودان للسودانيين" جميعا، و طالما أن هذه الملكية تكون على الشيوع و بالتساوي بين كل أفراد الوطن أو المواطنين، بلا تفرقة على أساس الجهة أو العرق أو اللون أو اللغة أو الدين أو غير ذلك من أسباب الهوية الشخصية، التي لا يد لأي انسان في كيفية تكونها (بخلاف أسباب الكفاءة التي تكتسب بالتعلم والخبرة)، فان أي فرد يستحق من السلطة القومية و من الثروة القومية نفس المقدار الذي يستحقه أي مواطن سوداني آخر .. و لمعرفة استحقاق السوداني الواحد لابد من قسمة المكون القومي على عدد سكان السودان، فقط لأغراض الاحتساب و التقدير، لا القسمة الفعلية المباشرة ..
و يؤدي هذا التحليل إلى اختيار المعيار الأنسب للتقدير .. ليكون تعداد السكان هو المعيار الأكثر عدلا .. حيث تساوي وحدة الحساب فيه (مواطن) واحد .. و هو معيار تقدير المشاركة السياسية في النظم الديمقراطية، حيث يقولون (صوت واحد لكل شخص واحد) .. و بتطوير ذلك إلى مجال قسمة الثروة يمكن أن يقال (جنيه واحد لكل شخص واحد) ..
و وفقا لهذا المعيار يمكن (معايرة) كل ثروات البلاد و سلطاتها لتحديد ما تستحقه وحداتها الجغرافية من كل ذلك، و من ثم إدارة الموارد السياسية و الاقتصادية من حيث هياكلها و طرائق التخطيط لها و تحديد أولوياتها وفقا لذلك المعيار. و قد يرى البعض إضافة معايير أخرى لكن لابد أن تكون كلها محكومة بمعيار تعداد السكان، أو تعداد المواطنين، حتى يكون المغزى أوقع، باعتباره (معيار المعايير) في قسمة السلطة والثروة.
و بتطبيق هذا المعيار على اقليم دارفور الذي يقطنه خمس سكان السودان أو يزيدون قليلا، يمكن بكل سهولة أن نقول أنهم يستحقون (الخمس) في كل ما هو سوداني من الموارد: سياسية كانت أو اقتصادية. أما كيفية احتساب (خمس) السلطة أو (خمس) الثروة فهذا من أعمال الفنيين و العلوم الطبيعية مما لا صراع فيه. و كل ما يلزم أطراف النزاع هو الاتفاق على أن أهل دارفور يستحقوق هذا الخمس، و أن أهل كل اقليم يستحقون من ثروات السودان و سلطاته بنفس نسبة عدد السكان للتعداد الكلي للسودانيين. و من عجائب الأقدار أن تكون مساحة اقليم دارفور تساوي أيضا خمس مساحة السودان.
أما فيما يتعلق بالتفاصيل فيجب أن تندرج تحت كل ما من شأنه تأكيد القسمة العادلة للسلطة و الثروة .. سواء كان ذلك يتعلق بمستويات الحكم (اتحادي، اقليمي، ولائي، محلي) أو بالمشاركة في مؤسسة الرئاسة (تداولية Rotational أو تزامنية Simultaneous) أو بالمشاركة في مفاصل الثروة و السلطة (و هي مكامن مراكز القوة في المؤسسة الحاكمة و المؤسسة الاقتصادية القومية) أو في قيادة الخدمة المدنية، أو في قيادات القوات المسلحة و جهاز الأمن والشرطة و القوات النظامية الأخرى، أو في حكم الولاية العاصمية (التي لها طبيعة قومية تطغى على أي طبيعة محلية)، أو كان ذلك يتعلق بأي شكل آخر من أشكال المشاركة القومية في السلطة و الثروة.
إن التوازن الاجتماعي الذي تعذر تحقيقه بالتراضي و الحب لا يمكن أن يتحقق إلا بالحساب ، و هو العلم الذي كان يسميه التلاميذ في السودان بأنه (فرّاق الحبايب)!! و هو أيضا علم العدل الفاصل بعد أن تعذر الاحسان الوسيع.
رابعا: الضمانات المطلوبة:
لقد أدى ضعف الثقة بين أطراف النزاع إلى ضرورة اللجوء إلى ضمانات تؤكد وصول الاستحقاقات التي سيتفق عليها إلى أهلها ناجزة غير آجلة و كاملة غير منقوصة .. و في ما يلي أهم هذه الضمانات:
1- أن يشهد الاتفاق السياسي شهود على كل المستويات: الوطني و الافريقي و العالمي.
2- أن يراعى في وضع التدابير الأمنية لما بعد الاتفاق خلال الفترة الانتقالية ما يضمن سلامة تنفيذ الاتفاق بعدل و قسط على أرض الواقع و عدم الارتداد إلى وضعية النزاع المسلح.
3- النص على تضمين الاتفاق في نصوص الدستور القومي، مع النص أيضا على تحصين بنوده ضد التعديل إلا بعد الحصول على موافقة ثلثي البرلمان المحلي و ثلاثة أرباع مواطني الاقليم في استفتاء شعبي. و يجب أن يكون هذا (من حيث نسبة السلطة و الثروة) حقا لكل اقليم من أقاليم السودان الأخرى، كل بحسب تعداد سكان أهله، دونما أي حاجة لنزاعات مسلحة جديدة، فيكون في هذا النص حماية لحقوق أهل السودان كلهم بعدالة و قسط.
4- النص على تكوين مفوضيات و صناديق تمويلية و هيئات تنموية بمشاركة أهل الاقليم و الحكومة لضمان تنفيذ بنود الاتفاق السياسي و فض النزاعات التي قد تنشأ حول التنفيذ أو تفسير بنود الاتفاق.
بمثل هذا النهج، و بتطويره بما لا يفرغه من جوهره و مقاصده العدلية، يمكن التوصل إلى حل معقول لقضية دارفور، و من ثم قضية التعايش السلمي الرضائي في السودان كله.
و الله من وراء القصد إذا حسنت النوايا ..