شهدت حركة الثقافة و الوعي السياسي منذ فجر انعتاق الشعوب المتخلفة صراعات
ولدت مع استقلالها فتلونت الساحة السودانية كمثيلاتها بالوان عدة و اشكال
مختلفة من افرازات العقول المنتخبة اوتوماتيكيا , نسبة لعدم توفر العلم و
التنمية مبكرا . فهاجت شجون المولعين بالتبعية العمياء حتى صنعت قواعد ثابتة
لكل المقاييس فجعلت منها ثوابت غير متغيرة لاصنام فكرية شكلها و صورتها تراود
المثقف الجديد . و في ظل الاعتداد بالفكر او الحزب السياسي ولد الراسخون في
اعتناق الثوابت و جعلوا المتغير رهن اشارة الفقيه السياسي لا يلوذون به الا
عندما يصنعه غيرهم . وهكذا مرت الحركة الثقافية تتبع الفكر السياسي انى ذهب ثم
مرت الثقافة على ثوابت الامة و هي غافية متساهلة فتحت الباب لمن يريد ان يضيف
كشاهد على عصره و عمود من اعمدة الفكر التي لا تهمل و يضعف ما يستطيع اضعافة
بالمحاولات اليائسة.
لكن هذه الحركة الدؤؤبة في سبيل التغير اخذت تتغير في نطاق الحاجات المحدودة
غير القومية و جعلت من الثوابت متغير يلوذ بالفكر السياسي بدلا من الحس الوطني
و منذ فجر الحركة الثورية في سبيل التحرر الفكري و الثقافي حتى الآن لم يصنع
التاريخ رجل يجعل جل فكره لوطنه دون ان يأخذ عليه الشعب مآخذ مخذية تصادر
حقوقهم او مغتنياتهم . فرح الناس ببساطة فكرهم بالمكتسبات التي جعلتهم في ضوء
النهار حاسين بالحرية و نعمة الفكر الذي يغذو العقول بدرجة من الدهشة. ففرح
الناس بالممارسة و كان هذا مبلغ همهم .فسقط الوطن في درك الاضمحلال وثقافة
التضحية فذاد الشقاق و نسى الناس التآلف العاطفي الطوعي الذي تدفق في مرحلة
الاستعمار و كانما لسان حالهم يقول : " اخرجوا من بلادنا و دعونا نخربها فهي
لنا" ليس هناك من يريد ان يكون عبدا لأحد او اداة لبشر و ليس هنالك من لا يعشق
الحرية الا متخاذل لا يحفل بعتق نفسه من شدة الهوان و الضعف.
فثوابت الامة السودانية يحس بها ذلك الامي الذي يقبع في مزرعته او يرعى غنمه في
اقاصي البلاد و يتمسك بها , ثوابت الامة لا تقبل التحريف او التعريف المؤدلج
الجديد. فحري بالمثقف ان يؤمن بثوابت البلد كايمان الشيخ الكبير بدينه و عقيدته
دون تحريف او زيف. جوهر الوطن تحس به في لغة البسطاء الذين يعشقون اراضيهم
كعشقهم لآبائهم او ابناءهم او زوجاتهم . رائحة الوطن اصدق و عشق اراضيه ازكى من
رائحة الكتب و رونق الزهور الصورية المصنوعة. تناسلت افكار في داخل الوطن هي
ابعد عن رحم الوطن ربيبة مصنوعة فتسامح الناس في تربيتها فغدت بنت حميمة و
لكنها طريحة الغربة النفسية في ثقل الوطن.
الحضارة التي بنت السودان هي ذاكرة الوطن و البشرة القديمة هي لون الوطن و
الفكرة العتيقة هي نفس الوطن فغابت ملاحم الوطن في شرفات القصور في نزوات
الربائب و ماتت في اعين البسطاء بسكين الغدر.
المثقف هو العمود الفقري لجعل الحياة سهلة و ايجاد تفسيرات لها كما انه يتصالح
مع نفسه من اجل تشجيع الحوار الذاتي و الحوار مع الآخر. فميلاد الحضارة هي
واحدة من ثمرات المثقف الذي يستطيع معالجة الاشياء التي تغم على العامة .يستطيع
ان يساهم في سلوك المجتمع و يجعل له ثوابت او بمعنى آخر يجمل الاشياء المخفية
بادواته او يفعلها . فالسلوك الاقتصادي المعين مثلا يمكن ان يجعل الانسان ان
يترك كثير من الاشياء التي كان يمارسها في ظل غياب ذلك السلوك في شكل حواره مع
الغير بقدرة اقتصادية معينه او عدم وجود شكل ظاهر يجعله فاقد الاهلية الفهمية
او الممارساتية في ظل مجتمع ما يعيش تحت لواء حقبة معينة. و ربما تغير تناول
كلمة معينة من مجتمع لآخر من وجهة نظر مصطلحية يؤدي الى توسيع شقة التفاهم و
التواصل . و اذا ما فهم المثقف او اوصل هذا الفكر لغيره من العامة الذين
يخاطبهم و يتعامل معهم وربما التعامل بشفافية و شجاعة ما يعين المجتمع لمحو
الضغاين او محو الرواسب فالشفافية هنا انجع وسيلة و اشجع وسيلة الى خلق
الارتياح بين الشعب و المثقف او المفكر الذي لا يجب عليه الانفصال عن قاعدته او
التلويح بالاستهتار او العلو او ملاحظة الشعب الفوارق الطبقية لان الانسان هو
شخص ينتمي الى قيم يجب سردها و فعلها باشكال مختلفة حسب الوسائل التي يحتكم
اليها من مثقف الى انسان عادي فليعرف انه يعيش لغيره و ان لم يكن غيري فهو اذا
له فكر ترفي او استعراضي .
اذاً ازاحة الستار عن الخلافيات و توضيح جور النفس و الذات هو عملية محورية في
بناء الشخصية الوطنية. ثم من بعد ذلك ناتي الى تضحيات الشعب في مراحل تدرجه من
الراعي الى الرعية و نضالات الشعب ما هي الا اعتراف و احترام لقوانين استنها
الناس و الجماعة التي تفكر في المصلحة العامة بخلوص نية لا يحالفها الفشل او
الانكسار. و من هنا يكون الانتماء سليم ومقبول و يكون صنع الحضارة التي هي
السلوك و الاخلاق و البنيان المادي اسهل من كل شيء. و اذا ما طال الانتظار
بالمفكر دون الوصول الى حل لمشكلات الشعب فليعرف انه بلا يقين وطني او انه لم
يدرك موطن الخلل او ان سلوكه يذهب في اصقاع لا تهم المواطن بشيء . اذا كان
المثقف يجري سنينا طويله بلا هدف او حلول فهو اذا لم يرد الخير للوطن . و هنا
تصبح صفة الانتماء مطلقة لفكر حصري تقتل فيه اتساع الافق ليشمل في دواخلة مساحة
للآخر فلا تنشط الحركة الانسانية .
مفهوم النظر الى الثوابت بعقلية انفصالية عن المجتمع كبنية او الشعب كهدف تجعل
المنتج ليس الا افكار بالية لا تعطي صفة الاقتناع و تؤدي الى القوقعة . و نسبية
النظر للثوابت بعقلية ثابته لا تنفك عن ابجدية قد خلقها المفكر ثم اقر بعدم
جدواها , قد يؤدي الى فرط رواق الصدق و التمازج ومن ثم يقود الى ازلية فكرية لا
تخلو من الامراض المزمنة ذات الملمح الخلافي . ويصبح موت الفكرية شيء غير جائز
مما يؤدي الى كارثة الارث الثقافي الضال و بالتالي الى الصراع الاعتباطي ذو
الملامح اللاعلاقية مع لب الموضوع .
الثوابت ليس بالضرورة ان تكون هي الشخصية نفسها بل عليها التغير في حيز
المباديء العامة او في حيز المصلحة العامة . فالدولة العظيمة هي التي تبقى و ان
تعاقب عليها احزاب مختلفة لكن يبقى احترام قوانين البلد و احترام انسان البلد
في المقام الاول فهذا هو حيز الثوابت اما المتغير فليتغير السلوك الاقتصادي او
السياسي ليصب في النهاية في قالب المصلحة العامة حسب التغيرات الوطنية او
التغيرات العالمية او الاقليمية المحيطة . و من الذكاء بمكان ان ينجح المفكرفي
صنع تاريخ حضاري يضم في دواخله ثوابت و مباديء لا يلحقها التغيير الا في فروعها
التي لا تلمس مصلحة الوطن والمواطن و ليكن مقياس التغير متفق علية بالوعي العام
و من هنا يمكن للحضارة ان تكون انتاج يسعى بين ايدينا لا يفرض بقوة السلاح او
الانقلاب بل من حدثان شعبي جماهيري و فكري سلس.
بقلم: أ . احمد يوسف حمد النيل - الرياض