...ترجمة أحمد الأمين أحمد
إشارة أحمد
تنتمي هذه المحاضرة\الكتاب إلى إحدى مجالس المسامرة التي كانت تنتظم أمسيات معهد الدراسات الأسيوية والإفريقية بجامعة الخرطوم عندما كان "وحدة أبحاث السودان" وكان رواده في بهاء شاعر الشرافة و النار المجذوب والنور عثمان أبكر وابوذكرىو و شاعر الزنوجة الأكبر سنغور إذ يروى أنة زار المعهد المذكور إثر هبوطه الخرطوم أواخر سبعين ومطالع ثمانين القرن العشرين مشاركا حكام إفريقيا مؤتمر قمتهم أم هو مؤتمر الأحزاب الاشتراكية بافريقا؟ ندا عنى الأمر وقتها كان الدكتور إسماعيل الحاج موسى وزيرا للثقافة وعبدا لحى مديرا لمصلحة الثقافة هذا ولقد ترجم له عبد الحي وحشى بعض قصيدة في ترجمة إبداعية ثانية ضمن مختاراته عن الأدب الأفريقي التي أسماها "أقنعة القبيلة" ....
ولقد نشرت هذة المحاضرة\الكتاب باللغة الإنجليزية في كتاب تحت العنوان "Conflict and Identityضمن سلسلة "كراسة السمنار الأفريقي" تحت الرقم 26فى العام1976بمبادرة طيبة من مدير المعهد وقتها العالم المحقق يوسف فضل حسن...
تنبع أهمية هذا الكتاب\المحاضرة أنة ينتمي إلى مرحلة غنية و حاسمة فى تطور فكر ووجدان الشاعر محمد عبدا لحى 1944-1989م حين كان يجلس للحوار والمسامرة ضمن مجموعة اصطلح عليها نقديا ب"الغابة و الصحراء" خارجا من خواتيم مرحلتة الوثنية - على المستوى الجمالي - فالرجل شهد فى رسالة خاصة لصفية الشاعر عمر عبد الماجد صاحب ديوان " أسرار تمبكتو القديمة" أنة مسلم على المنهج السني-والتي أشار إليها الأديب الثبت الدكتور أحمد البدوي في مقالة ألما تع بمجلة الناقد اللندنية العدد الثلاثين كانون الأول من العام1990مشيرا إلى أنة قد حاول طمسها وإنكارها وإسقاطها نهائيا من تاريخه الجمالي..قلت ربما لأنها تشير إلى الانشطار والتمزق بين الناس قبل أن يشير فى حوارة قبل الأخير مع الكاتب والمسرحي الراقي عبد اللة محمد إبراهيم حول ثنائية الفكر والوجود إلى أن الإنسان واحد عند اللة كالكعبة المشرفة!ويلاحظ المتأمل فى حوارات عبدالحى المتعددة إلى أن هذا السفر رغم صفرة يعد أكثر الأسفار التي أحال إليها الشاعر تارة باسم " الصراع والانتماء" وأحيانا باسم "الهوية والصراع " أو " الألفة والصراع".
جلست فى مجالس درس عبدالحى بآداب جامعة الخرطوم 1984--1988 وقرأت علية " مدخل إلى الشعر الانجليزى الحديث" و "شعر الحرب" وأكملت ترجمة سفرة هذا ذات خريف بعيد بفندق فكتوريا بأسمرة الجميلة تجرحني بسحرها ونظافتها ويحرق فؤادي صفاء ألوان ورقة أهلها وقد عرضتها على الناقد الكبير مجذوب العيد روس بالخرطوم فاستحسنها ونشر نتفا منها فى صحيفة "الشارع السياسي" السودانية ضمن احتفالة بالذكرى التاسعة لرحيل الشاعر كما عرضتها مرتين على التشكيلي المبدع المتواضع حسين جمعان الذى سامر عبدالحى طويلا بلندن والخرطوم وصمم "حديقة الورد الأخيرة" ورسم اللوحات المصاحبة لأناشيدها .
"مدخل"
ورد فى الملحق الخامس"الموسوم "الأعراق البشرية السودانية"ضمن مذكرة موجزة أعدها ضباط حكومة السودان العام 1904 أي بعد سنوات خمس من قيام الحكم الإنجليزي المصري أنة ..وبدون مقدمات علمية دقيقة تختص الإفادة الأنثروبولوجية الوصفية التالية ب"الطبيعية العربية الإفريقية الهجين لثقافة شمال السودان وتقرأ"ألان وبكل المقاييس لقد ساد العرب فى كل الجزء الشمالي من السودان والممتد من مصر إلى كردفان بعد أن أذابوا كل السكان الأصليين الذين سبقوهم فى تلك الفجاج وفى معظم الأحوال لم ينجحوا فقط فى فرض لغتهم عليهم والتزاوج معهم بحرية فحسب بل لقد نجح فتحهم بصورة تامة الأمر الذي أدى إلى ذيوع تعاليم دينهم و علاقاتهم القبلية بدلا عن المعتقدات والمؤسسات القديمة...الأمر الذي يقلق مضجعنا ثم أن هؤلاء القوم يصنفون أنفسهم عربا ونحن بالمقابل نقبل المصطلح لكن بالتأكيد من الخطل اعتبارهم خلصا يعود نسبهم البعيد إلى عرب عصر النبي محمد صلى الله علية و سلم"
لقد أثارت مسألة العلاقة بين العروبة و الأفريقية مؤخرا اهتمام علماء السياسة والتاريخ والأجناس السودانيين منهم والأجانب على السواء ففي شباط من العام 1968نظمت وحدة أبحاث السودان مؤتمرا حول الموضوع ..حيث سعى علماء من جنسيات شتى إلى "محاولة إزالة اللبس عن هذا القطر الشاسع المعروف باسم السودان " ويمكن فى هذا السياق تأمل عبارة د.مدثر عبد الرحيم اختصاصي العلوم السياسية وأحد أبرز المشاركين فى ذاك المؤتمر كتعبير دقيق ومباشر لموضوعة إذ يقول"لقد امتزجت العروبة بالإفريقية كليا في شمال السودان الأمر الذي أدى إلى استحالة التمييز بينهما بأشد الأراءتجريدا فالأغلبية العظمى من السكان يشعرون بأنهم "عربا وأفارقة"فى ذات الوقت دون أدنى شعورا بالتوتر والتناقض ."
لقد كان المحور الأساس لمؤتمر "السودان فى إفريقيا "كما أسماةالدكتور يوسف فضل محرر الاوراق التي اختيرت ونشرت لاحقا فى كتاب بالإنجليزية تحت العنوان أعلاه هو التركيز على مفاصل التواصل والتشابه والتباين بين السودان وماجاورة من بلدان إفريقية عبر منطلقات لغوية و أثرية و تاريخية و اجتماعية و عرقية وسياسية لكن الملفت غياب المنطلق الأدبي الذي يعتبر دون أدنى شك المصهر الذي شكل قاموسا لغويا جديدا أتاح وصف الانتماء الثقافي الأمر الذي جعل الشاعر السوداني المعاصر شاعرا ثقافيا فى المقام الأول والذي قد ظل منذ أواخر العشرين في القرن العشرين المبدع الحضاري للأمة و المنقب عن البذور المطمورة و مبتكر الصور المعقدة للهوية علية فإن موضوع هذا الكتاب\المحاضرة هو تعقب الخلق التدريجي لتلك الأسس الشعرية وتكوين اللغة التي أنجزتها.
. \2\
جماعة الفجر وما تلاها
لقد ساد بالسودان كسائر الدول الإفريقية عقب العقدين الأولين من قيام الحكم الإستمارى جيل من المتعلمين ممن تعلموا على غرار صفوة المتعلمين بأوروبا ولقد عاش الكثيرون منهم فى العواصم التي شكلها المستعمر الحاكم إلا أنهم سعوا عبر الحركات الوطنية إلى انتزاع السلطة عبر تأطير كياناتهم داخل الوطن المغتصب بدلا عن حصر انتمائهم داخل مجموعاتهم العرقية او مجتمعاتهم المحلية ولقد كان هذا الوعي الجديد فى الأدب تعبيرا عن البحث عن الجذور العامة للثقافة القومية والإرث العام للرموز الجماعية التي تتشكل عبر المجموعة العرقية ...
لقد كان ذلك بداية حمى خلق أدبا جديدا يعبر عن التجربة الإنسانية كما تشكلت وتجذرت من خلال تطورات وتعرجات الحساسية السودانية ولاشك يعتبر شاعر العشرين التجريبي "حمزة الملك طنبل "أول من سعى بوعي إلى تحقيق عناصر الشعر الجديد للإنتماءفى مشروعة الشعري إذ تعكس خرائدة التي ضمنها ديوانه الصادر في العام 1931تحت عنوان" الطبيعة" أثر الشعر الرومانسي الإنجليزي عبر استلهام منطلقات الشاعر الكبير William Wordsworth...الإحساس العميق بالأشياء الطبيعية إلى جانب الطبيعة المشحونة بواقعية موشاة بروح صوفية كذلك تمثل اشعارة مفارقة للأسلوب الخطابي الموروث عن الشعر العربي القديم وشعر الكلاسيكية المحدثة إذ تهبط لغته الشعرية إلى لغة الخطاب اليومي ..
لقد نادى طنبل شعراء السودان التضمين التام للروح السودانية والالتفات إلى الطبيعة والثقافة السودانية في أشعارهم علية فيعتبر هذا الشاعر أول من صهر وأستخدم مصطلح "الأدب السوداني"ويبدو سفرة النقدي الصغير "الأدب السوداني و ماينبغى أن يكون علية"شبيها بسفر Wordworth"تمهيد إلى القصائد الشعبية الغنائية" في هجومه المباشر على شعر سابقيه المباشرين وإضفاء خلفية على نوعة الخاص من الشعر لكن الأكثر أهمية بالنسبة لموضوعنا الراهن هو انتقاد بقسوة اسلافة الشعراء لكونهم أصداء خالصة للشعر العربي ثم إلحاحه أن الشعر المكتوب عبر قريحة شعراء السودان ينبغى إن يعكس حساسية وطبيعة بلادهم لكنة كان مبهما في فهمة لماهية "السوداني" ...
لقد صار ببداية الثلاثين من القرن العشرين "أثرا للمجموعة الأصغر من الكتاب والأكثر تعلقا بتعريف مصطلحاتهم ملحوظا ونسبة لمساهمات معظمهم فى الكتابة عبر منبر مجلة "الفجر"الثقافي الذي تأسس العام 1932ولسوف أشير إليهم لاحقا ب"جماعة الفجر"..
لقد عكست مجلة الفجر طوال سنوات صدورها الخمس الاندماج التدريجي والتنوع في الهوية الثقافية في الشعر السوداني التي أعلن عنها في مشروع "طنبل" ففي تحت عنوان "شاب سوداني يفكر "وصفت افتتاحية العدد التاسع عشر من تلك المجلة سياسة تحريرها "علينا في شكل ومضمون تحرير المجلة بقدر الإمكان الاهتداء بتراث أفضل ما عرف عن المجلات الإنجليزية الأسبوعية ولهذا فقد جندنا بعض الكتاب الشباب من الجيل الأكثر حداثة بحيث يعهد لكل واحد منهم قسما معينا ...نحن شباب هذا الجيل أبناء التراب وبواكير ثمار النظام الجديد الذىسيربط السودان بباقي بلدان العالم."
لقد كان معظم هؤلاء الكتاب الشباب كمحمد أحمد المحجوب "1909-1976"ومحمد عشري صديق و شقيقة عبداللة ويوسف مصطفى التنىمن خريجي كلية غردون التذكارية "Gordon Memorial College” التي عرفت لاحقا بكلية الخرطوم الجامعية"Khartoum UniversityCollege"قبل أن تتطور إلى جامعة الخرطوم"University of Khartoum"...وتبدو سياسة التحرير المتخيلة ك"محاكاة "أو "منافسة" ل"أفضل ما عرف عن المجلات الإنجليزية الأسبوعية " طموحة لكنها أقرب إلى الزيف إذ لم تأخذ النوعية المختلفة بصورة واضحة لقاري المجلة المستهدف ولا المشاكل الخاصة التي كان يتوقع مجابهتها علية فعاجلا ما ظهرت الحاجة للخضوع التام للوضع الثقافي والسياسي للدولة فظهرت بصورة منتظمة سياسة جديدة تبلورت في الإفتتاحية التي ظهرت بعد ثلاثة أشهر من الإفتتاحية الأولي"ليس مجديا على الإطلاق أن نحذو وقع الحافر على الحافر نهج العربية والأوربية الأخرى ..في حياتنا الخاصة هنالك قضايا سياسية و اجتماعية واقتصادية ودينية ليس لها نظير في الدول الأخرى.."
لقد كانت القضية الأساسية التي تعين عليهم مجابهتها هي الطبيعة الهجين لتراثهم الثقافي إذ نسبوا أنفسهم عبر القومية وليس العرقية لذا فقد كان اكتشاف اسما عاما لكل هذه المجموعات وتعريفة على شكل هوية ثقافية هما عاما ..ولقد تم تصويره مبدئيا على شكل تداخل عرقي "منذ عهد سحيق استقبلت هذه الرقعة من وأدى النيل بامتدادها في الصحراء والسهول على جانبيها تدفقا لا ينقطع من الغزاة والمهاجرين وتجار الرقيق ..وبدون استثناء فقد تم صهرهم وتشكيلهم جميعا داخل عناصر هجين جديدة." وهذا الإنجاز سف يتم دفعة خطوة نحو الإمام للتعبير عن مجرى قاموس أدبي جديد وكان الطموح الاجل نموذجا متكاملا:"تعتبر الهوية السودانية نموذجا ينبغى علينا جميعا العمل لاجل إنجازه كما عليها بأن تعكس كل عملنا مثل ما يجب أن تعكس سياستنا وتربيتنا و أدبنا وثقافتنا ...إنها الخطوة الضرورية التي ينبغى علينا اتخاذها قبل أن نسعى للتحالف مع أمة او أمم أخرى في سبيل التمازج القومي "..
لقد نشرت مجلة الفجر بأقلام مجموعة من كتابها عددا من الموضوعات التي اهتمت بتعريف مميزات و أشكال الهوية السودانية ولقد تابع الموضوع لاكثر من عقد من الزمان أحد أبرز أعضائها الشاعر المهندس والقانوني "محمد أحمد المحجوب –1909-1976" الذي شكل رقما بارزا في السياسة السودانية قبل وعقب الاستقلال وبلا ريب فقد كتب بعض افتتاحياتها التي ما تكتب بدون توقيع..
لقد حاولت مقالات المحجوب تقديم عرضا متكاملا ومنظما لرؤيته أو بعبارة أخرى رؤية "جماعة الفجر"حول مفهوم الهوية الثقافية وعلاقتها بالأدب و السياسة السودانية إذ دافع في نقاش نظمة "نادى الخريجين " بأم درمان في الثالث والعشرين من آذار 1935 عن الحركة التي تنادى ب"استقلالية الثقافة السودانية عن نظيرتها في مصر وبقبة العالم العربي" ضد ما نادى به الصحفي المصري الزائر حينها "حسن صبحي"حول الوحدة الثقافية لوادي النيل حيث أستمسك المحجوب بإكتشافة الخاص حول فكرة الثقافة المنطبقة على العنصر العرقي المنبت والشخصية الثقافية للسودان قائلا "لا شي يفرحني اكثر من سماع كلمة "ثقافة" مضافة إلى كلمة "السودان" لكن تعريفة المحوري للثقافة كان مستعارا من قاموس الشاعر والمثقف الإنجليزي الضخم ماثيو أر نولد"Arnoldعاش في العصر الفيكتورى والذي تمثل الثقافة عندة "الصورة الحضارية المثلى بالنسبة للأمة" كما يعتقد بان العوامل التي تتداخل في صناعة الثقافة تتمثل في:
-معرفة أفضل ماتم التفكير فيه او التعبير عنة من الأحداث الثقافية والروحية والاجتماعية التي تهمنا.
-"الدين "بوصفة المتحكم في حياتنا الروحية والمنجم الذي يهبنا الوسائل الضرورية ل "الكمال "الذاتي.
-العادات والأعراف التي تربين عليها والتي نعرفها ونتبعها بصورة آلية.
كما يضيف بان الثقافة وعبر تحويل مجرى الفكر الحر الخالص حول هذه العادات والأعراف تمكننا من مسألة قبولها أو رفضها على ضوء فهم عميق ودقيق ويعرف الثقافة ك"منهج و أسلوب للحياة المثلى سعيا وراء الكمال".
لقد أقتفي تعريف المحجوب للثقافة وعواملها أثر تعريف ماثيو أر نولد M.Arnoldللموضوع والذي أوردة في سفرة المشهور"الثقافة والغوغائية Culture and Anarchy" حذو النعل بالنعل وفية يقول "إن الثقافة هي السعي"وراء كمالنا التام عبر الحصول على المعرفة حول كل الأحوال التي تخصنا بمعرفة أفضل ما فكر فيه او عبر عنة العالم ثم التحويل عبرها تيار الفكر الحر النقي إلى آرائنا وعاداتنا المخزونة التي نتبعها آليا"..
كما يتبين لاحقا فان تطبيق المحجوب لفكرة "أرنو لد" في الواقع السوداني لم يكن بالصورة التي عناها صاحبها...صورة صفوية لوحدة مثالية عميقة التفكير تسمو فوق الصراعات ومايعتبرة من صغائر الأمور واهتمامات ضحلة للطبقات الإجتماعيه والصناعية والتجارية في العهد الفيكتورى..فالثقافة كما يعرفها عبارة عن معارضته" للفوضى والحيرة "السائدين في ذلك العهد على هذا المنظور فإن الثقافة تسمو "فوق فكرة الطبقة الى فكرة المجتمع كلة" ويضيف "أرنو لد " "في سياق طبقاتنا الاجتماعية فإننا نؤكد تماما طبيعتنا العادية التي تجعلنا أفرادا منفصلين أثناء الحرب \أما في سياق الثقافة فإننا نجرب "أفضل ما في ذاتنا "التي بموجبها نكون في انسجام واتحاد ذاتيين.
هذه الذات اللاطبقية المثلى قد تم التعبير عنها بواسطة الصفوة عدد محدود من الغرباء أفرادا ينقادون في العادة عبر الروح الإنسانية العامة بدلا عن روحهم الطبقية ويشكل هؤلاء الغرباء أقلية داخل أي مجتمع طبقي..
في كتابة الصغير "الحركة الفكرية في السودان"والذي وجهة إلى مؤتمر الخريجين في العام 1941 استعار المحجوب "1909—1976" مفهوم أر نولد حول الصفوة الأقلية التي تسمو فوق الصراعات وتنمو تلقائيا وطبقة بطريقة تناسب مفهومة الخاص لمسألة الهوية القومية في السودان وبحسب مصطلحات"أر نولد"فإن الصراعات التي يتوقع"للذات المثلى"السمو فوقها هي صراعات اجتماعية سياسية بينما نجدها عرقية عند المحجوب...كذلك يتعلق مفهوم واهتمام "أر نولد" بالطبقات الإجماعية أما عند المحجوب فبالعرقية....
تتكون الصفوة الأقلية عند المحجوب "1909-1976" من أولئك الذين أدركوا بعمق وأولئك القادرين على التعبير وتشكيل روح التوجيه الثقافية عبر التركيز أكثر على المتشابهات بدلا عن الاختلافات بين المجموعات العرقية العديدة كذلك يحملون هذه الروح إلى واجهات وجبهات جديدة للكمال الثقافي إلا أنهم يعتقدون في إمكانية النماذج الثقافية كوسائل للسعى نحو الكمال البشرى وهذه الصفوة الثقافية حسب إحساسه عبارة عن أقلية تجد في كل المجموعات العرقية وربما في الأحزاب السياسية كذلك والتي تتعلق بكل الأمة وليس بمجتمعاتهم الصغيرة المحدودة...
إن التعبير الإبداعي لهذه الذات الثقافية ونماذجها هو الذي يخلق "الأدب القومي" يقول المحجوب"1909-1976":من الضروري لجماعة الفجر أن تطور أدبنا القومي الخاص الذي يحمل انطباعاتنا ويميزنا عما سوانا من الأمم الأخرى" ويضيف أنة "الأدب المكتوب باللسان العربي الموشى بطبيعة لهجتنا لان اللهجة هي التي تميزة عن أدب الأمم الأخرى" كما ينبغى لشاعر الصفوة الثقافية اكتساب معرفة بالثقافة العربية الإسلامية والفكر العربي المعاصر إضافة إلى الأدب الغربي لكنة يقترح خضوع ذلك لعملية تحول ثقافي في الذهن يفصح عنها من خلال تأريخ وطبيعة و عادات الأمة...
تعتبر "صفوة " المحجوب بلا ريب مصدر لأسلوب رؤيته الرتيب والذي يتعلق أكثر بالإستلهامات النظرية بدلا عن الإنجاز العملي ..على كل فإن سفرة"الحركة الفكرية.."يحتوى وبشكل كثيف على أطروحات "جماعة الفجر"قصورها وقوتها التي يسودها روحا جريئة غير معهودة حيث ينتظم الحوار شعورا يرتفع بالعامل الأساس في خلق الشعر السوداني إلى مستوى الوعى و اليقظة..وكانت معرفتهم بالطبيعة الهجين لتراثهم الثقافي أول محاولة جادة لتعريف طبيعة العقل الجماعي التي تمثل مصدرا للإبداع بالنسبة لجيل جديد من الشعراء السودانيين فإنهم قد فشلوا في تحقيق اكتشافهم الشعري لاهتمامهم بالحواجز والخطوط العامة أكثرمن التطبيق ولقد كان الوجود الحقيقي للوعى الأفريقي داخل كتاباتهم مبهما بصورة تدعو إلى العطف والألم...
لقد كانت كتاباتهم إنجازا نظريا وليست واقعا للتزاوج والتعايش بين العروبة و الإفريقية في خلق الهوية السودانية إضافة إلى ذلك فإن علاقتهم بالثقافة الأفريقية لم تكن محددة بصورة قاطعة فعلى سبيل المثال ليس هنالك إشارة إلى أفريقيا داخل سفر "المحجوب "سالف الذكر كذلك فشلت "جماعة اليد السوداء" التي أنشئها بالقاهرة العام 1937 الشاعر السوداني المنبت "عبدالنبى مرسال" أحد المشاركين في مجلة الفجر في إدراك سياستها السوداء كالشعر الأسود..
لقد ظهرت بالسودان كراسة صغيرة حول الفن الأفريقي مجهولة المؤلف ورغم أن هدفها جذب إنتباة القاري إلى الفن والمعمار الأفريقيين كمصدر إلهام بالنسبة للفنانين السودانيين ألانها قد ظلت معزولة ولم تحظى بأي تعليقات أو شروح يقول أحد المساهمين في تلك الكراسة"ربما يجد بعض القراء غرابة في الحديث عن فن أفريقي ربما لان القليل منهم ذي معرفة به وربما يدهش الأمر أولئك الذين يجهلون أن النحت والموسيقى الأفريقية يحظيان بتقدير واسع عند الفنانين الأوربيين إذ يعتبر النحت الزنجي الفن الأكثر صلة في العالم بالمستقبليين Futurists في أوربا الحديثة بجانب أن الرسم الزنجي شابة إلى حد كبير حركة "التكعيبية\Cubisim" كذلك استعارت أوربا إيقاع "الرمبا" عن الموسيقى الأفريقية وما يهمنا حول هذا السياق ليس دقة الملاحظات الواردة بل الموقف الحقيقي والدلالات التي تضمنتها"قد تفيدنا دراستنا للفن الأفريقي كثير وربما تضيف إلية فنا يعكس حساسيتنا وشخصيتنا الخاصة ،ورغم ذلك فإن الاكتشاف الحقيقي للتراث الأفريقي في الفنون مازال غائبا وفى ذات الأمر فغن الرسم والنحت كانا غائبا تماما عن المشهد الثقافي في الخرطوم والذىكان منشغلا بصورة أساسية بالشعراء الذين كانوا ينعمون باكتشافهم في التراث الشفهي المحلى وتأريخ السودان بدلا عن الخضوع لمؤثرات خارجية..
لقد كانتا جماعة الفجر بداية الاحتفاء بالانتماء وإعادة إكتشاف الجذور العامة للهوية والإبداع الذي تم التعبير عنة تدريجيا في أشعار بعض الشعراء الشباب خلال عقد الأربعين من القرن العشرين ويعتبر صاحب "الشرافة و النار" محمد المهدى المجذوب "1919-1982" بلا ريب الشاعرالذى جسدت اعمالة هذا الفرح الواسع بالانتماء بين سائر مجايلية من الشعراء كما يعد أول شعراء بلادة الذي فتحوا إمكانية كتابة قريضا باللسان العربي المبين يحمل وعيا بالانتماء الحقيقي لتراث الزنج يقول على هدى "نار المجاذيب":
عندي من الزنج أعراق معاندة وإن تشدق في إنشادي العرب
وفى أجود حالاته فإن شعرة يعكس أل"وحدة" داخل اعمق مصادر التراث تأمل:
تراثي أصداف و ريش و نخلة أعانقها والغاب من حولنا تشدو
ولقد أنعكس هذا الوعى الثقافي في اختيار مادة موضوع الكثير من خرائدة كما يتجلى في رائعته "سيرة"في "الشرافة والهجرة"
البنيات في ضرم الدلاليك
تلفتن فتنة و انبهارا
من عيون أصغى الكحل
فيهن هنيهة ثم طارا
نحن جئنا إليك الليلة يا أمها
بالزين والعديل المنقى
حاملين جريد النخل فألا
على إ اخضرارا ورزقا..
وتسيطر داخل قصيدة مثلها مادة الموضوع على واقع ثقافي ناتج عن عملية تاريخية طويلة الانتشار عوامل الوثنية و الإسلام..
في الواقع فأن هذه العوامل قد تم التعامل معها داخل القصيدة كطقس ..وطبيعيا في هذه الرؤية فإن الملمح الثالث لإنجازه الشعري هو الجانب اللغوي ففي أجود حالاته فإن شعرة يبدع "لغة ثالثة" لسانا عربيا سودانيا داخل بيان الشعر العربي او أنة يسمو بهذه اللغة التي تطورت تاريخيا كلغة عامية إلى مستوى تعبير أدبي نقى و مصقول...
كذلك يتحتم على المتأمل الإشارة إلى التجربة المدهشة للشاعر المحسن عبداللة الطيب " المولود في العام "1921" في كتابة قريضا مستلهما من شعر التراث الشعبي السوداني، ففي حركة وإيقاع خريدتة " سدرة التل " داخل ديوانه "أصداء النيل" طبع 1957 والتي صاغها على إيقاع "الجابودى"شعر تراثي حيوي موجز ليس عربيا قحا رغم عروبة لسانة..إذ وظفت اللغة فيه للرقص والحركة على إيقاع من حساسية مغايرة للمألوف...
\3\
شعراء السودان بالمهجر
لقد تم نفخ روحا جديدة في شعر الجيل الجديد من الشعراء السودانيين الشباب المهاجرين إلى مصر ،ورغم عدم وجود ما يدل على وعيهم بإنجازات أسلافهم الشعراء داخل الوطن خلال عقدي الثلاثين الأربعين من القرن العشرين إلا أن تحقق الأفريقية في شعرهم كانتماء ثقافي وصورة شعرية وهيام كان أساسا نتيجة لتجربتهم الشخصية داخل الإطار التاريخي و الثقافي المصري في فترة الخمسين من القرن العشرين فقد كان لسواد إهابهم الواضح خصوصا الفيتورى وجيلي ومحى الدين وسط سكان مصر ذوى الملامح العربية-البحرسطية أثرا على شعورهم بالغربة .
ففي حالة الفيتورى كما سيتجلى لاحقا فإن غربته قد أخذت شعورا أبعادا أسطورية بالنزع والإجلال العنصري والثقافي كذلك كانا حياة الفقر التي عهدوها في حواري القاهرة والإسكندرية الفقيرة والمكتظة بالسكان والرذيلة عاملا أخرا عمق إحساسهم بالغربة وبلا ريب إنها الغربة هي التي قادتهم للانضمام او التعاطف على الأقل- مع الحركات السياسية اليسارية السائدة وقتها بمصر والسودان.
أما على الصعيد الشخصي فإن أشعارهم تفصح وإلى حد كبير عن تمجيد الصورة الشعبية للسودان في الأدب المصري كجزء من مقاطعة ثقافية سوداء في العالم العربي،ورغم عدم إجراء دراسة حول أصول وتطور هذه الصورة إلا أنة واضحا معرفة كيفية نشأتها بواسطة الشاعر المصري الرومانسي "على محمود طه\1902-1949" والذي كتب جزئيا تحت وطأة الرومانسية الإنجليزية والفرنسية فتمثيلة ل"طفل الطبيعة" تعتبر جزءا من موضوع أوسع للوثنية الرومانسية والبدائية في شعرة،ف"طفل الطبيعة" في بعض قصائده أفريقي أسود مرتبطا ب" بلاد الجنوب" او السودان والأكثر خصوصية في هذا السياق قصيدته الغنائية المسرحية"أغنية الرياح الأربعة" ونشيده الغنائي المقتضب "النشيد الأفريقي"..
تكمن أصول السودان الغنائية في ترجمة فرنسية لشذرة من الغناء المصري القديم موضوعها مقابلة مع"الرياح الأربعة المجسدة"،لقد خلق موضوعا وقدمت شخصيات وهمية الأسماء ...
كان الموضوع محاولة خطف "الرياح الأربعة"Damzel” بواسطة”Uzmurdah” القرصان الأفريقي رمز الروح التجارية والتي أحبطت بواسطة الشاعر المصريPatosis” ،لقد قدمت “Ismita” رمز الرياح الجنوبية فتاة زنجية جميلة هيفاء "غير جلنار" تلك الصورة المرتبطة بصورة منابع النيل في العقل المصري والتي ترجع أصولها إلى الكونيات المصرية القديمة ،إنها"ابنة جبال القمر" التي تبرق ثناياها وتنسكب دموعها أمطارا ..إنها الآلة الذي يقود الماء من منابع النهر إلى مصر ..شعرها مجعد ومعطر بإسراف ..إنها الجارية الربانية وراقصة إله الغاب وتعتبر صورة نمطية لصورة "على محمود" لإفريقيا المرتبطة في ذهنه بالجزء الجنوبي ل"وأدى النيل" إنه يسميها ابنة الجنوب الأمر الذي يعيد الى ذهن القاري إبن الجنوب والذي يوظفه في قصيدة أخرى مهدأة بصورة مباشرة إلى الساسة السودانيين خلال عقد الأربعين.
لقد كان "على محمود" مدافعا بارزا عن وحدة وأدى النيل شعار ذلك العصر وبالنسبة له كان السودان عبارة عن"جنوب الوادي" وفى كل الأحوال فإن رمزة “Ismita” يظل "أسطورة بدائية نبيلة ولقد كتب تلك الدراما الغنائية في بواكير الأربعين وسنوات عقب ذلك وربما تحت تأثير نمو الحركة القومية السياسية في السودان كغيرة من سائر بلدان أفريقيا فقد بدلت صورته النمطية تلك لتتماشى مع روح العصر وتعتبر الصورة الجديدة المرسومة في الأبيات التالية من النشيد الأفريقي إحدى صور البدائي النبيل ذات الإطار السياسي:
Carry winds my voice to thevalley
And hawl through the crage and plains
Blow with love breeze of the night
And be my messengers to the one
Where the tribe dwells aborn-fire
Shone there is my clan
And the dancinggirls singing girls full of youth
وترجمتها:
واحملي يا رياح صوتي إلى الوادي وضجي بكل حزن وسهل
وأنسمى بالغرام يا نسمة الليل وكوني إلى الأحبة رسلي
إن في حومة القبيلة نارا ضوت على مضارب أهلي
رقصت حولها الصبايا وغنت بأغاني شبابها المستهل
................
صوت أفريقيا روحي صباها ونداء القرون بعدى وقبلي..
وليس مدهشا الإحساس بوجود روح خريدة الشاعر الرومانسي الإنجليزي "شللي" الموسومة"أنشودة إلى الرياح الغربية"اعلاة..
على كل فإن أشعار "على محمود"والذي حدق في الموت العام 1949 عند مطلع العقد الذي توج حركات التحرر خاصة المتأخرة منها تعكس إهتمامة الحقيقي بحركات التحرر في أفريقيا و آسيا وشيوع الوحدة الأفريقية كتعبير عن المناخ السياسي الجديد شفى القارة وإندياح الشعر الأفريقي في دنيا الأدب العالمي..
لم تكن أحداث كمؤتمر عدم الانحياز ب"باندونق" في نيسان1955 ومؤتمر كل الشعوب الأفريقية ب"أكرا" كانون الأول 1958 و"تونس"1960 و "القاهرة"1961 مجرد مناسبات سياسة او وقائع شعرية بالنسبة للشعراء السودانيين المغتربين عن وطنهم ونجد أن تعبيرهم ربما عن غير قصد متأثرا بعمق بالصورة الثقافية للسودان في الأدب المصري إذ نجد أن السوداني عندهم يحمل سمات من صورة "على محمود" للبدائي النبيل The noble savage للسياسي مع وجود فوارق طفيفة إذ تحمل صورتهم الموقف الاشتراكي الثوري الملتزم ففي "أغنية على لسان راعى أفريقي" بمناسبة استقلال السودان ينسب الفيتورى نفسة رغم يقظته السياسية إلى الأرض المحررة:
أنا من أفريقيا أرض الكنوز
لم تزل أعماقها مثل الرموز
والطلاسم
قد مشينا نتحدى القدرا
لنحيل الأرض كونا أخضرا
ووجودا نيرا...
كانت أفريقيا عند هؤلاء الشعراء رمزا غامضا لانتمائهم الثقافي وظمأ أبدى بالانتماء وأرضا خيالية ووجودا فلسفيا وحلما أموي للطفل التائه..
أفريقيا يا أفريقيا
مدى صدرك أجهشي بالنجوى يا اماة
لقد كانت "أسطورة كبرى" شكلها أولئك الشعراء داخل أنفسهم :
أنا لا أملك غير إيماني بشعبي
وتأريخ بلادي
وبلادي أرض أفريقيا البعيدة
هذه الأرض التي احملها ملء الهواء
والتي اعيدها في كبرياء
.....................
هذه الأسطورة الكبرى...بلادي
لقد تم صياغة هذه الأسطورة بصورة عامة من العناصر النمطية....
وحفرة نار عظيمة
ومنقار بومة
وقرن بهيمة
وتعويذة من صلاة قديمة
وليل كثير المرايا
ورقصة سود عرايا
يغنون في فرح اسود
وغيبوبة من خطايا
تؤرقها شهوة السيد
وسفن معبأة بالجواري
وبالمسك والعاج والزعفران
كما لا يخفى فالأبيات للشاعر الفيتورى الذي يعتبر الوحيد بين رفاقه شعراء المهجر الذي يقدم ذاته بصورتها الأفريقية كما أن أصوله العرقية تبدو غامضة بعض الشي إذ نجدة كثيرا ما يبدل رأية حولها لكن الأرجح إنحدارة من أب ليبي وأم إسكندرانية ذات أصول من جنوب السودان ،أما تأكيدة للأصل الزنجي الأفريقي فيتجلى بعنف في خرائدة الأولى على شكل خطابة بكائية غاضبة:
قلها لا تجبن لاتجبن قلها في وجي البشرية
أنا زنجي وأبى زنجي المجد وأمي زنجية
او:
ألان وجهك اسود
ولئن وجهك ابيض
سميتني عبدا،
في الواقع فإن تأكيدة لأصلة الزنجي ليس صحيحا بصورة مطلقة كما أن دحضة للدم العربي في ذاته لايعد رفضا لجزء من كيانه بل رفضا للوسط الثقافي الذي يشعر فيه أنة يشغل حيزا هامشيا لذا كانت تجربته محاولة عنيفة للتعريف بمصدرة الخالص للنزع ولقد أخذ رد فعلة الباكر للوسط العربي- البحرسطى شكل صراع حاد تم التعبير عنة كشعور معارض للآخر ولقد أورد في بعض مدونات تجربته الشعرية:
"لقد كانت عيونهم تخترقي وتتبعني أينما ذهبت ..كانوا يضحكون منى..لقد عرفت السر..سر المأساة :كنت قصيرا اسودا ودميما"
ولكن لم تكن تجربته تلك مع أفريقيا السوداء مباشرة لذا ينم شعرة الأول عن معضلة الإحباط ورغبة جامحة للانتماء:
أفريقيا أفريقيا النائية ياوطنى يا ارض أجدادية
أني أناديك ألم تسمعي صراخ آلامي وأحقا دية
أنى أناديك أنادى دمى فيك أنادى أمي العارية
أنى أنادى الأوجه البالية والعين الراكدة الكابية
فويك إن لم تحضني صرختي زاحفة من ظلمة الهاوية
وتعتبر صورة أفريقيا عند الفيتورى متناقضة المشاعر –كأسطورة كبرى –تمثل مصدرا للانتماء الذي يتوق إلية ..أما من ناحية اللون والملامح البدنية فتعتبر مصدرا لنزعة جراء ذلك فإن صلته بأفريقيا إحدى علامات القبول والرفض:
أفريقيا استيقظي
استيقظي من ذاتك المظلمة
كم دارت الأرض حواليك
كم دارت شموس الفلك المضرمة
وشيد الناقم ما هدمة
وحفر العابد ما عظمة
وأنت مازلت أنت
كالجمجمة الملقاة.
تمثل هذه الصورة –متناقضة المشاعر –بالنسبة لأفريقيا بالضرورة إسقاطا لذات الشاعر الممزقة تجاه انتماء دفين فىذاكرة الخطابة البكائية للقصيدة داخل شعر أسطوري تتطور كعمل ضروري في خلق الشخصية الشعرية ولا يحفل إن طفت على ذهنه كحلم او كابوس طالما إنها تظل صورة الليل البهيم لذاته الخالصة القصية...
وطأت أقدام الفيتورى ثرى وطنه السودان لاول مرة في عمرة العام 1961 حيث أقام لاعوام ثلاثة كان حاسمة في تطور مشروعة الشعري إذ فقد لون الإهاب والصورة النمطية لأفريقيا عندة الخصوصية حيث وجد أن سواد لونه ليس سمة خاصة ومصدرا للصراع في البيئة السودانية "خضراء اللون" لذا سادت في مجموعته الشعرية الثانية"عاشق من أفريقيا" رؤية جديدة لذاته كشاعر ولأفريقيا كانتماء إذ تلاشت الخطابة البكائية عندة وماضي الإحباط الغاضب:
صناعتي الكلام
قد أجيد تارة......وقد أخطي تارة
لكنني منذ مشت عواصف الحنين في دمى
ومنذ ازدهرت براعم الكلام في فمي
ومنذ ماإنطلقت ضائعا متشردا
أطوي ليالي غربتي
وامتطى خيول سأمي
كنت عذابي أنت يا أفريقيا
وكنت غربتي التي أعيشها
وشئت أن أعيشها
وحين جابه "الواقع" أختار عن قصد أو عن غير قصد "الأسطورة" ويمثل شعرة الناضج مفارقة الخطابة إلى الرمزية..حيث تم قبول أفريقيا كتجربة وجودية في شعرة وطبيعة رمزية للذات مبتكرة ومحددة السماء بواسطة الشاعر:
من ذلك الوادي الرمادي أنا
لو انحدرت في الصخور مرتين
و ارتطمت في الضباب مرتين
ثم درت دورتين
خلف ذاك المنحنى
فسوف تلمسين سقف أفقي
وتبصرين من بعيد زورقي
..... ..... .......
عارية روحي وعار جسدي
كما ترين
ساذج منبسط اليدين
لا أخجل أن أقول:
يازمنى حتى الآسي شهوة
وقدماي تتلويان في الهوة
لا ارهب أن أقول:
" يا زمني تآكلت حوافر الخيول
والحوت في النهر يعرى ظهرة للشمس
والزراف يستريح في السهول
رائع هذا الدجى الأخضر
رائع صفاء الظلمة الجميل
رائعة رائحة الضباب والشجر
رائحة الجبال و المطر
رائحة السماء و النجوم
رائحة الأرض إذا تنفست
وهى تعانق الغيوم"
لقد انصهرت ذات الفيتورى تماما مع أفريقيتة ذات الأسطورة الشعرية وكانت "رجعته" وحدة أسطورية بين الذات والصورة النقية لها كأفريقيا حين يتجلى لها وجود شعري قوى...فتراجعت أنماط شعرة الأول لتفسح المجال أمام أنساق رمزية من الشعر الناضج الذي يمثل احتفالا بأفريقيا وليس تحقيقا مباشرا للوجود الثقافي والتاريخي والجغرافي..
\4\
الشعر الجديد
لم يظهر رنين الصوت الحقيقي للانتماء العربي الأفريقي في الشعر السوداني المعاصر إلا خلال عقد الستين مع تطور شعر "صلاح أحمد إبراهيم"و "مصطفى سند"و "محمد المكي إبراهيم"و"النور عثمان أبكر"و "محمد عبد الحي" عن الاستلهام النظري ل"جماعة الفجر"و "اللغة" التي صهرها المجذوب، ورغم أن أحد هؤلاء الشعراء –تحديدا النور عثمان-الذي ينحدر من أصول قبيلة الهوسا الأفريقية قد أستمر في التعبير في بعض خرائدة عن الحلم الأفريقي للشعراء السودانيين المهاجرين على مصر إلا أن الشعر الجديد قد تجاوز هذا التراث...
لقد تعلم الشعراء الجدد الدرس عن أسلافهم فتطبع شعرهم بانسجام من الوعى وراء الصراع وخلافا لأسلافهم فإن شعرهم يستلهم الرغبة تجاه إعادة التصالح بل إنه راسخ الإيمان بأنة على الصعيد الشعري فإن الأشياء قد تم التصالح معها على أرض الواقع وليس هنالك حلما بفردوس عربي تائه ولا رؤيا بأفريقيا بعيدة المنال ولقد صاغ كل من ألئك الشعراء أغنية أوبته وتاليفة مثل "جماعة النحل" داخل الخلية يقول النور:
"جاموس الغابة ووعل الصحراء أمتنا"
ولقد تم التعبير عن تزاوج الرموز هذا عند محمد عبدا لحى"المولود في العام 1944":
الليلة يستقبلني أهلي
خيل تحجل في دائرة النار
وترقص في الأجراس وفى الديباج
امرأة تفتح باب النهر وتدعو
من "عتمات\ظلمات"الجبل الصامت والأحر أج
حراس اللغة المملكة الز رقاء
ذلك يخطر في جلد الفهد
وهذا يسطع في قمصان الماء
................
أرواح جدودي تخرج من
فضة أحلام النهر و من
ليل الأسماء
تتقمص أجساد الأطفال..
في مثل هذا المناخ من الألفة والانسجام قد صار من الإمكان كتابة شعرا يحتفل-كما يتضح-"بالحقيقة العارية"للتزاوج العرقي والثقافي الذي يثمر:
الفور والفونج وكل سحنة فاحمه وشفاه غليظة
وشعر مفلفل ذر على إهاب
حقيقة عارية كالفيل ،كالتمساح ،كالمنيف
فوق كسلا
سليطة الجواب :
كذاب الذي يقول في السودان إنني الصريح
إنني النقي العرق،إنني المحض
أجل كذاب
هذا "صحو الكلمات المنسية"
مرآة البداية
او:
هذا مخاض النار فاحتطبوا جذور منابع في الصخرة
في أعماق ليل الغاب،في قبو الخرافات الأول..
في هذا الشعر يتوصل الشاعر السوداني لأول مرة إلى تصالح مع ذاته وتأريخه وتراثه والطبيعة حولة ورغم أن لسان شعرة عربي مبين إلا أنة يشعر بالحرية والفرح في إعادة صهرها حسب الظلال الرقيقة لحساسيتهم الخاصة،علية فان الشعر السوداني الجديد قد أبتكر لسانا داخل اللسان العربي المبين والذي قد تم قبوله كلسان أفريقي حيث أن تاريخه الطويل بأفريقيا قد منحة خصائص أفريقية كمادة أولية للإبداع الشعري،ولقد حرر قبول هذا التراث الثقافي طاقات الشاعر السوداني الجديد..
لم يعد هنالك مجالات أخرى في الشعر السوداني الجديد لبرهان او تأكيد انتماء او هوية كما لا يوجد حنينا لوطن بل اهتماما بجوهرة حيث يكون كل شيئا قريبا و مألوفا وليس هنالك أفكارا ملوثة بالارتباط لكن تورطا في البناء الشعري للوجود الثقافي..
أخيرا تعتبر القصيدة الجديدة في الشعر السوداني المعاصر شعرها الثقافي وجزءا من الحقيقة وليست عنها ..إنها صرخة تعود في المقام الاخيرإلى المناطق النقية وراء الثقافة نفسها كما يعتبر ذلك الشعر إثراء لكل من الشعر العربي والأفريقي.
لقد أسهمت درجة "أفرقه "اللغة العربية في بعض الشعر العربي وإدخال أشكالا وتعبير شعري جديدة في تراثه وأفاق لسانة ووعية أما في السياق الأفريقي فيعتبر تتويجا لانتصار على الانشطار الثقافي في شمال الصحراء وجنوبها..
لقد أستوحي الشاعر السوداني الجديد مجاله الشعري من شيطان الذات المنشطرة و"الهامشية الجماعية" كما يعبر شعرة الجديد عن "وحدة" التجربة والرؤية..ثم أن حقيقة كونه باللسان العربي المبين لا يناقض مسألة أنة قد "وطن" نفسة كليا في القارة الغنية بالشعر الأفريقي المعاصر حيث تشكل أفريقيا والعرب لسانا واحد
الهوامش والحواشي:
أنظر المرجع التالية:
1-السودان الإنجليزي المصري:مذكرة أعدها "ضباط حكومة السودان"،حررها المقدم "كونت قلي خن"—لندن-1905.
2-السودان في أفريقيا،تحرير وتقديم د.يوسف فضل حسن..طبع جامعة الخرطوم1971\انظر المقدمة..ومجملة دراسات قدمت إلى المؤتمر الدولي الأول الذي نظمته "وحدة أبحاث السودان" بجامعة الخرطوم في الفترة 6\12 شباط 1968 .
3-P .C Lioyd. Africa in Social Change-Penguin Books1968P105.
4-طنبل،حمزة الملك:ديوان:الطبيعة"طبعة الخرطوم العام 1972.
5- مجموعة مجلة الفجر,تأسست الجماعة العام 1934 بواسطة الشقيقين عبداللة ومحمد عشري الصديق ومن أشهر أعضائها عرفات محمد الذي لعب دورا بارزا بعد صدور المجلة ومحمد أحمد المحجوب و عبد الحليم محمد و يوسف مصطفى التنى ويوسف مأمون وجلهم من أبناء طائفة الأنصار لذا نال بعضهم حظا في تاريخ السودان السياسي عقب خروج الإنجليز وارتقاء رموز تلك الطائفة مواقع حساسة في السلك السياسي السوداني ..
6-Mathew Arnold,Culture And Anarchy-ed.J.Dover Wilson,Cambridge,1966 p6
7-المحجوب،محمد أحمد:"الحركة الفكرية في السودان وإلى أين يجب أن تتجه" طبع الخرطوم 1941..لاحقا أعيد طبعة تحت عنوان"نحو الغد" عن قسم التأليف والنشر بجامعة الخرطوم 1970- راجع مقالة "مجذوب عيدروس" بمجلة الدستور اللندنية العدد520"تساؤلات جيل الثلاثينات في الهوية الفكرية"..
8-المجذوب،محمد المهدى"1919-1983"نار المجاذيب" و"الشرافة و الهجرة" –أعمال شعرية..
9-عبد الله الطيب-ديوان "أصداء النيل " الخرطوم 1957 ...فيما بعد ذكر في "ذكرى جمال"1986 أن "الجابودى مما يحرك القلب وسمعناه في دار أهلنا الجعليين وأصلة "حساني"ومن شاء حذا علية بالفصحى و الدارجة فأنة عميق بالغ الحلاوة:
"بحر الدميرة زايد
قالوا الحبيب راقد
راقد مرضان وأنا عندي لية قصا يد
غنى لي يا ربابة
فريع ألبان حبابة
هوى يا فقير قوم علب الثقابة
توب الزراق موغالى
وحديث خشميكم حالي
حبيب قساى بالريدة شاغل بالى
..............
هوى ياهبابة هبي
والشاي دا حل كبي
ود العرب ريحانة قاعدة جنبي
شاي الظراف عبوة
جابو الصنبور صبوة
..........................
أنظر –إن شئت- سفرة النادر" ذكرى صديقين"طبع 1408
10- الفيتورى،محمد مفتاح:"الأعمال الكاملة" بيروت 1967
11- جيلي و تاج السر:" قصائد من السودان" القاهرة1956
12- عبد الرحمن،جيلي :"الجواد والسيف المكسور" القاهرة 1967
13- فارس، محي الدين:" الطين والأظافر" القاهرة 1956
14-طه،على محمود: "أغنيات إلى الرياح الغربية" القاهرة 1944
15- إبراهيم، محمد المكي :ديوان "أمتي"الخرطوم1969
16-محمود، محمد عبدا لحى:"العودة على سنار" طبعة أولى 1973 الخرطوم
17-أبكر ،النور عثمان :"صحو الكلمات المنسية" 1972 الخرطوم
18- إبراهيم صلاح أحمد: "غضبة الهبباى"
19- سند،مصطفى محمد: "البحر القديم 1972 الخرطوم