في حلقة الاثنين الماضي من برنامج الواجهة الذي يقدمه أحد البلال الطيب أثارتني نقطة هامة أوردها وزير الخارجية السوداني مصطفي عثمان اسماعيل في معرض حديثه عن خبر اختفاء طائرة الراحل جون قرنق :
(( كنت حاضرا لزواج ابن اختي في ( البلد ) عندما وصلني اتصال من رئاسة الجمهورية يطلبوني فيه من شخصي الحضور الي الخرطوم علي وجه السرعة ، قلت لهم لا يمكنني فعل ذلك لأن العريس ابن أختي وجعلني وكيله في الزواج .. ويمكنني حل كل الاشكالات عن طريق الهاتف حتي لا أحرج أمام ابن أختي .. ولكنهم أطلعوني أن طائرة نائب الرئيس مفقودة.. انزعجت من ذلك وأول شخص أتصلت به كان جان برونك .. سالني برونك متي أختفت هذه الطائرة .. فقلت له فقدت منذ يوم أمس .. فقال لي : ( ان هذا الموضوع خطير جدا ) .. فطلبت منه أن يساعدنا في البحث عن الطائرة المفقودة عن طريق المروحيات التي تستخدمها الامم المتحدة .. )) أنتهي حديث الوزير اسماعيل .
وللوزير اسماعيل العذر في التباطؤ عن المجئ الي الخرطوم بسبب الارتباطات العائلية المهمة .. فعقد قران ابن اخته كان أهم من مسؤوليات الدولة السودانية ! ولم أكن أعرف أن الوزير اسماعيل قد تحول الي مأذون أنكحة شرعية في بلدته وتخلي عن واجباته كوزير لخارجية السودان ويقترح علي مساعدي البشير الاتصال به عن طريق الهاتف من أجل بحث الازمات الدبلوماسية، وهذه هي احدي سمات وزارة الخارجية في عهد طبيب الاسنان اسماعيل ، أختلطت فيها الامور العائلية بأمور الدولة والحكم واصبحنا لا نفرق بين منصب الوزير القومي ورب الاسرة في منطقة ( الغدار ) التي ينحدر منها الوزير اسماعيل ، والفجيعة أن مصطفي عثمان أصبح لا يملك غير نمرة هاتف المبعوث ( برونك ) من أجل استجداء الحلول المستعصية ، فقد طلب في السابق من برونك التدخل من أجل حل الخلافات مع ارتريا .. فسافر المبعوث الاممي الي اسمرا وعاد الي السودن بحزمة من الحلول والتي كان من أولها طرد حركة الجهاد الارتيرية من السودان ، ولكن الانقاذ لم ترضي بهذا الحل الواضح وفضلت العمل بأسلوب المراوغة التي برعت فيه ، والوزير اسماعيل لم يخطرنا حتي هذه اللحظة بسر اعجابه بالسيد برونك ومحاولة جره باستمرار الي كل قضايا الشأن السودان والتي يعتبر بعضها أحيانا من صميم عمل الدولة السودانية .
وبما أن السيد جان برونك أصبح رقما مهما في السياسة السودانية ومن الصعب تخطيه بأي حال من الاحوال فسوف أعرج اليوم علي دراسة سيرته الذاتية لاعرف يا تري ما هي الاسباب التي أدت الي بروز شخصيته في واجهة السياسة السودانية ، وما هي السمات التي جعلته مهابا من قبل الدولة السودانية والتي الان تعمل ألف حساب قبل الاقدام علي اتخاذ اي قرار يخص دارفور والجنوب والشرق ، ويعرف عن السيد برونك قوة شخصيته وثقافته العالية التي جعلته ملما بكافة تفاصيل الصراع في السودان ، فالرجل هو احد خريجي المؤسسات البحثية في اوروبا وله باع طويل في حل الازمات المعقدة بحكم عمله الطويل في الامم المتحدة ، وقد ساعد وجود السيد /برونك أهل السودان كثيرا لأنه جذب الاهتمام الاعلام العالمي لقضية دارفور والجنوب ، فقبل مجئ السيد /برونك الي السودان كان اقليم دارفور علي وشك أن يمحي عن الخارطة الجغرافية بسبب القصف الجوي العنيف الذي كانت تقوم به طائرات الانقاذ وهي تستهدف القري الامنة وأشكال الحياة في هذه البقعة البعيدة عن أنظار العالم ، وقد مارست الدولة السودانية سياسة الارض المحروقة ( SCROACHED EARTH) وهي تواجه المواطنين العزل وأعتمدت في حربها الجديدة علي المليشيات العربية من أجل ضمان سيطرتها علي هذا الاقليم ، وبسبب مجئ برونك الي السودان ومباشرة مهامه في الفاشر والجنينة ونيالا أستعاد الاهالي المروعين بعض الامن والاطمئنان ، وأنساب تدفق المعونات الانسانية علي الاقليم المنكوب ، وتم نشر قوات الاتحاد الافريقي بكل سهولة ، وعمدت السلطات بسبب وجود هذا الضيف الثقيل الي التقليل من حدة سياستها القمعية تجاه المواطنين ، ولم تعد الانقاذ تفرض الخيارات كما كانت تفعل في السابق ، وفي أحد المرات حاولت حكومة الخرطوم تصوير واقع كاذب يقول بأن الاهالي قد عادوا الي قراهم من تلقاء أنفسهم ، وقد استخدمت من أجل اثبات هذه الكذبة الشرطة والرصاص والغاز المسيل للدموع والهراوت لارغام الاهالي علي العودة الي ديارهم وطردهم من المعسكرات ، وصلت هذه الازمة الي مسامع السيد /برونك فلم يتأخر عن الرد وأعتبر أن استخدام الشرطة السودانية للعنف كان ( مبالغا ) فيه ، وعندما قررت السلطات السودانية محاكمة المتورطين في جرائم الابادة الجماعية والاغتصاب في دارفور لم يرفض السيد/برونك هذه الخطوة علي الرغم من صدور قرار أممي يحيل هولاء الجناة الي المحكمة الدولية ولكن برونك كان يريد أن يعرف مدي جدية الحكومة السودانية في معاقبة الجناة ومنحها فرصة أخيرة لتثبت للمجتمع الدولي أنها قادرة علي التصرف كدولة مسؤولة وليس كمليشيا حرب ، وفرحت الانقاذ بهذا الرضا الماكر وأعتبرت أن الملف في طريقه الي الاغلاق لولا صدور تقارير من بعض منظمات حقوق الانسان تؤكد أن الجناة الذين عرضوا علي محاكم النظام كانوا معتقلين في سجون الانقاذ بتهمتي السرقة والنهب المسلح قبل خمس سنوات من اندلاع أزمة دارفور ، ولم تغب هذه الملاحظة عن مخيلة السيد برونك والذي عاد وقلل من أهمية المحاكمات التي يجريها النظام لأنها استثنت ايضا الرسميين الذين شاركوا في هذه الفظائع عن طريق اعطاء الاوامر للجنود بمهاجمة القري بالطيران الحربي والمدفعية .
وأكثر المواقف التي تبناها السيد/برونك وساعدت في حفظ السودان من الانزلاق في الهاوية الرواندية هو موقفه الصارم من تداعيات أحداث يوم الاثنين المؤسفة والتي كان من الممكن أن تقود البلاد الي بحر لا ساحل له من الدماء السودانية ، لم تحتاط الحكومة السودانية لهذه الاحداث وسمحت بحدوث هذه الفوضي بغرض اضعاف الحركة الشعبية في الشمال ، وفي اليوم الثاني من رحيل قرنق غضت الطرف عن قيام بعض (المتضررين ) من أبناء الشمال بمهاجمة معسكرات النازحين من أبناء الجنوب في أطراف العاصمة الخرطوم ، وبدأت المساجد في شحن الناس بمشاعر الكراهية والبغضاء ، ولولا لطف الله ورحمته لكان السودان الان متوعكا من المجازر العرقية التي لا تفرق بين معتدل ومتطرف وأبيض واسود ، والذي أنقذ أهل السودان من هذه التهلكة هو السيد /برونك نفسه عندما طلب من الدولة أن تقوم بواجبها كاملا من أجل حماية جميع المواطنين السودانيين علي مختلف أعراقهم ، كما طلب منها شجب المظاهر العدائية التي تقوم بها مدارس التهييج المذهبي في مساجد الخرطوم ، والسيد/برونك أصبح حكما مقبولا من كل الاطراف السودانية بما فيهم الحكومة ، وصار رقم هاتفه الخليوي في السودان أشبه بالرقم 911 و الخاص بالطوارئ في الولايات المتحدة ، وكل من يشعر بالظلم والاضطهاد وسوء المعاملة يستطيع الان أن يرفع شكواه الي السيد /برونك وسوف لن ترمي هذه الشكوي في سلة المهملات ، والذين يعارضون الانقاذ يمكن أن نجد لهم العذر وهم يستنصرون بالسيد/ برونك بحكم أن الدولة تضيق عليهم الخناق وتضطهدهم ولكن أن يهرع اليه الوزير اسماعيل في كل كبيرة وصغيرة هو الامر الذي يثير الدهشة والاستغراب ، وان كان برونك بهذا المستوي من الاهمية فلنا الحق في دراسة سيرته الذاتية لعلنا نجد فيها سر السحر الذي خلب به به فؤاد أهل الانقاذ الفارغ :
ولد السيد/جان برونك في 16 مارس من عام 1940 في هولندا ، وهو متزوج وله بنت وولد ، وهو ايضا يقوم بتدريس نظريات التنمية الدولية في المعهد الاجتماعي للتنمية في ( هيج ) بهولندا ، وقد شغل منصب وزير التنمية والتعاون في بلاده لثلاثة مرات متتالية ، وقد شغل أيضا منصب وزير البيئة . وهو أحد الساسة الاوربيين الذين حققوا نجاحات كبيرة في مجال العمل الاقليمي والدولي .
ولقد لعب السيد/برونك دورا مهما في دعم الاقتصاديات القائمة علي تطوير البيئة ، وقد شغل المناصب التالية في الامم المتحدة :
( 1980-1985 ) مساعد للامين العام في ندوة التجارة والتنمية ( UNCTAD)
(1985-1986) مساعد للامين العام للامم المتحدة
ترأس ندوة الامم المتحدة والخاصة باتفاقية تغييرات المناخ والتي عقدت في هيج وفي بون في الاعوام 2000 و2001 علي التوالي .
في نوفمبر 2002 تولي رئاسة المعهد الدولي للتنمية والبيئة ( IIED) .
عمل كممثل للامين العام للامم المتحدة في الندوة الدولية للتنمية التي عقدت في جوهانسبرج عام 2002
في ديسمبر 2003 ترأس مجلس جنيف لامدادت المياه الصحية والتعاون (WSSCC)
في 18 يونيو 2004 تم تعيينه كمندوب خاص للأمين العام للامم المتحدة في السودان لمساندة اتفاقية السلام الشامل الموقعة بين الحركة الشعبية والحكومة السودانية ، ولا زال يشغل هذا المنصب حتي كتابة هذه السطور ،
وقد نجح السيد/برونك في كثير من الجوانب ، فهو بالتأكيد كان أفضل من الاخضر الابراهيمي والراحل سيرجيو ديملو واللذان مثلا الامين العام للامم المتحدة في العراق ، فالابراهيمي كان مرفوضا من قبل العراقيين بسبب أفكاره القومية والتي وضعته في خانة المتحيزيين للنظام العراقي السابق بقيادة صدام حسين ، أما سيرجيوا ديملوا فقد لقد حتفه في حادثة التفجير الانتحاري الذي استهدف مقر بعثة الامم المتحدة في بغداد عام 2003 ، وقد خرجت الامم المتحدة من العراق بسبب هذا الحادث المأساوي ولم تنجح في اداء مهمتها الانسانية في هذا البلد المنكوب بالحروب والارهاب ، ولكنها عوضت هذه الخسارة في السودان والذي تعتبر حالته شبيه بالنموذج العراقي من حيث وجود نظام قمعي يسيطر علي الحكم وأقليات كبيرة تواجه خطر التهميش والاضطهاد . ..
سارة عيسي